الحب غالب
وبينما هو في تلك الحيرة إذ دخل الخيمة رجل بملابس الكهنوت، وهو يهرول ويتمتم، فنظر ألفونس إليه فإذا هو الأب مرتين بملابسه الرسمية الملونة الموشَّاة، وعلى صدره صليب مرصَّع والغضب بادٍ على وجهه، ولم يكن ألفونس يحبه ولا يحترمه، فلما رآه داخلًا على تلك الصورة تلقاه بالسؤال قائلًا: «كيف تدخل خيمتي قبل أن تنبهني إلى ذلك مع خادمي؟»
فقال مرتين وهو يتمتم كالعادة: «أي خادم تعني؟ ومتى كان الأب مرتين يستأذن قبل الدخول؟ أين الكتاب الذي جاءك من عمك الآن؟ ولماذا تخلفت عن القتال وأنت قائد ميسرة الجند؟»
فأكبر ألفونس أسئلته على تلك الصورة وكَبُر عليه أن يعتذر عن سبب تخلفه أو أن يصرح بعدم وصول الكتاب إليه فقال: «وما شأنك وحضوري القتال أوْ ما يَرِد عليَّ من الكتب من عمِّي أو من غيره؟»
فحمي غضب مرتين ولم يعُدْ يعي ما يقوله، وقال: «إن لي فيه شأنًا تعلمه، وإذا كنت لا ترى ذلك من شأني فلا أظنك تنكره على جلالة الملك، صاحب هذا الجند وقائده الأكبر.»
وكان سليمان واقفًا في أحد أطراف الخيمة بحيث تقع عيناه على عيني ألفونس، وكلما قال مرتين قولًا أشار سليمان بشفتيه وحاجبيه إشارة الاستخفاف والاستياء، وإذا رد عليه ألفونس أبدى سليمان استحسانه وإعجابه بحميته وعزة نفسه، فازداد ألفونس استمساكًا بذلك، فلما عرَّض مرتين بذكر رودريك وسلطانه زال حياء ألفونس مما كانت نفسه تحدِّثه به، ولم يكن جوابه إلا الخروج من الخيمة مسرعًا إلى جواده، فامتطاه وحوَّل شكيمته نحو ميسرة الجند وهو يقول: «سوف ترون من هو صاحب هذا الجند وما هو مصير أهل البغي، وقد كنت أتردد في الذهاب وحدي فها أنا ذاهب مع جندي.»
وكان القتال قد بدأ وتطايرت السهام وتلألأت السيوف وعلا ضجيج الرجال وصهيل الخيول وصلصلة اللُّجُم ودبدبة العجلات ومقارعة السيوف. والملك في قلب الجيش وحوله فرسانه وأعلامه وبنوده، وأوباس يطوف بالجيش على جواده وقد نزع قلنسوته، فاسترسل شعره على كتفيه وظهره، وأمسك بزمام الجواد بيسراه، ورفع يمناه يحمل بها صليبًا مرصعًا، وهو يستحث الجند على الثبات والصبر.
وكان ألفونس حينما ركب جواده وقعت عيناه على أوباس عن بُعد، فخشي أن يدركه قبل الفرار فيثنيه عن عزمه، فساق جواده ولم يلتفت يَمْنة ولا يَسْرة حتى وصل فرقته، فلاقاه ومبا وزميلُه قائدا الفرقة بعده، فحدثهما ووعدهما خيرًا، وقد علمت أنهما كانا يحبانه ويكرهان رودريك، فأطاعاه وأمرا الجند بالخروج من المعركة، فتحولت ميسرة القوط كلها نحو معسكر العرب، فضعف جند القوط واضطربت جوانبه.
أما مرتين فإنه ما انفك منذ خروج الجند من طُلَيْطلة وهو يراقب حركات أوباس، ويلقي الشكوك لدى رودريك في إخلاصه وصدق نيته. فلما نزلوا سهل شريش واصطف الجند للقتال رأى ألفونس قد تأخر عن الخروج للحملة، ثم رأى أوباس يدفع إلى أحد حاشيته كتابًا سار به إلى خيمة ألفونس فظن سوءًا، وأسرع إلى الملك فأراه الرسول راكبًا إلى تلك الخيمة، وهرع هو إليها كما تقدم، فلما خرج ألفونس وسليمان وبقي هو في الخيمة وحده عظم عليه ما كان من استخفاف ألفونس به، فالتفت إلى ما حوله فوقع نظره على رق ملفوف، فتناوله وهو يحسبه كتاب أوباس، فإذا هو كتاب فلورندا وقد نسيه ألفونس هناك لغضبه وتسرعه، ففرح مرتين بذلك الكتاب فرحًا شديدًا، وعرف منه أين تقيم فلورندا. ولكنه ظل يعتقد (أو يريد أن يعتقد) أن أوباس كتب إليه بالانضمام إلى العرب.
وخرج مرتين من الخيمة ونظر إلى الجند، فرأى ألفونس وفرقته يسيرون نحو معسكر العرب، فركض إلى رودريك وكان لا يزال على سريره في وسط موكبه، فنظر إلى مرتين فإذا هو يشير بأصبعه إلى ألفونس ورجاله، فلما رآهم رودريك يسوقون خيولهم إلى معسكر العرب استشاط غضبًا وقال: «ما الذي غَيَّرَهُمْ؟»؟»
قال: «غَيَّرَهُمْ كتاب حضرة الميتروبوليت، وقد قلت لك إني لم أكن أطمئن بظواهره، فَأْمُرْ بالقبض عليه الآن واسجنه قبل أن يفر هو أو يحرض باقي الجند على الفرار.» فأمر رودريك رئيس حرسه أن يقبض على أوباس حالًا، فأسرع رئيس الحرس ومعه كوكبة لتنفيذ أمر الملك.
أما مرتين فلم يشتفِ غيظه بالقبض على أوباس، فأراد أن ينتقم من ألفونس، فاغتنم فرصة غضب رودريك ودفع إليه كتاب فلورندا فتلاه وهو ينتفض من شدة الغيظ؛ لما حواه من الطعن فيه والتحريض على أذاه. فلما فرغ من تلاوته أصبحت لحيته ترقص على صدره وأنامله ترتجف، وصاح في مرتين: «أين هو المستودع الذي تقيم فيه هذه الفاجرة؟»
فأشار مرتين إلى المستودع وهو يقول: «أظنه هذا.»
فأمر رودريك كوكبة من فرسانه أن يذهبوا للقبض على من فيه ويسوقونهم إليه أحياءً أو أمواتًا.