ابن باجه
هو أبو بكر محمد بن يحيى الملقب بابن الصائغ أو ابن باجه، ويعرفه علماء الغرب في القرون الوسطى باسم افمباس. من أشهر علماء العرب في الأندلس، وكان مشهورًا بالطب والرياضيات والفلك، ويشبه الفارابي في تفوقه في الموسيقى، لا سيما التوقيع على العود. وقد ولد بسرقصة في أواخر القرن الحادي عشر للمسيح. ولما شب تحول إلى أشبيلية عام ١١١٨ للمسيح، حيث أقام وانقطع لتأليف كتب في المنطق وأحد تلك الكتب موجود بمكتبة الاسكوريال تحت عدد ٦٠٩. وقد فرغ الحكيم من وضعه يوم ٤ شوال عام ٥١٢.
أما سبب تحوله إلى أشبيلية فغير معلوم بالدقة، وقد يكون اضطر إلى الهجرة إلى أشبيلية بعد أن فتح ألفونس الأول مدينة سرقصة عام ٥١٢ للهجرة، فهجرها ابن باجه فيمن هجرها من العرب، وكان اشتغل بها أمدًا ثم سافر إلى غرناطة وأقام بها حينًا ثم رحل إلى المغرب، فكان موضع الإجلال والإكبار لدى أمراء المرابطين. وقد ورد في تاريخ الحكماء، وفي حياة ابن الخطيب (للمكاري) أن ابن باجه كان وزير يحيى بن أبي بكر حفيد يوسف بن تاشفين، ولكن هذه الرواية مرتاب في صحتها؛ لأن يحيى الذي كان أمير فاس لعهد جده يوسف فرَّ من فاس عام ١١٠٧ بعد وفاة جده؛ لأنه ثار على عمه علي بن يوسف صاحب الإمارة بعد يوسف.
إن الأديب أبا بكر بن الصائغ هو قذى في عين الدين وعذاب لأهل الهدى. وقد اشتهر بين أهل عصره بهوسه وجحوده واشتغاله بسفاسف الأمور، ولم يشتغل بغير الرياضيات وعلم النجوم، واحتقر كتاب الله الحكيم وأعرض عنه. وكان يقول بأن الدهر في تغير مستمر، وأن لا شيء يدوم على حال، وأن الإنسان كبعض النبات أو الحيوان، وأن الموت نهاية كل شيء … الخ.
وقد ذكر ابن الخطيب في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» سبب العداء الذي استحكم بين ابن الصائغ وابن خاقان، فقال إن الفتح افتخر يومًا بمجلس بما ناله من رضى أمراء الأندلس فكذبه ابن الصائغ واحتقره.
أما مؤلفات ابن باجه فقد ذكرها ابن أبي أصيبعة. فمنها كتب في الطب والرياضيات والحكمة وشروح لبعض كتب أرسطو في الطبيعيات وحوادث الجو وكتب في البداية والنهاية، وكتاب في الحيوان، أما الكتب التي لم ينجزها وذكرها ابن طفيل فكثيرة منها ما هو في المنطق ومحفوظة في مكتبة الاسكوريال وكتاب في النفس ورسالته في تدبير المتوحد، ورسالة الاتصال، ورسالة الوداع. وقد تكلم في هذه الرسالة على العوامل التي تؤثر في الإنسان وتدفع العقل على التفكير، وشرح غاية الوجود الإنساني وغاية العلم وهما التقرب من الله والاتصال بالعقل الفعَّال الصادر عنه جل وعلا. ثم أضاف المؤلف جملًا مبهمة في خلود النفس وغرس بذور المذهب الذي توسع فيه ابن رشد وهو مبدأ وحدة النفوس، وكان له من الشأن لدى علماء النصرانية ما كان حتى حاول تفنيده القديس توما وألبرت الكبير.
ويظهر أنه كتب رسالة الوداع قبيل رحلة طويلة، وبعث بها إلى أحد تلاميذه وأصدقائه ليكون على بينة من آراء الحكيم فيما يتعلق بأهم المسائل إذا لم يلتقيا بعد، وأول ما يظهر لقارئ رسالة الوداع رغبة المؤلف في إحياء معالم العلم والفلسفة؛ لأنهما في رأيه جديران بإرشاد الإنسان إلى الإحاطة بالطبيعة، وبهدايته بعون الله إلى معرفة ذاته، وبالاتصال بينه وبين العقل الفعَّال. وقد لام الغزالي الذي أضل نفسه وأضل سواه بزعمه في «المنقذ» أن الخلوة تفتح للذهن عالم المعقولات وتظهر للمتأمل أمورًا إلهية ليس وراء رؤيتها لذة، وأنها هي الغاية التي يسعى إليها المتأملون.
أما الرسالة التي دعاها ابن باجه «تدبير المتوحد» فهي أهم وأنفع كتبه، وقد ذكرها ابن رشد في آخر كتابه على العقل الهيولاني بما يأتي: «أراد أبو بكر بن الصائغ أن يختط خطة لتدبير المتوحد في هذه الأمة، ولكنه لم ينجزها، وكثير منها غامض، وسنحاول في غير هذا المكان شرح غاية المؤلف من هذه الرسالة؛ لأنه أول من سار في هذا المضمار، ولم يسبقه فيه أحد.»
بيد أن رسالة ابن الصائغ لا أثر لها، وليس في مؤلفات ابن رشد إنجاز لما وعد من الكلام عليها، والفضل فيما تعلمه منها راجع إلى أحد فلاسفة اليهود في القرن الرابع عشر وهو موسى الزبوني شارح رسالة حي بن يقظان.
