ابن مسكويه
أبو علي الخازن أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب مسكويه، توفي في ٩ صفر سنة ٤٢١ﻫ، وكان مجوسيًّا وأسلم، وهذا دليل على أنه من أبناء الفرس الناشئين بين أحياء العرب الذين كانوا يتولون الوظائف والمناصب في صدر الإسلام، ومنهم أبو محمد عبد الله ابن المقفع الذي قتل سنة ١٤٢ﻫ. وكان هؤلاء القوم نادرة في الذكاء وغاية في جمع علوم اللغة والحكمة والتاريخ.
كذلك كان مسكويه من نوابغ المفكرين العاملين الذين يندر ظهورهم في الأمم، وكانت له معرفة تامة بعلوم الأقدمين وألف فيها كتبًا عدة.
وصحب ابن العميد وكان يخدمه في مكتبته، لكنه مع ذكائه ونبوغه واشتغاله بالفلسفة والمنطق والفقه والأدب والتاريخ فتنته الكيميا، بالمعنى الذي يعرفه بعض علماء العرب، وهو السعي في الحصول على الذهب بالصناعة، فأنفق ماله في هذا السبيل وهذا نوع من الجنون، فلما ذهب ماله في طلب المال، ندم على ذلك وتنقلت به الحال إلى خدمة بني بويه، فابتسم له الزمان وعظم شأنه حتى ترفع عن خدمة الصاحب بن عباد ولم ير نفسه دونه.
وكان مسكويه شاعرًا مدح ابن العميد وعميد الملك، وله رسائل أنيقة على أسلوب ذلك العصر.
قال أبو حيان في كتاب «الإمتاع» عند ذكر طائفة من متكلمي زمان: «وأما ابن مسكويه ففقير بين أغنياء، وغني بين أنبياء؛ لأنه شاذ وإنما أعطيته في هذه الأيام «صفو الشرح» لإيساغوجي و«قاطيغورياس» من تصنيف صديقنا بالرى. قال الوزير: ومن هو؟ قلت أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامريِّ، وصححه معي، وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان المنطقي وليس له فراغ، ولكنه مجد في هذا الوقت للحسرة التي لحقته مما فاته من قبل. فقال: يا عجبًا لرجل صحب ابن العميد وأبا الفضل ورأى ما عنده وهذا حظه. قلت: قد كان هذا ولكنه كان مشغولًا بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيمائي الرازي، مملوك الهمة في طلبه، والحرص على إصابته، مفتونًا بكتب أبي زكريا وجابر بن حيان، ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه، هذا مع تقطيع الوقت في الحاجات الضرورية، والشهوية، والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة، والفرص بروق تأتلق، والأوطار في عرضها تجتمع وتفترق، والنفوس عن قرابتها تذوب وتحترق. ولقد قطن العامري الري خمس سنين، ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ عنه ابن مسكويه كلمة واحدة ولا وعى مسألة، حتى كأنه كان بينه وبينه سد، ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغ حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه قوارع اللوم من أصدقائه حينما ينفع ذلك كله، وبعد هذا فهو ذكي حسن، نقي اللفظ، وإن بقي عساه أن يتوسط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفه بالكيمياء، وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط، والكسرة والخرقة، نعوذ بالله من مدح الجود باللسان وإيثار الشح بالفعل، ومحتد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل.»
قال أبو منصور الثعالبي: «كان في الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر، وكان في ريعان شبابه متصلًا بابن العميد مختصًّا به، ثم تنقلت به أحوال جليلة في خدمة بني بويه والاختصاص ببهاء الدولة، وعظُم شأنه وارتفع مقداره، فترفع عن خدمة الصاحب ولم ير نفسه دونه ولم يخل من نوائب الدهر.»
وله قصيدة في عميد الملك تفنن فيها وهنأه باتفاق الأضحى والمهرجان في يوم، وشكا سوء أثر الهرم وبلوغه إلى أرذل العمر.
