مغالبة العواطف
وكان ألفونس منذ أتاه كتاب أوباس وهو يغالب عواطفه ويقدِّر عواقب تلك الحرب، فلا يرى في ذلك الثبات خيرًا، ناهيك بما فيه من الخطر على فلورندا وأبيها، وكان كلَّما تصوَّر فلورندا مصابة بسوء اقشعر بدنه. وكان منذ قرأ كتابها إلى والدها في تلك الغرفة المظلمة وهو يبحث عنها، فلم يَقِفْ على خبرها، ولم يكن يستطيع الاستمرار في البحث خوفًا من رودريك، ثم سمع بقدوم العرب وإيغالهم في بوتيكة، ويوليان رائدهم، وكان في عزمه أن ينضم إليهم إذا لم يكن انتقامًا من رودريك فإكرامًا لفلورندا. ثم جاءه كتاب أوباس فأثر على تفكيره تأثيرًا عظيمًا كأنه استهواه بالتنويم المغناطيسي. على أن عند بعض الناس قوة يتسلطون بها على آراء من يخاطبونهم، لا يعبَّر عنها بغير الاستهواء. وكان أوباس من أكثر الناس تسلطًا على الآراء ولا سيما على ابن أخيه ألفونس مع ما علمت من ضعفه.
فأصبح ألفونس بعد تلاوة ذلك الكتاب كأنه في بحر لا قرار له، يشعر من جهةٍ بأنه يجب أن ينزل عند مشورة عمه، ويرى ذلك من الجهة الأخرى مخالفًا لعواطفه ومناقضًا لمصلحته، حتى إذا أتاه الأمر من رودريك أن يوافيه إلى شريش، زاد تمكنه من رأي عمه واشتغل بالحرب والاستعداد لها، وصورة فلورندا مع ذلك لم تبرح مخيلته، ولكن عواطفه كانت مقيدة بسلطان عمه، وأصبح بسبب ذلك منقبض النفس ضيق الصدر، وقد نسي الابتسام وأغفل الاجتهاد وسلَّم أمره إلى الأقدار.
ولما جاء رودريك بالأمس وعسكر هناك، سلَّم إلى ألفونس قيادة ميسرة الجند، وأمره أن يكون على استعداد للهجوم في صباح ذلك اليوم، فبكَّر ألفونس في الفجر وأمر قواده، فرتب كلٌّ منهم فرقته في موضعها، ودخل ألفونس خيمته ليلبس درعه، وكان يعقوب يرافقه وعيناه شائعتان يترقب مجيء سليمان أو خبرًا من عنده حتى خشي أن تضيع الفرصة، فإذا هو برجل من بين الناس لحظ يعقوب من عينيه أنه يحمل خبرًا سريًّا، وكان ذلك الرجل يعرف يعقوب، فطلب إليه مقابلة ألفونس فقال: «وهل معك كتاب إليه؟ وممن؟»
من يوليان كونت سبتة إلى الأمير ألفونس
لا حاجة بي أيها العزيز إلى إطالة الشرح في المصائب التي توالت على هذه الجزيرة منذ تولاها هذا الباغي، فضلًا عما تعلمه من تعديه على المُلْك وإخراجه من أيدي أهله بقتل المرحوم والدكم، فكرسي الملك لبيت غيطشة وأنت أرشدهم جميعًا.
ولم يكتفِ بتعدِّيه على الحقوق ولكنَّه تجاوزها إلى الأعراض، فمن كان هذا شأنه فكيف يُطاع أمره؟! والعرب يا ألفونس دولة جديدة ملكت الخافقين بالعدل والرفق، وهي ستنتصر على رودريك لا محالة؛ لأن أهل مملكته كلهم ضده، حتى أقرب أقربائه، والذي ينصره إنما ينصر الظلم والغدر … وأنت تعلم أني ضنين بك شفيق عليك؛ لِمَا بيننا من رابطة النسب الصحيح، فإذا أطعتني وانضممت إلى جند العرب فإني ضامن لك كل ضِياع المرحوم والدك في الأندلس، وهي ثلاثة آلاف ضيعة قد سلبكم رودريك إياها، وعندئذٍ تعود أنت وسائر آل غيطشة إلى ما كنتم عليه من العِز قبل استبداد هذا الطاغية، وإنما كتبت هذا إليك رفقًا بك وشفقة عليك، والسلام.