ويظهر أن غاية ابن باجه من رسالة تدبير المتوحد أن يثبت قدرة الإنسان المتوحد المنتفع بحسنات الحياة البعيد عن مفاسدها على الاتصال بالعقل الفعَّال بمجرد نمو قواه الفكرية، ولكن ابن باجه لا يوصي بالخلوة أو الوحدة المطلقة، إنما يرشد الإنسان المشتغل بشئون الحياة إلى سبل الوصول إلى الكمال وهو يشير إلى إمكان ذلك لرجل بمفرده أو لعدة رجال في درجة واحدة من الفكر وهم ذوو مقصد واحد، وقد يستطيع ذلك أهل بلد بأسره لو كانت حياتهم تابعة لشروط الكمال. ولم تخف على ابن باجه صعوبة هذا الأمر فأوصى المتوحد بالعيش في أغزر المدن علمًا، أي في أقرب المدن إلى الكمال وأجمعها لأهل الفضل والحكمة، وهو يسميها أفضل الدول ورسالة التدبير مقسمة إلى ثمانية فصول.
(١) ملخص رسالة تدبير المتوحد
الفصل الأول
غاية الرسالة شرح تدبير المتوحد بين أهل المدينة، فشرع المؤلف في الكلام على لفظ «تدبير» قال: إن هذا اللفظ يدل في أكبر معانيه على مجموعة من الأعمال ترمي إلى مقصد معلوم، فلا يمكن أن يستدل بها على عمل مفرد، إنما على جملة أعمال تنجز على وتيرة واحدة بناء على خطة مرسومة للوصول إلى غرض معلوم كالتدبير السياسي والتدبير الحربي، ويقال في هذا المعنى إن الله يدبر الكون لأن تدبيره جلَّ وعلا — على زعم العامة — يشبه تدبير الحكومات، وإن كان هذا التدبير في رأي الحكماء، ليس مشابهًا إلا في اللفظ دون المعنى؛ لأن تنظيم جملة من الأعمال على خطة معلومة والتفكير فيها قبل إنجازها هو من خواص البشر.
ينبغي أن يكون تدبير المتوحد على مثال تدبير الحكومة الكاملة، لذا شرع المؤلف يتكلم في التدبير السياسي، قال: ومن علامات الحكومة الكاملة أن لا يكون بها أطباء أو قضاة، فإن أهل المدينة الكاملة ليسوا في حاجة إلى المداواة؛ لأنهم لا يتناولون من الغذاء إلا ما يوافقهم، وبذا تختفي الأمراض الصادرة عن الغذاء. أما الأدواء الخارجة عن الإنسان، أي التي تصيبه بدون تفريط أو إفراط منه، فإنها تزول بذاتها. أما الاستغناء عن القضاة فلأن العلاقات بين أبناء البلد يكون أساسها المحبة فلا يقع الخلاف بين الأصدقاء. ثم إن الحكومة الكاملة كفيلة بأن يبلغ الفرد فيها أرقى ما يمكن بلوغ الفرد إليه من مراتب الكمال؛ لأن الكل يفكرون بأعدل وسائل التفكير، وينظرون إلى الأمور أدق نظر، ويطيع كل فرد ما تأمر به القوانين؛ لأن الفرد يكون عالمًا بما يجوز وما لا يجوز. كذلك تخلص الأعمال من الخطأ والهذر والختل، فتصفو الطباع وتكرم الأخلاق، بحيث لا تكون بالناس حاجة إلى طب النفوس، وهو ما لا غنى للجمهوريات الناقصة عنه مثل الأرستقراطية والأوليجارقية والديمقراطية والمونارقية.
فالمتوحدون في حكومة غير كاملة ينبغي لهم أن يعيشوا كأنهم أفراد في حكومة كاملة، فهم كالنبات الذي ينمو بذاته وبالطبيعة بين ظهراني أمثالهم، الذين هم كالنبات الذي ينمو نموًّا صناعيًّا.
يقول ابن باجه: وغايتنا من هذا الكتاب أن نشرح تدبير تلك النباتات التي ينبغي لها أن تسترشد بقواعد الجمهورية الكاملة، بحيث لا تحتاج إلى أنواع الطب الثلاثة (طب النفس وطب الخلق وطب البدن) لأن الله وحده هو شافيها، والمتوحد قد يكون فردًا أو جماعة ما لم تتبع الأمة بأسرها خطتهم وطريقهم؛ لأنهم يكونون متميزين عن البقية بالسعي إلى الكمال، وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم المتصوفون اسم الغرباء؛ لأنهم بما فطروا عليه من الفضائل وما اكتسبوه من الحكمة غرباء في أوطانهم يشذ عنهم الأهل وينأى عنهم الأصدقاء، ثم إنهم ينتقلون بفكرهم من الوسط الذي هم فيه إلى الجمهورية الكاملة التي هي لهم بمثابة الوطن والمستقر.
الفصل الثاني
شرع ابن باجه في الكلام على أعمال الإنسان، ففصل أنواعها للتمييز بين الأعمال التي تنتهي به إلى غرض، وبين الأعمال الإنسانية المحضة فقال: إن بين الإنسان والحيوان رابطة كالتي بين الحيوان والنبات والتي بين النبات والمعادن الجامدة. أما الأعمال البشرية المحضة والخاصة بالإنسان دون سواه فهي الناشئة عن الإرادة المطلقة أي عن إرادة صادرة عن التفكير لا عن غريزة ثابتة في البشر ثبوتها في الحيوان، فلو أن رجلًا كسر حجرًا لأنه جرح به فإنه يعمل عملًا حيوانيًّا، أما من يكسر حجرًا لئلا يجرح به سواه فعمله هذا يعد عملًا إنسانيًّا، ومن يأكل خيار شنبر لينقي بدنه بحيث لا يكون الطعم اللذيذ الذي يستوعبه إلَّا عارضًا إنما يأتي عملًا إنسانية بغايته، حيوانيًّا عرضًا.