وصية أبي علي ابن مسكويه
بسم الله الرحمن الرحيم! هذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد، وهو يومئذ آمن في سربه معافى في جسمه، عنده قوت يومه، لا تدعوه إلى هذه المعاهدة ضرورة نفس ولا بدن، ولا يريد بها مراءاة مخلوق، ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة منهم، عاهده على أن يجاهد نفسه ويتفقد أمره، فيعف ويشجع ويحكم، وعلامة عفته أن يقتصد في مآرب بدنه، حتى لا يحمله الشره على ما يضر جسمه أو يهتك مروءته، وعلامة شجاعته أن يحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه، وعلامة حكمته أن يستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولًا نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة، وعلى أن يتمسك بهذه التذكرة ويجتهد في القيام بها والعمل بموجبها، وهي خمسة عشر بابًا، إيثار الحق على الباطل في الاعتقادات، والصدق على الكذب في الأقوال، والخير على الشر في الأفعال، وكثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائمة بين المرء وبين نفسه، والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها، وأول ذلك ما بيني وبين الله جلَّ وعزَّ، وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك، والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل، وحفظ الحال التي تحصل في شيء شيء حتى يصير ملكة ولا يفسد بالاسترسال، والإقدام على كل ما كان صوابًا، والإشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره. وترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي وترك التواني، وترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلَّا يشتغل بمقابلتهم، وترك الانفعال لهم، وحسن احتمال الغنى والفقر والكرامة والهوان بجهة وجهة، وذكر المرض وقت الصحة، والهمِّ وقت السرور، والرضى عند الغضب، ليقل الطغي والبغي، وقوة الأمل، وحسن الرجاء والثقة بالله عزَّ وجل، وصرف جميع البال إليه.
(١) مؤلفاته
-
(١)
كتاب الفوز الأكبر.
-
(٢)
كتاب الفوز الأصغر.
-
(٣)
كتاب تجارب الأمم في التاريخ، ابتداؤه من بعد الطوفان وانتهاؤه إلى سنة ٣٦٩.
-
(٤)
كتاب أنس الفريد، وهو مجموع يتضمن أخبارًا وأشعارًا وحكمًا وأمثالًا.
-
(٥)
كتاب ترتيب السعادات.
-
(٦)
كتاب المستوفي، (وهو) أشعار مختارة.
-
(٧)
كتاب الجامع.
-
(٨)
كتاب جاوزان خرد.
-
(٩)
كتاب «السير»، أجاده وذكر فيه ما يسير به الرجل نفسه من أمور دنياه ومزجه بالأثر والآية والحكمة والشعر.
-
(١٠)
كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.
(٢) ملخص كتاب ترتيب السعادات
كل واحد نصب لنفسه غاية يقصدها بسعيه ويسميها سعادة له كما يسعى للذة وللثروة، أو للصحة أو للغلبة أو للعلم، وإنما أوتوا في هذا الاختلاف من قبل أنهم لم يلحظوا الكمال البعيد، أعني السعادة القصوى، ولو عرفوها ونصبوها غرضًا لسعوا بالباقيات نحوها كما يفعل الصانع، فإنه إذا عرف كمال المطرقة الأقصى، أعني صناعة التاج والخاتم أو السوار، قصد بالطرق وبسط الجسم الصلب نحو ذلك.
إن ما كان عامًّا للإنسان والبهائم فليس سعادة لنا، لأنها ليست غايتنا وكمالنا من حيث نحن ناس، وأما ما كان منها خاصًّا بالإنسان من حيث هو إنسان فيجوز أن يسمى سعادة، إلا أن هذا المعنى هو عام لجميع الناس، ومن هذه السعادات الخاصة بالإنسان ما هو عام للناس كما قلنا، فهم يشتركون فيه، ومنها ما هو خاص بإنسان إنسان، ومنها ما هو خاص الخاص، وهو الذي إليه ترتقي السعادات وعنده تقف جميعها، فإنها وجدت السعادات كلها من أجلها وبسببها وهي الغرض الأخير والكمال الأقصى.
أما الأمر العام لجميع الناس ولجميع الحيوان فهو المأكل والمشرب وضروب الراحات، وهذا ليس بسعادة ولا هو كمال الإنسان وغايته الذي خلق له ومن أجله.
