الروم والقوط
والتباغُض بين الروم والقوط طبيعي لأن إسبانيا لما فتحها القوط في القرن الخامس للميلاد كانت رومانية المذهب والغرض، وكل أعيانها وأكابرها من الرومان، فتسلَّط القوط عليهم قرنين وبعض قرن، ولم تتحد قلوبهم ولا تآلفت أغراضهم، وظل القوطي يتكلم لغة الروماني، والروماني لغة أخرى، وربما كان القوطي أحوجَ إلى تعلُّم لغة الرومان «اللاتينية» من الرومان إلى اللغة القوطية؛ لأن اللاتينية لغة المملكة الرومانية، وكانت إسبانيا تابعة لها ففتحها القوط، ولم يستطيعوا استبدالها بلغتهم كما استبدل العرب لغات ما فتحوه من المملكة الرومانية الشرقية باللغة العربية. وشأن العرب والقوط في فتح مملكة الرومان متشابه؛ جاءها القوط من الشمال وجاءها العرب من الجنوب، وكلاهما أهل بادية وخشونة فاكتسحاها، واستولى كلٌّ منهما على جانب منها، ولكن العرب استطاعوا ما لم يستطعه القوط، فأنشئُوا على أنقاض مدينة الروم مدينةً خاصةً بهم، وجعلوا الأمم التي دانت لهم بتوالي الأجيال أمةً واحدةً تتكلم لغة واحدة، وأما القوط فقضوا في إسبانيا نيِّفًا ومائتي سنة، ثم خرجوا منها ولم يتركوا أثرًا يُذكر.
وزِدْ على ذلك أن القوط لمَّا فتحوا إسبانيا كانت ديانتهم الآريوسية على مذهب آريوس صاحب البدعة الشهيرة في النصرانية؛ لأن دعاة هذه البدعة لما أصابهم ما أصابهم من الاضطهاد وقاومهم الأباطرة أنفسهم، هاجروا من المملكة الرومانية وتفرَّقوا حَوَاليها في الشمال والجنوب، وأخذوا يبثُّون هذا المذهب في القبائل المقيمة هناك، ومنهم قبائل الجرمان في شمالي أوروبا وفي جملتهم القوط. فلما فتح القوط إسبانيا كانوا يدينون بالآريوسية وظلوا على ذلك قرنًا وبعض قرن، وظهرت في أثناء تلك الفترة شِيَعٌ أخرى اتَّبعها بعض الإسبان والقوط في جملتها شيعة نسطور المشهورة، وشيعة باشينسيوش وغيرهما.
ففي أواخر القرن السادس، تولَّى إسبانيا ملكٌ من القوط اسمه «ريكارد» فاتَّبع المذهب الكاثوليكي سنة ٥٨٧ للميلاد، فتبعته الأساقفة ثم الرعية، فعادت إسبانيا إلى مذهب كنيسة رومية، وصار الأساقفة أكثرهم من الرومان، وجعلوا في جملة شروط انتخاب المَلك أن يكون قوطيًّا كاثوليكيًّا.
ولم يمضِ قليل حتى أحسَّ القوط بالخطأ الذي ارتكبوه بالتخلي عن مذهبهم ولغتهم، وعلموا أن ذلك التخلي سيعصف بدولتهم، وكان أكثر ملوكهم شعورًا بذلك غيطشة والد ألفونس بطل روايتنا؛ فعزم على التخلُّص من تلك القيود، فشعر الأساقفة بمقاصده، وكان النفوذ قد أفضى إليهم، فاتَّحدوا مع أعيان البلاد وهم يشايعون رومية، فعزلوا غيطشة ووَلَّوْا رودريك، ويقال إنهم فعلوا ذلك بعد موت غيطشة. وبهذه الطريقة خرج المُلْك من بيت غيطشة إلى بيت رودريك وجماعة الأكليروس من حزبه. ويعتقد أصحاب غيطشة أن رودريك ليس من أصل قوطي، ولذلك عَدُّوه مختلسًا.
وكان الأب مرتين بين من سعى إلى تنصيب رودريك، وكان يكره غيطشة وأولاده بنوع خاص؛ لأن غيطشة كان يكرهه لشدة تعصُّبه لرومية، فكان مرتين من أكثر الناس سعيًا في إخراج المُلْك من يديه إلى رودريك؛ ولذلك كان رودريك لا ينفِّذ أمرًا إلا بمشورته. وكان في جملة مشورات مرتين على الملك أن يضيِّق على ألفونس ولا يسمح بغيابه عن القصر، وأن يكون دائمًا بين يديه خوفًا من أن ينشئ الأحزاب للمطالبة بالمُلْك.
فلما وصل الملك إلى الكنيسة في ذلك اليوم، كان أول شيء نبَّهه إليه مرتين هو أن ألفونس لم يكن في جملة فرسان الموكب، فتفرَّس الملك في الناس فلم يجده بينهم فانشغل خاطره، ولكنه ما لبث أن شُغل عن ذلك بمراسيم الصلاة وما تقتضيه من الانتباه لحركات الكهنة في أثناء القدَّاس، على أنه كان يعود برهة بعد أخرى إلى البحث عن ألفونس خلسة.