ابن رشد
(١) كلمة افتتاح
يعجب بعض الناس للمشتغلين بدرس آراء الأقدمين. وبحث مناهج المتقدمين، والوقوف على أخبارهم، والأخذ بالصحيح من تراجمهم، وسبب هذا العجب ظنهم أن كل قديم قد عفت آثاره، وانقطعت علاقته بهذا الزمن وأهله، فلا فائدة في تضييع العمر في التحري عن العتيق ما دامت الحاجة بالجديد ماسة والنفع به مؤكدًا، وجوابنا على هذا هو: أن البحث في القديم ضروري لمعرفة الجديد وتفهمه. وأن حياة الفكر الإنساني منذ فجر الإدراك إلى آخر الدهر (إن كان لهذا الدهر آخر) سلسلة واحدة متصل أولها بوسطها ووسطها بآخرها. وقد يكون آخرها كأولها!
لأجل هذا اتجه نظرنا إلى درس فلاسفة العرب؛ لأنهم عنوا أشد عناية بفلسفة اليونان، وتفرغوا لها، ونقلوها إلى لغتهم، وشرحوها وفسروها، وعلقوا عليها ووضحوا غامضها وأبانوا مبهمها.
وقد وصلنا لدرس حياة ابن رشد وفلسفته وهو من أكبر وجوه التاريخ. وله ثلاث ميزات ليست لغيره من فلاسفة الإسلام: الأولى أن أكبر فلاسفة العرب وأشهر فلاسفة الإسلام. والثانية أنه من أعظم حكماء القرون الوسطى عامة، وهو مؤسس مذهب الفكر الحر، فكان له قدر عظيم في نظر أهل أوروبا، فجعلوه في مصاف فلاسفتهم المعادين للعقائد الدينية، ولم يبخل عليه ميخائيل أنجلو بمكان في جحيمه الخيالي الذي صوره في سقف معبد سيكتين بالفاتيكان، لا باعتباره مسلمًا بل بوصف كونه فيلسوفًا معطلًا، كذلك ذكره دانتي في قصيدته في النشد الثالث، كما أنه لا يخلو كتاب فلسفي من ذكره وشرح مبدئه.
الميزة الثالثة أنه أندلسي. وللأندلس بذاتها وآفاقها وتاريخها وآثارها مكانة خاصة في تاريخ العالم، دع عنك ما تستنتجه من قوة تأثير الوسط في عقل شرقي النزعة والعقيدة غربي النشوء والمنبت.
كان الفلاسفة في الأزمنة السالفة لا يستطيعون الحياة والظهور إلا إذا عاشوا في ظلال الأمراء والملوك؛ لأن الفلسفة لا تطعم خادمها ولا تكسوه ولا تجري عليه رزقًا، وإن كان هو ينفق في خدمتها عمره وماله ويفقد في سبيلها حياته وولده وحريته، فلم يكن لمحب الحكمة بد من أن يلتمس العيش في أكناف أحد الملوك يؤلف الكتب ويُهديها إليه ويحليها باسمه.
ثم إن الفلاسفة كانوا ولا يزالون موضع ارتياب العامة، وحسد الخاصة، فالعامة ينظرون إليهم بعين الشدة ويسيئون بهم الظنون، ويتقولون عليهم، وينسبون إليهم أمورًا إن صدق بعضها فمعظمها مختلق أو مبالغ فيه، أما الخاصة ممن لم يبلغوا شأوهم، فإما يغارون منهم وإما يحسدونهم على نعمة الحكمة التي هي نقمة على الفلاسفة أنفسهم، لأجل هذا كانت حاجة الفيلسوف إلى أمير يلجأ إليه كحاجة الغرباء في بلاد الشرق إلى الاحتماء بسفراء الدول الأجنبية.
ولا عجب فإن الفيلسوف غريب في وطنه أجنبي بين قربائه وأهله، على أن الالتجاء إلى الأمراء والاحتماء بهم لم يكن منقذًا في كال حال، فقديمًا كانت علاقة الفلاسفة بالأمراء سبب نكبتهم ومصدر بلواهم وشقوتهم، وما هذا إلا لتقلب الأمراء في الود وسهولة انقيادهم للقوي من الزعماء أو اضطرارهم لمجاراة تيار الفكر الشائع، وطاعتهم صوت الخلق وقول الجماعة، حتى ولو كان هذا وذاك على خلاف ما يرغبون وعكس ما يضمرون، وهذا الذي وقع لابن رشد في محنته الأليمة.
أما أحوال هذا الزمن فقد تغيرت وتبدلت وأصبح الفيلسوف في الغرب قادرًا على العيش في كنف الحكمة دون الالتجاء إلى نفوذ الملوك وظلال الأمراء، بل أصبح الفيلسوف بقوة عبقريته أميرًا على العقول، يخضع له الناس في مشارق الأرض ومغاربها بفضل ما وصلت إليه الإنسانية من الحرية المحدودة، وأصبح صوت الفيلسوف إذا أرسله يهز عروض القياصرة ويزعزع من قوائمها، وليس العهد بعيدًا بآثار ليو تولستوي في نهضة شعب روسيا، فطالما كتب أسطرًا في صحيفة سيارة هلعت لها قلوب الذين استعبدوا الأمم واستباحوا ظلمها، واستندوا في استبقاء سلطتهم إلى الجهَّال والمشعوذين وأرباب المطامع النازلة والمقاصد الوضيعة، وهاهم قد دالت دولتهم ومحي من الوجود ذكرهم ودولة العقل والفكر باقية.
كذلك من يذكر اسم أوجست كومت وهربرت سبنسر وشوبنهور، يذكر أعلامًا مضيئة استنارت بها الإنسانية، والتفَّت حولها الأمم مستنجدة بها في دياجي الحيرة.
حقًّا إن اضطهاد الفيلسوف وتعذيبه في سبيل فكره والتنكيل به لشذوذه واعتزاله، تلك أمور لا تزال مشاهدة في بعض الأوساط والأماكن لعهدنا هذا.
ولكن أين الشرارة الصغيرة من النار العظيمة المتأججة وأين اللوم والتقريع في جريدة أو مجلة من الحكم بالإعدام شنقًا أو إحراقًا فضلًا عن النفي والتعذيب، كذلك لا ننسى أن الإنسانية لا تزال في أدوارها الأولى على الرغم من التبجح ببلوغها سن الرشد.
(٢) تاريخ ابن رشد وفلسفته
- اسمه وكنيته: محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ويكنى أبا الوليد، وهي كنية انتحلها أجداده من قبله فلزمته.
- مولده: ولد عام ٥٢٠ﻫ/١١٢٦م. وقيل ولد قبل وفاة جده بأشهر.
- وفاته: عام ٥٩٥ﻫ في مساء الخميس ٩ صفر الموافق ١٠ دجنبر ١١٩٨.
- حياته: عمِّر اثنتين وسبعين سنة شمسية أو خمسًا وسبعين سنة هلالية تمتد طوال القرن الثاني عشر المسيحي، والقرن السادس الإسلامي.
- مكان ولادته: قرطبة بالأندلس.
- مكانه وفاته: مراكش.
-
أسرته: نشأ في بيت فقهاء وقضاة، وكانت أسرته من أكبر الأسر وأشهرها في الأندلس،
وأباؤه من أئمة المذهب المالكي، وكان هو وأبوه وجده قضاة قرطبة، وانفرد
حينًا بقضاء أشبيلية.
كان جده محمد بن رشد من أهل العلم والفقه، وكانت له مباحث فلسفية وشرعية وله مجموعة فتاوى رتبها ونقحها أحد مريديه وأتباعه، ابن الورَّان، إمام مسجد قرطبة لعهده (وهي بمكتبة باريس الوطنية تحت عدد ٣٩٨ ملحقات عربية).
ولا ريب في أن أبا الوليد ورث كثيرًا من مواهب جده واستعداده الفكري.
أما والده فلا يمتاز إلَّا بمنصب القضاء، وليس له بين أيدينا أثر معروف، ولكن رجلًا كأحمد بن محمد بن رشد يكفيه فخرًا أن كان ابنًا لأبيه ووالدًا لولده، فله نصيب عظيم في تربية ابنه وتهذيبه وتوجيه مواهبه.
هذا فيما يتعلق بالنسب من جهة الوالد، أما من جهة الأم فليس لدينا معلومات يُركن إليها، وهذه حال معظم مشاهير الإسلام؛ لأن النساء بحكم الآداب الدينية والعرفية لا يذكرن ولا يكون لأشخاصهن شأن يعرف في تربية أولادهن، ولعل هذا الحال هي التي حدت ابن رشد إلى مناصرة النساء والمطالبة بتحريرهن، وقد رأى بعينه الفرق بين حياة الإسبانية المسيحية والأندلسية المسلمة.