وأما السعادة العامة للناس من حيث هم ناس فهي ما ذكرناه من قبيل صدور الأفعال عنه بحسب الروية والتمييز وعلى ما يقسطه العقل، وهذا المعنى سعادة موجودة لكل إنسان، ويمكن كل أحد أن ينال منها ويحظى بها بقدر رتبته من الإنسانية، وهذا المعنى موهوب للناس عامة بالفطرة والجبلة الأولى، ويتفاضلون بحسب استعمالهم إياها.
وأما السعادة الخاصة بحسب إنسان إنسان، فهي التي يختص بها صاحب علم أو صناعة فاضلة، يتفاوتون فيها على قدر مراتبهم في العلوم والصناعات وبحسب الأحوال التي يصدرون فيها أفعالهم على ما يوجب الرأي والتمييز.
وأما أصناف الشقاء المقابلة لهذه السعادات فقد تركنا ذكرها؛ لأنها تعرف من مقابلاتها كما تبين في المنطق أن المتقابلات علمها معًا في حال واحدة، فينبغي أن يساق كل إنسان بحسب طبقته ومرتبته إلى سعادته التي تخصه على أتم ما يكون وأفضل ما يمكن ويبلغه الوسع.
ولولا أن السعادات كثيرة وعلى ضروب، لكان السعيد في الحقيقة واحدًا من الناس، وهو من يحصل جميع أجزاء الفلسفة وفهم جميع الصناعات وتوفر حظه من الحكمة كلها، ولو كان ذلك كذلك، لكان وجود سائر الناس عبثًا لا غاية لهم ولا كمال.
إن الحكماء لما رأوا اختلاف الناس في غاياتهم فبعضهم يرى أن غايته اللذة فيسعى نحوها بجميع أفعاله، فإذا شبع من لذته ثم كلف بعد ذلك الازدياد مما زعمه سعادة صار ذلك شقاء عظيمًا ووبالًا كثيرًا عليه، وسمى السعادة شقاء.
وأيضًا فإن صاحب الثروة إذا مرض رأي أن السعادة هي الصحة، وصاحب الصحة إذا أصابه ذل رأى أن السعادة هي الكرامة، ومعلوم أن السعادة هي شيء ثابت لا تصير شقاء ولا ينتقل صاحبها فيكون شقيًّا بالذي صار به سعيدًا.
وقد رتب أرسطوطاليس أجناس السعادات، فسعادة في النفس، وسعادة في البدن، وسعادة من خارج البدن، وفيما يطيف بالبدن.
السعادة التي في النفس: بالعلوم والمعارف والحكمة.
السعادة التي في البدن: مثل الجمال وصحة المزاج.
السعادة التي من خارج البدن: مثل الأولاد النجباء والأصدقاء واليسار وشرف النسب.
أما السعادة القصوى فليس ينالها كل واحد ولا يظفر بها كل من طلبها، ومن علامة من وصل إلى السعادة القصوى أن يوجد أبدًا نشيطًا، فسيح الأمل، قوي الرجاء، ساكن الجأش، غير مضطرب ولا مكترث بأمور الدنيا إلا بمقدار يسير جدًّا، وهو يناسب الناس ويقاربهم في الظاهر، فأما باطنه فمباين لهم، ثم هو جذل مسرور بنفسه لا بغيرها، وهذه الحال لازمة له لا تتغير.
(٣) فلسفة ابن مسكويه في النفس والأخلاق
لقد بينا في تلخيص كتاب السعادة لمسكويه أو لابن مسكويه، أن مذهبه الفلسفي أرسطي محض، وأنه كأسلافه ومعاصريه ومن جاء بعدهم من فلاسفة الإسلام يمجدون الفلسفة اليونانية ويرفعون من شأن المعلم الأول حتى درجة العبادة، وأن معظم كتاب السعادة لابن مسكويه يدور على مؤلفات أرسطو وترتيبها وتبيويبها وحكمة وضعها وتصنيفها على النمط الذي اتبعه ابن الهيثم في اعترافه. فكان أرسطو هو المثل الأعلى لهؤلاء الفلاسفة الإسلاميين، كما كان العدو اللدود لأئمة المتصوفين أمثال الغزالي وأصحاب الفلسفة العملية أمثال ابن خلدون.