وزبدة القول هي أن العمل الحيواني تدفعنا إليه الغريزة الثابتة في الروح الحيواني. أما العمل الإنساني فيدفعنا إليه الرأي أو الاعتقاد، بقطع النظر عما إذا كان الفكر مسبوقًا أو غير مسبوق في الوقت ذاته بمؤثر غريزي. وأغلب أعمال البشر الدخلة في نطاق الأنواع الأربعة التي سبق الكلام عليها مركبة من عناصر حيوانية وأخرى إنسانية، ويندر أن تكون أعمال الإنسان حيوانية على الإطلاق، إنما يغلب أن تكون إنسانية وهذا ما ينبغي للمتوحد. ومن لا يعمل إلَّا متأثرًا بالفكر والعدل بدون اكتراث للروح الحيواني فعمله جدير بأن يسمى عملًا إلهيًّا لا إنسانيًّا، وهو موضع عنايتنا في هذه الرسالة، وينبغي لمن يرمي إلى هذا المقصد أن يسمو بفضائله، بحيث إذا عزمت النفس العاقلة على إنجاز شيء انقاد إليها الروح الحيواني دون أن يخالفها، ما دام الفكر يريد ذلك، وبذلك يصل الروح الحيواني ذاته إلى فضائل الخلق؛ لأن تلك الفضائل إنما هي «إبراز الوجود للروح الحيواني».
لهذا ينبغي للمتوحد أن يتميز بالفضائل. هذه هي القاعدة الأولى لتدبير المتوحد؛ لأنه إن لم يتميز في تلك الصفات وكانت النفس الحيوانية تضع له عقبات في وقت العمل تكون هذه ناقصة وبدون غاية، وإن لم تكن كذلك يضجر المتوحد بسرعة ويجد صعوبة. وفي الواقع إنهُ من طبيعة النفس الحيوانية أن تطيع النفس العاقلة، ما عدا حال الرجل الذي ليس في حاله الطبيعية، كما هي حال الرجل ذي الطباع المتقلبة غير الثابتة، أو الرجل الذي ينقاد للغضب.
وهذا الرجل الذي تفوز لديه النفس الحيوانية على النفس العاقلة بحيث ينقاد إلى شهواته، والذي يحارب فكره ويخالفه، هذا وإن كان إنسانًا فهو يتبع الطبيعة الحيوانية ولا يعرف طريق الهدى من الضلال، أقول إن الحيوان أفضل منه لأن الحيوان يطيع طبيعته الذاتية، وفي الواقع يمكننا أن ندعو حيوانًا بالمعنى المطلق ذاك الذي يملك الفكر الإنساني الذي يمكنه من أن يحسن الفعل وهو مع ذلك لا يحسن؛ لأنه حينئذ لا يكون إنسانًا، والحيوان أرقى منه، بل هو حيوان على الإطلاق؛ لأنه مع وقوفه بذكائه على المعلومات وتمييز الخير من الشر تراه يتبع طبيعة الحيوان.
في مثل هذه الأحوال يكون العقل البشري وسيلة لزيادة الشر، أي عندما يزعم علمه بالخير تتغلب الطبيعة الحيوانية على الذكاء، ومثل الذكاء كمثل الغذاء الطيب الفاخر يعطي لبدن معتل، ويقول بقراط: «إن هذا الغذاء يزيد الداء.» إن سقوط الجماد يتم بالطبيعة والصعود يتم بمجهود، ولا شك في أن هذه الأعمال تتم للضرورة، ولا يوجد للجماد حرية القصد. ولا يمكننا أن نمتنع عنها لأن الحركة في مثل هذا العمل لا تأتي منا. كذلك العمل الحيواني في النفس الغذائي والمعيد القوي والمزيد يتم بدون قصد؛ أي إنه يتم بالطبيعة، وحيث إنه يصدر عنا ففي قوتنا أن نقف ذاتنا وأن نمتنع عنه. أما العمل الإنساني فهو يصدر على الدوام عن قوتنا وبقصد منها، ولذا في قوتنا أن نمتنع عندما نريد. وينتج من هذا أن النهايات أو العلل النهائية لا تعين ولا تحدد إلَّا بالأعمال الإنسانية.
الفصل الثالث
ثم دخل الفيلسوف في الكلام على الأعراض العقلية وأنواعها ليوضح آخر غايات المتوحد. فبدأ ببيان أعمال الرجل الإنسانية، وأنها تصدر عن القوة العاقلة، وأن هذه القوة موجودة لقصد أو لغاية، وهذه الغاية هي النوع الثاني من الأعراض العقلية.
