الفارابي
هو أبو النصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان ويكتبه القاضي صاعد «أوزلق». وأبوه محمد بن أوزلغ بن طرخان كان قائد جيش، وهو فارسي الأصل، وبلده وسيج بمقاطعة فاراب وهو بلد تركي في خراسان. هذا أجمع عليه المؤرخون، وذكر منك أن بلده اطرار فيما وراء النهر.
والفارابي ككثير غيره من العصاميين لا يعرف تاريخ ولادته. توفي في الثمانين من عمره في رجب سنة ٣٣٩/ديسمبر ٩٥٠، فهو من مواليد ٢٦٠ هجرية، قررنا هذا التاريخ فرضًا، ولا نظنه بعيدًا عن الحقيقة.
(١) تاريخ حياته
ذكر ليون أفريقي ونقل عنه بروكر في تاريخ الفلاسفة في الجزء الثالث ص٧١–٧٣ أمورًا كثيرة عن الفارابي، ولكن معظمها مشكوك فيه، وبعضها من الأساطير الملفقة. وروى ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في ج٢ ص١٣٤ «أن الفارابي كان ناطورًا في بستان في دمشق، وكان دائم الاشتغال بالفلسفة، وكان فقيرًا ويستضيء في الليل بالقنديل الذي للحارس، ثم أنه عظم شأنه». وهذه الرواية لا تقلل من قدر الحكيم؛ فقد كان كليانت الفيلسوف الرواقي سقاء يوزع الماء لري البساتين في ضواحي أثينا، وكان سبينوزا يعيش من صنعة الساعات في هولندا، وهكذا الحكماء في كل جيل!
(٢) الخبر اليقين
والذي يعلم بيقين عن حياة الفارابي، أنه رحل في صباه من مسقط رأسه إلى بغداد، وهي مركز الحضارة والعلم في عهد العباسيين، فتعلم بها. ثم التحق بحاشية الأمير سيف الدولة أمير حلب، وهو بعينه الذي أكرم المتنبي فمدحه في معظم شعره، والمتنبي أحد معاصري الفارابي وهو كثير الحكمة في قصائده. وصحبه إلى دمشق وأقام ببلاطه مدة ثم اعتزل وعاش عيشة الحكماء إلى أن توفي. وليس لدينا علم بشأن آخر من الشئون الشخصية التي عني المؤرخون بتدوينها عن فلاسفة اليونان وفلاسفة أوروبا، وليست العبرة في تاريخ الحكماء بأمورهم الخاصة.
وقد انتقل من بغداد إلى حلب لفتنة حدثت، ووافته المنية في سياحة من حلب إلى دمشق. ولما توفي تزيَّا سيف الدولة بزي صوفي (وهو الذي اتخذه الفارابي في آخر أيامه) ورثاه على قبره، ويؤيده هذه الرواية ما نقله ابن أبي أصيبعة من «أن سيف الدولة صلى عليه صلاة الجنازة في خمسة عشر رجلًا من خاصته»، وروى بعض مؤرخي العرب أنه سافر إلى مصر قبل وفاته بسنة، ولكن هذا لم يثبت.
(٣) أخلاقه
كان ذكي النفس متجنبًا عن الدنيا مقتنعًا منها بما يقوم بأوده، يسير سيرة الحكماء المتقدمين، وكان هادئ الطبع عاكفًا على الفلسفة كثير التأمل، ومن قناعته أنه لم يكن يتناول من سيف الدولة من جملة ما ينعم به عليه سوى أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاجه من ضروري عيشه، ولم يكن معتنيًا بهيأته «ولا منزل ولا مكسب له وكان يتغذى بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحاني، وكان يخرج إلى الحراس بالليل يستضيء بمصابيحهم فيما يقرؤه» (جمال الدين القفطي ص١٨٨). وقد عاش الفارابي في دولة العقل ملكًا وفي العالم المادي مفلوكًا.
(٤) تعليمه
أجمع المؤرخون على أن الفارابي تعلم على أستاذ مسيحي اسمه يوحنا بن حيلان، وهذا الأستاذ تلقى العلم مع إبراهيم المروزي عن رجل من أهل مرو، لم يحفظ لنا التاريخ اسمه، وكما تخرج الفارابي على يوحنا، تخرج أبو البشر متى على إبراهيم المروزي.
وكان أبو البشر من الذين اشتغلوا بترجمة كتب أرسطو وشرحها ومعاصرًا للفارابي، وكان أسنَّ منه.
وروى السجستاني (تلميذ يحيى بن عدي) في تعاليقه أن يحيى بن عدي، وهو تلميذ الفارابي، أخبره «أن متى أبا البشر قرأ إيساغوجي على أستاذ مسيحي، وقرأ قاطيغورياس (المقولات) وبارمينياس (العبارة) على أستاذ يسمى روبيل، وقرأ كتاب القياس على ابن يحيى المروزي». وهذه الكتب كلها لأرسطو، ويفهم من هذه العبارة أن هؤلاء الأساتذة كانوا يقرءون هذه الكتب ويدرسونها، ولما كان أبو البشر متَّى معاصرًا للفارابي فلا ريب في أنه تلقى العلم عليهم؛ لأن الفارابي لم يكن من الطلاب الذين يقنعون بأستاذ واحد، فقد روي «أنه كان يجتمع بأبي بكر بن السراج فيقرأ عليه صناعة النحو، وابن السراج يقرأ عليه صناعة المنطق». وقالوا إنه أتقن العلوم الحكمية وبرع في العلوم الرياضية، وكانت له قوة في صناعة الطب وعلم بالأمور الكلية منها، ولكنه لم يباشر أعمالها ولا حاول جزئياتها «عن القاضي صاعد»، ونسبوا إليه علم جميع لغات الدنيا وهي سبعون لغة، ولكن المؤكد أنه عرف العربية والفارسية والتركية، والمرجح أنه عرف اليونانية والسريانية، وهذه خمس لغات كانت فيها الكفاية لعهده.
(٥) مكانته في الفلسفة
انشق حكماء العرب في أواخر القرن الثالث للهجرة فرقتين:
الأولى فرقة المتكلمين، وكان للكندي الفضل الأكبر في تمهيد سبيلها، تخصصت بالإلهيات وما وراء الطبيعة، وكان ظهورها في مرو، وكانت قبل ذلك الانفصال تتبع فيثاغورس، ثم تنحت عنه وعن أتباعه وتعلقت بأرسطو بعد أن ألبست تعاليمه ثوب مبادئ أفلاطون المستحدثة (نيوبلاتونيزم)، وكانت هذه الفرقة تبحث الأشياء في مبادئها وتتحرى المعنى والفكرة والروح. ولا تصف الله بالحكمة في الخلق أو بالعلة الأولى، ولكن بأنه واجب الوجود، وكانت تقدر الأشياء بوجودها، فتسعى في إثبات ذلك أولًا.
وكان الفارابي رئيس هذه الفرقة وزعيمها والمقدم فيها وإليه المرجع وعليه الاعتماد. (راجع نيكولسن «تاريخ أدب العرب».)
أما الفرقة الثانية فهي فلاسفة الطبيعة، وكان ظهورها بحران والبصرة، وقصرت بحثها على ظواهر الطبيعة المادية المحسوسة، مثل تخطيط البلدان وأحوال الشعوب، ثم ترقت في البحث، ولكنها لم تتعد النظر في الأثر الذي تحدثه الأشياء في عالم الحس، ثم تجاوزت البحث في ذلك إلى النفس والروح فالقوة الإلهية فعرفتها «بالعلة الأولى» أو «الخالق الحكيم الظاهرة حكمته في مخلوقاته».
وكان أبو بكر محمد بن زكريا الرازي زعيمها، وقد وردت ترجمته في ابن أبي أصيبعة ص٣٠٩ ج١، وكان طبيبًا حاذقًا وفيلسوفًا طبيعيًّا. فالفرق ظاهر بين الفرقتين، فالفرقة الثانية التي زعيمها الرازي كانت تبحث فيما هو ظاهر للعيان وملموس بالحس وتقنع بصفاته وقوة أثره في غيره من الموجودات.
أما الفرقة الأولى فرقة المتكلمين، التي كان رئيسها الفارابي فكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسعى في إثبات ذلك الوجود أولًا، فالفارابي كان إذن زعيم أكبر فرقة فلسفية في عصره.
(٦) فضله على فلسفة أرسطو
- (١)
كتب المنطق الثمانية وهي: قاطيغورياس (المقولات)، هرمنطقي (فن التفسير)، التحليل الأول (القياس)، التحليل الثاني (البرهان)، طوبيقا (الجدل)، السفسطة، البلاغة، الشعر. هذه هي الكتب التي وضع لها فارفوريوس (وهو أحد حكماء الإسكندرية وتلميذ بونتين) مقدمة إيساغو.
- (٢)
ثم كتب الطبيعيات الثمانية وهي: الطبيعيات، كتاب السماء والعالم، التوليد والفساد، علم الجو، علم النفس، الحس والمحسوس، كتاب النبات، الحيوان، ثم الكتب الثلاثة وهي ما وراء الطبيعة، فالأخلاق، فالسياسة. وكتاب الأخلاق هو الذي نقله إلى العربية عن الفرنسية الأستاذ أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية.
هذا هو الوضع الذي عينه الفارابي، بعد طول الإمعان والدرس، وهو الذي سارت عليه الحكماء من عهده إلى وقتنا هذا ففضل الفارابي من هذه الوجهة لا ينكر، ولا عجب إذا سمي «المعلم الثاني» ونحن نسميه أرسطوطاليس العرب.
(٧) علو كعبه في المنطق
قال القاضي صاعد في التعريف بطبقات الأمم، إن الفارابي «بذَّ جميع الفلاسفة في صنعة المنطق، وأربى عليهم في التحقيق بها؛ فشرح غامضها، وكشف سرها، وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم، وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمس، وأفاد وجوه الانتفاع بها، وعرف طرق استعمالها وكيف تعرف صورة القياس في كل مادة، فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية والنهاية الفاضلة». ا.ﻫ. كلام صاعد.
والفضل في نبوغ الفارابي في المنطق يرجع إلى طريقة بحثه، فإنه لم يقتصر على تحليل طريقة الفكر بل بين علاقة ذلك بالنحو وبحث في نظرية المعرفة. وقال إن النحو قاصرٌ على ضبط لسان العرب، وإن المنطق «نحو» يضبط سائر الألسن ويصونها عن الزلل.
وهذا الذي حداه إلى البحث في المنطق بالتدريج: اللفظة، فالجملة المركبة فالخطاب المسهب. وهذه طريقة ابتدعها وإليك بيانها بإيجاز:
قسم الفارابي المنطق إلى قسمين: وهما التصور والتصديق، وأدخل في التصور طائفة الأفكار والتعريفات، وفي التصديق الاستدلال والرأي، والتصور لا يتحتم فيه الصدق أو الكذب. وفي دائرة الأفكار أبسط الأشكال النفسانية وكذلك الصور التي طبعت في ذهن الطفل مثل الضروري والواقع والممكن. وهذه أمور يمكن لفت عقل الإنسان إليها، ولكن لا يمكن شرحها له لما هي عليه من الظهور بالبداهة. وبالتوفيق بين الصور والأفكار تنتج الآراء، والآراء تحتمل الصدق والكذب، ولأجل الوقوف على أصل الرأي لا بد من الاستدلال والتصديق والفروض المدركة، وهي واضحة بذاتها مباشرة وغير محتاجة إلى تأكيد أو إثبات كالبديهيات في الرياضة. وبعض الأوليات فيما وراءَ الطبيعة والآداب. ونظرية التصديق تتلخص في الانتقال من المعلوم الثابت إلى معرفة المجهولات المشكوك فيها.
(٨) كتبه الموجودة باللغة العربية
-
(١)
التوفيق بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، (مطبوع في مصر مع غيره).
-
(٢)
فيما ينبغي الاطلاع عليه قبل قراءة أرسطو. مطبوع أيضًا.
-
(٣)
فصوص المسائل. مطبوع.
-
(٤)
رسالة في المنطق، القول في شرائط اليقين. خطية بأوروبا.
-
(٥)
رسالة في القياس، فصول يحتاج إليها في صناعة المنطق وهي خمسة فصول، خطية.