وقد رأى بعض أصحاب أرسطوطاليس من مدرسي كتبه أن يبتدئ المتعلم لها بكتب الأخلاق لتتهذب نفسه وتصفو من كدر الشهوات، ويخف عنها أثقال عوارضها؛ فيتمكن من قبول الحكم ويعترف بعض الاعتراف بترك الانهماك في الشهوات وهجران الملاذ الجسمية، ويعلم أن أكثرها خساسات ورذائل فيتنزه عنها، ثم ينظر في شيء من التعاليم ليعرف طريق البرهان، ويتدرب بها ويأنس بطرقها، ويترك الإيغال فيها إلى وقت آخر.
(٤) المثل الأعلى عند مسكويه
ثم إن ابن مسكويه جعل للإنسان مثلًا أعلى هو أشبه الأشياء بما كان يرمي إليه ابن باجه في رسالة «تدبير المتوحد» وابن طفيل في «حي بن يقظان». ولكن ابن مسكويه مرَّ بمثله الأعلى مرور الطيف، فوصفه بأنه هو الحاصل على السعادة القصوى، وأن هذا السعيد السعادة القصوى «مغتبط بذاته؛ لأنه يشاهد أمورًا لا تتغير ولا تستحيل أبدًا، ولا يجوز عليها أن تتغير أو تستحيل، وأنه يرى جميع ما يراه بعين لا تغلط ولا تخطئ ولا تدبر ولا تقبل الفساد، ويتعين أنه صائر من أحد وجوديه (الحياة الدنيوية؟) إلى الوجود الآخر (الموت؟) الأكمل، فهو كمن سلك طريقًا إلى وطن يعرفه وثيق بأهله وروحه وطيبه».
ثم يتوغل ابن مسكويه في الوصف فيلمس أدق عقائد الصوفية في السلوك والوصول، حيث يقول: «وكلما قطع إليه منزلًا أو حل دونه في درجة تقرب منه، ازداد نشاطًا وطمأنينة وجذلًا. وهذه الحال من الثقة واليقين لا تحصل بالخبر دون المعاينة، ولا تتم بالحكاية دون المشاهدة، ولا تسكن النفس إليها إلا بعد الظفر على الحقيقة، والواصلون إليها على طبقات ومثال ذلك الناظر بعين الرأس، فإن هذه العين يتفاوت الناس في النظر بها فمنهم من يرى الأشياء البعيدة رؤية بينة، ومنهم من لا يراها من القرب أيضًا إلا كمن يرى الشيء من وراءِ ستر، إلا أن الفرق بين تلك الحال وهذه الحال أن العين الحسية كلما أمعنت في النظر وأدامت التحقيق إلى محسوساتها كلَّت وضعفت، وتلك العين الأخرى هي بالضد؛ لأنها تقوى بالإمعان في النظر وتزداد بالإدمان جلاءً وسرعة إدراك، ولا تزال تزداد بصيرة ونفاذًا حتى تدرك ما كانت تظنه غير مدرك ولا معقول.»
(٥) الفرق بين الحكمة والفلسفة
يميز ابن مسكويه بين الحكمة والفلسفة، فهو يرى أن الحكمة هي فضيلة النفس الناطقة المميزة، وهي: أن تعلم الموجودات كلها من حيث هي موجودة، وإن شئت فقل أن تعلم الأمور الإلهية والأمور الإنسانية، وثمر علمها بذلك أن تعرف المعقولات أيها يجب أن يفعل وأيها يجب أن يغفل.
أما الفلسفة فلم يضع لها ابن مسكويه تعريفًا، ولكنه قسمها إلى قسمين: (١) الجزء النظري. و(٢) الجزء العملي.
فإذا كمل الإنسان بالجزأين فقد سعد السعادة التامة.
