ابن سينا
هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سيناء، الملقب بالشيخ الرئيس، أشهر أطباء العرب، ومن أعظم فلاسفتهم، فارسي الأصل، نشأ في ولاية ما وراء الأنهر.
كان أبوه من أهل بلخ، طاب له المقام في بخارى لعهد نوح بن منصور، أحد أمراء الأسرة السامانية، عين واليًا لخرميتان إحدى عواصم بخارى. تزوج عبد الله والد علي من امرأة من أفشنا، وهو بلد صغير على مقربة من خرميتان، فأنجبت له عليًّا في شهر صفر عام ٣٧٠ للهجرة/أغسطس سنة ٩٨٠، وبعد ميلاده ببضع سنين عاد به أبوه إلى بخارى وعني بتربيته.
ذكر ابن سينا عن تهذيبه أنه في العاشرة من عمره كان قد استظهر القرآن وألم بجزء صالح من العلوم الدينية، ومبادئ الشريعة الغراء، وعلم النحو. وكان الناس يعجبون بحفظه وبذكائه السابق لأوانه، وكان أبوه يضيف في منزله عالمًا اسمه عبد الله ناتيلي، فوكل إليه تهذيب ولده، ففاق التلميذ أستاذه وانقطع علىٌّ للدرس بمفرده، فخاض غمار الرياضيات والطبيعيات والمنطق وما وراء الطبيعة، ثم أكب بعد ذلك على درس فن الطب على أستاذ مسيحي اسمه عيسى بن يحيى.
ولم يبلغ عليٌّ السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره حتى طبقت شهرته الخافقين لحذقه في الطب، وحتى دعاه نوح بن منصور أمير بخارى لعيادته في مرض ألم به، وأعيا حيل الأطباء، فعالجه إلى أن عوفي، فانبسط له وأسبغ عليه ذيل الرضى وأسبل عليه ثوب النعمة، وفتح له خزانة كتبه فوجد بها الطبيب الحكيم خير مجال لرغبة الدرس وأرحب ميدان لطلب العلم، واستقى من تلك الينابيع العذبة ما شاء إقباله عليها.
وقد حدث أن أحرقت الكتب، فاتُّهم ابن سينا بأنه محرقها، رغبة في أن يتفرد بما وعته من الحكمة، وخشية أن ينتفع بما حوته سواه!
وقد مات الأمير نوح بعد ذلك بقليل في شهر رجب عام ٣٨٧ هجرية/يوليو سنة ٩٩٧ وقد هوى بموته نجم أسرته أو كاد.
قضى والد علي وهو في الثانية والعشرين من عمره، وكان يعينه في أعمال الدولة حتى إذا فرغ منها عكف على تأليف بعض الكتب والرسائل، كان يسأله في وضعها لفيف من الأكابر والأعيان، فلما أن نكب في والده ثقلت عليه الإقامة في بخارى فرحل عنها، وسكن جرجان وبعض مدن خوارزم وخراسان وداغستان وهي إحدى البلاد الدانية من بحر قزوين. وقد أصابه في تلك البلاد داء عضال، ثم عاد إلى جرجان فتعرف برجل كبير القدر اسمه أبو محمد الشيرازي، فأهدى إليه دارًا فانتفع بها لإلقاء الدروس للطلاب. وإذ ذاك بدأ ابن سينا بوضع كتاب قانون الطب، وهو المؤلف الذي خلد ذكره، وأكسبه صيتًا بعيدًا في أوروبا، حيث بقي قانون ابن سينا هو أساس العلوم الطبية وعمدة الطالبين لها خلال قرون متتالية.
وكانت المشاغب السياسية تلجئه إلى تغيير موطنه، وفي هذا من قطع العمل والتشويش على العلم ما فيه، إلى أن استوزره شمس الدولة أمير همذان، بيد أن وزارته لم ترض الجند فأسروه وطلبوا قتله، فأغضب صنعهم شمس الدولة وأنقذ ابن سينا من أيديهم بعد جهد جهيد. وقد اختفى ابن سينا عن الأعين حينًا ثم عاد إلى حاشية الأمير يتعهده منذ أصابه داء في الأحشاء وشرع يدون أجزاءً شتى من كتاب الشفاء.