-
(٦)
رسالة في ماهية الروح. خطية.
وهذه الرسالة ورد ذكرها في ابن أبي أصيبعة، وأثبت فيها الفارابي وجود الروح وأنها جوهر بسيط، وأنها صورة قادرة على الفهم بدون حاجة إلى الاستعانة بالمادة، وأنها ذات مظاهر ووظائف شتى.
- (١)
مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة. (طبع ليدن سنة ١٨٩٥).
- (٢)
إحصاء العلوم. خطية في الاسكوريال ولها ترجمة لاتينية وأخرى عبرية.
- (٣)
السياسة المدنية. (بيروت ١٩٠٢).
- (٤)
تسعة كتب في الرياضيات والكيمياء والموسيقى متفرقة في مكاتب أوروبا والأستانة مع ترجماتها العبرانية أو اللاتينية.
- (٥)
تسعة أخرى، في مواضيع مختلفة.
(٩) ترتيب مؤلفاته بنوعها
لا يمكن ترتيب مؤلفات الفارابي بحسب تاريخ وضعها، ولكن يمكن ترتيبها من حيث نوعها؛ فمؤلفاته في علم الكلام أو مبادئ الفلسفة الطبيعية قد تكون من وضعه في صباه. أو يكون ألفها حبًّا منه في انتشار الحكمة بين الجمهور، ولكن مؤلفاته القيمة هي ما كانت خاصة بفلسفة أرسطو شرحًا وتفسيرًا وتحديًا، وقد سمي المعلم الثاني إشارة إلى أنه أفضل الحكماء بعد أرسطو الذي كان يسمى المعلم الأول، ويقول الذين عرفوها وخبروها إن الفارابي لم يحور شيئًا من نظريات أرسطو، وإن الذي وصل منها إلينا نادر، وقد ورد ذكر جميع مؤلفاته في القفطي ص١٨٢ وفي طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ج٢ ص١٣٨، وأحصيناها سبعة عشر شرحًا وستين كتابًا وخمسًا وعشرين رسالة، وذكر الحاج خليفة في كشف الظنون أن ندرة كتبه راجعة إلى كثرة ورود ذكرها في كتب ابن سينا.
ومن الكتب المنسوب إليه «إحصاء العلوم»، وهو كتاب يعده كتَّاب العرب عظيم الفائدة لا غنى لطلاب العلم عنه، قال عنه ابن صاعد إنه كتاب شريف في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به وتقديم النظر فيه.
وتوجد منه نسخة في مكتبة الاسكوريال بمدريد بإسبانيا وصفه «كما يرى» بموسوعات العلوم، ولكن هذا الوصف مبالغ فيه لأن ما جاء في الكتاب لا ينطبق على ما يقصد في وقتنا هذا من دائرة المعارف، أو «المعلمة» كوضع أحمد تيمور باشا.
ويظن العلامة «منك» أن الرسالة التي نقلت إلى اللاتينية منسوبة إلى الفارابي باسم «تلخيص سائر العلوم» هي ترجمة موجزة لإحصاء العلوم ومنها نسخة في مكتبة «دي روس» في يارم بإيطاليا، ونسخة كاملة بين المخطوطات اللاتينية في المكتبة الوطنية بباريس تحت عدد ٤٩ مجموعة ١٤٣ب ملحق لاتيني.
وهذه الرسالة مقسمة إلى خمسة أبواب: الأول في علوم اللغة، والثاني في علم المنطق، والثالث في الرياضيات، والرابع في الطبيعيات، والخامس في الفنون المدنية.
وقد ذكر الفارابي أنواع العلوم المحتوية عليها تلك الأبواب مع تعريفات جلية ببيان موجز في كل فن.
وله كتاب في أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطو يشهد له بالبراعة في صناعة الفلسفة، والتحقق بفنون الحكمة، وهو أكبر عون على تعلم طريق النظر وتعرف وجه الطلب، أطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علمًا علمًا، وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض شيئًا فشيئًا، ثم بدأ بفلسفة أفلاطون فعرف بغرضه منها وسمى تآليفه فيها، ثم أتبع ذلك بفلسفة أرسطوطاليس فقدم له مقدمة جليلة عرف فيها بتدرجه إلى فلسفته، ثم بدأ بوصف أغراضه في تآليفه المنطقية والطبيعية كتابًا، حتى انتهى به القول في النسخة الواصلة إلينا إلى أول العلم الإلهي والاستدلال بالعلم الطبيعي عليه، ولا أعلم كتابًا أجدى على طالب الفلسفة منه فإنه يعرف بالمعاني المشتركة لجميع العلوم والمعاني المختصة بعلم علم منها، ولا سبيل إلى فهم معاني قاطيغورياس وكيف الأوائل الموضوعة لجميع العلوم إلَّا منه. ا.ﻫ. كلام ابن أبي أصيبعة.
ثم له بعد هذا في العلم الإلهي وفي العلم المدني كتابان لا نظير لهما، أحدهما المعروف «بالسياسة المدينية»، والآخر المعروف «بالسيرة الفاضلة». عرف فيهما بجمل عظيمة من العلم الإلهي على مذهب أرسطوطاليس في مبادئ الستة الروحانية، وكيف يؤخذ عنها الجواهر الجسمانية على ما هي عليه من النظام واتصال الحكمة، وعرف فيها بمراتب الإنسان، وقواه النفسانية وفرق بين الوحي والفلسفة، ووصف أصناف المدن الفاضلة وغير الفاضلة واحتياج المدنية إلى السيرة الملكية والنواميس النبوية.
ثم إنه أتى على العناصر المختلفة المكونة للطبيعة البشرية وخواص النفس وبين الفرق بين الوحي والحكمة ووصف الهيئات المنظمة والجماعات غير المنظمة، وأظهر حاجة المدنية إلى حكومة سياسية وإلى شريعة دينية.
هذا ملخص ما ورد في عيون الأنباء وأخبار الحكماء لابن أبي أصيبعة والقفطي، ولا شك عندنا الآن في أنهما يقصدان بكتاب السياسة المدينية كتاب «المدينة الفاضلة»، وقد يكون الفارابي وضع له اسمين كعادته في بعض مؤلفاته. فإن كتاب السياسة يسمى أيضًا كتاب الموجودات.
- (١)
المبدأ الإلهي أو السبب الأول وهو فرد أي واحد لا يتعدد.
- (٢)
الأسباب الثانوية أو عقول الأجرام السماوية.
- (٣)
العقل الفعَّال.
- (٤)
النفس.
- (٥)
الصورة.
- (٦)
المادة المعنوية.
والمبدأ الأول هو بمفرده الأحدية المطلقة وما عداه متعدد، والثلاثة المبادئ الأولى ليست أجرامًا وليس لأحدها علاقة مباشرة بالأجرام، والثلاثة الأخيرة ليست بذاتها أجرامًا ولكنها متعلقة بها. والأجرام على ستة أنواع: أجرام الدوائر الفلكية، والحيوان العاقل، والحيوان غير العاقل، والنبات، والمعادن، وتلحق بها العناصر الأربعة، ومجموع هذه الأنواع يكوِّن الوجود، وبعد أن أبان الفارابي ما ذكرنا تكلم على ما يستنبط من تلك المبادئ الستة، إلى أن وصل إلى الإنسان، ففحص نظام الجماعات البشرية ونسبتها إلى غاية الوجود الإنساني من حيث القرب والبعد من الكمال الذي هو نهاية كل موجود. وقال إنَّه لا يصل إلى درجة الكمال القصوى إلَّا ذوو الذكاء التام والقادرون على التأثر من العقل الفعال.
(١٠) الدرجة القصوى في الكمال
ويشترط أن يكون العقل الفعال قد منح الإنسان الدراية الأولية التي يتفاوت الناس (بتفاوت خواصهم الطبيعية والبدنية) في الاستعداد للوقوف عليها والهداية بها. وإن هؤلاء الذين خطوا الخطوة الأولى وملكوا القدر الضروري من العلم يستطيعون بجدهم وبتأثير العقل الفعال، أن يصلوا إلى أرقى درجات الكمال. وينبغي لهم أن يفقهوا معنى درجة الكمال القصوى، وأن يجعلوها غايتهم ومقصدهم، وأن يقفوا عليها كدهم وذكاءهم وسائر أعمالهم، فإذا تيسر لهم ما تقدم وصلوا إلى حالة «العقل بالملكة»، وهي الدرجة السابقة لدرجة العقل المستفاد، فإذا بلغوا تلك الدرجة اتصلوا بالعقل الفعال وأصبحوا على أتم ما يكون من الاستعداد للتلقي والإلهام. وإذا وصل الإنسان إلى تلك الدرجة يحق أن يقال عنه إنه بلغ درجة الوحي الإلهي وإنه عادَل الأنبياء. ولا يبلغ الإنسان هذه الدرجة العليا إلا إذا ارتفع كل حجاب بين العقل الفعال وبينه، وهذه هي الحالة الوحيدة التي يعترف فيها الفارابي بالوحي، وقد خالف بها آراء المتكلمين كما هو ظاهر.
(١١) خلود النفس بالجملة أو وحدة النفوس
يقول الفارابي بعد ذلك من الجلي أن السعادة التي يتمتع بها أهل المدينة تختلف قدرًا ونوعًا تبعًا لدرجة الكمال التي بلغوها في الحياة الاجتماعية التي تتعلق بها درجة السعادة التي ينبغي الوصول إليها. فإذا فازوا بالانفصال عن المادة وروابط الأجسام فقد نجوا من الطوارئ المعرضة لها الأجسام بطبيعتها، بحيث لا يصح أن يطلق عليهم لا وصف الحركة ولا صفة السكون، بل يقال عنهم ما يقال عما لم يخرج من عالم الغيب. وما توصف به الأجسام لا يجب في حق تلك النفوس المفارقة التي لا يمكن تعيينها بقول فاصل. وذلك لصعوبة إحاطة الفكر بالموجودات التي لا هي أجسام ولا علاقة للأجسام بها. وإذا حولت أجسامهم إلى العدم وخلصت نفوسهم وسعدت، يخلفهم رجال غيرهم في المدينة فيسلكون سبيلهم ويقتدون بسيرتهم إلى أن تخلص نفوسهم وتحول أجسامهم إلى العدم كما كان من أمر أسلافهم، ثم ترتقي تلك النفوس المتشابهة وتمتزج بعضها بالبعض. وكلما زاد عدد النفوس الخالصة من أجسادها واندمجت كلها تمت سعادتها بحيث يزداد تمتع النفوس السابقة كلما لحقتها سواها من نوعها؛ لأن كل نفس إذا فكرت في ذاتها وجوهرها ألمت بذوات وجواهر مماثلة لها، وهذه الذوات والجواهر تزداد بكرور الأيام كلما التصقت نفوس حديثة العهد بتلك الوحدة النفسية بالنفوس القديمة. وبذا تزداد سعادة تلك النفوس المتحدة إلى اللانهاية. وهذه السعادة هي بعينها التي تكتسبها الأجيال الواحد بعد الآخر، وهذا هو النعيم الأبدي والذي يقصد إليه العقل الفعال … هذا ملخص آراء «المدينة الفاضلة»، ويرى اللبيب في تلك النبذة التي قد يغمض فهمها على البعض أن الفارابي لا يقول بخلود النفس إلَّا شريطة أن تكون قد وصلت في الحياة الدنيوية إلى درجة العقل المستفاد، وقد يفسر قوله بما يوافق رأي القائلين بوحدة النفوس، وهو مبدأ ابن باجه وابن رشد.
وكتاب «المدينة الفاضلة» طبعه في مصر (في مطبعة النيل التي بادت) الشيخ مصطفى القباني الدمشقي الخطاط المتوفى في القضارف بالسودان عام ١٩١٤.
(١٢) رأي ابن طفيل في وحدة النفوس
أما ابن طفيل أحد فلاسفة العرب الأشراقيين فلا يأبه لمؤلفات الفارابي فيما وراء الطبيعة. قال: إن معظم ما دونه أبو نصر كان في المنطق، وأما ما اتصل بنا من كتبه في الحكمة الصحيحة مملوء بالريب والتناقض. ثم أشار ابن طفيل إلى شكوك أبي نصر الفارابي في خلود النفس، فقال إن الفارابي ذكر في كتابه «كتاب الملة الفاضلة» أن النفوس الخبيثة تبقى بعد الموت في عذاب أبدي، ثم ذكر في سياسته أن تلك النفوس الخبيثة تتحول إلى العدم ولا تخلد إلَّا النفوس الكاملة.