إن كلمة «العقل» يستعملها العامة استعمال كلمة النفس، ويستعملها الفلاسفة كمترادف، وبعض الأحيان يقصدون بذلك الحرارة الطبيعية التي هي أول عناصر النفس، لأجل هذا يقول الأطباء إن الأرواح على ثلاثة أنواع: الروح الطبيعية والروح العاقلة والروح المحركة. ويقصدون بذلك النفس، لا من حيث هي نفس على الإطلاق، إنما من حيث هي قوة محركة، وفي هذا المعنى تكون كلمة عقل ونفس مترادفتان. وكلمة روح تطلق خاصة على الروح ذات الدرجة الثانية أي الروح العاقلة أو الحيوية، وبعض الأحيان هم يقصدون بكلمة روح المواد الجامدة المنفصلة التي تحرك مواد أخرى، والتي ليست أجسامًا إنما هي أعراض للأجسام. ومع ذلك فإن الفلاسفة لا يطلقون على هذه المواد كلمة روح كما هي عادة لغويي العرب، إنما يقولون غالبًا «روحاني» كلمة مركبة ومشتقة من روح كما تشتق كلمة جسماني من جسم، ونفساني من نفس. وكلما بعدت مادة عن الجسمانية كلما وجب أن تطلق عليها كلمة روحاني، لذا كان العقل الفعَّال أحق المواد بهذه التسمية وكذلك المواد التي تحرك الأجرام والدوائر الفلكية.
إن الأعراض الروحانية أربعة أنواع مختلفة: الأول الأجسام الفلكية أو النجوم، الثاني العقل العام والعقل الصادر، والثالث العقل الهيولاني أو المادي أي الأعراض المعقولة أو الأفكار العقلية القائمة بالأشياء، والرابع الأفكار التي توجد في قوى النفس أو في الذوق العادي أي في الخيال وفي الذاكرة.
أما النوع الأول فلا علاقة له على الإطلاق بالمادة. والثاني ليس في ذاته هيولانيًّا إنما له علاقة بالمادة؛ لأنه يكمل الأشكال الهيولانية كالعقل الصادر الذي يعمل الأشكال كالعقل الفعال. أما النوع الثالث فهو في علاقة مباشرة مع المادة، ويسمونه هيولانيًّا؛ لأنه يشمل الأشياء المادية المعقولة أي التي ليست روحانية بروحها، لها وجودها في المادة وخارج عن الجسمانية. وهي بعض الأشكال التي تبقى في قوة النفس العاقلة عندما تنتهي العلاقة الخاصة التي بين القوة العاقلة والشيء المفرد؛ لأنه ما دامت هذه العلاقة تبقى القوة العاقلة متأثرة بأثر جسماني تجعل العلاقة جسمانية، فلما تنتهي الجسمانية وتنتهي العلاقة وتصير القوة العقلية روحانية، لا تحفظ إلَّا العلاقة العامة أي العلاقة التي تربطها بسائر الأفراد. والنوع الرابع متوسط بين المعقولات الهيولانية وبين الأعراض المادية المحضة.
الفصل الرابع
توجد أعمال ليس لها غاية سوى الشكل البدني كالشرب والأكل واللبس والسكن، وهذه الأعمال لا غاية لها إلَّا التمتع المادي وغايتها إتمام الشكل الجسماني ولا ينبغي إهمالها.
ثم أعمال غايتها الأشكال الروحانية الخاصة، وهي تختلف باختلاف طبيعة الأشياء التي تقصد إليها نبلًا وخسة. (أ) مثل ذلك غرور بعض الناس بلبس الملابس الجميلة في الظاهر وهم يهملون الملابس الباطنية، إن اللذة التي تعود عليهم ليست شهوانية، إنما راجعة إلى حاسة باطنية فيها شيء روحاني. (ب) الأعمال الموجهة نحو العرض الروحاني الكامن في الخيال، كأن يتسلح الإنسان في غير وقت الحرب. (ﺟ) الأعمال التي غايتها التسلية والسرور، كاجتماع الأحباب والألعاب وعلاقات الرجل بالمرأة لغير التناسل والترفه في السكن واقتناء الأثاث والبلاغة والشعر. (د) الأعمال التي غايتها التكمل في العقل والفكر، كأن يدرس رجل علمًا لذاته ليكمل عقله لا ليعود عليه بنفع مادي، أو كأن يعمل عمل كرم أو شرف بدون انتظار نتيجة مقصودة أو منفعة، كل هذه الأعمال ينبغي أن تتم لذاتها، وأن لا تكون لها غاية أخرى سوى تكميل الشكل الروحاني للإنسان. ومع ذلك يوجد أشخاص يقصدون بهذه الأعمال الشهرة والمجد، ويظنون أن أعظم سعادة للرجل أن يبقى اسمه على مر الدهور، والعرب يعلقون على الذكر أهمية كبرى ويقول شاعرهم: الذكر للإنسان عمر ثان.
الأعمال التي يقصد بها الأشكال الروحانية العامة، وهي أكمل أعمال الرجل، والأعراض المقصودة هنا هي متوسطة بين الأعمال السابقة التي هي ممتزجة بالجسمانية والروحانية المطلقة، وهي الغاية النهائية لمن يبحث عن السعادة أو غاية المتوحد الكبرى.
الفصل الخامس
بعد أن قسم الأعمال الإنسانية تبعًا للأعراض المقصودة بها، أخذ الحكيم يعين غايات هذه الأعمال لكل شكل خاصة، فقال إن الأغراض على ثلاثة أقسام: أغراض متعلقة إما بالأعراض الجسمانية. وإما بالأعراض الروحانية الخاصة. وإما بالأعراض الروحانية العامة.
أما الأعمال الجسمانية المحضة التي يشترك فيها الإنسان والحيوان فلا محل لها هنا.