وكان في كل عشية يلقي على تلاميذه دروسًا في الفلسفة والطب. ويحكى عنه أنهُ كان يحب الأنس والأطعمة الفاخرة، فكان كل ليلة بعد نهاية الدرس يستقدم العازفين، ويمد الموائد الممتعة، ويقضي كذلك هزيعًا من الليل مع تلاميذه وأحبابه.
ولما مات شمس الدولة وتولى الإمارة ابنه بعده لم ترقه حال ابن سينا فأعرض عنه، فحقد عليه الشيخ الرئيس وكاتب في السر عدوه ومناظره علاء الدين أمير أصبهان فكشف أمره، وعوقب على فعلته بالسجن في حصن، وبعد سنين كذلك فاز في الفرار إلى أصبهان فرحب به علاء الدولة، وكان يصحبه في معظم غزواته وأسفاره.
وقد أفنت تلك المتاعب بنيته وزادته ضعفًا على الذي لحقه من الإفراط في العمل واللهو، فأصابه داء في الأحشاء فتناول دواءً شديدًا سريع الأثر، فاشتدت علته وقد بلغت آلامهُ نهايتها في غزوة اصطحبه فيها علاء الدولة إلى همذان.
ولما أن رأي ابن سينا دنو أجله تاب إلى الله توبة نصوحًا وتصدق بأغلى وأثمن ما كان يملك، وانقطع إلى العبادة وأعد للقاء الله عدته وقضى إلى رحمة الله في شهر رمضان المبارك عام ٤٢٨ للهجرة/يوليو سنة ١٠٣٧ وهو يبلغ سبعة وخمسين عامًا. وقد دون تلميذه الجرجاني ترجمته وهو المعروف عند الإفرنج باسم (جورجوروس)، ونقلت هذه الترجمة إلى اللغة اللاتينية وافتتحت بها عدة من مؤلفات الشيخ الرئيس التي نشرت في أوروبا.
كان ابن سينا من أعجب العبقريين، وأبلغ الكتاب؛ فإنه خلال قيامه بأعباء المناصب وشد الرحال إلى البلاد القصية، في مثار الحروب وثنايا الفتن الأهلية تمكن من وضع كتب كثيرة ممتعة، يكفي أحدها لتأسيس مجده ووضعه في مصاف كبار حكماء المشرق. وقد دون أكثر من مائة كتاب تتباين في الإتقان ولكنها تشهد بفضله وبإلمامه بسائر علوم عصره، وإكبابه على العمل في أحرج الأحوال. ومعظم مؤلفاته لا تزال محفوظة إلى يومنا هذا، وكثير من كتبه الكبرى كالقانون والشفاء ترجمت إلى اللاتينية وطبعت عدة مرات، وسنقصر الكلام بإسهاب في هذه العجالة على الشفاء والنجدة.
- (١)
المنطق.
- (٢)
الطبيعيات (مقتبسة من كتاب الشفاء).
- (٣)
السماء والعالم.
- (٤)
الروح.
- (٥)
حياة الحيوان.
- (٦)
على العقل.
- (٧)
فلسفة الفارابي على العقل.
- (٨)
الفلسفة الأولى.
ونقل «نافيه» منطق ابن سينا إلى الفرنسوية ونشره بباريس عام ١٦٥٨، كذلك طبع العلامة سمولدرز أرجوزة منطقية لابن سينا في «مجموعة الفلسفة العربية»، أما فلسفة ابن سينا فهي بالضرورة كفلسفة غيره من أتباع أرسطو دع عنك ما تحويه، عدا مبادئ المعلم الإغريقي، من التعاليم الأخرى التي لم تخلُ منها حكمة سواه من فلاسفة العرب.