(٣) علاقته باليهود
ذكر المؤرخون عند الكلام على نكبته أنه عوقب بالنفي في «اليسانة»، وهي بلد صغير كان آهلًا باليهود. وأنه نفي إليه وحده، أما بقية أصحابه وتلاميذه فأمروا أن يكونوا في موضع آخر، وربما كان نفيه إليه نوعًا من النكاية وزيادة في التنكيل؛ لأن الخليفة المنصور الذي نفاه كان يبغض اليهود ويضطهدهم، ولكن بعض أعداء ابن رشد انتهزوا فرصة غضب الأمير عليه ونفيه إلى ذلك البلد، وأشاعوا أن المنصور قد رد الفيلسوف إلى أصله ونفاه في بلد قومه لأنه يُنسب في بني إسرائيل ولا تعرف له نسبة في قبائل الأندلس!
ويجدر بالذكر أن ابن رشد كان ذا شأن عظيم في نظر اليهود، وأن كثيرين من فلاسفتهم أمثال ميمونيد وغيره نقلوا مؤلفاته إلى اللغة العبرية، ومنها نقلت إلى اللاتينية والعربية، والفضل يرجع إليهم في الاحتفاظ بتلك المؤلفات إلى أن بلغت أبناء الأجيال الحديثة. فهل جاءت تلك الحوادث عفوًا ومصادفة أم كان لها سبب خفي قوي وهو صحة انتساب ابن رشد إلى بني إسرائيل وتسلسل جده من أهل تلك الملة؟ أما نحن فنحسبها مصادفة.
(٤) نشأته وتربيته
درس ابن الرشد الشريعة الإسلامية على طريقة الأشعرية، وتخرج في الفقه على مذهب الإمام مالك، ولهذا يوجد شبه بين آرائه الشرعية والفقهية وبين ميوله الفلسفية، أما الطريقة الأشعرية فقد اختارها أهله وأولياؤه، والمذهب الشرعي يلزم باتباعه على ما كان أبوه، أما المبدأ الفلسفي الذي خدمه فهو الذي اختطه لنفسه بإرادة حرة، وقد يكون للطريقة التي درس بها الفقه والمذهب الذي تبعه أثر في أفكاره الفلسفية لا يمكن تحديده.
وسيرى القارئ فيما يلي أنه تصدي في كثير من كتبه للطعن على الأشعرية وانتقاد طرقهم ومبادئهم انتقادًا مرًّا، وذلك بعد أن اتسع نطاق فكره وامتدت أشعة بصيرته إلى أبعد مدى، فانتصر المنطق الصحيح والرأي الراجح على الفروض الوهمية والتخمين الخيالي.
(٥) تاريخ حياته
لما بلغ ابن رشد الثامنة والعشرين من عمره سافر إلى مراكش، وقصد إلى بلاط الخليفة عبد المؤمن ثاني أمراء الموحدين، ولما توفي عبد المؤمن وخلفه ولده يوسف تفضل ابن طفيل الفيلسوف الشهير فقدم ابن رشد لعظمته، وكان يوسف يحب العلم والعلماء ويعظم الحكمة ويكرم الحكماء، وكانت لابن طفيل عنده حظوة كبرى، وروى عبد الواحد المراكشي عن ابن رشد نفسه وصْف المقابلة الأولى بين الحكيم والأمير، وفيها أن ابن طفيل أسرَّ إلى ابن رشد رغبة الخليفة يوسف في نقل حكمة أرسطو. ولعله كان يرمي بذلك لأن يكون في الغرب كما كان المأمون في الشرق.
ويظهر أن ابن طفيل كان من أكرم الناس خلقًا وأوسعهم صدرًا وأخلصهم حبًّا للحكمة، فإنه شمل ابن رشد بعطفه، فذكره في رسالة «حي بن يقظان» تلميحًا عند ذكر ابن باجه وأتباعه ومن خلفهم من الفلاسفة، فضلًا عن أنه قدمه ليوسف وأوصاه به، فلما توفي ابن طفيل عينه الأمير طبيبًا لنفسه. ولما خلا منصب القضاء في قرطبة عينه مكان أبيه، ولما توفي يوسف وخلفه ولده يعقوب المنصور بالله كانت حظوة ابن رشد عنده عظيمة، فقربه ورفع الكلفة بينهما إلى درجة أن ابن رشد كان يخاطبه أثناء الحديث قائلًا: اسمع يا أخي!
ولما كانت صداقة الملوك أسرع تقلبًا من الجو، وأقصر عمرًا من لذيذ الرؤى، وأقرب إلى الفناء من أزهار الربيع؛ فقد انقلب يعقوب على ابن رشد في حديثه طويل. أما سبب النكبة فمختلف فيه، وقد عللها المؤرخون بعلل شتى، ولكن السبب الحقيقي واحد، وهو أن كل حكيم ذي مكانة يكثر أعداؤه وحساده الذين يغارون من شهرته وينقمون عليه علو كعبه وترفعه، وهؤلاء الحساد والمقاومون يظهرون تارة باسم الدين، وطورًا باسم الأخلاق والفضيلة، وتارة باسم السياسة. والحقيقة أنهم أعداء شخصيون للرجل العظيم.
وكل ما حدث في نكبة ابن رشد أن أعداءه لبسوا ثياب الدين، ودسوا عليه دسيسة في بلاط الخليفة ونجحوا فيها، فتمكنوا بها من التغلب على حزب الفلاسفة الذي كان سائدًا مسموع الكلمة لدى الخليفة بفضل ابن رشد، ومما يؤيد هذا الرأي أن ابن رشد لم يكن وحيدًا في الإهانة والأذى والنفي والاعتقال، بل كان معه كثير من أتباعه وأمثاله العلماء، وكان ذنبهم في نظر الخليفة وحزبه انقطاعهم للفلسفة ودرس كتب الأقدمين.
والمحنة في ذاتها تقع في كل زمان ومكان، وتاريخ العالم حافل بفظائع الاضطهاد والتنكيل، وتاريخ أوروبا مملوء بوقائع التعصب والاضطهاد، وإلحاق الأذى بالعلماء والمصلحين الدينيين والمخترعين والمكتشفين.
على أن الخليفة بعد أن أطاع مشير السوء عاد فندم على ما فرط منه في حق الحكمة والحكماء، فرجع إلى مراكش ونسخ المنشور الذي أذاعه في حق ابن رشد وصحبه، ومحا أثره واشتغل بالفلسفة واسترضى ابن رشد ورفاقه، ودعاهم إلى حضرته وقربهم من حظيرته، وقدمهم واستمع لهم وأطاع رأيهم، ونبذ حزب التعصب والجهل الذي كان سببًا في نكبتهم.
غير أن حياة ابن رشد لم تطل بعد محنته عامًا، فلما توفي نقل رفاته إلى قرطبة ودفن في مدفن أجداده بمقبرة ابن عباس. ويروى أن جثته نقلت على بعير، وأصدق الأخبار عن وفاته أنه توفي بمراكش يوم الخميس التاسع من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة، قبل وفاة المنصور الذي نكبه بشهر أو نحوه ودفن بخارجها، ثم سيق إلى قرطبة فدفن بها مع سلفه. وذكر ابن فرقد أنه توفي بعد النكبة الحادثة عليه المشتهرة الذكر ودفن بجبانة باب تاغزوت خارج مراكش ثلاثة أشهر، وذلك في أول دولة الناصر.
(٦) أساتذته
روى عن أبيه أبي القاسم واستظهر عليه الموطأ حفظًا، وأخذ يسيرًا عن أبي القاسم ابن بشكوال وعن أبي مروان بن مسرة، وعن أبي بكر بن سمحون وعن أبي جعفر ابن عبد العزيز، وأجاز له أبو جعفر هذا وأبو عبد الله المازري الطب عن أبي مروان ابن جربول البلنسي، واشتغل على الفقيه الحافظ أبي محمد بن رزق، واشتغل بالتعاليم وبالطب على أبي جعفر هرون، ولازمه مدة وأخذ عنه كثيرًا من العلوم الحكمية.
(٧) الرجال الذين تعلم عليهم والعلوم التي درسها
الفقه: تلقاه على أئمة عهده. الطب: على أبي جعفر هرون. الفلسفة: قيل إنه تلقى علوم الحكمة على ابن باجه، ولكن هذا قول ضعيف؛ لأن وفاة ابن باجه توافق بلوغ ابن رشد الثانية عشرة من عمره، فقد ولد ابن رشد في سنة ١١٢٦ وتوفي ابن باجه في سنة ١١٣٨، وهذه سن لا تسمح بتلقي علوم الفلسفة، قد يكون ابن رشد من النوابغ الذين تظهر نجابتهم في العقد الأول من أعمارهم، وقد يكون حظي بالتلقي عن ابن باجه، ولكن هذا في مجال الافتراض والظنون، والمؤكد أن ابن باجه كان يختلف حتمًا إلى بيت ابن رشد زائرًا، فلا يبعد أن يكون قد حادث الصبي وناقشه أو استمع له نبذة محفوظة أو قصيدة مروية، فصارت هذه الحادثة وما يكون تكرر من نوعها سببًا لانتساب ابن رشد إليه.