والجزء النظري ينطوي على كمال الإنسان الأول بالقوة العالمة، فيصير في العلم بحيث يصدق نظره، فلا يغلط في اعتقاد ولا يشك في حقيقة، وينتهي في العلم إلى العلم الإلهي ويثق به ويسكن إليه.
ويعتقد ابن مسكويه أن من ينتهي إلى هذه الرتبة من العلم والعمل فقد صار عالمًا وحده، واستحق أن يسمى عالمًا صغيرًا؛ لأن صور الموجودات كلها قد حصلت في ذاته فصار هو هي بنحوٍ ما، ثم نظمها بأفعاله على نحو استطاعته، فصار فيها خليفة لمولاه خالق الكل جلت عظمته، فلم يخطئ ولا يخرج عن نظامه الأول الحكمي فيصير حينئذ عالمًا تامًّا، دائم الوجود، سرمدي البقاء مستعدًّا لقبول الفيض من المولى دائمًا أبدًا، وقد قرب منه القرب الذي لا يجوز أن يحول بينهما حجاب.
ولولا أن الشخص الواحد من أشخاص الناس يمكنه تحصيل هذه المنزلة في ذاته لكان سبيله سبيل أشخاص الحيوانات الأخر، أو كسبيل أشخاص النبات في مصيرها إلى الفناء.
ومن لا يتصور هذه الحالة ولا ينتهِ إلى علمها من المتوسطين في العلم، تقع له شكوك في البعث والخلود وانتهاء حياة الإنسانية بالموت، فحينئذ يستحق اسم الإلحاد ويخرج عن سمة الحكمة وسنة الشريعة.
فالفلسفة في رأي ابن مسكويه هي غاية الحياة الإنسانية، وهي مزيج من العلم والعمل لسلوك سبيل الترقي الدائم، فهي الغرض الأسمى للوجود والوسيلة الوحيدة للاتصال العقلي والروحاني بين الخالق والمخلوق والاستعداد لقبول الفيض الرباني. وعلى ذلك تكون هذه المرتبة هي مرتبة الأنبياء والحكماء والعلماء الذين هم عوالم تامة، وخلفاء للخالق.
(٦) الملوك في فلسفة ابن مسكويه
أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك.
إن الملك إذا ملك زهده الله فيما في يده، ورغبه فيما في يد غيره، وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل ويتسخط بالكثير ويسأم الرخاء، وإن انقطعت عنه اللذة لا يستعمل الغيرة ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم الغش والسراب الخادع، جلد الظاهر حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره ومحي ظله، فأشد حسابه وأقل عفوه إلا أن الملوك هم المرحومون.
قال ابن مسكويه: لقد سمعت أعظم من شاهدت من الملوك يستعيد هذا الكلام (يعني وصف الملوك لأبي بكر الصديق)، ثم يستعبر لموافقته ما في قلبه وصدقه عن حاله وصورته، ولعل من يرى ظاهر الملوك من الأسرَّة والفرش والزينة والأثاث، ويشاهدهم في مواكبهم محفوفين محشودين بين أيديهم الجنائب والمراكب والعبيد والخدم والحجاب والحشم؛ يروعه ذلك فيظن أنهم مسرورون بما يراه لهم، لا! والذي خلقهم! وكفانا شغلهم! إنهم لفي هذه الأحوال ذاهلون عما يراه البعيد لهم، مشغولون بالأفكار التي تعتورهم وتعتريهم فيما قلناه من ضروراتهم.
(٧) الكلام عن النفس
- (١)
النفس البهيمية، وهي أدونها.
- (٢)
النفس السبعية (نسبة إلى السبع مفرد سباع)، وهي أوسطها.
- (٣)
النفس الناطقة، وهي أشرفها.
وإن هذه القوى الثلاث، ويصفها ابن مسكويه بالأنفس الثلاث، إذا اتصلت صارت شيئًا واحدًا وتبقى في الوقت ذاته على تغايرها وثورتها واستجدائها كأنها لم تتصل.
ثم تكلم على سياسة النفس العاقلة، وأن مثل من أهملها وترك سلطان الشهوة يستولي عليها كمن معه ياقوتة حمراء شريفة فرمى بها في نار تضطرم.