وكان يعقوب يتلو الكتاب وألفونس مطرق وشعره لا يزال مسترسلًا على كتفيه وقد علق بعضه بهداب الدرع، فلما فرغ يعقوب من قراءته نظر إلى ألفونس وقال: «وما الرأي يا مولاي؟»
قال: «الرأي؟ أنت أدرى مني بما كتب به إلينا عمي الميتروبوليت أوباس، فهل أعصي عمي وأطيع يوليان؟»
فقال يعقوب وهو يحك قفاه: «لا أشير عليك بشيء؛ فإنك أدرى بالصواب وأنا معك إلى الممات، ولكنني أستغرب ذلك الرأي من أوباس وهو أعلم الناس بما أصابك وأصاب سائر القوط من هذا الطاغية، ولولا اعتقادي بقوة عقل أوباس وصحة بدنه لقلت إنه يتكلم عن خَرَف. على أني لا أحسبه إلا كتب ذلك الكتاب ثم ندم عليه، وعلى كل حال فالرأي لك.»
فقال ألفونس: «كيف تقول إنه ندم وأنا لا أجتمع به إلا حرضني على الثبات، ولا يزال صوت خطابه يرن في آذاننا وهو يحرضنا على الاتحاد والصبر في ساحة الحرب، وأوباس — يا يعقوب — لا يقول قوله جزافًا، ولولا اعتقاده بحسن عاقبة هذا الاتحاد لم يدعُنِي إليه.»
فقال يعقوب: «عمك الميتروبوليت — يا مولاي — حكيم وفيلسوف، ولعلك إذا سمعت مني ذلك نقمت عليَّ وشككت في أمري، ولكن دَعْ ذلك عنك واعمل بمشورة الكونت يوليان فإنه والد فلورندا، وهو إنما ركب هذا المركب الخشن في سبيل الدفاع عن …»
أكتب إليك على قطعة من ردائي بمداد من دمي، وهو الرداء الذي قابلتك به في حديقة القصر، وقد تمزق تلك الليلة بين يدي رودريك دفاعًا عن جوهرة هي لألفونس أكثر مما هي لي، وقد أرسلت إليك مع حامل هذا بعض ما تناثر من شعري في أثناء ذلك الدفاع، ناهيك بما علق منه بتلك الشجرة اليابسة تجاه نافذة قصري وأنا هاربة من الوحش الكاسر. هذا هو رودريك الذي أراك اليوم تحارب بسيفه وتدافع عن عرشه لتحفظ له مُلكًا اختلسه من أبيك، وتستبقي له يدًا سيمدها ثانية إلى خطيبتك، إلى فتاة تزعم أنك تحبها وقد فاتك أنك ذاهب بها وبأبيها وسائر أهلك وأهلها إلى الدمار. وكأني بك لم تعلم بما ارتكبه رودريك أو عزم على ارتكابه، فاعلم أنه أراد ابتذال عفتي وهتك عرضي، فهدَّدني وخوَّفني وأمَّلني ومنَّاني وأراني السعادة في طاعته، والشقاء في عصيانه، ولم يُصْغِ إلى بكائي، ولم يَرِقَّ لتضرعي، فعصيته وآثرت الشقاء حبًّا لألفونس ومحافظةً على وده، ولعل طول البعد أنساك عهودك على ضفة نهر التاج يوم مسستَ شعر رأسك بأناملك، وقلت: إن بقاء هذا الشعر حرام عليك إن لم تَفِ بقولك، أهذا هو الوفاء؟ كأنك تعهدتَ بقتلي وقتل والدي وسائر أهلك وأهلي، وكأنك أقسمت أن تؤيد سلطان هذا الباغي … فإذا علمت ما ذكرته لك وتذكرت ماضي عهودك ورأيت البقاء عليها فاترك رودريك وجنده وتعال إليَّ فوق هذه الرابية في مستودع الخمر بين المعسكرين أو إلى والدي في معسكر العرب. وأما إذا كنت لا تزال على نصرة ذلك الظالم وكان لحب فلورندا بقية في قلبك فلا تتركني أموت قبل أن أراك وأشكو إليك جفاك وأخاطبك وأعاتبك، والعين على العين، وأتزود منك بنظرةٍ أنسى بها ذلك الشقاء. وإذا ضننت حتى بهذا فأستودعك الله إلى أن نلتقي بين يدي الديان العظيم ومعنا رودريك يشهد على نفسه وعليك، والسلام.