ولعل الذي دعا بعض المؤرخين كابن أبي أصيبعة إلى هذا القول تسلسل مذهب ابن رشد من مذهب ابن باجه، على أن هذا التسلسل طبيعي لأسباب كثيرة، أهمها اتجاه الفكر في الأندلس وفي العالم في القرن الثاني عشر وتأثير الوسط والمبادئ، وكانت تربطه بابن طفيل أواصر المودة، وهو الذي فتح له سبل التقدم في بلاط الخليفة، وكانت بينه وبين آل زهر الذين اشتهروا بالعلم والفضل والأدب في الأندلس في القرن السادس للهجرة؛ مودة عظيمة، ومنهم أبو بكر بن زهر طبيب الخليفة وأبو مروان بن زهر مؤلف كتاب «التيسير»، وكانا من أوفى أصدقائه، ومنهم أبو بكر ابن العربي الفقيه صاحب التصانيف. وبالجملة كان ابن رشد مختلطًا بأشهر وأعلم وأفضل أهل عصره.
ومن غرائب المصادفات أن ابن بيطار وعبد الملك بن زهر ماتا وابن رشد في سنة واحدة، وكان قد سبقهم إلى دار الفناء ابن طفيل وأبو مروان بن زهر، وقد توفيت الحكمة في أرض أندلس بوفاة هؤلاء العظماء الذين كانوا كالنقش الجميل، إطاره تلك البقعة المباركة، أشرقت شموسهم في بداية القرن السادس الهجري وغابت بنهايته وهكذا عمر الحكمة كعمر زهر البنفسج يتنفس من الربيع ثم لا يلبث أن يذبل، ولكنه محبوب لعطره ومعزز لأنه رمز الأمل الذي لا يموت! فمن آثار هؤلاء الحكماء نستفيد، ومن بحر فضلهم نغترف، ومن إرثهم المقدس الذي تركوه لنا نبني حكمة جديدة، أساسها الحب العام وغايتها التسامح الشامل.
(٨) أصدقاؤه
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفقيه وقاضي بجاية، وأبو جعفر الذهبي والفقيه أبو الرابع الكفيف وأبو العباس الحافظ الشاعر القراي.
وقد نكبوا معه لشدة اتصالهم به، وامتزاج فكره بأفكارهم. ومن أصدقائه أبو محمد عبد الكبير، وكان مقربًا لدى ابن رشد فاستكتبه واستقضاه أيام قضائه بقرطبة، وأبو جعفر ابن هارون الترجالي، وهو شيخ أبي الوليد ابن رشد في التعاليم والطب، وأصله من ترجالة من ثغور الأندلس.
(٩) تلاميذه
أبو عبد الله الندرومي، ولد ونشأ بقرطبة ثم انتقل إلى أشبيلية، وكان قد لحق القاضي أبا الوليد ابن رشد واشتغل عليه بصناعة الطب.
وأبو جعفر أحمد بن سابق أصله من قرطبة، وكان من طلبة القاضي أبي الوليد ابن رشد، ومن جملة المشتغلين عليه بصناعة الطب. وأبو القاسم الطيلسان وقد روى عن ابن رشد أنه كان يعرف شعر حبيب والمتنبي، ومنهم أبو محمد بن حوط الله وأبو الحسن سهل ابن مالك وأبو الربيع ابن سالم وأبو بكر بن جهور وغيرهم.
(١٠) نسله
وقد خلف ابن رشد ولدًا هو أبو محمد بن عبد الله ابن أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، وكان فاضلًا في صناعة الطب عالمًا بها مشكورًا في أفعالها، وكان يقصد الخليفة الناصر ويعالجه. وخلف ابن رشد غير هذا أولادًا اشتغلوا بالفقه واستخدموا في قضاء الكور.
(١١) المنطق والقرآن
كان متهوسًا بمنطق أرسطو، وقال عنه إنه مصدر السعادة للناس، وإن سعادة الإنسان تقاس بعلمه بالمنطق، وهو يرى عدم نفع «إيساغوجي» لفورفوريوس، وكان يهتم بالنحو بصفة كونه قانونًا لجميع اللغات، وأرسطو أوجد قانونًا لها في كتابي هرمنطيقي والبلاغة.
والمنطق أداة تسهل الطريق الشاقة في الوصول إلى الحقيقة التي لا يصل إليها العامة، بل بعض الخاصة بفضل المنطق. وقد اتفق أنه وصل إلى الحقيقة واكتشف الحق المطلق وذلك بدرس أرسطو، ويعتقد أن للدين حقيقة قائمة به ولكنه يبغض علم الكلام؛ لأنه يسعى لإثبات ما لا يمكن إثباته بالعقل؛ لأن الغرض الذي من أجله نزل القرآن ليس تعليم الناس ولكن تحسين أحوالهم، فليس المطلوب العلم إنما المطلوب الطاعة والاستقامة واتباع الطريق السوي، وهذه هي غاية الشارع الذي يعلم أن سعادة الإنسان لا تتم إلَّا بالمعيشة الاجتماعية.
(١٢) سيرته في القضاء
ولي قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث، فحمدت سيرته وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس عامة.
وكان قد قضى في أشبيلية قبل قرطبة وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا.
وكان على شرفه أشد الناس تواضعًا وأخفضهم جناحًا، وعني بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكي عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلَّا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله! وروي أنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الأوائل فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب، وكان يحفظ شعر حبيب وشعر المتنبي، ويكثر التمثيل بهما في محله ويورد ذلك أحسن إيراد. وكان مشهورًا بالفضل معتنيًا بتحصيل العلوم، وكان أوحد دهره في علم الفقه والخلاف، وكان متميزًا في عالم الطب وجيد التصنيف، حسن المعاني.
حدث القاضي أبو مروان الباجي قال: «كان القاضي أبو الوليد ابن رشد حسن الرأي ذكيًّا رث البزة قوي النفس، وأقبل على علم الكلام والفلسفة وعلوم الأوائل حتى صار يضرب به المثل فيها.» ومن كلامه المأثور: «إن من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانًا بالله تعالى.»
(١٣) عن الأمير الذي نكب ابن رشد في عهده
ويظهر أن يعقوب انتخب لإمارة المؤمنين انتخابًا، فقد روى ابن الأثير وابن خلكان أن يوسف مات من غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي قوَّاد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده يعقوب، فملكوه في الوقت الذي مات فيه أبوه. فهذا التقديم في ذاته دليل على اعتراف شيوخ الأمة بفضله، وقام بالأمر أحسن قيام. وهو الذي أظهر أبهة ملكهم، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.
(١٤) استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية
ومن نوادر عدله أن الأمير الشيخ أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص عمر ولد الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد صاحب إفريقية؛ كان قد تزوج أخت الأمير يعقوب وأقامت عنده، ثم جرت بينهما منافرة فجاءت إلى بيت أخيها يعقوب، فسير زوجها في طلبها فامتنعت عليه، فشكا إلى قاضي الجماعة بمراكش وهو أبو عبد الله محمد بن علي بن مروان، فاجتمع القاضي المذكور بالأمير وقال له إن الشيخ أبا محمد عبد الواحد يطلب أهله. فسكت يعقوب وتكرر اللقاء والطلب والسكوت ثلاث مرات، وفي الثالثة قال القاضي للأمير: «فإما أن تسيِّر إليه أهله وإلَّا فاعزلني عن القضاء.» فسكت يعقوب ثم استدعى خادمًا وقال له في السر: «تحمل أهل الشيخ عبد الواحد إليه.» فحملت في ذلك النهار، ولم يتغير على القاضي ولا قال له شيئًا يكرهه. وهذه حسنة تعد له وللقاضي.
وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر وقتل العمال الذين تشكو الرعايا منهم.
أرسل إليه صلاح الدين رسولًا من بني منقذ، وهو شمس الدولة عبد الرحمن بن مرشد، في سنة ٥٨٧ ليستنجده على الفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين بل خاطبه بأمير المسلمين، فعزَّ ذلك عليه ولم يجبه إلى ما طلبه منه.
(١٥) علاقة ابن رشد بالخليفة يوسف بن عبد المؤمن وهو والد الخليفة يعقوب المنصور وكيف اتصل ابن رشد بالخلفاء بفضل ابن طفيل وفيه دليل على حب الخليفة يوسف العلم والعلماء
لما تولى أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي طمح به علو همته إلى تعلم الفلسفة، فجمع كثيرًا من كتبها وبدأ بالطب، فاستظهر بعض كتبه مما يتعلق بالعلم دون العمل، ثم تخطى إلى الفلسفة وأمر بجمع كتبها فاجتمع له كثير منها، ولم يزل يبحث عن العلماء ويقربهم، وكان بلغ به حبه العلم والكتب حتى استباح مصادرتها في بيوت أربابها وحملها إليه اغتصابًا مع مكافأة أهلها بعد ذلك، كما حدث ليوسف أبي الحجاج المراني، فإنه بعد أن صادر كتبه ولاه ولاية حسنة، وكان ممن صحب هذا الخليفة من العلماء أبو بكر محمد بن طفيل أحد فلاسفة المسلمين بالأندلس، وكان يجلب إلى الخليفة العلماء من جميع الأقطار ويحضه على إكرامهم، وهو الذي نبهه على أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم. (راجع الفصل السادس من هذا الكتاب).
