تمام الفتح
باتوا تلك الليلة ولا نظنهم استطاعوا نومًا لفرط تأثرهم من ذلك اللقاء الغريب، ولما أصبحوا أحب أوباس أن يشرف على تلك الموقعة، ثم يمر بين المعسكرين ليعلم من مات من كبار الدولة ومن هرب، فمشى ورافقه يوليان وبدر وألفونس، فرأوا الجثث مبعثرة هنا وهناك، وعرفوا من القتلى جماعة من القواد، في جملتهم كوميس، فأسفوا عليه أسفًا شديدًا. ثم مروا بخيمة الملك، فرأوا بالقرب منها الأب مرتين مُجَنْدَلًا، فلم يشأ أوباس أن يتفرس فيه، ولما عادوا من ذلك الطواف طلب أوباس من طارق أن يأذن لهم بنقل بعض الجثث للصلاة عليها ودفنها.
فأجابه إلى طلبه، فنقل جثث القواد وجثة مرتين، وصلوا عليها ودفنوها، فلما رأتهم فلورندا يدفنون الموتى ذهبت إلى أوباس وأخبرته بمقتل أجيلا وشانتيلا، وطلبت إليه أن يصلي عليهما ويدفنهما، فأجابها إلى ما طلبت، وقد أسف لمقتلهما، فدفنهما ودفن معهما من قُتِلَ من أولاد الشيخ صاحب الكَرْم، ولما أخبرته بما كان من دفاع الشيخ وأولاده عنها أوصى طارقًا به وبأهله خيرًا.
ولما غربت الشمس تهيأ ألفونس لعقد إكليله على فلورندا في خيمة يوليان، فاحتفلوا بذلك على أبسط الطقوس، وقلوب الجميع تفيض سرورًا لذلك اللقاء، ووجوههم تبتسم إلا أوباس، فإنه ظل ساكنًا كعادته، لم يتغلب عليه فرح ولا حزن، وبعد تمام الإكليل سألهم أوباس عن المكان الذي يفضلون الإقامة فيه فقالوا: «حيثما تريد أنت.»
فقال: «أما أنا فاتركوني وشأني.»
فقالوا: «كيف نتركك وأنت حكيمنا ومرشدنا؟»
قال: «لو كنت كذلك لنفعتكم. اتركوني أقضي بقية هذه الحياة في العبادة والصلاة والانقطاع عن هذا العالم، فقد رأيت من شروره ما كفاني. وهل أتوقع أن أرى بعد هذه الموقعة غير ما يزيد أسفي ويضاعف حزني وأنا لا أستطيع العمل بما يدعوني إليه ضميري ويستحثني عليه الواجب؟ فالأجدر بي أن أقضي بقية هذه الحياة في مكان لا أرى فيه بشرًا. ولا يراجعني أحد منكم في ذلك.»
فلم يستطع أحد أن يراجعه سوى رجل تصدى له من جملة الحضور وقال: «وأنا أين أذهب؟»
فتوهم ألفونس أنه يسمع صوت يعقوب ولكن الزي غير الزي. أما أوباس فعرفه فقال: «هذا يعقوب وقد وفى بنذره وأصلح لحيته واغتسل.»
فتذكر ألفونس شيئًا من ذلك منذ اجتمع بعمه في طُلَيْطلة، فنظر إلى يعقوب فإذا هو حسن الهندام، وقد أصلح لحيته وتزيا بزي حاخامي اليهود تمامًا، فقال له: «وما ذلك يا يعقوب؟»
قال: «قد آنَ لي الوفاء بالنذر والتحرر من ربقة الذل؛ إذ أصبح الناس بعد هذا الفتح أحرارًا يتبع كل رجل دينه. وأنا من نِعَم الله يهودي جنسًا ودينًا، فأحب الرجوع إلى مذهبي فأصلي في كنيستي وأقرأ كتابي.»
وباتوا تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يجدوا أوباس في خيمته ولا في سائر المعسكر، ولا عثروا عليه من ذلك الحين، فعلموا أنه ذهب للتنسك كما قال.
وأما ألفونس ويوليان فظلا عونًا لطارق وجنده حتى أتم فتح الأندلس، وقلما لاقى مشقة بعد تلك الموقعة إلا في أستجة، فإنهم ساروا إليها توًّا بعد موقعة شريش، وحاربوا هناك حربًا شديدة، فلما فتحوها وقع الرعب في قلوب الناس، وهربوا إلى طُلَيْطلة، فأشار يوليان على طارق أن يفرق جيوشه في مدن الأندلس لأن الناس أخلوها وساروا إلى العاصمة، فبعث جيشًا إلى قرطبة وجيشًا إلى غرناطة وجيشًا إلى مالقة وجيشًا إلى تدمير، وسار هو ومعظم الجيش إلى طُلَيْطلة، فوجدها خالية لأن أهلها هاجروا إلى مدينة خلف الجبل. أما الجيش الذي سار إلى قرطبة فقد دلهم راعٍ على ثغرة فدخلوا منها البلد وملكوه. والذين قصدوا تدمير فتحوها بالسيف وفتحوا غيرها من المدن. أما طارق فلما رأى طُلَيْطلة فارغة ضم إليها اليهود وترك معهم رجالًا من أصحابه، وسار لإتمام الفتح كما هو مفصل في كتب التاريخ.