ويظهر أن كتاب «الملة الفاضلة» هو بعينه كتاب السيرة الفاضلة، وقد قال الفارابي فيه إن نفوس الدهريين والمنافقين والأشرار التي تفقه معنى الخير الأعلى ولا تحاول بلوغ شأوه تبقى بعد الموت محيطة بما ينقصها لترتقي لدرجة الكمال، ثم لا تستطيع أن تكمل ولا أن تهلك بل تبقى معلقة بين بين وهي تقاسي في ذلك الأمرَّين، أما النفوس الجاهلة التي لم يصل علمها في الحياة الدنيا إلى معرفة الخير الأسمى فإنها تعود إلى العدم المطلق (نقله إسحق بن لطيف وابن فلكيرة).
يقول ابن طفيل: ثم إن أبا نصر الفارابي ذكر في شرحه لكتاب الأخلاق لأرسطو أن أرقى ما يصل إليه الإنسان هو في هذه الدنيا، وأن الخير الأسمى هو أيضًا في هذه الدنيا، وأن كل ما يقال بوجوده بعد هذه الحياة ليس إلا ترهات أشبه بخرافات العجائز.
وقد أشار ابن رشد إلى تلك الفقرة الأخيرة في آخر كتابه في علاقة العقل المادي بالعقل الفعال، إذ ذكر أيضًا أن الإنسان لا يتأتى له كمال أرقى من الكمال الذي يستطيع بلوغه بالنظر في العلوم العقلية. وهذا بيان قول ابن رشد فيما يتعلق بهذه القضية، فإنه بعد أن ذكر ما تعترض به طائفة من الفلاسفة على إمكان اتحاد عقولنا بالعقول المفارقة قال: وهذه الاعتراضات التي دعت أبا نصر في شرحه لأخلاق أرسطو إلى القول بأن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى درجة أرقى من التي يصل إليها بالنظر في العلوم العقلية، ثم أضاف إلى ذكر تلك الاستحالة قوله بأن وصول الإنسان إلى حالة الجوهر الفرد المجرد عن المادة ليس إلَّا من ترَّهات العجائز. لأن ما يولد ثم يموت ليس من صفاته الخلود. هذا آخر قول ابن رشد (ابن رشد لرينان) وقد ألحقت هذه النبذة بالفارابي أعظم ضرر، وأدت إلى تكفيره في نظر بعض المتشددين من أهل عصره ومن جاء بعده، واتهموه بالقول بالتناسخ وهي تهمة مفتعلة مبتدعة سببها سوء فهم قوله في المدينة الفاضلة ص٩٥ طبع مصر «وإذا مضت طائفة فبطلت أبدانها وخلصت أنفسها وسعدت، فخلفهم ناس آخرون في مرتبتهم بعدهم قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم» هذا؛ لأن الفارابي في مجموع الحكم أنكر التناسخ إنكارًا باتًّا، وما كان ليقول به لأنه لا ينطبق على سلسلة أفكاره ولا يتفق مع آراء أستاذه أرسطو، إنما هو بدعة أفلاطونية استفادها الحكيم اليوناني من المصريين القدماء وكررها في كتبه.
(١٣) الفارابي والخلود
ولا ريب عندنا في أن الفارابي ينكر بتاتًا خلود النفس المفردة كما تقول به الأديان، ويقول إن النفس البشرية لا تتلقى ولا تعي من العقل الفعال إلا صور الموجودات وهي الصور التي تخلق وتعدم؛ لأن النفس لا تستطيع أن تتلقى المعقولات المجردة النقية لئلا ينسب إليها التناقض لجمعها بين النقيضين. وهذا رأي ابن رشد في بيان ما تسرب إلى أبي نصر من الشكوك، وحق لنا أن نذكر أن هذه الشكوك بعينها هي التي تسربت إلى ابن رشد ونسبت إليه وعرف بها وكفروه وسبوه وعذبوه في قرطبة بسببها.
لما رأيت أكثر أهل زماننا قد تحاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادعوا أن بين الحكيمين المقدمين المبرزين اختلافًا في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي أمر النفس والتعقل وفي المجازات على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية؛ أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأييهما
(يقصد أفلاطون وأرسطو) ثم أخذ الفارابي على طريقة أفلاطون المستحدثة (نيوبلاتونيزم) يوفق بين الحكيمين. وليس في استطاعته نقض إلهيات أرسطو ولا التحول عن عقيدته الإسلامية. على أن الممعن في هذه الرسالة يرى أن مقصد الفارابي كان دينيًّا محضًا ولم يكن يقصد إلى فحص رأيي الحكيمين ونقدهما على الطريقة المنطقية، ولكنه يقصد إلى تفسير العالم تفسيرًا فلسفيًّا لا يناقض الدين الإسلامي. فأغفل الفروق الفلسفية بين الحكيمين وهي لم تكن لتخفى عليه، وادعى أن الخلاف بينهما ظاهر من حيث الألفاظ وطريقة النظر. أما تعليمهما الفلسفي فواحدو التوفيق بينهما والانتفاع بآرائهما أفضل من التفاوت، ولكن هذه الرسالة لم تصل به للغاية التي كان يرمي إليها، ونصيبها في نظرنا نصيب رسالة «تهافت الفلاسفة» التي كتبها الغزالي لمثل هذا الغرض، ثم نقضها في كتابه النادر المسمى «المضنون به على غير أهله».
- الأول: المعنى المبتذل في قول الجمهور في إنسان أنه عاقل.
- الثاني: المعنى الذي يقصده المتكلمون في قولهم هذا مما يوجبه العقل أو ينفيه.
- الثالث: المعنى الذي يصفه أرسطو بالتمييز بين الصحيح وضده ويذكره في كتاب البرهان.
- الرابع: وهو الذي ذكره أرسطو في الكتاب السادس من الأخلاق، وهو العقل الذي يفرق بين الخير والشر وهو يتزايد مع الإنسان طول عمره.
- الخامس: وهو الذي ذكره أرسطو في كتاب النفس، وقسَّمه إلى عقل بالقوة وعقل بالفعل وعقل مستفاد وعقل فعال.
- السادس: هو العقل الذي ذكره أرسطو في المقالة السادسة من كتاب النفس وهو العقل الفعال.
(١٤) الفارابي والإلهيات
كل موجود في نظر الفارابي إما ضروري وإما ممكن، وليس هناك ثالث لهذين الاثنين.
وحيث إن كل ممكن يستدعي فرض سبب لوجوده، وإن سلسلة الأسباب لا يمكن أن تكون بغير نهاية، فلا بد من الاعتقاد بوجود كائن موجود بطبيعته بغير سبب، ومالك لأعلى درجات الكمال، وممتلئ بالحقيقة الأزلية، ومكتفٍ بذاته بلا تغيير ولا تبديل، وهو بصفته عقلًا مطلقًا وخيرًا خالصًا وفكرًا تامًّا يحب الخير والجمال (القول في واجب الوجود ص٦ وما بعدها «المدينة الفاضلة»). ولا يمكن إقامة الدليل على وجود هذا الكائن لأنه هو التصديق والبرهان، ولأنه العلة الأولى لكل الأشياء، وفيه تجتمع الحقيقة والصدق ويلتقيان، ولأنه أكمل الكائنات واحد فرد لا يتعدد وهذا الوجود الأول المتفرد، الحقيقي الوجود هو «الله»، ومن هذا الكائن الأول ينبعث مثاله أو صورته «الكل الثاني» أو الروح المخلوق الأول الذي يحرك الجرم السماوي الخارجي. وبعد هذا الروح تنبعث عن بعضها البعض الأرواح الثمانية الجرمية التي كلها وحيدة في تعدد أنواعها وكاملة وهذه هي خالقة الأجرام السماوية. وهذه التسعة أجرام السماوية تسمى الأفلاك العلوية وتكوِّن الدرجة الثانية للوجود. وفي الدرجة الثالثة يوجد العقل الفعال في الإنسانية المسمى بالروح القدس، وهو الذي يصل السماء بالأرض. وفي الدرجة الرابعة توجد النفس الإنسانية. وهذان الاثنان العقل والنفس لا يبقيان بنفسيهما في وحدتهما الأصلية الدقيقة، ولكنهما يتعددان تعدد بني آدم ثم يكون من ذلك الشكل والمادة، وهما الدرجتان الخامسة والسادسة وبهما يقفل باب الدرجة الروحية.
ومن هذه الدرجات الست، الثلاث الأولى منها أرواح بذاتها، ولكن الثلاث التالية النفس والشكل والمادة وإن كانت غير جرمية إلَّا أن لها صلة بالجسم الإنساني.
وللجرم الذي أصله في صورة الروح ست درجات، الأجسام السماوية، وبدن الإنسان، وأبدان الحيوانات النازلة، وأبدان النباتات، والمعادن، والأبدان الأولية.
وإلاهيات الفارابي مستمدة من أرسطو ومكتوبة على طريقته المنطقية كقوله: «الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها، وهو بريء من جميع أنحاء النقص، فوجوده أفضل الوجود وأقدم الوجود، ولذلك لا يمكن أن يشوب وجوده وجوهره عدم أصلًا، والعدم والضد لا يكونان إلَّا فيما دون فلك القمر.» وإلاهيات أرسطو نقلها الكندي إلى العربية.
(١٥) تقسيم قوى النفس
قوى النفس في نظر الفارابي متدرجة، فالقوة السفلى هي مادة للقوة العليا والعليا صورة للسفلى، وأرقى هذه القوى جميعًا الفكر وهو غير مادي وهو صورة لجميع الصور السالفة، والنفس ترتفع عن الموجودات المحسوسة إلى الفكر بقوة التصور والتمثيل، وفي كل قوة من قوى النفس يكمن المجهود أو الإرادة.
ولكل نظرية وجه يناقضها في العمل.
ولا يمكن فصل الميل والنفور عن الإدراكات التي تعطيها الحواس، والنفس تقبل أو ترفض بحسب ما يمثل لها بواسطة الحواس.
ثم إن الفكر يحكم على الخير والشر ويعطي للإرادة الأسباب التي تعول عليها ويهيئ الفنون والعلوم، وكل إدراك أو تمثيل أو فكر لا بد له من مجهود ليصل إلى النتيجة الضرورية كما تنبعث الحرارة من النار. والنفس تكمل وجود الجسم، والذي يكمل النفس هو العقل، والعقل هو الإنسان.
العقل موجود في روح الطفل ويصير عقلًا فعالًا أثناء إدراكه الأشكال الجرمية بالخبرة بطريق الحواس وقوة التمثيل والتصوير.
فتحقيق التجارب والخبرة ليس من فعل الإنسان ولكنه نتيجة عمل الروح الذي فوق الإنسان، فعلم الإنسان صادر من العلي وليس علمًا متحصلًا عليه بمجهود عقلي؛ أي إنه معطي من الله وليس كسبيًّا بفعله (مذهب الافتطار).
(١٦) فلسفته الأخلاقية
الأخلاقية في نظره أساس السلوك. وهو يوافق أفلاطون حينًا وحينًا أرسطو، وقد يسبقهما بفضل نقاء النفس الذي اكتسبه من التصوف، ويخالف أهل الدين في قولهم إن الأخلاق تصدر عن العلوم الشرعية، ويثبت في مواطن شتى أن العقل وحده قادر على التمييز بين الخير والشر، وأن العقل الموهوب للإنسان جدير بأن يبين لنا خطة السلوك المثلي، لا سيما وأن العلم هو أعظم الفضائل، وفي هذا القول الأخير تطبيق لمذهب أفلاطون الذي يعتبر المعرفة رأس الفضيلة.
ومن أمثاله أن الواقف على مبادئ أرسطو وتآليفه ثم لا يسلك سلوكًا منطبقًا على ما جاء بها أفضل ممن كان جاهلًا بها وسلك سلوكًا منطبقًا عليها؛ ذلك لأن المعرفة أفضل من الفعل الفاضل، وإلَّا ما استطاعت المعرفة أن تميز بين الفعل الفاضل وضده، فقوة التمييز القائمة بها دليل على فضلها. ويقول بأن النفس بطبيعتها ذات شهوات شتى، وأن إرادتها على قدر إدراكها وتصورها، ومِثل الإنسان في ذلك مثل الحيوانات الدنيا. ولكن تمييز الإنسان بالعقل جعل له حرية الخيار؛ فهو يفعل ما يمليه عليه عقله ويُسأل عن أفعاله بفضل هذا التمييز.