أما الروحانية العامة فهي تحرك الإنسان إلى الصفات الخلقية والعقلية، وإن بعض أخلاق الإنسان توجد أيضًا في الحيوان كالشجاعة في الأسد والعجب في الطاووس والتيقظ في الكلب. ولكن هذه الصفات ليست خاصة ببعض الأفراد من النوع، إنما هي صفات غريزية راكزة في كل الجنس، ولا توجد فردية إلَّا في الإنسان، فكل الكلاب يقظة ولكن اليقظين من الرجال قليل، ولذا فهي تسمى في الرجال فضائل إذا استعملها الرجل بمقدار معتدل وعلى الدوام كلما اقتضتها الحال.
أما الصفات العقلية فتكوِّن في الأعراض الروحانية الإنسانية قسمًا خاصًّا ليس له بالصفات الأخرى علاقة. فإن الأعمال العقلية والعلوم في حقيقتها كلها كمالات مطلقة تعطي للإنسان الوجود الحقيقي التام، أما العرض الروحاني الفردي فيعطي وجودًا محدود الزمن، مثل العرض الروحاني الذي ينتج عن الشهرة، فإنه ليس بينه وبين ذاك الذي يحصل عليه بواسطة الصفات العقلية مقارنة.
إن من يقتصر على الأعراض الجسمانية يضع نفسه في صفوف الحيوان، كذلك يكون إهمال الوجود الجسماني ضد الطبيعة، وهذا لا يباح إلَّا في بعض الظروف المستثناة، حيث يكون احتقار الحياة فرضًا على الإنسان مثل وجوب موت الإنسان في سبيل الدفاع عن الوطن أو الدين، ولا يمكن لأي رجل مادي أن يصل إلى السعادة، إنما لا يصل الرجل إلى السعادة إلَّا إذا كان روحانيًّا محضًا وإلهيًّا حقيقة. إن الرجل الروحاني ينبغي له أن يعمل أعمالًا جسمانية للضرورة لا لذاتها، أما الأعمال الروحانية فيعملها لذاتها، كذلك ينبغي للفيلسوف أن يعمل أعمالًا روحانية كثيرة بدون أن يكون فعلها لذاتها. أما المعقولة فهو يعملها لذاتها. فلا يتناول من الأعمال الجسمانية إلَّا ما كان أداة في مد أجله، ولن يقدم الشيء الجسماني مطلقًا على الروحاني، ولا يأخذ من أرفع درجات الروحاني إلَّا ما كان ضروريًّا للمعقول، ثم يتعلق في النهاية بالمعقول المطلق؛ لأنه بواسطة الجسماني يكون مخلوقًا إنسانيًّا، وبالروحاني يكون مخلوقًا أرفع، وبالمعقول يصير مخلوقًا ساميًا إلهيًّا.
فالفيلسوف هو بطبيعة الحال إنسانٌ سامٍ إلهيًّا، على شرط أن يختار في كل نوع من الأعمال ما كان أرفعها، وأن يختلط بأهل كل طبقة من الناس لأجل أسمى ما في كل واحد منهم من الصفات، وأن يمتاز عنهم جميعًا بأرفع الأعمال وأكثرها مجدًا. فإذا وصل إلى الغرض النهائي أي عندما يفقه العقول البسيطة في كل معانيها والمواد المنفصلة، يصير واحدًا منها ويمكن أن يسمي موجودًا إلهيًّا. فتبعد عنه صفات الجسمانية الغير الكاملة كذلك الصفات الروحانية السامية، ويجدر أن يكون له صفة الإلهي بدون أن يكون به شيء جسماني أو روحاني. كل هذه هي صفات المتوحد ابن الجمهورية الكاملة.
الفصل السادس
الأعراض الروحانية الفردية على أربعة أنواع: النوع الأول: هو العامي ومقره الحواس أو الإحساس. والنوع الثاني: في الطبيعة أو الشهوة، لأن من به ظمأ يجد في ذاته عرضًا روحانيًّا يدفعه للبحث عن الماء، ومن به جوع يجده لأجل البحث عن الغذاء، وعلى العموم كل من يشتهي مدفوع للبحث عما يشتهي بعرض روحاني، وهذا العرض الصادر عن الطبيعة لا ينصب على جسم خاص، لأن من به ظمأ لا يتطلب نوعًا خاصًّا من الماء إنما يطلب ماء ما من الجنس الذي يشتهيه. النوع الثالث: هو العرض الروحاني الذي ينشأ عن الفكر أو العرض الذي يصدر عن التأمل أو الدليل والإيضاح.
والنوع الرابع: يشمل الأعراض التي تولد بواسطة تأثير العقل الفعَّال بدون تعضيد الفكر أو الدليل، وفي هذا النوع يدخل الوحي النبوي، والأحلام الصادقة التي هي صادقة بالضرورة، وليست صادقة بالمصادفة. والنوعان الأولان مشتركان بين الإنسان والحيوان، والأعراض الضرورية للحيوان لكماله الطبيعي تعطيها الطبيعة لكل الحيوانات، ولكن توجد أعراض تعطيها الطبيعة تكرمًا ولا توجد إلا في بعض الحيوانات. وهذه الحال قاصرة على الحيوانات التي ليس لها دم كالنحل والنمل. والنوعان الأخيران من الأعراض الروحانية خاصان بالإنسان، وهما وسط بين الأعراض الروحانية الفردية والأعراض المعقولة؛ لأنهما ليسا أعراضًا فردية لأجل الأجسام، ولا أعراضًا روحانية فردية كالأعراض الحساسة، وليسا خالصين عن المادة بالمرة حتى يصح وصفهما بالعموم كالأعراض المعقولة، ومن الممكن للمراقب أن يعرف من حدة النظر درجة الروحانية والذكاء التي وصل إليها الإنسان.