ذكر ابن طفيل في كتابه «حي بن يقظان» أن ابن سينا قال في فاتحة الشفاء إن الحقيقة في رأيه ليست في هذا التصنيف، وإن من يريدها فليلتمسها في كتاب الحكمة المشرقية. بيد أن هذا الكتاب لم يصل إلينا، وقد عرفنا ممن وقع لهم أن موضوعه ربما كان في تعليم رأي وحدة الوجود على الطريقة الشرقية. ولذا يجب علينا أن نقنع بما وصل إلينا من كتبه الأخرى، التي ظهر فيها بمظهر الاستقلال الفكري حينًا وحينًا بمظهر المقلدين الناقلين. على أنه اعترف بأنه اعتمد في منطقه كثيرًا على مؤلفات الفارابي، فإن من يقرأ كتب ابن سينا يرى رابطة متينة في التأليف ويرى رغبة الشيخ ظاهرة في تنسيق العلوم الفلسفية وترتيبها بدقة شديدة وردها إلى سلسلة واحدة لا بد منها. (راجع كتاب الملل والنحل للشهرستاني النسخة العربية ص٣٤٨ و٤٢٩).
- (١)
العلوم العالية أي التي لا علاقة لها بالمادة، وهي الحكمة الأولى أو ما وراء الطبيعة.
- (٢)
العلوم الدنيا وهي الخاصة بالمادة وهي الطبيعيات وما يتبعها، وهي العلوم الخاصة بكل ما كان له مادة ظاهرة وما ينشأ عنها.
- (٣)
العلوم الوسطى وهي التي تتعلق تارة بما وراء الطبيعة وطورًا بالمادة وهي الرياضيات.
وقد عدها كذلك لأنها بين بين، فإن علم الحساب مثلًا خاص بما لا علاقة له بالمادة بطبيعته ولكنه يتصل بها بمقتضى الحال. وعلم الهندسة خاص بالموجودات التي يمكن تخيلها بدون اتصالها بالمادة، ومع أنها لا وجود لها في الحس فإنها لا قوام لها إلَّا بالأشياء المرئية.
أما الموسيقى وفنون الآلات والعلوم البصرية فإن علاقتها بالمادة قريبة، إلَّا أن نسبة رفعة بعضها عن البعض راجعة إلى دنوها من الطبيعيات. وقد تكون العلوم في بعض الأحوال مشتبكة لا يمكن فصلها كما هي الحال في علم الفلك، فإنه علم رياضي ولكنه خاص بأرقى طبقة من طبقات العلم الطبيعي.
وإن هذا التقسيم لدليل قاطع على مقدار ما استفاده ابن سينا من كتب أرسطو، ويرى الخبير من الإمعان في مؤلفات ابن سينا أن التلميذ فاق أستاذه في فحص العلوم وتبيينها.
فإن أرسطو قسم الفلسفة النظرية إلى ثلاثة أقسام: الرياضيات، والطبيعيات، وعلم اللاهوت. وبذا جعل الرياضيات نوعًا من الفلسفة ونسب إلى الرياضيات فنونًا تبحث في غير المادة (فيما ليس متحركًا ومنفصلًا عن المادة)، ثم ذكر علومًا أخرى كالفلك وعلم المرئيات وفن الانسجام ونسبها إلى الطبيعيات، ولكنه لم يحط بتقسيم بلغ من الدقة والجلاء ما بلغه تقسيم ابن سينا للعلوم. (راجع كتاب ما وراء الطبيعة لأرسطو الكتاب السادس الفصل الأول، والطبيعيات له أيضًا الكتاب ٢ فصل ٢). ولم تكن زيادة البيان التي امتاز بها ابن سينا قاصرة على تقسيم العلوم، بل كان ذلك يشمل النظريات الفلسفية، فإن ابن سينا قال كسابقيه في نظرية الكائن بالممكن والضروري، ثم أضاف إلى ذلك آراء خاصة بها ينبغي الوقوف عليها؛ فإنه قسم الكائن إلى ثلاثة أقسام: ما كان ممكنًا فقط، وفي هذا القسم أدخل سائر الكائنات التي تولد وتموت؛ القسم الثاني ما كان ممكنًا بذاته وضروريًّا بسبب خارج عنه، أو بعبارة أخرى كل كائن قابل للتولد والفناء (ما عدا السبب الأول مثل الدوائر والأفلاك) والعقول التي هي بذاتها كائنات ممكنة ولا تصير واجبة إلَّا باتصالها بالسبب الأول؛ أما القسم الثالث فهو قاصر على ما كان واجبًا بذاته وهو الله. يقول ابن سينا وتقرر هذا الكائن الفرد وحده باتحاد الوجود والوحدة والروح. أما في الكائنات التي سبق ذكرها في القسمين الأولين فإن الوحدة والوجود هما حادثان طرآ على روح الأشياء واتصلا بها.