(١٦) أول مجلس بين الخليفة يوسف وابن رشد وكيف استدرجه للتكلم في الفلسفة
روى محيي الدين في كتابه «المعجب» عن الفقيه الأستاذ أبي بكر بندود بن يحيى القرطبي تلميذ ابن رشد قال: «سمعت الحكيم أبا الوليد يقول أكثر من مرة لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبا بكر بن طفيل، فأخذ أبو بكر يثني عليَّ ويذكر بيتي وسلفي ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: «ما رأيهم في السماء؟ (يعني الفلاسفة) أقديمة هي أم حادثة؟» فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بالفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله أرسطو وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين في هذا الشأن المتفرعين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.»
(١٧) اقتراح الخليفة يوسف على ابن رشد ترجمة أرسطو وتوسيط ابن طفيل في ذلك
ثم استدعاني أبو بكر بن طفيل يومًا، فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكي من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه. ويذكر غموض أغراضه ويقول: «لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا لقرب مأخذها على الناس»، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة، وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبر سني واشتغالي بالخدمة وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه.
قال أبو الوليد: «فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.» قال محيي الدين من عنده: «وقد رأيت أنا لأبي الوليد هذا تلخيص كتب الحكيم في جزء واحد في نحو مائة وخمسين ورقة ترجمه بكتاب الجوامع، لخص فيه كتاب الحكيم المعروف بسمع الكيان وكتاب السماء والعالم ورسالة الكون والفساد وكتاب الآثار العلوية وكتاب الحس والمحسوس. ثم لخصها بعد ذلك وشرح أغراضها في كتاب مبسوط في أربعة أجزاء، وبالجملة لم يكن في بني عبد المؤمن فيمن تقدم منهم وتأخر ملك بالحقيقة غير أبي يعقوب هذا!»
هذا مجمل أخبار اتصال ابن رشد بالخليفة يوسف بن عبد المؤمن، والد الخليفة يعقوب المنصور الذي نكب الفيلسوف، قد أوردناه لكمال البحث والاستقصاء.
(١٨) الأمير يعقوب المنصور وابن رشد
وقد اتجه نظرنا منذ قرأنا كتب ابن رشد وعزمنا على ترجمته وتلخيص فلسفته؛ إلى المحنة التي أصابته وأسبابها ونتائجها وأثرها في التاريخ الإسلامي وفي تاريخ الفلسفة، وعزمنا على تحقيقها وتحليلها والتدقيق في معرفة أصولها، لنصل إلى حقيقة يحسن الوقوف لديها والسكوت عليها.
ولما كان الذي أوقع المحنة بابن رشد هو المنصور بالله يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الرابع من خلفاء الموحدين، أخذنا نبحث في تاريخه لنعلم هل كانت النكبة فعلًا فرديًّا أملاه على الأمير ظلمه وحمقه وجهله، أم كانت فعلًا قوميًّا يدل على حالة الأمة في أخلاقها وميولها، وهل كان الأمير سليم العقل والإرادة مسئولًا عن أفعاله مسئولية تامة أمام التاريخ والأجيال اللاحقة، أم كان معتلًّا مختلًّا لا يسأل عما يفعل، ذهبت بعقله سلطة الفرد ونزق الاستبداد وسوء الوراثة وملاهي القصور التي ينغمس فيها أمثاله.
فإن الظاهر دل على أن نكبة ابن رشد كانت عملًا عامًّا، دعت إليه ضرورة سياسية أو دينية أو اجتماعية، فأقيمت عليه الدعوى الجنائية وحوكم محاكمة استبدادية، وصدرت في حقه عقوبة النفي والتنكيل، ولم يكن لدينا مصدر لفحص هذه المسألة إلا كتب التاريخ؛ لأن عرب الأندلس لم يتركوا متاحف ولا سجلات ولا ملحقات ولا قيودًا يلجأ إليها السلف كما هي الحال في بعض الممالك الأوروبية على أننا لا نلومهم على ذلك، فلو تركوا شيئًا مما ذكر لما أبقى عليه ملوك إسبانيا الذين خلفوهم؛ فقد أحرقوا كل ما وصلت إليه أيديهم من آثار العرب الأدبية، وبددوا — تحت تأثير التعصب الوطني والديني — ثروة كانت تستفيد منها الإنسانية أعظم فائدة. لأجل هذا كانت مصادرنا في هذا المبحث محصورة في كتب التاريخ العربية والإفرنجية.
(١٩) تاريخ الأمير الذي نكب ابن رشد
هو يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الخليفة الرابع من دولة الموحدين، التي أسسها بسوس محمد بن تومرت المتسمي بالمهدي في صدر القرن السادس سنة ٥١٥ هجرية.
خلف يعقوب أباه يوسف في سنة ٥٨٠، وكانت سنه يوم صار إليه الأمر اثنتين وثلاثين سنة، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي في سنة ٥٩٥ وله من العمر ثمان وأربعون سنة، وقد وخطه الشيب وكانت أمه رومية اسمها ساحر (كارمن) فيرى من ذلك أنه من نسل مختلط وأنه الحفيد الرابع لرجل عصامي من مؤسسي الدولة الشرقية في الغرب، ويتبع هذا التسلسل تطور في الغرائز والأخلاق يشاهد في الأحفاد.
وكان عهده حافلًا بالحروب والغزوات والفتن؛ ففي سنة ٥٨٠، وهي أولى أيام ولايته، خرج الميرقيون بنو ابن غانية يقودهم علي بن غانية من جزيرة ميرقة قاصدين مدينة بجاية فملوكها وأخرجوا من بها من الموحدين، فخرج إليهم يعقوب وهزمهم في حسامة دقيوس. وفي عودته انتقضت عليه مدينة قفصة فحاصرها ودخلها عنوة وقتل أهلها قتلًا ذريعًا.
وفي سنة ٥٨٥ هجم بطرس بن رودريج (بطرو بن الريق) على مدينة شلب من الأندلس فملكها، فتجهز يعقوب في جيوش ونزل على شلب وأخرج منها بطرس وأخذ من حصون الإفرنج حصنًا، وفي سنة ٥٩٠ انتقض ما بينه وبين ألفونس فخرجت خيل ألفونس تدوس الحدود، والتقى الجيشان في سنة ٥٩١ في «فحص الجديد»، وهو مكان بين أشبيلية وطليطلة، فهزم ألفونس وجنوده. وفي السنة التالية هجم على طليطلة وتوغل في أرض الإسبان، فطلب ألفونس منه هدنة فهادنه عشر سنين.
(١٩-١) نيته في غزو مصر
وكان ينوي غزو مصر ويذكرها وما فيها من المناكر والبدع ويقول: «نحن إن شاء الله مطهروها.» ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات وكانت بينه وبين ألفونس تلك الهدنة.
(١٩-٢) قتل أخيه وعمه
وكان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلًا للإمارة، فلقي منهم شدة. ولما استوثق أمره عبر البحر بعساكره وسار حتى نزل مدينة سلا وبها تمت بيعته، واستجاب له من كان تلكأ عليه من أعمامه ومن ولد عبد المؤمن بعدما ملأ أيديهم أموالًا وأقطعهم الأقطاع الواسعة، ثم تركهما فطمع في الأمر أخوه أبو حفص عمر وعمه سليمان بن عبد المؤمن، فأمر بالقبض عليهما وتقييدهما وحملهما بعد التقييد إلى مدينة سلا، ووكل بهما من يقوم عليهما وأثقلهما بالحديد. وسار حتى بلغ مراكش، فكتب إلى القيم عليهما بقتلهما وتكفينهما والصلاة عليهما ودفنهما، فقتلهما صبرًا ودفنهما، وكتب يعلمه بذلك وقال له: «بنيت قبريهما بالكدان والرخام.» وجعل يذكر حسنهما، فكتب إليه: «ما لنا ولدفن الجبابرة! إنما هما رجلان من المسلمين، فادفنهما كيف يدفن عامة المسلمين.» وقد استدعت تلك الحروب والفتن تغيبه عن مقر ملكه أمدًا وأصيب أثناءه بمرض شديد، ففي غيبته ومرضه طمح أخ له ثان، اسمه أبو يحيى، في الخلافة فقبض عليه وحاكمه وقتله بمحضر من الناس، وأمر بإخراج بقية الأمر حفاة عراة الرءوس.
(١٩-٣) أخلاقه
كان شديد الذكاء وكثير الإصابة بالظن، لا يكاد يظن شيئًا إلا وقع كما ظن، مجربًا للأمور عارفًا بأصول الشر والخير وفروعهما، ولي الوزارة أيام أبيه فبحث عن الأمور بحثًا شافيًا، وطالع أحوال العمال والولاة والقضاة وسائر من ترجع إليه الأمور مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور، فدبرها بحسب ذلك فجرت أموره على قريب من الاستقامة والسداد حسب ما يقتضيه الزمان والإقليم.
(١٩-٤) سوء شبابه
روى المؤرخون أن أقاربه كانوا متهاونين بأمره محتقرين له لأشياء كانت تظهر منه في صباه توجب ذلك، فبعد أن قتل أخاه وعمه ونكل ببقية الأمراء هابوه وأشربت قلوبهم خوفه.