الفصل السابع
لا ينبغي للمتوحد أن يعمل لأجل الأعراض الروحانية لذاتها؛ لأنها ليست نهايته وإن كانت وسيلة للوصول إلى الغاية القصوى، وينبغي له أن لا يخالط الذين لا يملكون إلا تلك الأعراض الروحانية؛ لأنهم قد يتركون في نفسه آثارًا تعوقه عن الوصول إلى السعادة الأبدية.
ولنفترض الآن أن رجلًا فاضلًا بالمرة كالمهدي وآخر فاجرًا كأبي دلامة، كل واحد منهما يملك العرض الخاص بالآخر، وكل عرض روحاني محرك للجسم الذي يوجد العرض بهِ. فعرض أبي دلامة يحمل المهدي على السرور والهذر تبعًا لإدراك الأول للرذائل، وعرض المهدي يحمل أبا دلامة على التواضع والحياءِ؛ لأن أبا دلامة يذل بإدراك الطبيعة السامية التي هي طبيعة المهدي وبعرضها الشريف، ومن المحقق أن التواضع والحياء هما من الصفات التي هي أرقى من الخفة والباطل، فحينئذ بعرض الرجل الراقي أي بإدراك هذا العرض يمكن للرجل المنحط أن يشرف ويرتقي، وكذلك بعرض الرجل المنحط يمكن سقوط الرجل الراقي. فينبغي علينا والأمر كذلك أن نتوحد وبهذه الوسيلة ينقي أخس الناس نفسه ويعلن عن مجد الرجل السامي والسامي يخلص من التأثير الذي يمكن أن يتلقاه من الخسيس ولا يفكر إلَّا في الوحدة، وكذلك يجد كل واحد من كان قريبًا منه إلى جانبه. وهكذا المتوحد سيبقى نقيًّا من الاختلاط بالناس؛ لأن من واجبه أن لا يرتبط بالرجل المادي ولا بالرجل الذي ليس له غاية إلَّا الروحاني المطلق. وواجبه أن يرتبط بأهل العلم، وحيث إن أهل العلم لا يوجدون في كل مكان فينبغي للمتوحد أن يبتعد عن الناس على قدر الإمكان، وأن لا يمتزج بهم إلَّا لأجل الضروريات. ينبغي له أن يبتعد عنهم لأنهم ليسوا من جنسه، فلا يختلط بهم ولا يسمع لغطهم؛ لأجل أن لا يحتاج لتكذيب أكاذيبهم، وأن لا يقضي وقته في بغضهم وفي الحكم عليهم وهم أعداءُ الله. والأفضل للمتوحد أن لا يقضي وقته في الحكم على الناس الذين يعيش بينهم، إنما يعطي نفسه لتعليمه الإلهي، وأن يلقي بعيدًا عنه ذلك العبء الثقيل، وأن يكمل نفسه، وأن يضيء لمن حوله كالنور، وفي السر يعطي نفسه لتعلم علم الخالق كما لو كان ذلك أمرًا معيبًا، وبذلك يكمل نفسه في العلم وفي الدين الذي يرتضيه له، أو يذهب إلى الأماكن التي يوجد فيها العلماء، فيرتبط بهم وبالمتقدمين في السن الممتازين بذكائهم وعلمهم وصدق حكمهم وبفضائلهم العقلية، وأن يجتنب الشبان القليلي الخبرة، وإن ما نقوله هنا لا يناقض العلوم السياسية التي تقول بأن مجانبة الناس خطأ، ولا العلوم الطبيعية التي تقول بأن الإنسان مدني بالطبع؛ لأن هذين المبدأين صحيحان نظريًّا حال تملك الرجال كمالاتهم الطبيعية، ولكن قد يحدث أن يكون الخير في الابتعاد عن المجتمع، فإن اللحوم والنبيذ أغذية نافعة للإنسان، كما أن الأفيون والحنظل قاتلان، ومع ذلك فإنه يحدث أن هذين الأخيرين يكونان في بعض الأحيان نافعين والغذاء العادي الطبيعي قد يحدث أن يكون قاتلًا. ولكن هذا نادر ولا يحدث إلَّا مصادفة، وهذا أيضًا ينطبق على تدبير النفوس.
الفصل الثامن
إن غاية المتوحد النهائية هي في الأعراض المعقولة والأعمال التي تؤدي إليها كلها في حيز العقل، ولا يصل المتوحد إلى تلك الأعراض إلَّا بالتأمل والدرس، وهذه الأعراض لها في ذاتها تأكيد لوجودها، وهي بعبارة أخرى أفكار الأفكار وأرقاها العقل المكتسب الصادر عن العقل الفعَّال، الذي بواسطته يتوصل الإنسان لأن يفهم ذاته كموجود عقلي.