وقد عارض ابن رشد هذا التقسيم في أماكن شتى من مؤلفاته وانتقده وأفرد له رسالة على حدة، لا يوجد منها الآن إلَّا نسخة عبرية بالمكتبة الوطنية بباريس. يقول ابن رشد إن ما كان واجبًا بسبب خارج عنه لا يمكن أن يكون ممكنًا بذاته إلَّا إذا هلك السبب الخارج، وهذا مستحيل فيما فرضه ابن سينا؛ لأن السبب الأول واجب الوجود وليس عرضة للهلاك، ثم إن ابن رشد يرد بشدة على ما زعمه ابن سينا من أن الوجود والوحدة ليسا سوى عارضين يطرآن على حقيقة الأشياء.
ويقول إن ابن سينا خلط الوحدة العددية، التي هي لا شك طارئة بالوحدة المطلقة التي هي وروح الأشياء واحد لا يتعدد، وبذا لا تنفصل عنه (أي عن ذلك الروح)، ثم ذكر ابن رشد أن ابن سينا قد قال في ذلك بآراء المتكلمين الذين يعتبرون الكون الأرضي بما فيه في دائرة الكائنات الممكنة، ويعتقدون أنها قابلة للتغير. إنما تفوق ابن سينا عليهم في التمييز بين الممكن والواجب لإثبات وجود كائن روحي (هيولاني).
وبعد أن أظهر ابن رشد خطأ ابن سينا في تقسيمه قال: «وقد رأينا في هذا الزمن كثيرين من أتباع ابن سينا يفسرون رأيه ليحوروه، فيقولون إن ابن سينا لم يقل بوجود مادة منفصلة بذاتها، وهذا في زعمهم ناشئ عن كيفية الشرح التي استعملها ابن سينا في عدة مواضع في الكلام على واجب الوجود. وهذا أيضًا هو أساس فلسفته التي وضعها في كتاب الحكمة المشرقية، وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنه استعارها من المشارقة الذين يوحدون بين الله وبين الدوائر السماوية (الأفلاك) وهذا الرأي منطبق على رأي ابن سينا.» ا.ﻫ. كلام ابن رشد.
إن فكرة وحدة الوجود الشرقية هذه لم تترك أثرًا في كتابات ابن سينا التي تربطه بالمشائين وهي غاية بحثنا في هذه الرسالة.
تساهل ابن سينا مع المتكلمين كما رأيت، ولكنه لم يتردد في القول مع الفلاسفة بأزلية العالم التي تختلف عن أزلية الله بأن لها سببًا خاصًّا وقائمًا بها (وهذا السبب لا يقع في الزمان) أما الله فأزلي الوجود بذاته.
إن ابن سينا يقول وغيره من الفلاسفة إن السبب الأول لكونه الوحدة المطلقة لا يمكن أن يكون له أثر مباشر سوى الوحدة، ويقول في البرهان على ذلك إنه ثبت أن الكائن الواجب الوجود بذاته هو واحد في كل صفاته فلا يمكن أن يصدر عنه إلَّا كائن واحد؛ لأنه إذا صدر عنه كائنان مختلفان حقيقة فإنهما لا يصدران إلَّا عن جهتين مختلفتين من روحه. فإذا كانت هاتان الجهتان متصلتين بروحه ينتج عن ذلك أن ذلك الروح قابل للانقسام، وقد أثبتنا استحالة ذلك وخطأه. (راجع ما وراء الطبيعة لابن سينا الكتاب التاسع الفصل الرابع، والشهرستاني ص٨٣٠، والغزالي مقاصد الفلاسفة).