ثم انتقل إلى رأي أرسطو في بقاءِ النفس والمعاد استدلالًا من قوله في كتاب الأخلاق، على أن الكلام الذي أورده ابن مسكويه نقلًا عن أرسطوطاليس في هذا الباب لا يؤدي إلى القول بالمعاد.
ثم انتقل إلى دواء النفوس، قال يجب أن تتفقد مبدأ الأمراض إذا كان من نفوسنا. فإن كان مبدؤها من ذاتها كالفكر في الأشياء الرديئة، وإجالة الرأي فيها كاستشعار الخوف والخوف من الأمور العارضة والمترقبة والشهوات الهائجة؛ قصدنا علاجها بما يخصها.
وإن كان مبدؤها من المزاج ومن الحواس كالخور الذي مبدؤه ضعف حرارة القلب مع الكسل والرفاهية، وكالعشق الذي مبدؤه النظر مع الفراغ والبطالة؛ قصدنا أيضًا علاجه بما يخص هذه.
وتكلم بعد ذلك على «حافظ الصحة على نفسه» و«معرفة المرءِ عيوب نفسه» و«رد الصحة على النفس».
وأسهب ابن مسكويه في الكلام على العدالة والفضائل التي تحت العفة والشجاعة والسخاءِ والعدالة ومراتب الفضائل الإنسانية.
وألم بموضوع السعادة في رأي أرسطوطاليس ولذة السعادة والخير والسعادة وكثير من هذه الفصول تذكرنا مطالعتها بما دونه اللورد آفبرى في كتبه التي من قبيل «مسرات الحياة»، فهي مزيج من علم الأخلاق والآداب الخاصة والعامة وعلم النفس والحكمة الإنسانية.
وتكلم ابن مسكويه على التعاون والاتحاد والصداقة، والمحبة وأنواع المحبة وأجناسها وأسبابها، والمحبة التي لا تطرأ عليها الآفات.
وكما تكلم على أنواع الفضائل التي تزهو بها النفس، كذلك أفاض في ذكر الرذائل التي تكون بها عيوب النفس وأسباب ضعفها مثل: التهور، والجبن، والعُجب، والافتخار، والمزاح، والتيه، والاستهزاء، والغدر، والضيم، وأسباب الغضب، والجبن، والخور، والخوف وأسبابه وعلاجه، وعلاج الخوف من الموت، وعلاج الحزن.
إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة، أو لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، أو لأنه يظن أن للموت ألمًا عظيمًا غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، أو لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات؛ وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها.
ولم تخل فلسفة ابن مسكويه من جزء خاص بالشريعة، وبما يجب على الإنسان لخالقه وأسباب الانقطاع عن الله، وأن الشريعة تأمر بالعدالة وتدعو إلى الأنس والمحبة ولزوم الشريعة في المعاملات والواجب على الحاكم نحو الرعية.
وجملة القول في فلسفة ابن مسكويه الخلقية أنها مزيج متقن السبك متناسب الأجزاءِ من الفلسفة اليونانية حسب تعاليم أرسطو، لا سيما ما كان منها خاصًّا بعلم النفس والأخلاق ومن الآداب الفلسفية الإسلامية التي بها رائحة من التصوف العقلي والديني ومن حكمة الحياة والآداب العامة والخاصة.
(٨) فلسفة ابن مسكويه في إثبات الصانع والنفس والنبوة
يعد هذا الجزء من فلسفة ابن مسكويه خاصًّا بما وراء الطبيعة، وهو مبني على أصول الفلاسفة الإلهيين، ومذهب ابن مسكويه فيه هو الانتصار للعقائد الدينية.
إن الإنسان آخر الموجودات، وإن التركيبات تناهت إليه ووقفت عنده وتكثرت الأغشية واللبوسات الهيولانية على جوهره النير أعني العقل، ولما حصل الإنسان آخر الموجودات صارت الأشياء التي هي في أنفسها أوائل، آخرة عنده.
