المحاكمة
فلمَّا انقضت الصلاة وخرج الملك إلى موكبه، عاد إلى البحث عن ألفونس فلم يجِدْهُ، فركب ودعا الأب مرتين للركوب معه، فقضيا مسافة الطريق يتسارَّان في سبب تغيُّب ألفونس في ذلك اليوم. فلما دنا الموكب من القصر، رأى الأب مرتين ألفونس مسرعًا على جواده من جهة القصر، وكان على عِلْم بعلاقته بفلورندا فأدرك أنها هي سبب تغيُّبه، ولكنه اقتصر على تنبيه الملك إلى مجيئه في تلك اللحظة.
فوصل الملك إلى قصره وترجَّل عند الباب الكبير، وصَعِد على درجات عريضة من الرخام تؤدي إلى فناء القصر، ثم إلى باحة قائمة على أساطين، ومن بعدها إلى دهليز يتفرع إلى طرق تؤدي إلى أجزاء القصر المختلفة، وفي جملتها قاعة المجلس. فدخل الملك وقَسُّه من طريق خاص إلى تلك القاعة، ودخل رجال الدولة — وفيهم وفود المهنئين — من الطريق العام، فجلس الملك على عرش مرتفع، قوائمه على شكل قوائم الأسد، وهو مصنوع من الفضة، والملك في الملابس الرسمية وعلى كتفيه بُردة من الديباج موشَّاة بالذهب، وعلى رأسه تاج من الذهب مرصَّع بالحجارة الكريمة، وفي يده صولجان من الذهب ينتهي بصليب مرصَّع. وكان رودريك في نحو الأربعين من العمر، ممتلئ الجسم، بارز الصدر والبطن، قوي البدن، تلوح على وجهه أمارات البسالة، وعيناه جاحظتان كبيرتان، وحاجباه غليظان، وشعر شاربه طويل يزيد على طول لحيته وعلى طول شعر رأسه.
جلس رودريك على عرشه، وفوق العرش صورة كبيرة تمثِّل السيد المسيح مصلوبًا، وعلى جدار القاعة صور عديدة دينية، وجلس بجانبه الأب مرتين وبين يديه رجال خاصته، ثم توافد الناس لتقديم التهاني وفي جملتهم ألفونس، فإنه دخل وحيَّا الملك وهنَّأَه كما فعل الآخرون، وجلس في جملة الجلوس. فلمَّا همَّ الناس بالانصراف، أراد ألفونس أن ينصرف، فأشار إليه رودريك أن يبقى، فأوجس ألفونس خيفةً من ذلك الاستبقاء، ولكنه صبر حتى إذا خلا المجلس ولم يبقَ في القاعة غير الملك والقس، ناداه الملك فوقف بين يديه، فقال له الملك: «ما الذي أخَّرك عن مرافقة الموكب في هذا الصباح يا ألفونس؟»
فبُغِت ألفونس لأنه لم يكن يظن أن الملك يهتم لغيابه كل هذا الاهتمام، فعَلَتْ وجهَهُ أماراتُ البغتة، ولكنه تجلَّد وأجاب: «كنت في شغل خاص، أعاقني عن القيام بفروض الصلاة بين يدي جلالة الملك.»
فقال الملك: «من الغريب أن يتفق لك هذا الشاغل في ذكرى عيد الميلاد وفي ساعة خروج الموكب.» قال ذلك وحوَّل نظره إلى صورة في الحائط تمثِّل مريم العذراء تحمل طفلها، ثم تشاغل بتمشيط طرف لحيته بأنامله.
فقال ألفونس: «نعم إنه اتفاق غريب، ولكنه وقع ولا حيلة في وقوعه، وإني آسف لذلك.»
وكان الأب مرتين في أثناء ذلك منصرفًا إلى تلاوة بعض الصلوات أمام صورة مريم العذراء بصوت منخفض لا يسمعه أحد، ولمَّا فرغ من صلاته عاد وقد تزمَّل بردائه وأصلح قَلَنْسُوته وجلس إلى جانب الملك، وأصغى لما يدور بينهما، فلما رآه ألفونس مهتمًّا بالأمر اختلج قلبه بما بينهما من الضغينة.
أما الملك فلما سمع الاعتذار لم يقبله، ولكنه رأى من الحكمة أن يؤجل حكمه في أقواله إلى ما بعد مشورة القس، فأراد أن يصرفه فسمع القس يقول له: «يظهر أن شغلك كان في قصر جلالة الملك، أو بجوار قصره.» قال ذلك وتنحنح وأخذ في مسح فمه بمنديله.
فزاد استياء ألفونس منه، ولكنه خشِيَ إن أجابه أن يصرِّح بشيء آخر.
وأما الملك فإنه توسَّم في كلام القس شيئًا كان يتردد في ذهنه لم يتحققه، فأراد أن يتفهم ذلك من مرتين على حدة، فلم يصبر على ألفونس حتى يجيب، فالتفت إليه لفتة الاستخفاف والتهديد والإغضاء معًا، وقال: «انصرف الآن يا بني، واحذر من أن تفعل ذلك مرة أخرى.»
فأحس ألفونس عند ذلك بفرج سكن له جأشه، وكأنَّ ثقلًا كبيرًا أُزِيح عن صدره، فسار إلى الباب، ثم خرج وهو لا يكاد يرى شيئًا مما أمامه لشدة ما قام في نفسه من أسباب القلق، ولم يكد يخرج من باب القصر حتى انتبه لنفسه، وتمثل له مركزه وما آل إليه أمره بعد ضياع المُلْك من يده، فقد كان على عهد أبيه، إذا مرَّ في طريق تسابق الناس إلى تحيته واحترامه، فلا يبقى أحد لا يقف له. فمرَّ ذلك اليوم والناس يتزاحمون في فناء القصر، ولم ينتبه له أحد إلا الأصدقاء، وحتى هؤلاء أصبحوا يحذرون التظاهر بصداقته خوفًا من الملك.
خرج ألفونس وقد هبَّت فيه عوامل الغيرة، وكانت ألفاظ فلورندا لا تزال ترنُّ في أذنيه، فتذكَّر وعده إياها باسترداد المُلْك، فزاده غيظًا من الملك، فركب جواده وسار توًّا إلى منزله وهو غارق في بحار الهواجس، وقد استصغر نفسه وهان عليه القيام بأي شيء في سبيل الانتقام لوالده واسترضاء فلورندا.