نقول وإذا صدق قول ابن سينا في أنه لا يصدر عن الواحد إلَّا ما كانت صفته الأولية الوحدة، فكيف نعلل صدور العالم عن الله وهو مجموع كائنات متعددة؟! للجواب على هذا فرض ابن سينا أن حركة الدوائر لم تصدر عن الله مباشرة، ومن المعلوم عن رأي المشائين أن أثر علة العلل في الكون الأرضي ظاهر في الحركة التي تشكل المادة. إنما يصدر عن الله العقل الأول، أي عقل الدائرة المحيطة التي تسبب حركة الدائرة الثانية، وهذه الدائرة المحيطة الأولى وإن كانت صادرة عن الكائن الفرد فإنها مركبة لأن بعقلها غايتين: العقل الأول والدائرة ذاتها. يقول ابن رشد: وهذا خطأ في رأي المشائين أنفسهم؛ لأن العاقل والمعقول هما واحد في العقل الإنساني، وهما كذلك بقوة أشد في العقول المنفصلة (عن المادة). ثم يقول ابن رشد إن هذا الرأي ليس لأرسطو، إنما استفاده الفارابي وابن سينا من بعض الحكماء الأقدمين الذين قالوا بأن الخير والشر خاصة والأضداد عامة لا تصدر عن سبب واحد.
وإذا عممنا هذا الفرض وصلنا إلى وضع قاعدة منفردة، وهي أنه لا يصدر مباشرة وبلا وسيط عن السبب البسيط المفرد إلَّا أثر فرد. وقد أظهر ابن رشد أنهم أخطَئوا في نسبة هذا الرأي إلى أرسطو، وقد نشأ ذلك عن سوء فهم المعنى المراد لفكرة الوحدة في قول هذا الحكيم عندما وصف الكون بأنه وحدة أو مجموع حيوي صادر عن سبب أول مفرد.
ولم يتردد ميمونيد، الذي يرجع سائر نظريات ابن سينا إلى آراء المعلم أرسطو، في نسبة هذا الفرض إلى سواه. (راجع كتاب مرشد الحيران تأليف ميمونيد القسم الثاني الباب الثاني والعشرين). وقد انتشرت هذه الهفوة في المدارس المسيحية خلال القرون الوسطى، ومن أثر ذلك أن نسب ألبرت الكبير هذا الفرض إلى أرسطو وسائر تلاميذه، واتباع تعليمه ما عدا حكيمًا واحدًا قال إنه يعتقد بصدور شيئين من وحدة بسيطة، هما المادة العامة والشكل العام.
وكان ابن سينا يقول كغيره من الفلاسفة بامتداد إحاطة علم الله بالموجودات العامة لا بالأشياء الخاصة، والحوادث التي تقع مصادفة، وينسب إلى نفوس الدوائر العلم بالجزئيات، وإنه بواسطة تلك النفوس يتصل علم الله بالموجودات الأرضية، ويفرض ابن سينا أن لنفوس الدوائر خاصة التخيل التي تلم بأشياء لا حد لها، لأنه لا يقدر أن لا ينسب العلم بالحوادث التي تقع مصادفة، والأشياء المفردة إما إلى عقول الدوائر، وإما إلى العقل الإلهي. إن الأشياء الخاصة المفردة الأرضية لها رد فعل على علتها القريبة وتخترق صورها الدوائر بالتدريج، فتتصل شيئًا فشيئًا من علة إلى علة إلى أن تصل إلى السبب الأول، وقد أثبت لنا ابن رشد أن هذا الفرض خاص بابن سينا، وقد رد ابن رشد عليه.
يقول ابن رشد إن الخيال متصل بالحواس ومعتمد عليها، وحيث إن الحواس لا يمكن نسبتها إلى الأجرام السماوية حينئذ لا تمكن نسبة الخيال إليها، وهو يبيح أن ينسب الإدراك للأجرام السماوية، وطبيعة هذا الإدراك كطبيعة إدراك المتفنن الذي يبدع تأليفًا أو صورة أو عمارة أو تمثالًا قبل إبرازها من حيز الفكر إلى حيز الوجود.