(١٧) الفارابي والموسيقى
أضاف الفارابي إلى حب الحكمة شغفًا زائدًا بالموسيقى، ويروى من أخباره أن سيف الدولة كان من المعجبين بتفننه في الأنغام، وقد أفاد العرب صنع آلات الطرب ووضع قواعد التوقيع. وروى ابن أبي أصيبعة أنه صنع آلة إذا وقع عليها أحدثت انفعالًا في النفس فيضحك السامع ويبكيه ويستخفه ويستفزه، وقال بعضهم إنها شبيهة بالقانون المعروف لعهدنا هذا أو هي القانون بذاته، ومن مؤلفاته كتابان في الموسيقى: الأول يشمل بيانًا كافيًا لنظريات علم الأنغام، وقد فحصه العلامة كورسجارتن المستشرق وحلله.
قال أبو نصر في مقدمة كتابه «إنه استنبط طريقة خصيصة به ولم يقلد أحدًا»، ثم أخذ يبين طبيعة الأصوات وتوافقها وطبقات الوقف وأنواع الأنغام والأوزان والهزج، وذكر أنه وضع كتابًا آخر خصصه بوصف طرائق الأقدمين، وجاء بالنسخة المحفوظة بالاسكوريال أن الفارابي شرح آراء الأقدمين وبين ما أحدثه كل عالم من علماء الموسيقى، وصحح أغلاطهم وملأ الفراغ الذي تركوه في تلك الصناعة.
ولما كان قد اهتدى بالعلوم الطبيعية إلى ما لم يهتد إليه فيثاغورس وتلاميذه، فقد أخذ يبين خطأهم فيما تخيلوه من أصوات الكواكب وألفة الأنغام السماوية، ثم شرح تأثير تموج الهواء في رنات الأوتار معتمدًا على التجارب، وأرشد إلى وسائل صنعها بحيث يمكن إخراج الأصوات المرغوبة. وبالجملة «كان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غايتها وأتقنها إتقانًا لا مزيد عليه» (القاضي صاعد).
(١٨) أسلوبه الكتابي
كان أسلوبه بالعربية دقيقًا رشيقًا مع أنه كان فارسي الأصل، ويؤخذ عليه حبه للمترادفات مما يؤدي في بعض الأحيان إلى التوسع في المعاني الفلسفية التي تحتاج إلى التحديد والتعيين وتقيد كل معنى بلفظه وكل لفظ بمعناه.
وها نحن ننقل نبذًا وجيزة من إنشائه تدل على أسلوبه.
اسم الفلسفة يوناني، وهو دخيل في العربية، وهو على مذهب لسانهم فيلسوفيًّا، ومعناه إيثار الحكمة، والفيلسوف مشتق من الفلسفة، وهو على مذهب لسانهم فيلسوفوس، فإن هذا التغيير هو تغيير كثير من الاشتقاقات عندهم ومعناه المؤثر للحكمة، والمؤثر للحكمة عندهم هو الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره الحكمة.
وقال في تاريخ ظهور الفلسفة ما هذا نصه: «إن أمر الفلسفة اشتهر في أيام ملوك اليونانيين وبعد وفاة أرسطوطاليس بالإسكندرية إلى آخر أيام المرأة، وإنه لما توفي بقي التعليم بحاله فيها إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكًا، توالى في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة اثنا عشر معلمًا، أحدهم المعروف بأندرونيقوس، وكان آخر هؤلاء الملوك المرأة فغلبها أوغسطوس الملك من أهل رومية وقتلها واستحوذ على المُلك، فلما استقر له نظر في خزائن الكتب وصنعها، فوجد فيها نسخًا لكتب أرسطوطاليس قد نسخت في أيامه وأيام تاوفرسطس، ووجد المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتبًا في المعاني التي عمل فيها أرسطو، فأمر أن تنسخ تلك الكتب التي كانت نسخت في أيام أرسطو وتلاميذه، وأن يكون التعليم منها، وأن ينصرف عن الباقي وحكم أندرونيقوس في تدبير ذلك، وأمره أن ينسخ نُسخًا يحملها معه إلى رومية ونسخًا يبقيها في موضع التعليم بالإسكندرية. وأمره أن يستخلف معلمًا يقوم مقامه بالإسكندرية ويسير معه إلى رومية، فصار التعليم في موضعين وجرى الأمر على ذلك إلى أن جاءت النصرانية، فبطل التعليم من رومية وبقي بالإسكندرية إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك، واجتمعت الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا التعليم وما يبطل، فرأوا أن يعلم من كتب المنطق إلى آخر الأشكال الوجودية ولا يعلم ما بعده؛ لأنهم رأوا أن في ذلك ضررًا وأن فيما أطلقوا تعليمه ما يستعان به فبقي الظاهر من التعليم هذا المقدار ما ينظر فيه، وصار الباقي مستورًا إلى أن كان الإسلام بعده بمدة طويلة، فانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاقية، وبقي بها زمنًا طويلًا إلى أن بقي معلم واحد فتعلم منه رجلان وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من أهل حران والآخر من أهل مرو. فأما الذي من أهل مرو فتعلم منه رجلان أحدهما إبراهيم المروزي والآخر يوحنا بن حيلان. وتعلم من الحراني إسرائيل الأسقف وقويرى وسار إلى بغداد، فتشاغل إبراهيم بالدين وأخذ قويرى في التعليم، وأما يوحنا ابن حيلان فإنه تشاغل أيضًا بدينه، وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها وتعلم من المروزي متى بن يونان، وكان الذي يتعلم في ذلك الوقت إلى آخر الأشكال الوجودية» ا.ﻫ.
(١٩) إيضاح لفلسفة الفارابي (ملخص لها ونصوص منها)
(١٩-١) حياته وأخلاقه
كان الفارابي رجلًا هادئًا عاكفًا على حياة الفلسفة والتأمل، محميًّا بالأقوياء من الأمراء الذين لجأ إليهم، وقد انتهى بأن صار في أخريات أيامه متصوفًا.
كان أبوه قائدًا فارسيًّا، وقد ولد بوسيج إحدى قلاع فاراب، في بلاد التركستان. وقد تلقى العلم في بغداد على عالم مسيحي اسمه يوحنا بن جيلان، واشتمل تعليمه على الأدب والرياضيات، واللغات التي عرفها العربية والتركية والفارسية. وهذا ظاهر من مؤلفاته، وقد نسب إليه أهل عصره أنه كان خبيرًا بلغات الأرض جميعًا، وهي نحو سبعين لغة، ولكن لم يقم على هذا دليل.
وقد عاش طويلًا واشتغل بالعلم في بغداد ثم ذهب إلى حلب بسبب اضطرابات سياسية، حيث أقام في ظلال بلاط الأمير سيف الدولة، ولكنه في الأيام الأخيرة من حياته اعتزل خدمة الأمراء وعاش معتكفًا. وتوفي في دمشق في أثناء رحلة له، وكان ذلك في شهر ديسمبر من عام ٩٥٠م. ويقال إن أميره تزيا بزيٍّ صوفي وابنه على قبره تشريفًا لقدره، ويقال إنه كان عند وفاته في الثمانين من عمره. وقد توفي رفيقه في الدرس أبو بشر متى قبله بعشر سنين. أما تلميذه أبو زكريا يحيى بن عدي فقد توفي عام ٩٧١م. في الأولى والثمانين من عمره.
وأهم مؤلفاته ما كان خاصًّا بفلسفة أرسطو وشرحها والتأليف على نسقها. ومن مؤلفاته كتاب التوفيق بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، وقد حاول في هذه الرسالة التوفيق بين آراء الحكيمين وبين عقائد الإسلام ومبادئه. وهو يقول إن الخلاف الظاهر بين الحكيمين راجع حتمًا إلى طريقة النظر والتأليف وإلى مسائل الحياة العملية، أما تعاليمهما الخاصة بالحكمة فهي متفقة وهما إماما الفلسفة. وكان الفارابي يفضل صفاء النفس على كل صفة، ويقول إنه ثمرة الفلسفة، وكان يقول بحب الحق ولو كان الرأي المقول به مخالفًا لآراء أرسطو. والأمور التي اشتغل بالتأليف فيها هي المنطق، وما وراء الطبيعة والطبيعيات ثم الأخلاق والسياسيات.
(١٩-٢) الكلام على منطق الفارابي
يقسم الفارابي المنطق إلى قسمين: وهما التصور والتصديق؛ وقد أدخل في التصور طائفة الأفكار والتعريفات، وفي التصديق الاستدلال والرأي. والتصور لا يتحتم فيه الصدق أو الكذب. ويعتبر الفارابي من الأمور الداخلة في دائرة الأفكار أبسط الأشكال النفسانية، وكذلك الأفكار التي طبعت في ذهن الإنسان منذ البداية، مثل: الضروري والواقع والممكن، وهذه أمور يمكن توجيه عقل الإنسان إليها، ولكن لا يمكن شرحها له؛ لما هي عليه من الظهور والجلاء، وبالتوفيق بين التصور والأفكار تنتج الآراء. والآراء كذلك قد تكون صادقة أو كاذبة، ولأجل الحصول على أساس للآراء لا بد من الرجوع إلى عملية الاستدلال والتصديق، ولبعض الفروض المعقولة للإدراك وهي واضحة بذاتها مباشرة وغير محتاجة إلى تأكيد أو إثبات، كالبديهيات في الرياضة وبعض الأوليات فيما وراء الطبيعة والآداب.
ونظرية التصديق الذي بواسطته ننتقل من المعلوم والثابت إلى معرفة ما كان مجهولًا، هي المنطق بعينه في رأي الفارابي.
(١٩-٣) الإلهيات (ما وراء الطبيعية)
كل موجود في نظر الفارابي إما ضروري أو ممكن، وليس هناك ثالث لهذين الاثنين، وحيث إن كل ممكن يستدعي فرض سبب لوجوده، وحيث إن سلسلة الأسباب لا يمكن أن تكون بغير نهاية، فلا بد لنا من الاعتقاد بوجود كائن موجود بطبيعته بغير سبب، ومالك لأعلى درجات الكمال، وممتلئ بالحقيقة الأزلية، ومكتف بذاته بلا تغيير ولا تبديل، وهو بصفته عقلًا مطلقًا وخيرًا خالصًا وفكرًا تامًّا يحب الخير والجمال. ولا يمكن إقامة الدليل على وجود هذا الكائن؛ لأنه هو التصديق والبرهان ولأنه العلة الأولى لكل الأشياء وفيه تجتمع الحقيقة والصدق ويلتقيان.
ولأنه أكمل الكائنات، فهو أحدٌ فرد لا يتعدد، وهذا الوجود الأول المنفرد الحقيقي الوجود ندعوه الله.
ومن هذا الكائن الأول ينبعث مثاله أو صورته «الكل الثاني» أو الروح المخلوق الأول الذي يحرك الجرم السمائي الخارجي. وبعد هذا الروح تنبعث عن بعضها البعض الأرواح الثمانية الجرمية التي كلها وحيدة في تعدد أنواعها وكاملة. وهذه هي خالقة الأجرام السماوية وتسمى الأفلاك العلوية، وتكون الدرجة الثانية للوجود، وفي الدرجة الثالثة يوجد العقل الفعال في الإنسانية المسمى بالروح القدس، وهو الذي يصل السماء بالأرض، وفي الدرجة الرابعة توجد النفس الإنسانية، وهذان الاثنان العقل والنفس لا يبقيان بنفسهما في وحدتهما الأصلية الدقيقة، ولكنهما يتعددان بتعدد بني آدم، ثم يكون بعد ذلك الشكل والمادة وهما الدرجتان الخامسة والسادسة، وبهما يقفل باب الدرجات الروحية.