ثم أسهب ابن باجه في الكلام على العقل المكتسب وطريقة الوصول إلى فهم ذاته، ثم قال: «إن العقل الفعَّال لا ينقسم أي لا يتجزأ، وحيث إن الأعراض الخاصة به جميعًا ليست فيه إلَّا واحدة أو على الأقل كل أرواحها هي أشياء لا تتجزأ؛ أي إن كل عرض خاص يوجد فيه؛ أي في العقل الفعَّال كوحدة، فعلم هذا العقل المنفصل كذلك واحد، وإن كانت أغراضه متعددة كتعدد الأنواع. وإذا كانت الأعراض التي تصدر عنه متعددة، فما ذلك إلَّا لأنها تظهر في مواد مختلفة. وفي الواقع إن الأعراض الموجودة في بعض المواد هي في العقل الفعَّال عرض واحد، وليس المقصود من ذلك أنها كانت بالمعنى بعد أن كانت في المواد كما يحدث هذا لأجل العقل في الفعل. وليس هناك ما يعوق العقل في الفعل عن عمل مجهود لتقريب هذه الأعراض المنفصلة منه إلى أن يصل إلى الإدراك المعقول أو العقل المكتسب، لأجل هذا كان الإنسان بروحه أقرب الموجودات للعقل الفعَّال، وليس هناك ما يعوق العقل المكتسب عن أن يعطي ما تعطيه العقول الأخرى؛ أي الحركة لأجل أن يتأمل في ذاته. وعند ذلك يصل إلى الإدراك المعقول الحقيقي؛ أي إحساس المخلوق الذي بطبيعته هو عقل يعمل بدون أن يحتاج حالًا أو سابقًا إلى شيء يخرجه من حالة القوة. هذا هو إدراك العقل المنفصل أي العقل الفعَّال كما يدرك ذاته، وهذا هو آخر الحركات.»
ويرى القارئ مما تقدم أن ابن باجه لا يوضح بجلاء الطريق التي تتم بها تلك الحركة العظمى، وكيف يتم الاتصال بين العقل الإنساني والعقل الفعَّال العام، وقد رأينا في رسالة الوداع أنهُ مضطر إلى إدخال قوة فوق الطبيعة لإتمام هذا الاتصال، ثم لنذكر أن الكتاب الذي فرغنا من تلخيصه قد وجده ابن رشد غامضًا، وقد وضعهُ ابن طفيل بين الكتب التي لم يتمها ابن باجه ووصفها بأنها مجزومة من أواخرها. ولكن الذي تهمنا معرفته هو أن ابن باجه أعطى للفلسفة العربية في الأندلس حركة ضد الميول التصوفية التي ابتدعها الغزالي وقال ابن باجه: إن العلم النظري وحده قادر على الوصول بالإنسان إلى فهم ذاته وفهم العقل الفعَّال، كما أوضح ذلك في رسالة الوداع وكما علمنا ابن طفيل، وبذا اختط السبيل الذي سار عليه ابن رشد.
(٢) إيضاح لفلسفة ابن باجه
(٢-١) تحريف اسمه واضطهاده
على أن حياته مع قصرها كانت مثالًا لحياة الفيلسوف، فقد بلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام وقصدوا هلاكه مرات، ولكنه نجا من بطشهم. وكان هذا الاضطهاد بسبب فكره وما نسبوه إليه من الخروج عن حدود العقائد الدينية، فكان سابقًا لابن رشد في تلك المحن التي سببتها جهالة السوقة والمتنطعين.
(٢-٢) تلاميذه ومكان قبره
كان من جملة تلاميذ أبي بكر محمد بن يحيى بن الصائغ القاضي؛ أبو الوليد محمد بن رشد، ومن جملتهم أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام الغرناطي، وكان كاتبًا فاضلًا متميزًا في العلوم والآداب، وقد صحب أستاذه ابن باجه مدة ودرس معه واشتغل عليه وحضر وفاة ابن باجه ودفنه في فاس سنة ٥٣٣ﻫ. وعندنا شهادة القاضي أبي مروان الأشبيلي بأنه رأى قبر ابن باجه بمدينة فاس بجوار قبر أبي بكر ابن العربي الفقيه. أما أبو الحسن علي تلميذ ابن باجه فقد نزح عن المغرب وتوفي بقوص بصعيد مصر في النصف الثاني من القرن السادس للهجرة.
(٢-٣) أحد تلاميذه يصف علمه وذكاءه
هذا مجموع ما قيد من أقوال أبي بكر بن الصائغ رحمه الله في العلوم الفلسفية. وكان في ثقابة الذهن ولطف الغوص على تلك المعاني الجليلة الشريفة الدقيقة أعجوبة دهره ونادرة الفلك في زمانه، فإن هذه الكتب الفلسفية كانت متداولة بالأندلس من عهد «الحكم»، وهو الخليفة الذي استجلبها وهو مستجلب غرائب ما صنف بالمشرق. ونقل من كتب الأوائل وغيرها (نضر الله وجهه)، وتردد النظر في تلك الكتب فما انتهج فيها الناظر قبل ابن باجه سبيلًا. وما تقيد عن الناظرين في تلك الكتب قبل ابن باجه إلا ضلالات وتبديل كما تبدد عن ابن حزم الأشبيلي. وكان من أجل نظار زمانه وأكثرهم لمن تقدم على إثبات شيء من خواطره، وكان أحسن منه نظرًا واثقب لنفسه تمييزًا.
وإنما انتهجت سبل النظر في هذه العلوم بهذا الحبر وبمالك بن وهيب الأشبيلي، فإنهما كانا متعاصرين، غير أن مالكًا لم يقيد عنه إلا قليل نزر في أول الصناعة الذهنية (المعقولات)، ثم أضرب الرجل عن النظر ظاهرًا في هذه العلوم وعن التكلم فيها لما لحقه من المطالبات في دمه لسببها، ولقصده الغلبة في جميع محاوراته في فوز المعارف.