- (١)
الخواص الظاهرة أو الحواس الخمس.
- (٢)
الخواص الباطنة.
- (٣)
الخواص المحركة.
- (٤)
الخواص العاقلة.
وقد قسم كل خاصة منها إلى أقسام أدق، فذكر القوة الوهمية في الفصل الثالث من القسم الثاني، وبها يكوِّن الحيوان حكمه كما يفعل الإنسان بقوة الفكر أو التأمل، فإنه بِالوهم تعلم الشاة أن صغارها في حاجة إلى حنانها وأنهن في خطر من الذئب.
وكان الفلاسفة السابقون على ابن سينا يخلطون بين تلك القوة وبين القوة المخيلة، ومن خواص ابن سينا أنه جعل مقر خواص النفس في تجاويف المخ الثلاثة.
أما فيما يتعلق بصلة العقل المؤثر بالنفس البشرية فلم يحاول ابن سينا أن يقر رأيًا وهو كسائر حكماء العرب يرى في تلك الصلة أسمى ما تتطلع إليه النفس البشرية؛ لذا ينصح للنفوس بالمساعي ولكنه يفضل قهر المادة وتطهير النفس من أدرانها حتى تصير وعاء نقيًّا جديرًا بتلقي الإلهام الإلهي. (راجع كتاب ما وراء الطبيعة الكتاب التاسع الفصل السابع).
يقول ابن سينا: «أما النفس العاقلة فكمالها الحقيقي خفي ومصيرها أن تكون عالمًا عقليًّا تنبسط فيه صور الموجودات وترتيبها والخير العام الذي يخترق الأشياء عامة وهو قاعدة الكون الأولى، ثم المواد الروحية العالية، ثم النفوس المتصلة بالأجساد، ثم الأجرام السامية، وما لها من الخواص والحركات، وهكذا إلى أن تصير النفس عالمًا عاقلًا مماثلًا للعالم العقلي بأجمعه عارفة بأتم الأشياء: كالجمال التام، والخير التام، والمجد التام، فتتصل به وتصير كما ذكرت مادة. ولكنا ما دمنا في هذا العالم الأرضي وفي هذه الأجساد فلا نستطيع أن نشعر بتلك السعادة لما يحيط بنا من الشهوات، فنحن لا نبحث عن تلك السعادة الكاملة ولا نشعر بأننا قادرون أن نحصل عليها إلَّا إذا تخلصنا مما يعلقنا بالشهوات وأنواع الفتنة والهوى. حينئذ نستطيع أن نتخيل شيئًا من تلك السعادة في نفوسنا، شريطة أن تتبدد الشكوك وأن تستنير بصائرنا ويظهر أن الإنسان لا يقدر على الخلاص من هذا العالم وما يحيط به إلا إذا تعلق بأهداب العالم العقلي الذي ذكرت، فتجذبه رغبته إليه وتصونه عن النظر إلى ما وراءه، وهذه السعادة لا تنال إلا بممارسة الفضائل والكمالات.» ويقول في مكان آخر: «يوجد رجال ذوو طبيعة طاهرة، اكتسبت نفوسهم قوة بالطهر وبتعلقها بقوانين العالم العقلي؛ لذا هم ينالون الإلهام ويوحي إليهم العقل المؤثر في سائر الشئون، ويوجد غيرهم لا حاجة بهم إلى الدرس للاتصال بالعقل المؤثر؛ لأنهم يعلمون كل شيء بدون واسطة. هؤلاء هم أصحاب العقل المقدس، وإن هذا العقل لَمن السمو بحيث لا يمكن لكل البشر أن ينالهم منه نصيب.» (راجع الشهرستاني ص٤٢٨ نسخة ألمانية جزء ٢ ص٣٣١-٣٣٢ في آخر تحليل طبيعيات ابن سينا).