ومن هذه الدرجات الست، الثلاثة الأولى منها هي أرواح بذاتها، ولكن الثلاثة التالية النفس والشكل والمادة وإن كانت غير جرمية إلا أن لها صلة بالجسم الإنساني. وللجرمي الذي أصله في خيال الروح ست درجات: الأجسام السماوية، وبدن الإنسان، وأبدان الحيوانات النازلة، وأبدان النباتات، والمعادن، والأبدان الأولية.
(١٩-٤) تقسيم قوى النفس أو بسيكولوجيا
قوى النفس في نظر الفارابي متدرجة؛ فالقوة السفلى هي مادة للقوة العليا، والعليا شكل للسفلى، وأرقى هذه القوى جميعًا الفكر، وهو غير مادي وهو شكل لكل الأشكال السابقة.
وحياة النفس ترتفع من الإحساس بالأشياء إلى الفكر بقوة التصور والتمثيل، وفي كل القوى يوجد المجهود أو الإرادة، ولكل نظرية وجه يناقضها في العمل ولا يمكن فصل الميل والنفور عن الإدراكات التي تعطيها الحواس والنفس تقبل أو ترفض بحسب ما يمثل لها بواسطة الحواس.
ثم إن الفكر يحكم على الخير والشر ويعطي للإرادة الأسباب التي تعول عليها ويكوِّن الفنون والعلوم.
وكل إدراك أو تمثيل أو فكر لا بد له من مجهود ليصل إلى النتيجة الضرورية كما تنبعث الحرارة من النار. والنفس تكمل وجود الجسم، والذي يكمل النفس هو العقل، والعقل هو الإنسان.
العقل موجود في روح الطفل ويصير عقلًا فعالًا أثناء إدراكه الأشكال الجرمية بالخبرة بطريق الحواس وقوة التمثيل والتصوير.
فتحقيق التجارب والخبرة ليس من فعل الإنسان ولكنه نتيجة عمل الروح الذي فوق الإنسان. فعلم الإنسان ناشئ من فوق وليس علمًا متحصلًا عليه بمجهود عقلي؛ أي إنه معطى من الله وليس كسبيًّا بفعل بني آدم.
(١٩-٥) رأيه في الأخلاق
الأخلاق تبحث في أساس السلوك، ويتفق الفارابي بعض الأحيان مع أفلاطون وبعض الأحيان مع أرسطو، وقد يسبقها في بعض الأحيان.
وهو يخالف علماء الدين القائلين بأن الأخلاق الدينية تنبعث عن العلوم الدينية، ويقول بقوة في عدة مواضع من مؤلفاته إن العقل وحده يفصل بين الخير والشر، ويميز بينهما، فلماذا لا يحدد لنا هذا العقل، الذي أعطي لنا من العلي، السلوك الذي يجب علينا اتباعه، لا سيما وأن العلم (المعرفة) هو أعظم الفضائل!
ويقول بصراحة إنه لو وُجد رجلان: أحدهما واقف على مبادئ وتآليف أرسطو ولكنه لا يسلك سلوكًا منطبقًا على ما جاء في هذه المؤلفات، والآخر يسلك سلوكًا منطبقًا على مبادئ هذا الفيلسوف ولكنه جاهل بمؤلفاته، فإن الفارابي يفضل الأول على الثاني؛ لأن المعرفة أفضل من الفعل الفاضل، وإلا ما استطاعت المعرفة أن تميز بين الفعل الفاضل وغيره.
إن النفس بطبيعتها تشتهي ولها إرادة على قدر إدراكها وتصورها، وهي في ذلك كالحيوانات النازلة، ولكن الإنسان وحده له حرية الخيار.
(١٩-٦) سياسيات الفارابي
المثل الأعلى للحكومة في نظر الفارابي هو الذي يكون الحاكم فيه فيلسوفًا. وإن الناس اجتمعوا بضرورة الاجتماع ويضعون أنفسهم تحت إرادة فرد يمثل الحكومة.
وأفضل الحكومات ما كانت متصلة بهيئة دينية؛ أي أن تكون الحكومة مسيطرة على أمور الأمة الدينية والدنيوية. (راجع آراء المدينة الفاضلة).
وكانت فلسفة الفارابي روحانية محضة، فعاش ملكًا في عالم العقل، متسولًا في عالم الحياة المادية. وكانت فلسفته لا تعطي شيئًا مما تتطلبه الحواس.
(١٩-٧) تلاميذه
تلاميذه هم زكريا يحيى بن عدي مسيحي يعقوبي اشتهر بترجمة مؤلفات أرسطو، وقد تلقى عليه العلم أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني الذي التف حوله علماء عصره، وهو النصف الأخير من القرن العاشر، ببغداد. وقد وصلت فلسفة الفارابي مع تلاميذه إلى علم الكلام وانتهت الحال بهم كما انتهت بإخوان الصفاء إلى فلسفة صوفية.
(١٩-٨) القول في أجزاء النفس الإنسانية وقواها
إذا حدث الإنسان فأول ما يحدث فيه القوة التي بها يتغذى، وهي القوة الغاذية، ثم من بعد ذلك القوة التي بها يحس الملموس، مثل الحرارة والبرودة وسائرها، التي بها يحس الطعومة والتي بها يحس الروائح، والتي بها يحس الأصوات، والتي بها يحس الألوان، والمبصرات، وكلها مثل الشعاعات؛ ويحدث مع الحواس بها نزاع إلى ما يحسه، فيشتاقه أو يكرهه، ثم يحدث فيه بعد ذلك قوة أخرى يحفظ بها ما رسم في نفسه من المحسوسات بعد غيبتها عن مشاهدة الحواس لها. وهذه هي القوة المتخيلة، فهذه تركب المحسوسات بعضها إلى بعض، وتفصل بعضها عن بعض؛ تركيبات وتفصيلات مختلفة، بعضها كاذبة وبعضها صادقة، ويقترن بها نزوع نحو ما يتخيله، ثم من بعد ذلك يحدث فيه القوة الناطقة التي بها يمكن أن يعقل المعقولات، وبها يميز بين الجميل والقبيح، وبها يحوز الصناعات والعلوم، وبها أيضًا نزوع نحو ما يعقله، فالقوة الغاذية منها قوة واحدة رئيسة، ومنها قوى هي رواضخ لها وخدم: فالقوة الغاذية الرئيسة هي من أعضاء البدن في الفم، والرواضخ والخدم متفرقة في سائر الأعضاء، وكل قوة من الرواضخ والخدم فهي في عضو ما من سائر أعضاء البدن، والرئيسة منها هي بالطبع مدبرة لسائر القوى، وسائر القوى يتشبه بها ويحتذي بأفعالها حذوًا هو بالطبع غرض رئيسها الذي في القلب. وذلك مثل المعدة والكبد والطحال.
والأعضاء الخادمة هذه والأعضاء التي تخدم هذه الخادمة والتي تخدم هذه أيضًا؛ فإن الكبد عضو يَرأَس ويرأس، فإنه يرأس بالقلب ويَرأَس المرارة والكلية، وأشباههما من الأعضاء، والمثانة تخدم الكلية، والكلية تخدم الدم والكبد، والكبد يخدم الكلية، وعلى هذا توجد سائر القوى.
والقوة الحاسة فيها رئيس، وفيها رواضخ، ورواضخها هي هذه الحواس الخمس المشهورة عند الجميع، المتفرقة في العينين والأذنين وسائرها، وكل واحدة من هذه الخمس تدرك حسًّا ما يخصها، والرئيسة منها هي التي اجتمع فيها جميع ما تدركه الخمس بأسرها، وكأن هذه الخمس هي منذرات تلك، وكأن هؤلاء أصحاب أخبار كل واحد منهم موكل بجنس من الأخبار وبأخبار ناحية ما من نواحي المملكة.
والرئيسة كأنها هي الملك الذي يجتمع عنده أخبار نواحي مملكته من أصحاب أخباره. والرئيسة من هذه أيضًا هي في القلب.
والقوة المتخيلة ليس لها رواضخ متفرقة في أعضاء أخر، بل هي واحدة وهي أيضًا في القلب، وهي تحفظ المحسوسات ومتحكمة عليها، وذلك أنها تفرد بعضها عن بعض، وتركب بعضها إلى بعض تركيبات مختلفة يتفق في بعضها أن تكون موافقة لما حس، وفي بعضها أن تكون مخالفة للمحسوس.
وأما القوة الناطقة فلا رواضخ ولا خدم لها من نوعها في سائر الأعضاء؛ بل إنما رئاستها على سائر القوى المتخيلة. والرئيسة من كل جنس فيه رئيس ومرءوس، فهي رئيسة القوى المتخيلة ورئيسة القوى الحاسة والرئيسة منها. ورئيسة القوى الغاذية الرئيسة منها، والقوى النزوعية وهي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه فهي رئيسة ولها خدم. وهذه القوة هي التي بها تكون الإرادة. فالإرادة هي نزوع إلى ما أدرك وعما أدرك: إما بالحس، وإما بالتخييل، وإما بالقوة الناطقة، وحكم فيها أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك.
والنزوع قد يكون إلى علم شيء ما، وقد يكون إلى عمل شيء ما، إما بالبدن بأسره وإما بعضو ما منه. والنزوع إنما يكون بالقوة النزوعية الرئيسة، والأعمال بالبدن تكون بالقوة تخدم بالقوة النزوعية؛ وتلك القوة متفرقة في أعضاء أعدت لأن يكون بها تلك الأفعال، منها أعصاب ومنها عضل سارية في الأعضاء التي تكون لها الأفعال التي يكون نزوع الحيوان والإنسان إليها، وتلك الأعضاء مثل اليدين والرجلين وسائر الأعضاء التي يمكن أن تتحرك بالإرادة.
فهذه القوى التي في أمثال هذه الأعضاء هي كلها آلات جسمانية وخادمة للقوى النزوعية الرئيسة التي في القلب، وعلم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة، وقد يكون بالمتخيلة، وقد يكون بالإحساس، فإذا كان النزوع إلى علم شيء شأنه أن يدرك بالقوة الناطقة، فإن الفعل الذي ينال به ما تشوق من ذلك يكون قوة ما أخرى في الناطقة، وهي القوة الفكرية، وهي التي بها الفكرة والروية والتأمل والاستنباط.
وإذا كان النزوع إلى علم شيء ما يدرك بإحساس، كان الذي ينال به فعل مركب من فعل بدني ومن فعل نفساني في مثل الشيء الذي نتشوق رؤيته، فإنه يكون برفع الأجفان، وبأن نحاذي أبصارنا نحو الشيء الذي نتشوق رؤيته. فإن كان الشيء بعيدًا مَشَيْنَا إليه. وإن كان دونه حاجز أزلنا بأيدينا ذلك الحاجز، فهذه كلها أفعال بدنية. والإحساس بنفسه فعل نفساني وذلك في سائر الحواس، وإذا تشوق تخييل شيء ما نيل ذلك من وجوه: أحدها يفعل بالقوة المتخيلة مثل تخييل الشيء الذي يرجى ويتوقع، أو تخييل شيء مضى، أو تمني شيء ما تركته القوة المتخيلة.
والثاني ما يروج على القوة المتخيلة من إحساس شيء ما، فيتخيل إليه من ذلك أمر ما أنه مخوف أو مأمول أو ما يرد عليه من فعل القوة الناطقة فهذه هي القوى النفسانية.
(١٩-٩) القول في القوة الناطقة كيف تعقل وما سبب ذلك
ويبقى بعد ذلك أن نرسم في الناطقة رسوم أصناف المعقولات، والمعقولات التي شأنها أن ترسم في القوة الناطقة، منها المعقولات التي هي في جواهرها عقول بالفعل، ومعقولات بالفعل وهي الأشياء البريئة من المادة. ومنها المعقولات التي ليست بجواهرها معقولة بالفعل مثل الحجارة والنبات.