(١٩-٥) حبه العدل بين الناس
وكان في جميع أيامه وسيره مؤثرًا للعدل، متحريًا له بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، وأراد في أول أمره الجري على سنن الخلفاء الأول. وكان يقعد للناس عامة ولا يحجب عن أحد من صغير ولا كبير، حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم، فقضى بينهما وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة أن يضربهما ضربًا خفيفًا؛ تأديبًا لهما، وقال لهما: أما كان في البلد حكام قد نصبوا لمثل هذا؟! ثم صار يقعد في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا ينفذها غيره كأنهُ محكمة عليا.
ولما ولَّى أبا القاسم بن بقي القضاء، كان فيما اشترط عليه أن يكون قعوده بحيث يسمع حكمه في جميع القضايا. فكان يقعد في موضع بينه وبين أمير المؤمنين ستر من ألواح. وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر مرتين يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم. وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم، فإذا أثنوا خيرًا قال اعلموا أنكم مسئولون عن هذه الشهادة يوم القيامة، فلا يقولن أحد منكم إلَّا حقًّا!
(١٩-٦) حبه الخير
وبنى بمدينة مراكش مستشفى يظن المؤرخون أن ليس في الدنيا مثله، وتخير له ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأجرى له ثلاثين دينارًا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة خارجًا عما جلب إليه من الأدوية، وأقام فيه الصيادلة لتجهيز أنواع الدواء، وأعد للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض الفقير أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يشتغل، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، ولم يقصره على أهل البلد، بل كل من مرض من الغرباء يحمل إليه ويعالج إلى أن يشفى أو يموت. وكان يزوره في كل جمعة ويعود المرضى ويسألهم بقول «كيف حالكم؟ وكيف القومة عليكم؟» وبمناسبة الغرباء نذكر أن جمهورية جنيف في وقتنا هذا تتقاضي من الغرباء ضريبة باسم المستشفى الخيري. ولكنها جعلت العلاج فيه قاصرًا على أهل البلاد دون الغرباء!
(١٩-٧) حبه الصدقة المنظمة
وكان كثير الصدقة تصدق مرة بأربعين ألف دينار، خرج منها للعامة نحو من نصفها والباقي في القرابة. وقد قسموا مدينة مراكش أرباعًا وجعلوا في كل ربع أمناء معهم أموال يتحررون بها المساتير وأرباب البيوتات. وكان كلما دخلت السنة يأمر أن يكتب له الأيتام المنقطعون فيجمعون إلى موضع قريب من قصره، فيختنون ويأمر لكل صبي منهم بمثقال وثوب ورغيف ورمانة.
(١٩-٨) عدم تصديقه الخرافات
سمع النساء يومًا يمجدن ذكر سلفه ابن تومرت المتسمى بالمهدي ويقلن ما معناه بلسانهن: «صدق مولانا المهدي نشهد أنه الإمام حقًّا!» فابتسم استخفافًا بقولهن لأنه لا يرى شيئًا من هذا كله. وكان لا يرى رأيهم في ابن تومرت. وروى أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المربي أنه قال له: «يا أبا العباس اشهد لي بين يد الله عز وجل أني لا أقول بالعصمة (يعني عصمة ابن تومرت).» وقال له يومًا وقد استأذنه في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: «يا أبا العباس أين الإمام؟!»
(١٩-٩) بغضه التمليق
روى أبو بكر بن هاني قال: «لما رجع أمير المؤمنين من غزوة الأرك، وهي التي أوقع فيها بألفونس وأصحابه، خرجنا نتلقاه، فقدمني أهل البلد لتكليمه، فرفعت إليه فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله على ما جرت عادته، فلما فرغت من جوابه سألني كيف حالي في نفسي، فتشكرت له ودعوت بطول بقائه، ثم قال لي: ما قرأتَ من العلم؟ قلت قرأت تواليف الإمام — أعني ابن تومرت — فنظر إليَّ نظرة المغضب وقال: «ما هكذا يقول الطالب! إنما حكمك أن تقول قرأت كتاب الله وقرأت شيئًا من السنة، ثم بعد هذا اتْلُ ما شئت».»
(١٩-١٠) حبه العمارة
شرع في بنيان مدينة عظمى على ساحل البحر والنهر من العدوة التي تلي مراكش، وقد أتم سورها وبني فيها مسجدًا عظيمًا كبير المساحة، وعمل له مئذنة في نهاية العلو على هيئة منار الإسكندرية، وقد تمت المدينة في حياته وكملت أسوارها وأبوابها وعمر كثيرًا منها، وهي تجيء في طولها نحوًا من فرسخ، وهي قليلة العرض، ولم يزل العمل فيها وفي مجدها طول مدة ولايته إلى سنة ٥٩٤.
(١٩-١١) حبه الطلبة
نال عنده طلبة العلم ما لم ينالوا في أيام أبيه وجده، وانتهى أمره معهم إلى أن قال يومًا بحضرة كافة الموحدين بسمعهم، وقد بلغه حسدهم للطلبة على موضعهم منه وتقريبه إياهم وخلوته بهم دونهم: «يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابهُ منكم أمر فزع إلى قبيله، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم إلا أنا، فمهما نابهم أمر فأنا ملجؤهم وإليَّ فزعهم وإليَّ ينتسبون.» فعظم من ذلك اليوم أمرهم، وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم.
(١٩-١٢) اضطهاد اليهود بعد إسلامهم
وفي آخر أيام أبي يوسف أمر أن يتميز من أسلم من اليهود الذين بالمغرب بلباس يختصون به دون غيرهم، ولم يزالوا كذلك بقية أيامه ومقدارًا من أيام ابنه عبد الله. وإنما حمل أبا يوسف على ذلك شكه في إسلامهم، وكان يقول: «لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالخلق في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم وجعلت أموالهم نسيئًا للمسلمين، ولكني متردد في أمرهم، ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصادمة، ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة، إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام ويصلون في المساجد ويُقرئون أولادهم القرآن، جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تكنه صدورهم وتحويه بيوتهم.»
(١٩-١٣) ميله إلى التصوف
وبعد قتل أخيه وعمه في السنة السادسة بعد الثلاثين من عمره أظهر زهدًا وتقشفًا وخشونة ملبس ومأكل، وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين صيت، وقامت لهم سوق وعظمت مكانتهم، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد يكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل من يقبل صلته بالصلات الجزيلة. ولما خرج إلى الغزوة الثانية (٥٩٢) كتب قبل خروجه إلى جميع البلاد للبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه، فاجتمعت له منهم جماعة كبيرة، كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده «هؤلاء الجند لا هؤلاء!» ويشير إلى العسكر، ولما رجع أَمَرَ لهؤلاء القوم بأموال عظيمة.
(١٩-١٤) محاربته مذهب مالك
أمر بإحراق كتب مذهب مالك، وشهد بعض المؤرخين بمدينة فاس أنه كان يؤتى من كتب المذهب بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار. وكان قصد الأمير في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب، وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة.
(٢٠) مدينة قرطبة التي نشأ فيها ابن رشد
قرطبة عاصمة مقاطعة تعرف باسمها بمملكة الأندلس بإسبانيا، واقعة في جنوب سطح جبل سيارامورينا وعلى الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير، وتبعد ٧٥ ميلًا عن أشبيلية، أسسها الرومان وجملها العرب بأسوار وقلاع وقصور، وشادوا بها المساجد والمعاقل والجسور، وأكبرها من الجنوب جسر عظيم جمع بين جلال البناء الروماني وإتقان الهندسة العربية وجمال الدقة الأندلسية، جعلوه على ستة عشر عقدًا، وهو الذي يطلق عليه اسم «قنطرة الوادي»، وكان بها لأمراء الأندلس قصر فخم يقصر البيان عن وصفه، لا يقل في الحسن عن الحمراء، وأسس عبد الرحمن الأول جامعها الأعظم في مكان هيكل روماني. والمسجد لا يدل ظاهره على جماله الداخلي الذي ينطق بالمثل الأعلى لفن العمارة العربي في أوروبا.
كانت قرطبة منذ نشأتها عزيزة الجانب، فقد استوطنها أشراف الرومان وأطلقوا عليها اسم «قرطبة الشريفة» لكثرة من أظلت من العظماء. ويظن المؤرخون أنها قرطاجنية الاسم والتكوين، وجاء عليها حين كانت أعظم مدن إسبانيا شأنًا وأوفرها سكانًا وأوسعها رزقًا وأقواها حصونًا وأعرضها جاهًا. وروي أن قيصر حاصرها وقاسى في سبيل إخضاعها أهوالًا، فلما وقعت له بعد موقعة «أوندا» أعمل السيف في رقاب ٢٠٠٠٠ من رجالها.
ولما دخل العرب أرض أندلس ألحقوها بخلافة دمشق، ثم لم تلبث أن صارت عاصمة ملكهم. ويقول المؤرخون إنها في أيام مجدها كان بها ٢٠٠٠٠٠ منزل، و٦٠٠ مسجد، و٩٠٠ حمام، ومكاتب عامة كثيرة، ويتبعها ثماني مدن و٣٠٠ بلد و١٢٠٠٠ ضاحية.