ويرى القارئ مما تقدم من قول الرئيس أنه يقصد بأصحاب العقل المقدس الأنبياء الذين يحظون بالوحي الرباني، وهو قائل به البتة ما دام يعترف بأن بين النفس البشرية والعقل الأول علاقة طبيعية، وما دام الإنسان ليس أبدًا في حاجة إلى الحصول على العقل المكتسب بالدرس.
يتبين لك مما سبق أن الشرائع السماوية والقوانين الأدبية تشغل مكانًا فسيحًا في مبادئ ابن سينا، وأنه بعيد بمراحل في لغته الطاهرة عن المبادئ الحرة المخالفة للدين التي شرحها وقال بها ابن رشد. وسيرى القارئ فيما يلي مقدار انقياد ابن رشد إلى رأيه في العقل. ويقول ابن سينا ببقاء وجدة النفس البشرية التي لها مادة منفصلة عن الجسد، وأن هذه المادة محافظة على ذاتها، ولكنها غير متعلقة بالمكان، أو الزمان. (راجع مرشد الحيران جزء ١ ص٤٣٣ ملحوظة ٢).
إن في كل فرع من فروع العلوم الفلسفية آراء جديدة أضافها ابن سينا إلى فلسفة أرسطو، ولكن هذه الفلسفة لم تتغير في مجموعها بما أضافه الرئيس تغيرًا كبيرًا.
وبالجملة فإن ابن سينا أخرج سائر أجزاء فلسفة أرسطو بنظام تام، وتسلسل محكم، ووسع نطاقها بمذهب الأفلاطونية الحديثة (نيوبلاتونيزم).
وهو لا ريب معدود أكبر أساتذة فلسفة أرسطو في القرون الوسطى، ومع أنه تساهل كثيرًا إكرامًا لمبادئ الإسلام، فإنه لم يحدث تغييرًا كبيرًا في مجموع فلسفة أرسطو التي لا يمكن اتفاقها مع الدين الحنيف. ولا ريب في أن الغزالي قصد إليه بكتابه «تهافت الفلاسفة».
(١) إيضاح عن ابن سينا
إن ما ذكرناه بالإيجاز عن حياة الشيخ الرئيس، من الشئون العادية يدل دلالة سطحية على حياته، ويحار المؤرخ إذا حاول الوصول إلى علم يقيني عن نفسية ابن سينا وأخلاقه، ويظهر للواقف على أخباره أن أبا عبيد الجرجاني، وهو صاحبه الذي نقل عنه، لم يدون ما يلقي شعاعًا من النور على تلك الناحية من حياة الرئيس، ولكن المدقق قد يصل بعد طول الإمعان إلى بصيص من الضياء. وقد جاءت النبذ الدالة على خلقه وعقله عرضًا لا قصدًا، من ذلك أنه نشأ منذ نعومة أظفاره مستقلًّا برأيه، وترعرع ونما وهو يحافظ على ذلك الاستقلال بالرأي الذي هو الجوهر في أخلاق الرجال.
فقد حكى أن أباه وأخاه كانا من الإسماعيلية، وأنه سمع منهما كلامًا في النفس والعقل على طريقة يرضاها أبوه وأخوه ولا يقبلها عقله ولا ترتاح إليها نفسه، فلم يقبل عليها ونبا عنها. وهذا الاستقلال في الرأي والاعتداد بالنفس دليل قوة الفكر والإرادة. حقًّا أن الاعتداد بالنفس من أدلة الإعجاب بها، وفي الإعجاب بالنفس عيوب ومحاسن، ويظهر لنا أن ابن سينا استفاد بإعجابه بنفسه سموًّا في خلقه وعلوًّا في مقاصده واقترابًا من المَثل الأعلى، ولم يخف علينا ذلك؛ فقد وصف نفسه بالتقدم في العلم والبراعة فيه بكلام ملؤه الإعجاب بالذات.