وبالجملة كل ما هو جسم أو في جسم ذي مادة، والمادة نفسها وكل شيء قوامه بها؛ فإن هذه ليست عقولًا بالفعل ولا معقولات بالفعل، وأما العقل الإنساني الذي يحصل له الطبع في أول أمره؛ فإن ما في هيئته مادة معدة لأن تقبل رسوم المعقولات فهي بالقوة عقل وعقل هيولاني. وهي أيضًا بالقوة معقولة، وسائر الأشياء التي في مادة. أو هي مادة أو ذوات مادة، فليست هي عقولًا لا بالفعل ولا بالقوة، ولكنها معقولات بالقوة، ويمكن أن تصير معقولات بالفعل وليس في جواهرها كفاية في أن تصير من تلقاء أنفسها معقولات بالفعل ولا أيضًا في القوة الناطقة ولا فيما أعطى الطبع كفاية في أن تصير من تلقاء نفسها عقلًا بالفعل، بل تحتاج أن تصير عقلًا بالفعل إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى الفعل، وإنما تصير عقلًا بالفعل إذا حصلت فيها المعقولات وتصير المعقولات التي بالقوة معقولات بالفعل إذا حصلت معقولة للعقل بالفعل، وهي تحتاج إلى شيء آخر ينقلها من قوة إلى أن يصيرها بالفعل، والفاعل الذي ينقلها من القوة إلى الفعل هو ذات ما جوهره عقل ما بالفعل، ومفارق المادة، فإن ذلك العقل يعطي العقل الهيولاني الذي هو بالقوة عقل، شيئًا ما بمنزلة الضوء الذي تعطيه الشمس البصر، لأن منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصر، فإن البصر هو قوة وهيئة ما في مادة وهو من قبل أن يبصر فيه بصر بالقوة والألوان من قبل أن تبصر مبصرة مرئية بالقوة.
وليس في جوهر القوة الباصرة التي في العين كفاية في أن تصير بصرًا بالفعل، ولا في جواهر الألوان كفاية في أن تصير مرئية مبصرة بالفعل.
فإن الشمس تعطي البصر ضوءًا يضاء به وتعطي الألوان ضوءًا تضاء بها، فيصير البصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصرًا بالفعل وبصيرًا بالفعل، وتصير الألوان بذلك الضوء مبصرة مرئية بالفعل بعد أن كانت مبصرة مرئية بالقوة. كذلك هذا العقل الذي بالفعل يفيد العقل الهيولاني شيئًا ما يرسمه فيه، فمنزلة ذلك الشيء من العقل الهيولاني منزلة الضوء من البصر، وكما أن البصر بالضوء نفسه يبصر الضوء الذي هو سبب إبصاره، ويبصر الشمس التي هي سبب الضوء فيه بعينه ويبصر الأشياء التي هي بالقوة مبصرة فتصير مبصرة بالفعل، كذلك العقل الهيولاني كذلك، فإنه بذلك الشيء الذي منزلته منه منزلة الضوء من البصر، يعقل ذلك الشيء نفسه وبه يعقل العقل الهيولاني العقل بالفعل الذي هو سبب ارتسام ذلك الشيء في العقل الهيولاني وبه تصير الأشياء التي كانت معقولة بالقوة معقولة بالفعل، ويصير هو أيضًا عقلًا بالفعل بعد أن كان عقلًا بالقوة.
وفعل هذا العقل المفارق في العقل الهيولاني يشبه فعل الشمس في البصر؛ فلذلك سمي العقل الفعال، ومرتبته في الأشياء المفارقة التي ذكرت من دون السبب الأول المرتبة العاشرة، ويسمى العقل الهيولاني العقل المنفعل.
وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعال ذلك الشيء الذي منزلته منها بمنزلة الضوء من البصر حصلت المحسوسات حينئذ عن التي هي محفوظة في القوة المتخيلة معقولة في القوة الناطقة وتلك هي المعقولات الأولى التي هي مشتركة لجميع الناس: مثل أن الكل أعظم من الجزء، وأن المقادير المساوية للشيء الواحد متساوية، والمعقولات الأولى المشتركة ثلاثة أصناف: صنف أوائل للهندسة العلمية، وصنف أوائل يوقف بها على الجميل والقبيح مما شأنه أن يعمله الإنسان، وصنف أوائل يستعمل في أن يعلم بها أحوال الموجودات التي ليس شأنها أن يعقلها الإنسان ومباديها ومراتبها مثل السماوات والسبب الأول وسائر المبادئ الأخر وما شأنه أن يحدث عن تلك المبادي.
(١٩-١٠) القول في الفرق بين الإرادة والاختيار وفي السعادة
فعندما تحصل هذه المعقولات للإنسان، يحدث له بالطبع تأمل وروية وذكر وتشوق إلى الاستنباط، ونزوع إلى بعض ما عقله وتشوق إليه، وإلى بعض ما يستنبطه أو كراهته، والنزوع إلى ما أدركه بالجملة هو الإرادة. فإن كان ذلك عن إحساس أو تخيل سمي بالاسم العام وهو الإرادة، وإن كان ذلك عن روية أو عن نطق في الجملة سمي الاختيار، وهذا يوجد في الإنسان خاصة. وأما النزوع عن إحساس أو تخيل، فهو أيضًا في سائر الحيوان، وحصول المعقولات الأولى للإنسان هو استكماله الأول وهذه المعقولات إنما جعلت له ليستعملها في أن يصير إلى استكماله الأخير.
وذلك هو السعادة، وهي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائمًا أبدًا، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال.
وإنما تبلغ ذلك بأفعال ما إرادية: بعضها أفعال فكرية، وبعضها أفعال بدنية، وليست بأي أفعال اتفقت، بل بأفعال ما محدودة مقدرة تحصل عن هيئات ما، وملكات ما مقدرة محدودة.
وذلك أن من الأفعال الإرادية ما يعوق عن السعادة، والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تطلب أصلًا ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها.
والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة، والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل. وهذه هي خيرات لا لأجل ذواتها بل إنما هي خيرات لأجل السعادة.
والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور، وهي الأفعال القبيحة، والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس.
فالقوة الغاذية التي في الإنسان إنما جعلت لتخدم البدن، وجعلت الحاسة والمتخيلة لتخدما البدن ولتخدما القوة الناطقة، وخدمة هذه الثلاثة للبدن راجعة إلى خدمة القوة الناطقة، إذ كان قوام الناطقة أولًا بالبدن، والناطقة منها عملية ومنها نظرية: والعملية جعلت لتخدم النظرية والنظرية لا تخدم شيئًا آخر بل ليتوصل بها إلى السعادة؛ وهذه كلها مقرونة بالقوة النزوعية، والنزوعية تخدم الحاسة وتخدم المتخيلة وتخدم الناطقة، والقوى الخادمة المدركة ليس يمكنها أن توفي الخدمة والعمل إلا بالقوة النزوعية.
فإن الإحساس والتخيل والروية ليست كافية في أن تفعل دون أن يقترن إلى ذلك تشوق إلى ما أحس أو تخيل أو تروى فيه وعلم؛ لأن الإرادة هي أن تنزع بالقوة النزوعية إلى ما أدركت، فإذا علمت بالقوة النظرية، السعادة، ونصبت غايتها وتشوقت بالنزوعية واستنبطت بالقوة المروية ما ينبغي أن تعمل حتى تقبل بمعاونة المتخيلة، والحواس على ذلك، ثم فعلت بآلات القوة النزوعية تلك الأفعال؛ كانت أفعال الإنسان كلها خيرات وجميلة، فإذا لم تعلم السعادة أو علمت ولم تنصب غايتها بتشوق، بل نصبت الغاية شيئًا آخر سواها وتشوقت بالنزوعية واستنبطت بالقوة المروية ما ينبغي أن تعمل حتى تنال بمعاونة الحواس والمتخيلة، ثم فعلت تلك الأفعال بآلات القوة النزوعية كانت أفعال ذلك الإنسان كلها غير جميلة.
(١٩-١١) القول في الوحي ورؤية الملك
وذلك أن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضًا أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم.
وكثير من هذه التي يعطيها العقل الفعال، فتتخيلها القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية، فإن تلك المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسة، فإذا حصلت رسومها في الحاسة المشتركة، انفعلت عن تلك الرسوم القوة الباصرة، فارتسمت فيها تلك، فيحصل عما في القوة الباصرة منها رسوم تلك في الهواء المضيء المواصل للبصر المنحاز بشعاع البصر، فإذا حصلت تلك الرسوم في الهواء عاد ما في الهواء فيرتسم من رأس في القوة الباصرة التي في العين، وينعكس ذلك إلى الحاس المشترك وإلى القوة المتخيلة، ولأن هذه كلها متصلة بعضها ببعض فيصير ما أعطاه العقل الفعال من ذلك مرئيًّا لهذا الإنسان، فإذا اتفقت المحاكيات التي حاكت بها القوة المتخيلة تلك الأشياء مع محسوسات في نهاية الجمال والكمال قال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات أصلًا، ولا يمتنع أن يكون الإنسان إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال، فيقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، أو محاكياتها من المحسوسات ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها. فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية، فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة، وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة.
ودون هذا من يرى جميع هذه، بعضها في يقظته وبعضها في نومه، ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها ولكن لا يراها ببصره. ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط، وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يعبرون بها أقاويل محاكيه، ورموزًا وألغازًا، وإبدالات وتشبيهات، ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتًا كثيرًا: فمنهم من يقبل الجزئيات ويراها في اليقظة فقط ولا يقبل المعقولات؛ ومنهم من يقبل المعقولات ويراها في اليقظة فقط ولا يقبل الجزئيات؛ ومنهم من يقبل بعضها ويراها دون بعض؛ ومنهم من يرى شيئًا في يقظته ولا يقبل بعض هذه في نومه؛ ومنهم من لا يقبل شيئًا في يقظته، بل إنما يقبل ما يقبل في نومه فقط، فيقبل في نومه الجزئيات ولا يقبل المعقولات؛ ومنهم من يقبل شيئًا من هذه وشيئًا من هذه؛ ومنهم من يقبل شيئًا من الجزئيات فقط، وعلى هذا يوجد الأكثر، والناس أيضًا يتفاضلون في هذا، وكل هذه معاونة للقوة الناطقة.
وقد تعرض عوارض يتغير بها مزاج الإنسان فيصير بذلك معدًّا لأن يقبل عن العقل الفعال بعض هذه في وقت اليقظة أحيانًا وفي النوم أحيانًا؛ فبعضهم يبقى ذلك فيهم زمنًا، وبعضهم إلى وقت ما ثم يزول.
وقد تعرض أيضًا للإنسان عوارض فيفسد بها مزاجه وتفسد تخاييله، فيرى أشياء مما تركبه القوة المتخيلة على تلك الوجوه مما ليس لها وجود ولا هي محاكايات لوجود وهؤلاء الممرورون والمجانين وأشباههم.
(١٩-١٢) القول في احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون
وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه، وكل واحد من كل واحد بهذه الحال، فلذلك لا يمكن الإنسان أن ينال الكمال الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية، إلا باجتماعات جماعة كثيرين متعاونين يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه، وفي أن يبلغ الكمال. ولهذا كثرت أشخاص الإنسان فحصلوا في المعمورة من الأرض، فحدث منها الاجتماعات الإنسانية، فمنها الكاملة ومنها غير الكاملة، والكاملة ثلاث: عظمى، ووسطى، وصغرى.
فالعظمى اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة، والوسطى اجتماع أمة في جزء من المعمورة، والصغرى اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة. وغير الكاملة: أهل القرية، واجتماع أهل المحلة، ثم اجتماع في سكة، ثم اجتماع في منزل، وأصغرها المنزلة والمحلة والقرية ثم هي جميعًا لأهل المدينة، إلا أن القرية للمدينة على أنها خادمة للمدينة، والمحلة للمدينة على أنها جزؤها، والسكة جزء المحلة، والمنزل جزء السكة، والمدينة جزء مسكن أمة، والأمة جزء جملة أهل المعمورة.
فالخير الأفضل والكمال الأقصى، إنما ينالان أولًا بالمدينة لا بالاجتماع الذي هو أنقص، ولما كان شأن الخير في الحقيقة أن يكون ينال بالاختيار، أمكن أن تجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الحاجات التي هي شرور؛ فلذلك كل مدينة يمكن أن ينال بها السعادة.
فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلة، والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة، وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمة التي فيها يتعاونون على بلوغ السعادة، والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها عليه.
وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاء تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله ابتغاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس، وأعضاء أُخر فيها قوى تفعل أفعالها على حسب أغراض هذه التي ليس بينها وبين الرئيس واسطة، فهذه في الرتبة الثانية؛ وأعضاء أخر تفعل الأفعال على حسب غرض هؤلاء الذين في هذه المرتبة الثانية، ثم هكذا إلى أن تنتهي إلى أعضاء تخدم ولا ترأس أصلًا؛ وكذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرات متفاضلة الهيئات، وفيها إنسان هو رئيس، وأُخَر يقرب مراتبها من الرئيس وفي كل واحد منها هيئة وملكة يفعل بها فعلًا يقتضي به ما هو مقصود ذلك الرئيس، وهؤلاء هم أولو المراتب الأول، ودون هؤلاء قوم يفعلون الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، وهؤلاء هم في الرتبة الثانية، ودون هؤلاء أيضًا من يفعل الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى أخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، فيكون هؤلاء هم الذين يَخدمون ولا يُخدمون، ويكونون في أدنى المراتب، ويكونون هم الأسفلون، غير أن أعضاء البدن طبيعية، وأجزاء المدينة — وإن كانوا طبيعيين — فإن الهيئات والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية بل إرادية، على أن أجزاء المدينة مفطورون بالطبع بفطر متفاضلة يصلح بها إنسان لإنسان لشيء دون شيء، غير أنهم ليسوا أجزاء المدينة بالفطر التي لهم وحدها، بل بالملكات الإرادية التي تحصل لها وهي الصناعات وما شاكلها والقوى التي هي أعضاء البدن بالطبع، فإن نظائرها في أجزاء المدينة ملكات وهيئات إرادية.
(١٩-١٣) القول في العضو الرئيس
وكما أن العضو الرئيس في البدن هو بالطبع أكمل أعضائه، وأتمها في نفسه وفيما يخصه وله من كل ما يشارك فيه عضو آخر أفضلها، ودونه أيضًا أعضاء أخرى رئيسة لما دونها، ورياستها دون رياسة الأول، وهي تحت رياسة الأول ترؤس وترأس؛ ذلك رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصه، وله كل ما شارك فيه غيره أفضله، ودون قوم مرءوسون منه ويَرأَسون آخرين. وكما أن القلب يتكون أولًا ثم يكون هو السبب في أن يكون سائر أعضاء البدن، والسبب في أن يحصل لها قواها وأن تترتب مراتبها، فإذا اختل منها عضو كان هو المرفد منه بما يزيل عنه ذلك الاختلال. كذلك رئيس هذه المدينة ينبغي أن يكون هو أولًا، ثم يكون هو السبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها والسبب في أن يحصل الملكات الإرادية التي لأجزائها في أن تترتب مراتبها وأن اختل منها جزء كان هو المرفد له بما يزيل عنه اختلاله، وكما أن الأعضاء التي تقرب من العضو الرئيس تقوم في الأفعال الطبيعية التي هي على حسب غرض الرئيس الأول بالطبع بما هو شرف، وما هو دونها من الأعضاء يقوم في الأفعال؛ بما هو دون ذلك في الشرف إلى أن ينتهي إلى الأعضاء التي تقوم بها من الأفعال أخس، كذلك التي تقرب في الرياسة من رئيس المدينة تقوم من الأفعال الإرادية بما هو أشرف، ومن دونهم بما هو دون ذلك في الشرف إلى أن ينتهي إلى الأجزاء التي تقوم من الأفعال بأخسها.
وخسة الأفعال ربما كانت بخسَّة موضوعاتها، فإن كانت الأفعال عظيمة الغناء مثل فعل المثانة وفعل الأمعاء السفلى في البدن، وربما كانت لقلة غنائها، وربما كانت لأجل أنها كانت سهلة جدًّا، كذلك في المدينة، وكذلك كل جملة كانت أجزاؤها مؤتلفة منتظمة مرتبطة بالطبع، فإن لها رئيسًا حاله من سائر الأجزاء هذه الحال، وتلك أيضًا حال الموجودات؛ فإن السبب الأول نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها، فإن البرئة من المادة تقرب من الأول ودونها الأجسام السماوية، ودون السماوية الأجسام الهيولانية، وكل هذه تحتذي حذو السبب الأول وتأمه وتقتفيه، ويفعل ذلك كل موجود بحسب قوته، إلا أنها إنما تقتفي الغرض بمراتب؛ وذلك إن الأخس يقتفي غرض ما هو فوقه قليلًا، وذلك يقتفي غرض ما هو فوقه، وأيضًا كذلك للثالث غرض ما هو فوقًا، إلى أن تنتهي إلى التي ليس بينها وبين الأول واسطة أصلًا.
فعلى هذا الترتيب تكون الموجودات كلها تقتفي غرض السبب الأول، فالتي أعطيت كل ما به وجودها من أول الأمر فقد احتذى بها من أول أمرها حذو الأول ومقصده، فعادت وصارت فيه في المراتب العالية؛ وأما التي لم تعط من أول الأمر كل ما به وجودها فقد أعطيت قوة تتحرك بها نحو ذلك الذي يتوقع على نيله ويقتفي في ذلك ما هو غرض الأول، وكذلك ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة، فإن أجزاءها كل ما ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب، ورئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي إنسان اتفق، لأن الرئاسة إنما تكون بشيئين: أحدهما إنما يكون بالفطرة والطبع معدًّا لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية.
والرئاسة التي تحصل لمن فطر بالطبع معدًّا لها، فليس كل صناعة يمكن أن يرأس بها، بل أكثر الصنائع صنائع يخدم بها في المدينة، وأكثر الفطر هي فطر الخدمة، وفي الصنائع صنائع يرأس بها ويخدم صنائع أخر، وفيها صنائع يخدم بها فقط ولا يرأس بها أصلًا؛ فكذلك ليس يمكن أن تكون الصناعة رَآسة المدينة الفاضلة أي صناعة ما اتفقت ولا يمكن أي مملكة ما اتفقت.
وكما أن الرئيس الأول في جنس لا يمكن أن يرأسه شيء من ذلك الجنس، مثل رئيس الأعضاء، فإنه هو الذي لا يمكن أن يكون عضوًا آخر رئيسًا عليه، وكذلك في كل رئيس في الجملة، كذلك رئيس الأول للمدينة الفاضلة ينبغي أن يكون صناعته صناعة نحو غرضها تام الصناعات كلها وإياهم يقصد بجميع أفعال المدينة الفاضلة، ويكون ذلك الإنسان إنسانًا لا يكون يَرأَسه إنسان أصلًا، وإنما يكون ذلك الإنسان إنسانًا قد استكمل، فصار عقلًا ومعقولًا بالعقل قد استكملت قوته المتخيلة بالطبع غاية الكمال على ذلك الوجه الذي قلنا، وتكون هذه القوة منه معدة بالطبع لتقبل إما في وقت اليقظة، أو في وقت النوم عن العقل الفعال الجزئيات إما بنفسها، وإما بما يحاكيها، ثم المعقولات بما يحاكيها، وأن يكون عقله المنفعل قد استكمل بالمعقولات كلها، حتى لا يكون تبقى منها شيء وصار عقلًا بالفعل.
فأي إنسان استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلها صار عقلًا بالفعل، ومعقولًا بالفعل، وصار المعقول منه هو الذي يعقل حصل له حينئذ عقل ما بالفعل رتبته فوق العقل المنفعل أتم، وأشد مفارقة للمادة ومقاربة من العقل الفعال ويسمى العقل المستفاد، ويصير متوسطًا بين العقل المنفعل وبين العقل الفعال، ولا يكون بينه وبين العقل الفعال شيء آخر، فيكون العقل المنفعل كالمادة، والموضوع للعقل المستفاد والعقل المستفادة كالمادة، والموضوع للعقل الفعال والقوة الناطقة التي هي هيئة طبيعية تكون مادة موضوعة للعقل المنفعل الذي هو بالفعل عقل.
وأول رتبة التي بها الإنسان إنسان هي أن تحصل الهيئة الطبيعية القابلة المعدة لأن يصير عقلًا بالفعل، وهذه هي المشتركة للجميع، فبينها وبين العقل الفعال رتبتان: أن يحصل العقل المنفعل بالفعل، وأن يحصل العقل المستفاد، وبين هذا الإنسان الذي بلغ هذا المبلغ من أول رتبة الإنسانية وبين العقل الفعال رتبتان، وإذا جعل العقل المنفعل الكامل والهيئة الطبيعية كشيء واحد على مثال ما يكون المؤتلف من المادة والصورة شيئًا واحدًا.
وإذا أخذ هذا الإنسان صورة إنسانية هو العقل المنفعل الحاصل بالفعل، كان بينه وبين العقل الفعال رتبة واحدة فقط، وإذا جعلت الهيئة الطبيعية مادة العقل المنفعل الذي صار عقلًا بالفعل، والمنفعل مادة المستفاد، والمستفاد مادة العقل الفعال، وأخذت جملة ذلك كشيء واحد. كان هذا الإنسان هو الإنسان الذي حل فيه العقل الفعال، وإذا حصل ذلك في كلا جزئي قوته الناطقة — وهما النظرية والعملية — ثم في قوته المتخيلة، كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه؛ فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط العقل الفعال، فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل لتوسط العقل المستفاد ثم إلى قوته المتخيلة، فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيمًا فيلسوفًا، ومقبلًا على التمام، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيًّا منذرًا بما سيكون، ومخبرًا بما هو الآن من الجزئيات بوجود يعقل فيه الإلهيات.
وهذا الإنسان في أكمل مراتب الإنسانية، وفي أعلى درجات السعادة، وتكون نفسه كاملة متحدة بالعقل الفعال على الوجه الذي قلناه.
وهذا الإنسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة، فهذا أول شرائط الرئيس ثم أن يكون له مع ذلك قوة بلسانه على جودة التخيل بالقول لكل ما يعلمه، وقدرة على جودة الإرشاد إلى السعادة، وإلى الأعمال التي بها يبلغ السعادة، وأن يكون له مع ذلك جودة ثبات ببدنه لمباشرة أعمال الجزئيات.
(١٩-١٤) القول كيف تصير هذه القوى والأجزاء نفسًا واحدة
فالغاذية الرئيسة شبه المادة للقوة الحاسة الرئيسة. والحاسة صورة في الغاذية، والحاسة الرئيسة شبه مادة للناطقة الرئيسة، والناطقة صورة في المتخيلة، وليست مادة لقوى أخرى، فهي صورة لكل صورة تقدمتها. وأما النزوعية فإنها تابعة للحاسة الرئيسة، والمتخيلة، والناطقة، على جهة ما توجد الحرارة في النار تابعة لما تتجوهر به النار. فالقلب هو العضو الرئيس الذي لا يَرأَسه من البدن عضو آخر، ويليه الدماغ فإنه أيضًا عضو ما رئيس، ورئاسته ليست رئاسة أولية لكن رئاسة ثانية: وذلك لأنه يرأس سائر الأعضاء، فإنه يخدم القلب في نفسه، وتخدمه سائر الأعضاء بحسب ما هو مقصود القلب بالطبع، وذلك مثل صاحب دار الإنسان؛ فإنه يخدم الإنسان في نفسه وتخدمه سائر أهل داره بحسب ما هو مقصود الإنسان في الأمرين، كأنه يخلفه ويقوم مقامه وينوب عنه، ويبدل فيما ليس يمكن أن يبدله الرئيس، وهو المستولي على خدمة القلب في الشريف من أفعاله.
من ذلك أن القلب ينبوع الحرارة الغريزية، فمنه تنبث في سائر الأعضاء، ومنه تسترفد وذلك بما ينبث فيها عنه من الروح الحيواني الغريزي في العروق الضوارب، ومما يرفدها القلب من الحرارة إنما تبقى الحرارة الغريزية محفوظة على الأعضاء والدماغ هو الذي يعدل الحرارة التي شأنها أن تنفذ إليه من القلب، حتى يكون ما يصل إلى كل عضو من الحرارة معتدلًا ملائمًا له، وهذا أول أفعال الدماغ، وأول شيء يخدم به وأعمها للأعضاء، ومن ذلك أن في الأعصاب صنفين: أحدهما آلات لرواضخ القوة الحاسة الرئيسة التي في القلب في أن يحس كل واحد منها الحس الخاص به، والآخر آلات الأعضاء التي تخدم القوة النزوعية التي في القلب بها يتأتى لها أن تتحرك الحركة الإرادية.