وظاهر من هذه النبذة أن المطالبات في دم ابن وهيب الأشبيلي (الاضطهادات) لم تكن بسبب اشتغاله بهذه العلوم العقلية والفلسفية فقط، بل كانت بسبب خلقه؛ فقد كان يقصد الغلبة في جميع محاوراته في فوز المعارف، وربما كان هذا السبب الثاني أدعى إلى الاضطهاد وإلى غيظ العوام منه وحملتهم عليه. على أن ابن وهيب لم يكن فيلسوفًا بحق؛ وذلك لأنه لم تكن تلوح على أقواله ضياء هذه المعارف الفلسفية ولا قيد فيها باطنًا شيئًا عثر عليه بعد موته. ثم إن ابن وهيب أعرض عن الفلسفة وأقبل على العلوم الشرعية فظهر فيها.
أما ابن باجه فقد نهضت به فطرته الفائقة، ولم يهجر النظر والاستنتاج والتقييد لكل ما ارتسمت حقيقته في نفسه على أطوار أحواله وكيفما تصرف به زمنه.
(٢-٤) العلوم التي أتقنها ابن باجه
لقد أثبت ابن باجه في الصناعة الذهنية (المعقولات) وفي أجزاء العلم الطبيعي ما يدل على حصول هاتين الصناعتين في نفسه، صورة ينطق عنها ويفصل ويركب فيها فعل المستولي على أمرها والمتمكن منها غاية التمكن.
وله تعاليق في الهندسة وعلم الهيئة تدل على براعته في هذا الفن.
وأما العلم الإلهي فلم يوجد في تعاليقه شيء مخصوص به اختصاصًا تامًّا، إلا نزعات تستقرأ وتستنتج من قوله في رسالة الوداع التي سبق ذكرها واتصال الإنسان بالعقل الفعال وإشارات مبعثرة في أثناء أقاويله، لكنها في غاية القوة والدلالة على نزوعه في ذلك العلم الشريف الذي هو غاية العلوم ومنتهاها، وكل ما قبله من المعارف فهو من أجله وتوطئة له، ومن المستحيل أن ينزع في التوطئات وتنفصل له أنواع الوجود على كمالها، ويكون مقصرًا في العلم الذي هو الغاية وإليه كان التشوق بالطبع لكل ذي فطرة بارعة، وذي موهبة إلهية ترقيه عن أهل عصره وتخرجه من الظلمات إلى النور كما كان ابن باجه رحمه الله.
(٢-٥) المقارنة بينه وبين أكابر فلاسفة المشرق
وقد وردت في صدر المجموع الذي نقله أبو الحسن علي بن عبد العزيز أقوال لابن باجه في الغاية الإنسانية على نهاية من الإيجاز، ولكنها تعرب عما سبقت الإشارة إليه من سعة إدراك ابن باجه في العلم الإلهي وفيما قبله من العلوم الموطئة، ويظن المؤرخون أن ابن باجه قد دوَّن وعلق في العلم الإلهي ما لم يعثروا عليه. ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم؛ فإنه إذا قرنت أقاويله فيها وعورضت بأقاويل ابن سينا والغزالي — وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم ودونا فيها — بان لك الرجحان في أقاويل ابن باجه وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو والثلاثة أئمة دون ريب، وقد أتوا بما جاء به من قبلهم من بارع الحكمة عن يقين تمتاز به أقاويلهم ويتواردون فيها مع السلف الكريم.
(٢-٦) بيان المؤلفات ابن باجه
-
(١)
شرح كتاب السماع الطبيعي لأرسطوطاليس.
-
(٢)
قول على بعض كتاب الآثار العلوية لأرسطوطاليس.
-
(٣)
قول على بعض كتاب الكون والفساد لأرسطوطاليس.
-
(٤)
قول على بعض المقالات الأخيرة من كتاب الحيوان لأرسطوطاليس.
-
(٥)
كلام على بعض كتاب النبات لأرسطوطاليس.
-
(٦)
قول ذكر فيه التشوق الطبيعي وماهيته.
-
(٧)
رسالة الوداع وقول يتلوها.
-
(٨)
كتاب اتصال العقل بالإنسان.
-
(٩)
كتاب تدبير المتوحد.
-
(١٠)
تعاليق على كتاب أبي نصر في الصناعة الذهنية.
-
(١١)
فصول قليلة fratgments في السياسة المدنية وكيفية المدن وحال المتوحد فيها.
-
(١٢)
كلام في الأمور التي بها يمكن الوقوف على العقل الفعال.
-
(١٣)
نبذ يسيرة على الهندسة والهيئة.
-
(١٤)
رسالة كتب بها إلى صديقه أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسداي (بعد قدومه إلى مصر).
-
(١٥)
تعاليق حكمية وجدت متفرقة.
-
(١٦)
جوابه لما سئل عن هندسة ابن سيد المهندس وطرقه.
-
(١٧)
كلام على شيء من كتاب الأدوية المفردة لجالنيوس.
-
(١٨)
كتاب التجربتين على أدوية ابن وافد وقد اشترك معه في تأليفه أبو الحسن سفيان.
-
(١٩)
كتاب اختصار الحاوي للرازي.
-
(٢٠)
كلام في الغاية الإنسانية.
-
(٢١)
كلام في الأمور التي بها يمكن الوقوف على العقل الفعال.
-
(٢٢)
كلام في الاسم والمسمى.
-
(٢٣)
كلام في البرهان.
-
(٢٤)
كلام في الاسطقسات.
-
(٢٥)
كلام في الفحص عن النفس النزوعية وكيف هي ولم تنزع وبماذا تنزع.
-
(٢٦)
كلام في المزاج بما هو طبي.
- (١)
مجموعة في الفلسفة والطب والطبيعيات ومنها نسخة في برلين وأخرى في أكسفورد.
- (٢)
رسالة الوداع مفسرة بالعبرانية.