ويظهر من أخباره أنه كان عبقريًّا ممتازًا قادرًا على الإلمام بالعلوم والمعارف واستنباط الأفكار القوية ببساطة وبدون تكليف ظاهر أو خفي، فكان عقله مخلوقًا للفلسفة. فقد سبقه في كل الأمم فلاسفة وصلوا إلى الحقيقة بعد الجهد والتعب وبعد التألم والمعاناة في سبيل البحث عنها، ولكن ابن سينا كان فذًّا في عبقريته حقًّا، وكان ذكاؤه من النوع الذي يظهر قبل أوان ظهوره عند أشباهه في السن والمواهب، فقد أتم ابن سينا تعليمه ودراسته في أواخر العقد الثاني من عمره الحافل بالعجائب، وكان على قمة الفتوة مالكًا زمام العلوم المعروفة لعهده، يعيها ويحفظها ويحللها، ثم اندمجت تلك العلوم في نفسه فنضجت النفس وتجلت معرفتها أجمل تجلٍّ، وليس لدينا دليل على أنه راد على علمه شيئًا بكرِّ السنين ومرها، ولكنه أحسن استعمال الأدوات التي حباه الله إياها، فلما فرغ من تحصيل العلوم بأسرها في مقتبل الشباب لم يزد عليها شيئًا ولم يتجدد له علم، ولكن فطرته السليمة وبصيرته المنورة وعقله الجبار وإرادته القوية تضافرت كلها وتآزرت على المحافظة فيما بقي من عمره على الأسس العلمية التي ركزت في نفسه عنفوان الفتوة، والتي صرف جهده في صقلها وتهذيبها.
ومما يؤيد قولنا بأن عقل ابن سينا كان مخلوقًا للفلسفة، وأن ممارسة العقليات كانت لديه أسهل منها لدى غيره؛ أنه بعد تفوقه في سرعة إحراز العلوم، وامتلاك ناصيتها بقليل عناء، صار التأليف والتصنيف من أبسط الأمور وأسهلها وأسرعها لديه، فلم يكن من الحكماء الذين يطيلون النظر فيما يكتبون، ثم إذا هم دونوا شيئًا يصرفون وقتًا في تحويره وتبديله بعد نقده وتمحيصه، بل كان ابن سينا فياضًا بحكمته وفلسفته يثبتها، ولا يمحو ما أثبت، ولا يتردد في تنقيح أو تصحيح، ولا يشك في صحة ما كتب. ودليلنا على ذلك كثرة الكتب التي ألفها ابن سينا، وكلها قيمة ممتعة، وقد ألف بعضها وهو في نضارة العمر يترقرق في وجهه ماء الشباب، على أنه لم يبلغ أكثر من ثلاث وخمسين سنة على الأقل أو ثمان وخمسين سنة على الأكثر.
ينتج مما تقدم أن الشيخ كان من أظهر صفاته كثرة العمل وسهولته وسرعة إتمامه، وكان يشبه جوته الفيلسوف الألماني من بعض وجوه، فإن جوته ألف رواية «فوست» في جزأين، بين الأول والثاني منهما نحو ستين عامًا، كذلك ابن سينا ألف الجزء الأول من الشفاء مُذ كان في معية الأمير شمس الدولة، وما زال يوالي التأليف فيه في فترات متباعدة حتى أتمه وهو في معية الأمير علاء الدولة. وهذا دليل على أنه رضي عما ألفه في شبابه بعد أن بلغ أشده، وثبتت في الحكمة قدمه. كذلك كانت حال «جوته» وكتابه الخالد «فوست»، وكذلك كان كتاب الشفاء للرئيس أوسع وأمتع ما وضعه في الحكمة.
أما عن عقيدة ابن سينا فقد وردت نصوص تدعو للتقول والظن، ولكن الأخبار الصادقة الصحيحة المروية عن الجرجاني الثقة وغيره، مجمعة على أن الشيخ الرئيس كان إذا أشكلت عليه معضلة، توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله أن يسهلها عليه، ويفتح مغلقها بين يديه، وهذا دليل على العاطفة الدينية القوية في نفس ابن سينا. ويصح لنا أن نقول إن إيمانه كان جزءًا من عبقريته، وإن اعتقاده بواجب الوجود كان من أقوى أسباب ظهور عبقريته.