وقد أنجبت قرطبة في كل أجيالها رجالًا عظماء، ففي عهد الرومان ولد فيها لوكان وسنيكا، وفي عهد العرب ابن رشد وأساتذته وتلاميذه وابن حزم عدا عددًا من القواد والمصورين والكتَّاب والصالحين. ومما يدعو إلى أسف أهل الفنون والمؤرخين أن الإسبان بعد زوال دولة العرب جعلوا قصر الخليفة سجنًا وقلبوا المسجد كنيسة.
وقد عاب شارل الخامس رجال الدين وأنبهم في رسالة مشهورة منها: «لقد بنيتم في مكان المسجد ما كنتم تستطيعون تعميره في أية بقعة أخرى، ولكنكم أتلفتم شيئًا فذًّا لم يكن له في العالم مثيل.» إن الكاتدرائية جميلة حقًّا، ولكن أين المسجد يسند ساحاته العُظمى ١٢٠٠٠ عمود، بل أين التسعة عشر بابًا المصنوعة من البرنز، بأيدي صناع حذقوا تشكيل المعادن والتصوير فيها، وهم من أهل دمشق نزحوا إلى الأندلس فيمن نزح إليها من مهرة المشارقة!
وأين الخمسة آلاف مصباح تضاء بزيوت عطرية فتملأ الفضاء نورًا وعبقًا، أما المحراب المسبع فقد كان مسقفًا بدائرة من المرمر الأبيض، مزينة بالذهب والزجاج الملون ومرصعة بالحجارة الكريمة، ومنمقة بقيشاني بيزنطة، فكانت تلك الدائرة المرمرية لصفائها وحسن زينتها أشبه بقبة من اللؤلؤ.
ويظهر أن قرطبة لم تشهد عهدًا أسعد من عهد عبد الرحمن الثالث (الناصر لِدين الله)، فقد كانت عاصمة ملكه في أعلى درجات النجاح المادي والتقدم المعنوي، وكان للمال والزراعة والتجارة من الشأن ما كان للفنون والعلوم والفلسفة، وعدد سكان قرطبة لعهده كعدد سكان القاهرة لعهدنا هذا، وبها إذ ذاك ٣٠٠٠ مسجد و١١٣٠٠٠ بيت، و٣٠٠ حمام و٢٨ ضاحية. فلم يكن في العالم الإسلامي مدينة تضارعها أو تفوق عليها غير عاصمة الرشيد والمأمون، فكانت بغداد في الشرق وقرطبة في الغرب مثل باريس ولندن في عصرنا هذا.
أما قوة الخليفة فكانت تعادل قوة الملوك العظام لعهدنا، فكان له أسطول عظيم ضمن له السيادة في بحر الروم، فجعله بحيرة أندلسية وسهل له الاستيلاء على سبوتا، وهي إذ ذاك تعادل جبل طارق أو بورت سعيد. وكان له جيش عرمرم منظم عدَّه المؤرخون أفخر جيوش العالم وأجملها، وهو الذي سوده على أهل الشمال من الإسبان. وكان أعظم ملوك الأرض يخطبون مودته ويرجون معاهدته، فورد على بلاطه سفراء الدول من إمبراطور القسطنطينية وملوك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا.
ومما يذكر للخليفة بالفضل أن مجلسه كان مؤلفًا من أئمة المسلمين ورؤساء الأديان الأخرى بغير تمييز. وكانت بقرطبة مدرسة جامعة من أشهر جامعات الدنيا، مقرها بالمسجد الأعظم الذي سبق ذكره، حيث كان فطاحل العالم الإسلامي شرقًا وغربًا يلقون الدروس على الطلاب الواردين إلى حلقاتهم من كل فج، فكان أبو بكر بن معاوية القرشي يحدث وأبو علي القالي البغدادي يملي أماليه الشهيرة، وهي كنز شعر وتاريخ وأمثال وفقه لغة وأدب، وكان ابن القطيعة أشهر نحاة الأندلس يلقن الطلاب قواعد النحو والصرف. وهكذا كان لكل علم وفن أستاذ من الأئمة الممتازين فيه، لا يقلون قدرًا عمن ذكرنا على سبيل التمثيل والتدليل.
وعد طلاب العلم بالجامع الأعظم بقرطبة بالألوف وأساتذتهم بالمئات، ومعظمهم يقصدون تحصيل الفقه وبعضهم يدرسون الحكمة؛ فالمسجد الأعظم كان منذ ألف سنة مثل الجامع الأزهر شهرة ومكانة، ويفضله في أمرين: الأول جماله الذي أبرزه أهل الفنون، والثاني تخريج الفلاسفة أمثال ابن رشد. والأزهر لم يخرج لنا منذ تأسيسه إلى الآن أحدًا يداني هذا الحكيم أو يقرب منه في الفضل وسعة العلم وجليل المنفعة للدين والدنيا معًا.
(٢١) نكبة ابن رشد
(٢١-١) كلمة عامة
كان ابن رشد ممتازًا بالحكمة والعلم وشرف المنبت، وازداد مجدًا بتقربه من الخليفة يوسف أبي يعقوب الذي عرف قدره وفضله على غيره من قرنائه وفضلاء عصره وعلى ولده المنصور يعقوب.
وكل رجل ممتاز لا يأمن حسد معاصريه ومعاشريه ولا ينجو من غيظهم وانتقامهم مهما كان نافعًا، وطيب القلب حسن النية بعيدًا عن الأذى، وربما كانت خصاله الطيبة سببًا في اشتداد البغضاء ومرارة الحقد. وأظن هذه الحال في الشرق أظهر منها في الغرب، وقد تكون في المسلمين أقوى منها في غيرهم.
ويظهر أن أعداء ابن رشد حاولوا النكاية به المرة بعد المرة، ففشلوا في أول الأمر لأن الخليفة المنصور كان في بداية عهده محبًّا للفلسفة مجاهرًا بذلك. فكمدت سوق السعايات ولكن الأعداء (لا كانوا) لا يسأمون من الانتظار ويرقبون أوقات المضرة، فلما تحولت نفس المنصور عن الحكمة والحكماء بسبب ما لحقه من التطور العقلي الذي حبب إليه التصوف والالتجاء إلى الأولياء والزهاد، كان ابن رشد قد علا نجمه في أفق المجد بما ظهر من فضله في التأليف في الفلسفة وسعة علمه ودقة عمله في الطب وعلو كعبه في الشريعة والقضاء، وتلك مواهب ثلاث لم تجتمع لرجل واحد في وقت من الأوقات.
وكان ابن رشد إذ ذاك في السبعين من عمره، فتحركت أحقاد أعدائه وقد رأوا الفرصة سانحة بانصراف المنصور إلى مشايخ الطرق الصوفية، فتسلح هؤلاء الأعداء وأنصارهم من حاشية الأمير (كعادتهم وعادة من مضى قبلهم ومن أتى وسيأتي بعدهم من أعداء حرية العقل الإنساني) بسلاح المدافعة عن شريعة الإسلام، وكان المنصور مقيمًا بمدينة قرطبة، وقد امتد بها أمد الإقامة وانبسط الناس لمجالس المذاكرة، فتجددت للأعداء آمالهم وقوي تألبهم واسترسالهم، فأدلوا بحفيظتهم وأوضحوا للأمير ما شاءوا من «سيئات» أبي الوليد ابن رشد في مؤلفاته، فقرئت في مجلس الأمير وتدوولت أغراضها ومعانيها وقواعدها، وتمكن الأعداء والحساد من تخريجها بما دلت عليه أسوأ مخرج، وقد ذيلوها بمكرهم وسوء طويتهم حتى هاجوا غضب الأمير وأيقظوا قوة الشر الكامنة في نفسه، بحجة المدافعة عن شريعة الإسلام، ويظهر أن وقيعتهم بابن رشد كانت علانية في مجلس الأمير، فإن أحد المؤرخين يقول: «فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام.»
ويظهر أيضًا أن أعداء ابن رشد طلبوا إلى الخليفة إهراق دمه لتنجو شريعة الإسلام من شر ابن رشد، وتعلو بخير هؤلاء المدافعين عن كيانها الحائذين عن حياضها! ولكن الخليفة استعمل الرأفة «وآثر فضيلة الإبقاء وأغمد السيف التماس جميل الجزاء».
(٢١-٢) أعداء ابن رشد
ومن أعداء ابن رشد الذين جاهدوه بالمنافرة والمجاهرة القاضي أبو عامر يحيى ابن أبي الحسين بن ربيع، وقد نافره لغير علة ظاهرة. وعلى ذلك النفور كان أبناه القاضي أبو القاسم وأبو الحسين والقاضي أبو عبد الله والخطيب أبو علي ابن حجاج وغيرهم، فلما أخذ أعداء ابن رشد للحملة عليه عدتهم آثروا أن يحشروا معه فريقًا من أصدقائه ومريديه وتلاميذه، لتكون محنة الحكمة شاملة ونكبة الحكماء عامة. وأشاروا على المنصور أن يصبغ غضبه بصبغة الدفاع عن الملة لتكون النكاية بالحكماء أشد واللوم على الوقيعة بهم أخف. فأمر المنصور طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين وتعريف الملأ بأن ابن رشد ومن معه مرقوا من الدين وأنهم استوجبوا اللعنة جهارًا.