والدماغ يخدم القلب في أن يرفد أعصاب الحس ما يبقي به قواها التي بها يتأتى للرواضخ أن تحس. والدماغ أيضًا يخدم القلب في أن يرفد أعصاب الحركة الإرادية ما يبقي بها قواها التي بها يتأتى للأعضاء الآلية الحركة الإرادية التي بها القوة النزوعية التي في القلب، فإن كثيرًا من هذه الأعصاب مراكزها التي منها يسترفد ما يحفظ به قواها في الدماغ نفسه؛ وكثيرًا منها مفارزها في النخاع النافذ، والنخاع من أعلاه متصل بالدماغ، فإن الدماغ يرفدها بمشاركة النخاع لها في الأرفاد. ومن ذلك أن تخيل القوة المتخيلة إنما يكون متى كانت حرارة القلب على مقدار محدود. وكذلك فكر القوة الناطقة إنما يكون متى كانت حرارته على ضرب ما من التقدير، وكذلك حفظها وتذكرها للشيء.
فالدماغ أيضًا يخدم القلب بأن يجعل حرارته على الاعتدال الذي يجود به تخيله وعلى الاعتدال الذي يجود به فكره ورويته، وعلى الاعتدال الذي يجود به حفظه وتذكره، فبجزء منه يعدل به ما يصلح به التخيل، وبجزء آخر منه يعدل به ما يصلح به الفكر، وبجزء ثالث يعدل به ما يصلح الحفظ والذكر. وذلك أن القلب لما كان ينبوع الحرارة الغريزية لم يمكن أن يجعل الحرارة التي فيه إلا قوية مفرطة ليفضل منه ما يفيض إلى سائر الأعضاء، ولئلا يقصر أو يجود فلم تكن كذلك في نفسها إلا لغاية تغلبه. فلما كان كذلك وجب أن يعدل حرارته التي تنفذ إلى الأعضاء، ولا تكون حرارته في نفسها على الاعتدال الذي يجود به أفعاله التي تخصه. فجعل الدماغ لأجل ذلك بالطبع باردًا رطبًا حتى في الملمس بالإضافة إلى سائر الأعضاء، وجعلت فيه قوة نفسانية تصير بها حرارة القلب على اعتدال محدود محصل، والأعصاب التي للحس والتي للحركة، لما كانت أرضية بالطبع سريعة القبول للجفاف، كانت تحتاج إلى أن تبقى رطبة إلى لدان مؤاتية للتمدد والتقاصر. وكانت أعصاب الحس محتاجة مع ذلك إلى الروح الغريزي الذي ليست فيه دخانية أصلًا. وكان الروح الغريزي السالك في أجزاء الدماغ هذه حاله، ولما كان القلب مفرط الحرارة ناريها لم يجعل مفارزها التي بها يسترفد ما يحفظ قواها في القلب؛ لئلا يسرع الجفاف إليها فتتحلل وتبطل قواها. وأفعالها جعلت مفارزها في الدماغ وفي النخاع لأنهما رطبان جدًّا لتنفذ من كل واحد منهما في الأعصاب رطوبة تبقيها على اللدونة، ويستبقي بها قواها النفسانية، فبعض الأعصاب يحتاج فيها إلى أن تكون الرطوبة النافذة فيها مائية لطيفة غير لزجة أصلًا، وبعضها محتاج فيها إلى لزوجة ما. فما كان منها محتاجًا إلى مائية لطيفة غير لزجة جعلت مفارزها في الدماغ، وما كان منها محتاجًا فيها مع ذلك إلى أن تكون رطوبتها فيها لزوجة جعلت مفارزها في النخاع، وما كان منها محتاجًا فيها إلى أن تكون رطوبتها قليلة جعلت مفارزها أسفل الفقار والعصعص. ثم بعد الدماغ الكبد، وبعده الطحال، وبعد ذلك أعضاء التوليد، وكل قوة في عضو كان شأنها أن تفعل فعلًا جسمانيًّا ينفصل به من ذلك العضو جسم ما ويصير إلى آخره، فإنه يلزم ضرورة، إما أن يكون ذلك الآخر متصلًا بالأول مثل اتصال كثير من الأعصاب بالدماغ، وكثير منها بالنخاع، أو أن يكون له طريق ومسيل متصل لذلك العضو يجري فيه ذلك الجسم، وكانت تلك القوة خادمة له، أو رئيسة مثل الفم والرئة والكلية والكبد والطحال، وغير ذلك. وكلما احتاجت أو كان شأنها أن تفعل فعلًا نفسانيًّا في غيره، ثم يلزم ضرورة أن يكون بينهما مسيل جسماني مثل فعل الدماغ في القلب، فأول ما يتكون من الأعضاء القلب ثم الدماغ ثم الكبد ثم الطحال ثم تتبعها سائر الأعضاء.
وأعضاء التوليد متأخرة الفعل من جميعها، ورياستها في البدن يسيرة مثل ما يتبين من فعل الأنثيين وحفظهما الحرارة الذكرية والروح الذكري السابقين من القلب في الحيوان الذكر الذي له أنثيان، والقوة التي يكون بها التوليد أنثيان إحداهما تعد المادة التي يتكون عنها الحيوان الذي له تلك القوة، والأخرى تعطي صورة ذلك النوع من الحيوان وتحرك المادة إلى أن تحصل لها تلك الصورة التي لذلك النوع. والقوة التي تعد المادة هي قوة الأنثى والتي تعطي الصورة هي قوة الذكر الذي هو ذكر بالقوة التي تعطى تلك المادة صورة ذلك النوع الذي له تلك القوة، والعضو الذي يخدم القلب في أن يعطي مادة الحيوان هو الرحم، والذي يخدمه في أن يعطي الصورة إما في الإنسان وإما في غيره من الحيوان هو العضو الذي يكون المني، فإن المني إذا ورد على رحم الأنثى فصادف هناك دمًا قد أعده الرحم لقبول صورة الإنسان، أعطى المني ذلك الدم قوة تتحرك بها إلى أن يحصل من ذلك الدم أعضاء الإنسان، وصورة كل عضو وبالجملة صورة الإنسان. فالدم المعد في الرحم هو مادة الإنسان. والمني هو المحرك لتلك المادة إلى أن تحصل فيها الصورة.
ومنزلة المني من الدم المعد في الرحم منزلة الأنفحة التي ينعقد عنها اللبن. وكما أن الأنفحة هي الفاعلة للانعقاد في اللبن وليست هي جزءًا من المنعقد ولا مادة. كذلك المني ليس هو جزءًا من المنعقد في الرحم ولا مادة، والجنين يتكون عن المني كما يتكون الرائب من الأنفحة. ويتكون عن دم الرحم كما يتكون الرائب عن اللبن الحليب والإبريق عن النحاس، والذي يكون المني في الإنسان هي الأوعية التي يوجد فيها المني. وهي العروق التي تحت جلد العانة. يرفدها في ذلك بعض الإرفاد الأنثيان. وهذه العروق نافذة إلى المجرى الذي في القضيب ليسيل من تلك العروق إلى مجرى القضيب، ويجري في ذلك المجرى إلى أن ينصب في الرحم ويعطي الدم الذي فيه مبدأ قوة يتغير بها إلى أن تحصل به الأعضاء.
وصورة كل عضو، وصورة جملة البدن، والمني آلة الذكر، والآلات منها مواصلة ومنها مفارقة من ذلك؛ مثل الطبيب فإن اليد آلة للطبيب يعالج بها، والمبضع آلة له يعالج بها، والدواء آلة له يعالج بها، فالدواء آلة مفارقة وإنما يواصله الطبيب حينما يفعله ويصنعه ويعطيه قوة يحرك بها بدن العليل إلى الصحة، فإذا حصلت فيه تلك القوة ألقاها في جوف بدن العليل مثلًا فتحرك بدنه نحو الصحة. والطبيب الذي ألقاها غائب أو ميت مثلًا.
وكذلك منزلة المني والمبضع لا تفعل فعلها إلا بمواصلة الطبيب المستعمل له. واليد أشد مواصلة له من المبضع. وأما الدواء فإنه يفعل بالقوة التي فيه من غير أن يكون الطبيب مواصلًا له.
كذلك المني فإنه آلة للقوة المولدة الذكرية وتفعل مفارقة وأوعية المني والأنثيان آلة للتوليد مواصلة للبدن.
فمنزلة العروق التي تكون آلات المني من القوة الرئيسية التي في القلب منزلة يد الطبيب التي يعمل بها الدواء ويعطيه قوة محركة ويحرك بها بدن العليل إلى الصحة فإن تلك العروق التي يستعملها القلب بالطبع، هي آلات في أن يعطي المني القوة التي يحرك بها الدم المعد في الرحم إلى صورة ذلك النوع من الحيوان. فإذا أخذ الدم عن المني القوة التي يتحرك بها إلى الصورة، فأول ما يتكون القلب وينتظر بتكوينه تكوين سائر الأعضاء وما يتفق أن يحصل في القلب من القوى، فإن حصلت فيه مع القوة الغاذية القوة التي بها تعد المادة تكون سائر الأعضاء على أنها أعضاء أنثى. فإن حصلت فيه القوة التي تعطي الصورة تكون سائر الأعضاء على أنها أعضاء ذكر، فتحصل من تلك الأعضاء المولدة التي للذكر، ثم سائر القوى النفسانية الباقية تحدث في الأنثى على مثال ما هي في الذكر.
وهاتان القوتان — أعني الذكرية والأنثوية — هما في الإنسان مفترقتان في شخصين، وأما في كثير من النبات فإنهما مقترنتان على التمام في شخص واحد، مثل كثير من النبات الذي يتكون عن البزر؛ فإن النبات يعطي المادة وهي البزر، ويعطي بها مع ذلك قوة يتحرك بها نحو الصورة. فإن البزر في استعداد لقبول الصورة وقوة يتحرك بها نحو الصورة، فالذي أعطاه الاستعداد لقبول الصورة هي القوة الأنثوية، والذي أعطاه مبدأ يتحرك به نحو الصورة هو القوة الذكرية.
وقد يوجد أيضًا في الحيوان ما سبيله هذا السبيل، ويوجد أيضًا ما القوة الأنثوية فيه نامية وتقترن إليها قوة ما ذكرية ناقصة تفعل فعلها إلى مقدارٍ ما، ثم تجوز فتحتاج إلى معين من خارج مثل الذي يبيض بيض الريح، ومثل كثير من أجناس السمك التي تبيض ثم تودع بيضها فيتبعها ذكورتها فتلقي رطوبة؛ فأية بيضة أصابها من تلك الرطوبة شيء كان عنها حيوان، وما لم يصبها ذلك فسدت.
وأما الإنسان فليس كذلك، بل هاتان القوتان متميزتان في شخصين، ولكل واحد منهما أعضاء تخصه وهي الأعضاء المعروفة وسائر الأعضاء فيهما مشتركات، وكذلك يشتركان في قوى النفس كلها سوى هاتين، وما يشتركان فيه من أعضاء فإنه في الذكر أسخن، وما كان منها فعله الحركة والتحريك فإنه في الذكر أقوى حركة وتحريكًا. والعوارض النفسانية، فما كان منها مائلًا إلى القوة مثل الغضب والقسوة، فإنها في الأنثى أضعف وفي الذكر أقوى.
وما كان من العوارض مائلًا إلى الضعف مثل الرأفة والرحمة فإنه في الأنثى أقوى، على أنه لا يمتنع أن يكون في ذكورة الإنسان من توجد العوارض فيه شبيهة بما في الإناث. وفي الإناث من توجد فيه هذه شبيهة بما هو في الذكور، فبهذه تفترق الإناث والذكور في الإنسان، وأما في القوة الحاسة وفي المتخيلة وفي الناطقة فليس يختلفان، فيحدث عن الأشياء الخارجة رسوم المحسوسات المختلفة الأجناس المدركة بأنواع الحواس الخمس في القوى الحاسة الرئيسية، ويحدث عن المحسوسات الحاصلة في هذه القوى رسوم المتخيلات في القوى المتخيلة، فتبقى هناك محفوظة بعد غيبتها عن مباشرة الحواس لها، فيتحكم فيها فيعرض بعضها عن بعض أحيانًا، ويركب بعضها إلى بعض أصنافًا من التركيبات كثيرة بلا نهاية بعضها كاذبة وبعضها صادقة.