والفصل الثاني من المسألة الأولى خاص باتفاق الأوائل على إثبات الصانع جل ذكره، وأنه لم يمتنع أحد منهم عن ذلك، وخلاصته أن الحكماء أمروا بالتوحيد ولزوم أحكام العدل وإقامة السياسات الإلهية بالأزمنة والأحوال. ثم تكلم في الاستدلال بالحركة على الصانع، وأنها أظهر الأشياء وأولاها بالدلالة عليه جل وعز، ويقصد بالحركة ستة أشياء: حركة الكون – الفساد – النمو – النقصان – الاستحالة – النقلة.
وانتقل بعد ذلك إلى الكلام على أن كل متحرك إنما يتحرك من محرك غيره، وأن محرك جميع الأشياء غير متحرك، ثم تدرج إلى الكلام في أن الصانع واحد، وأنه ليس بجسم، وأنه تعالى أزليٌّ، وأغرب فصل في هذا الباب هو الثامن، الذي به أن الصانع يعرف بطريق السلب دون الإيجاب.
وفي الفصل التاسع بيان أن وجودات الأشياء كلها إنما هي بالله عز وجل، وقد تناول هذا الفصل القول على الجوهر والعرض، ثم تلاه كلام في أن الله تعالى أبدع الأشياء كلها لا من شيء، وأنها تتبدل بالصورة حسب.
وهذا ختام كلام ابن مسكويه في المسألة الأولى الخاصة بإثبات الصانع.
ثم انتقل إلى الكلام في المسألة الثانية: في النفس وأحوالها وفي إثبات النفس، وأنها ليست بجسم ولا عرض، وإنها تدرك الموجودات كلها غائبها وحاضرها ومعقولها ومحسوسها، وبحث في مسألة عويصة وهي كيفية إدراك النفس للمدركات، وهل ذلك منها بأجزاء كثيرة، أم بأنحاء مختلفة، أم هناك مدركات بعدد المركبات.
وقد أخطأ في هذا الفصل خطأ فلكيًّا، فقدر أن الشمس أكبر من الأرض مائة ونيفًا وستين مرة، مع أن المعول عليه اليوم في علوم الجغرافيا والكوزموجرافيا والفلك أن الشمس أكبر من الأرض مليون وثلاثمائة مرة.
ثم تكلم على الفرق بين الجهة التي تعقل بها النفس والجهة التي تحس بها، والأشياء التي تشترك فيها والأشياء التي تتباين فيها.
وتناول الكلام على خلود النفس، فأثبت على طريقته أن النفس جوهر حي باق لا يقبل الموت ولا الفناء، وأنها ليست الحياة بعينها بل تعطي الحياة لكل ما توحد فيه.
وانتقل بعد ذلك إلى الكلام على حجج أفلاطون في بقاء النفس، وأن للنفس حالًا من الكمال يسمى سعادة، وآخر من النقصان يسمى شقاوة، وفي حال النفس بعد مفارقتها البدن، وما الذي يحصل لها بعد موت الإنسان.
وقد استطرد في فصل إلى الكلام على تحصيل السعادة، والسبيل التي تؤدي إليها، وهذه لازمة ابن مسكويه في فلسفته، فأفاض فيها في كتاب تهذيب الأخلاق، وأفرد لها كتابًا هو الذي لخصناه فيما سبق وهو «ترتيب السعادات».
ثم انتقل إلى المسألة الثالثة، وموضوعها النبوات.
وتكلم في مراتب موجودات العالم واتصال بعضها من بعض وببعض.
ثم في الإنسان وكونه عالمًا صغيرًا، وقواه متصلة ذلك الاتصال، وبحث في كيفية ارتفاع الحواس الخمس إلى القوة المشتركة، ومنها إلى ما فوقها بمنة الله تعالى.
ثم انتقل إلى الكلام في الوحي وكيفيته، وأن العقل ملك مطاع بالطبع، وفي أن المنام (الرؤيا) الصادق جزء من النبوة، وفي الفرق بين النبوة والكهانة، وفي النبي المرسل وغير المرسل وفي الفرق بين النبي والمتنبي.