(٢١-٣) شركاء ابن رشد
أما أصدقاء ابن رشد الذين أضيفوا إليه فهم: الفقيه أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي، فقد لف معه في حريق الملام، لأشياء نُقِمت عليه في مجالس المذاكرة وفي أثناء كلامه مع توالي السنين والأيام؛ وأبو جعفر الذهبي الفقيه؛ وأبو الرابع الكفيف؛ وأبو العباس الحافظ الشاعر القراي.
(٢١-٤) أسباب النكبة
تضارب المؤرخون في ذكر النكبة التي أصابت الحكمة في شخص ابن رشد ومدرسته، ومعظم المؤرخين يرغبون في ردها إلى أسباب مادية محسوسة أغضبت الخليفة، ولكن واحدًا أو اثنين منهم يحومان حول السبب الحقيقي ويلمحان إليه فقال أحدهما: «وكان لها سببان: جلي، وخفي. فأما سببها الخفي وهو أكبر السببين، فأن الحكيم أبا الوليد رحمه الله أخذ في شرح كتاب الحيوان لأرسطاطاليس صاحب كتاب المنطق، فهذبه وبسط أغراضه وزاد فيه ما رآه لائقًا به، فقال في هذا الكتاب عند ذكره الزرافة وكيف تتولد، وبأي أرض تنشأ «وقد رأيتها عند ملك البربر»، جاريًا في ذلك على طريق العلماء في الأخبار عن ملوك الأمم وأسماء الأقاليم، غير ملتفت إلى ما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلوا الكتاب من الإطراء والتقريظ وما جانس هذه الطرق، فكان هذا مما أحنقهم عليه غير أنهم لم يظهروا ذلك، وفي الجملة فإنها كانت من أبي الوليد غفلة.»
وقال مؤرخ آخر: «إن قومًا من مناوئيه من أهل قرطبة، ويدعون معه الكفاءة في البيت وشرف السلف، سعوا به عند أبي يوسف، ووجدوا إلى ذلك طريقًا بأن أخذوا بعض التلاخيص التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكيًا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم «فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة»، فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة، فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة وهم بمدينة قرطبة، فلما حضر أبو الوليد رحمه الله قال له بعد أن نبذ إليه بالأوراق: أخطك هذا؟ فأنكر. فقال: أمير المؤمنين: «لعن الله كاتب هذا الخط.» وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه على حال سيئة وإبعاده وإبعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم، وكتبت عنه الكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها إلا ما كان من الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار وأخذ سمت القبلة، فانتشرت هذه الكتب في سائر البلاد وعمل بمقتضاها.»
ثم لما رجع الأمير إلى مراكش نزع عن ذلك كله وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه. فحضر ابن رشد إلى مراكش فمرض بها مرضه الذي مات منه في آخر سنة ٥٩٤ وقد ناهز السبعين، ثم توفي أمير المؤمنين في غرة صفر الكائن في سنة ٥٩٥.
وقال آخر: «ومن أسباب نكبته اختصاصه بأبي يحيى المنصور والي قرطبة. وحدث الشيخ أبو المحسن الرعيني عن شيخه أبي محمد عبد الكبير أن هذا الأخير اتصل بابن رشد المتفلسف أيام قضائه بقرطبة وحظي عنده، فاستكتبه ابن رشد واستقضاه، فقال إن هذا الذي ينسب إليه ما كان يظهر عليه، ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة وأثر ماء الوضوء على قدميه، وما كدت آخذ عليه فلتة إلا واحدة، وهي عظمى الفلتات، وذلك حين شاع في المشرق والأندلس على ألسنة المنجمة أن ريحًا عاتية تهب في يوم كذا وكذا في تلك السنة تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى اشتد جزع الناس منه واتخذوا الأنفاق تحت الأرض توقيًا لهذه الريح.
ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد استدعى والي قرطبة — إذ ذاك — طَلَبَتَها وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد وهو القاضي بقرطبة يومئذ، وابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب، قال أبو محمد عبد الكبير، وكنت حاضرًا فقلت في أثناء المفاوضة إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عادٍ؛ إذ لم تعلم ريح بعدها يعم إهلاكها. قال فانبرى إليَّ ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقًّا! فكيف سبب هلاكهم؟ فسقط في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.»
(٢١-٥) العقاب والعفو (مجلس المحاكمة)
أحضر ابن رشد وأصحابه إلى المسجد الجامع الأعظم بقرطبة، وقد عقد الخليفة مجلسه ونهض القاضي أبو عبد الله ابن مروان وألقى خطبة هي أشبه الكلام بمرافعة المدعي العام، وقد يكون الغرض من ندب هذا القاضي في تلك الفرصة رفع الدعوى على ابن رشد.
(٢١-٦) مرافعة القاضي أبي عبد الله
قال: إن الأشياء لا بد في كثير منها أن تكون لها جهة نافعة وجهة ضارة، كالنار وغيرها، فمتى غلب النافع على الضار عمل بحبسه، ومتى كان الأمر بالضد فبالضد.
(٢١-٧) التهمة
ثم قال الخطيب أبو علي ابن حجاج، وعرف الناس بما أمر به من أنهم (أي ابن رشد وصحبه) قد مرقوا من الدين وخالفوا عقائد المؤمنين باشتغالهم بالفلسفة وعلوم الأوائل، فنالهم ما شاء الله من الجفاء، وتفرقوا على حكم من يعلم السر وأخفى.
(٢١-٨) الحكم
أمر أبو الوليد بسكنى اليسانة بقول من قال إنه ينسب في بني إسرائيل وإنه لا يعرف له نسب في قبائل الأندلس.
(٢١-٩) في أن ابن رشد لم يدافع
ولم يذكر المؤرخون أن ابن رشد أو أحد أصحابه طلب أن يتكلم عن نفسه أو طلب إليه الخليفة ذلك، وفي هذا شناعة لأنه حرم حق الدفاع. وإذ ذكرنا دفاع فيلسوف عن حرية فكره يخطر ببالنا دفاع سقراط لدى قضاته بأثينا قبل محاكمة ابن رشد بستة عشر قرنًا، فتتملكنا عاطفتان: الأولى عاطفة حنق على أعداء العقل الذين لم ينفكوا يحاربون حرية الفكر من أبعد العصور وأقدم الأجيال. والثانية عاطفة إعجاب بهؤلاء العرب المتحضرين، الذين كانوا أعدل وأرحم من اليونان في القرن الرابع قبل المسيح، على ما بين الأمتين من الفروق في المدنية والتنور. فإن قضاة ابن رشد اكتفوا بإبعاده مؤقتًا. أما قضاة سقراط العظيم فلم يشفقوا على شيخوخته ولم يخشعوا أمام جلال حكمته وجمال خلقه وأسلموه للجلاد، فسقاه كأس الردى على مرأى ومسمع من أهله وأحبابه ومريديه وتلاميذه، بل كان عرب الأندلس أشفق وأعدل من معذبي «جاليليه» في القرن السابع عشر بعد السيد المسيح، وأرحم بكثير من أهل جنيف وعلى رأسهم «كالفن»، إذ أحرقوا في مدينتهم في نصف السادس عشر «ميشل سرفيه» لاكتشافه الدورة الدموية.
ولكن هذا لا يقلل من غضبنا على الذين حاكموا ابن رشد، فإن الاضطهاد مرذول في كل زمان ومكان، وأنصاره محتقرون وملعونون بكل لسان ما داموا يتسلحون بالدفاع عن الدين في محاربة العقل، فإن ذلك حق يراد به باطل؛ لأن الدين لم يأمر بالتعذيب والقتل والنفي في سبيل نصرته. ولكن الجهَّال وأهل الضلال والفتن هم الذين يشفون غليلهم ويثلجون صدورهم المتقدة بنار الغيظ والحسد باسم الدين والملة والشريعة، وهي منهم بريئة.
(٢١-١٠) تسخير الشعر في محاربة الفلسفة
عوقب ابن رشد وأصحابه بالنفي بعد التعذير والتعنيف، ثم كتبوا في حقهم منشورًا شديدًا للولايات وراء البحر، ثم سخروا الشعر في محاربة الفلسفة، فقام الحاج أبو حسين ابن جبير وقد حفظ لنا التاريخ اسمه ونظمه في تلك القضية، وللتاريخ عجائب وخوارق وهذه من غرائبه، فإنه لم يحفظ أسماء كثيرين من أهل الفضل والفن في مواضع كانوا بها أحق وأجدر بخلود الذكر.
قال الحاج:
•••
•••
•••
وقال يمدح المنصور ويذكر أدوار القضية:
وهذا ما أردنا الاستشهاد به من شعر ابن جبير في الموضوع وله غير ذلك ضربنا عنه صفحًا.
(٢٢) كلمة عن ابن جبير
أبو الحسن محمد بن محمد بن جبير الأندلسي البلنسي، كان من أهل المنزلة العالية في الغرب بالعلم والأدب والشعر، رحل في أواخر القرن السادس للهجرة ثلاث رحلات، وزار مصر والشام والحجاز والعراق وصقلية، وأقام في الإسكندرية يحدث إلى أن توفي في أواخر القرن السادس، وطبعت رحلته في ليدن مرتين، وترجمت إلى الفرنسية والإيطالية، وأخباره في الإحاطة بأخبار غرناطة ص١٦٨ ج٢.