ما قولك في ألفونس بعد تلاوة ذلك الكتاب ومشاهدة شعر فلورندا وقد علمت حبه لها واستسلامه لهواها؟ إنه ما إن فرغ من تلاوته حتى أحس كأنه استيقظ من نوم، أو هي عواطفه تنبهت من غفلتها أو انحلَّت من قيود الاستهواء، فاستولى عليه سلطان الغرام، فأنساه أوباس وكتابه وحكمته وآدابه. والحب سلطان نافذ الكلمة ماضي القضاء، غالب على كل سلطان، يستذل الملوك ويحطم سيوف القواد ويحير عقول الفلاسفة والحكماء.
ظل ألفونس بضع دقائق مطرقًا كأنه غائب الرشد، ولم يبقَ في مخيلته إلا صورة فلورندا بثوبها الأرجواني الذي رآها فيه المرة الأخيرة، وبشعرها الذهبي داخل تلك الشبكة وفي يده من كليهما بعضه. وتذكر ما دار بينهما من التشاكي والعتاب، وما تعهد لها به من أسباب السعادة بإخراج المُلْك من رودريك. وتعاظم خجله واضطرابه حتى توهَّم أنه يسمع صوت توبيخها وتعنيفها ويرى دموعها. وكان يعقوب واقفًا بين يديه، فلما رأى اضطرابه وتأثُّره خرج من الخيمة تأدُّبًا؛ ليخلو ألفونس لنفسه، فلما خرج لقيه سليمان، وكان واقفًا هناك على أحر من الجمر، فسأله بالإشارة فأجابه يعقوب بإطباق عينيه أن الحيلة أوشكت أن تنجح، وفيما هما واقفان رأيا فارسًا مسرعًا نحوهما وفي يده شيء، فتقدم يعقوب نحوه للسؤال عن غرضه، فإذا هو من أتباع أوباس، فلما تلاقيا تعارفا، فسأله يعقوب عن غرضه، فقال إنه قادم بكتاب من أوباس إلى ألفونس، فاستعاذ يعقوب بالله من ذلك الكتاب مخافة أن يكون فيه ما يفسد تلك الحيلة، فعمد إلى الاحتيال فقال: «إن مولاي الأمير يغيِّر ثيابه ولا يستطيع أحد الدخول عليه.»
قال: «إني مكلَّف بتسليمه هذا الكتاب حالًا.»
قال: «هاته وأنا أدخله عليه بعد قليل.»
لا يخدعنك اليهود بدسائسهم، فإنهم إنما يريدون مصلحتهم وليست هي في بقاء المملكة للقوط. اثبُت في الدفاع عن الوطن كما هو ظني فيك، وأصغ إلى قولي فإني بمنزلة أبيك.