أما كتاب «الفوز الأصغر» الذي انطوى على هذه المباحث، فقد دل عليه المرحوم المحقق الشيخ طاهر أفندي الجزائري المتوفى بدمشق أثناء الحرب الكبرى، وصفه في برنامج ما اطلع عليه من الكتب الغريبة قال: «الفوز الأصغر، بناه ابن مسكويه على أصول الفلاسفة الإلهيين، وانتصر فيه للدين، فيه فصول مهمة وإشارات بديعة، ونسق عبارته كالذي نحاه في كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق».
(٩) كتاب تجارب الأمم
أما كتاب تجارب الأمم فالذي وصل إلينا منه القسم الأخير في جزأين مطبوعين بمطبعة (كامب هول) باكسفورد وبمصر في سنتي ١٩١٤، ١٩١٥. وقد اعتنى بالنسخ والتصحيح الأستاذ «آمدروز» المحامي الإنجليزي والمعلم مرغليوث، وقد علمنا أنهما تشاركا في نقل الكتاب وشرحه ونشره باللغة الإنجليزية في سنة ١٩٣٠م.
- والجزء الأول: يحتوي على حوادث خمس وثلاثين سنة، من سنة ٢٩٥ﻫ إلى سنة ٣٢٩ﻫ.
- والجزء الثاني: يحتوى على حوادث أربعين سنة، من سنة ٣٢٩ﻫ إلى سنة ٣٦٩ﻫ.
وغنى عن البيان أنه ليس للتاريخ دخل في الفلسفة، ولكن كتاب ابن مسكويه في التاريخ لا يعتبر تاريخًا محضًا، إنما هو كتاب تحرى فيه مؤلفه ذكر الحوادث بأسبابها ونتائجها، فيصح أن يقال إنه كتاب تاريخ مكتوب بشكل فلسفي، ولا غرابة أن تجتمع الفلسفة إلى التاريخ والأدب في شخص واحد، فقد ثبت لنا أن ابن مسكويه كان فيلسوفًا ومؤرخًا وأديبًا، وكان «كارليل» الإنجليزي فيلسوفًا ومؤرخًا وأديبًا، وكان «جوته» فيلسوفًا وعالمًا ومؤرخًا وأديبًا.
وقد اتبع ابن مسكويه في تأليف هذا الكتاب ذكر الحوادث المهمة تارة، مثل قوله «خلافة المقتدر بالله وذكر ما جرى في ذلك»، وتارة بذكر السنين فيقول: «ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين» وهكذا.
وقد تحرى ابن مسكويه الدقة في نقل الأخبار، ولم يتحيز لفريق دون فريق.
وختم القسم الأخير من الكتاب المشار إليه بقوله في وفاة عضد الدولة إنه «عرج إلى نهوند وافتتح قلعة (سرماج)، واحتوى على ما فيها وملك غيرها من قلاع تلك البلاد، وألقت إليه الحصون مقاليدها ولحقته في هذه السفرة علة عاودته مرارًا، وكانت شبيهًا بالصرع، وتبعه مرض في الدماغ يعرف بليترغوس (ويقصد ابن مسكويه مرض النوم الذي يطلق عليه أطباء هذا الزمان ليثرجيا)، إلا أن عضد الدولة أخفى ذلك. ويقال إن مبدأ ذلك المرض به كان بالموصل، إلا أنه لم يظهر أمره لأحد».
وهذا آخر ما عمله الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مكسويه — رضي الله عنه.
أما الجزء الثالث الذي طبع في اكسفورد ومصر فهو «ذيل» لكتاب «تجارب الأمم»، ولا علاقة بينه وبين كتاب ابن مسكويه سوى أنه يحتوى على حوادث مكملة لما ورد في الجزأين الأول والثاني من «تجارب الأمم»، فيبدأ بسنة ٣٦٩ﻫ وينتهي إلى سنة ٣٨٩ﻫ. وهو تأليف الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين الملقب ظهير الدين الروذراوري، وتليه قطعة من تاريخ هلال الصابي الكاتب إلى سنة ٣٩٣ﻫ، مع نخب من تواريخ شتى تتعلق بالأمور المذكورة فيه.