فلما قرأ يعقوب الكتاب أصبح الضياء في عينيه ظلامًا، وعجب لتيقُّظ أوباس وانتباهه، وأدرك أنه إذا لم تُنفَّذ حيلته في تلك الساعة ذهبت مساعيه ومساعي سائر اليهود هباءً منثورًا. فاستقدم سليمان وأطلعه على ذلك الكتاب وتفاوضا، فأقرا كتمانه عن ألفونس، وأن يعجلا بالعمل قبل أن ينشب القتال، فدخل يعقوب فرأى ألفونس جالسًا على وسادة هناك، وهو لا يزال مطرقًا، ولم يُتِمَّ لبس الدرع، وشعره لا يزال مسترسلًا على كتفيه. فلما دخل يعقوب انتبه ألفونس لنفسه، فوقف وفي خاطره أن يطلع يعقوب على كتاب فلورندا ولكن الحياء منعه، فابتدره يعقوب قائلًا: «إن الرسول لا يزال واقفًا في انتظار الجواب، وقد أمره صاحب الكتاب أن يعود سريعًا.»
فخطر لألفونس أن يرى الرسول ويسأله شيئًا لعله يتخلص من ذلك التردد فقال: «أدخله عليَّ.»
فخرج واستقدمه، فدخل سليمان وسلم متأدبًا، فسأله ألفونس قائلًا: «هل رأيت كاتب هذا الكتاب؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
قال ألفونس: «ومن هو؟ وماذا تعرف عنه؟»
فأشار سليمان بعينيه نحو يعقوب كأنه يخفي أمرًا لا يريد التصريح به بحضوره، فأشار ألفونس إلى يعقوب فخرج، فتقدم سليمان إلى ألفونس وقال: «أتسمح لي يا مولاي أن أصرِّح بما أعلمه؟»
قال: «قل.»
فقال سليمان: «إني من أصدقاء الكونت يوليان صاحب سبتة، وقد كلَّفني أن أصحب ابنته فلورندا من ديرٍ كانت فيه قرب طُلَيْطلة فوصلنا بالأمس.»
فقال ألفونس: «وأين هي الآن؟»
فقال سليمان: «هي على مقربة من هذا المعسكر.»
قال: «ولماذا لم تذهب إلى والدها؟»
فأطرق سليمان وتظاهر بشيء يمنعه الحياء من ذكره، فازداد ألفونس رغبة في الاطلاع عليه، فقال: «قل كلَّ ما تعرفه ولا تُخْفِ شيئًا.»
فرفع سليمان نظره إلى ألفونس وقد تباكى حتى ظهر الدمع في عينيه وقال: «ماذا أقول يا مولاي؟! إن فلورندا أصبحت في حال يُرثَى لها من الضعف، ولم أرها يومًا واحدًا في أثناء رجوعها غير مبللة العينين. وكنت أظنها تفعل ذلك شوقًا إلى والدها، فجعلت أمنِّيها بقرب لقائه فلا تزداد إلا بكاء، ولما صرنا على مقربة من معسكر العرب حيث يقيم والدها أبت الذهاب إليه حتى كاد يغمى عليها. ثم فهمت من خالتها العجوز ومن قرائن أخرى أنها مخطوبة لك وسمعتها تقول إنها تريد المجيء إليك ولو كنت في ساحة الحرب … لم أرَ في حياتي مثل هذا الحب، فإنها لم تبالِ بأبيها في سبيل لقائك. ولا أخفي على مولاي أنني عرفت ذلك رغم كتمانها إياه عن كل البشر. وهي التي سلمت هذا الكتاب إليَّ وأوصتني بأن أعود إليها بالجواب حالًا وهي تبكي.» قال ذلك وتساقطت عَبَراته كأنه يبكي بكاءً صادقًا.
فلم يستطع ألفونس غير إرسال الدمع، ثم سمع دق الطبول ونفخ الأبواق في المعسكر فعلم أنهم شرعوا في القتال، فدقَّ قلبه، ورأى أنه لا بد له من القطع في أحد الأمرين، فتشاغل بلبس درعه وإصلاح ثيابه وقد غلب عليه أن يتبع هوى قلبه ويطيع فلورندا، ولكن الحياء كان يمنعه.