وكان من أبلغ شعراء الأندلس وأنصعهم ديباجة، وأصدق شعراء العرب قصدًا وأسلمهم قلبًا، وأقواهم إيمانًا وأصحهم عقيدة، ويشهد الشعراء الأقدمون والمحدثون بفضله، وأصدق دليل على حجة شهادتهم قصيدته التي يصف بها الأماكن المقدسة التي قصدها لأداء فريضة الحج. وكان ابن جبير من معاصري ابن رشد، ولا نظن أن الذي دعاه إلى هجاء ابن رشد رغبة في تمليق أمير كبير ومجرد الافتخار بمظهر المدافعة عن الدين، وإنما الذي دعاه إلى الوقوع في هذا الخطأ شدة إيمانه وصحة عقيدته، ولا يستطيع مؤرخ معتدل أن يلوم ابن جبير على أنه لم يفهم فلسفة ابن رشد؛ لأن طريق الشعر والدين غير طريق العلم والحكمة، ولا نملك إلَّا الأسف على تلك الهفوة من أديب جليل يعد من أئمة الشعر العربي وكبار المؤلفين والسائحين.
(٢٣) أقسى ما أصاب ابن رشد في أثناء نكبته
يظهر أن أقسى ما أصيب به ابن رشد في إبان محنته تألب العامة عليه وعلى ولده وتصديهم إلى سبهما والاعتداء عليهما. والعامة في كل زمان ومكان خصم ثالث يدخل بين الملوك ورجال الدين والفلاسفة الذين يتنازعون القوة فيما بينهم، والعامة أنفسهم هم الذين يسعى المتنازعون للسيادة عليهم فالملوك ورجال الدين يتطلبون القوة الدنيوية التي لا تقوم إلَّا على الجمهور، والحكماء يتطلبون القوة العقلية التي تقوم على تنويرهم.
أخبر أبو الحسن بن قطرال عن ابن رشد أنه قال: «أعظم ما طرأ عليَّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدًا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه.»
(٢٤) المنشور
لم يكتف المنصور أو محرضوه بما لحق ابن رشد وأصحابه من اللوم والتأنيب في مجلس المحاكمة، وما تلاهما من عقوبة النفي التي وقعت بغير دفاع، فشاءت الأحقاد أن يذاع أمر التشهير بابن رشد في سائر البقاع، فأمر المنصور كاتبه أبا عبد الله ابن عياش أن يكتب منشورًا إلى مراكش وغيرها بما حدث لابن رشد في هذه القضية، وكاتب المنشور هو كاتم سر الخليفة وكاتب يده واسمه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش، من أهل برشانة (لعلها برسلونه) من أعمال المرية في بلاد الأندلس، ولم يزل هذا الرجل كاتبًا للمنصور ولابنه محمد ولابن ابنه يوسف، وقد عمر طويلًا وتوفي في شهور سنة ٦١٩، وانفرد أبو عبد الله المذكور بالمهارة وحسن السبك، ولم يكتب لخلفاء بني تومرت منذ قام أمرهم من عرف طريقتهم وصب في قالبهم وجرى على مهيعهم وأصاب ما في أنفسهم كأبي عبد الله المذكور؛ لأنه كانت لهم طريقة تخالف طريقة الكتاب. ويظهر أنه كان يلبس لكل حال لبوسها ويجاري كل أمير في ميوله ومقاصده، وإلا ما تمكن من الانفراد بثقتهم وخدمة ثلاثة أو أربعة من خلفائهم، فكان عبد الله هذا كبعض رجال الحاشية في بعض بلاد الشرق يصلحون لكل عهد ويخدمون كل جالس على العرش ويثبتون في مراكزهم، مهما تغلبت الحوادث وتحولت الأحوال وتغيرت المبادئ والأطوار، فهم هم الخدم المخلصون والصحابة المقربون والله أعلم بما يظهرون وبما يبطنون.
نص المنشور
قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بشفوف علمهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلى الحي القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلدوا في العالم صحفا مالها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقا، ويسيرون فيها شواكل وطرقا، ذلك بأن الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون! ونشأ منهم في هذه الحجة البيضاء شياطين إنس يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب، وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب؛ لأن الكتابي (؟!) يجتهد في ضلال ويجد في كلال، وهؤلاء جهدهم التعطيل وقصاراهم التمويه والتخييل، دبت عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قدمنا لهم على شدة حروبهم، وأعفى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم، وما أملي لهم إلا ليزدادوا إثمًا، وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علمًا.
وما زلنا — وصل الله كرامتكم — نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم إلى الله سبحانه ويدنيهم، فلما أراد الله فضيحة عمايتهم وكشف غوايتهم، وُقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ كتاب صاحبها بالشمال، ظاهرها موشح بكتاب الله وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لبس منها الإيمان بالظلم، وجيء منها بالحرب الزبون في صورة السلم، مزلة للأقدام، وهَم يدب في باطن الإسلام أسياف أهل الصليب دونها مغلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مفلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم، فلما وقفنا منهم على ما هو قذى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقصى السفهاء من الغواة، وأنقضناهم في الله كما أنا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم إن دينك هو الحق اليقين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صرفوا عن آياتك، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعد أسفارهم وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم. ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلمام بالسيف في مجال ألسنتهم والإيقاظ بحده من غفلتهم وسِنتهم، ولكنهم وقفوا بموقف الخزي والهون، ثم طردوا عن رحمة الله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
فاحذروا — وفقكم الله — هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عثر منهم على مجد في غلوائه عمٍ عن سبيل استقامته واهتدائه، فليعاجل فيه بالتثقيف والتعريف ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار! وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. أولئك الذين حبطت أعمالهم أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون، والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم إنه منعم كريم. ا.ﻫ. المنشور.
(٢٥) بعد المحاكمة
ومعظم المؤرخين على رأي أن المحنة وعقوبتها والعفو عنها لم تطل أكثر من سنة، فقد ذكر شيخ الشيوخ تاج الدين: «لما دخلت إلى البلاد (يعني الأندلس) سألت عن ابن رشد، فقيل إنه مهجور في داره من جهة الخليفة يعقوب، ولا يدخل عليه أحد ولا يخرج هو إلى أحد.» وهذا نوع من الاعتقال السياسي؛ لأن ابن رشد على هذه الرواية لزم بيته واستقر في كسر داره، فسأل تاج الدين عن السبب، قالوا رفعت عنه أقوال رديئة، ونسبت إليه كثرة الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل. وروى تاج الدين أن ابن رشد مات وهو محبوس بداره بمراكش في أواخر سنة ٥٩٤.
ولكن الراجح عندنا أن جماعة من الأعيان بأشبيلية شهدوا لابن رشد أنه على غير ما نسب إليه. فرضي المنصور عنه وعن سائر الجماعة من أصحابه ومريديه وتلاميذه الذين عوقبوا معه، وشفعوا لهم وطلبوا العفو عنهم، وكان ذلك في سنة ٥٩٥، فرضي المنصور عنهم وشملهم بعفوه وقرب ابن رشد.
وجعل أبا جعفر الذهبي مزوار الطلبة ومزوار الأطباء؛ أي نقيبًا للطائفتين جميعًا، وكان يقول عن أبي جعفر الذهبي استرضاء له إنه كالذهب الإبريز الذي لم يزدد في السبك إلَّا جودة. يشير بذلك إلى أن النكبة أنضجت الذهبي، كأن الحكماء في حاجة إلى الحبس والنفي ليستحقوا ثناء الملوك وإعجابهم!
(٢٦) خلاصة عامة
كان الخليفة المنصور في أول أمره أميرًا عاقلًا عادلًا محبًّا للحكمة والحكماء، وكانت حاشيته منهم كما كان أبوه من قبل، فنشأ على إكرامهم وتبجيلهم، وفي أواخر أيامه تغير وتعفف وقرب الأولياء والزهاد، وأعرض بعض الأعراض عن الفلسفة فانتهز أعداء ابن رشد هذه الفرصة ووشوا به وتلاميذه ومريديه، وأقنعوا المنصور بأن إطلاق الحرية للفلاسفة يقولون ويكتبون ما يشاءون مضر بالدولة والدين، ورسموا له طريق الإضرار بهم فأطاعهم وتبع خطتهم منقادًا لا مختارًا، وتلطف في العقاب فاكتفى بالنفي المؤقت ثم ندم فعفا وأصلح واسترضى، فهذه النكبة كلها لم تكن إلا مظهرًا من مظاهر الانتقام والحسد، وقد وجد الحاسدون والحاقدون مجال الدسائس واسعًا فنفثوا سمومهم وشفوا غليلهم، ثم استبان الخليفة الحق فتاب.
(٢٧) مؤلفات ابن رشد
لم يثبت البحث التاريخي أن ابن رشد ألف كتابًا من كتبه قبل السنة السادسة والثلاثين من عمره، وليس في هذا غرابة؛ لأن الاستعداد في الطب والفقه والحكمة يقتضي أعوامًا طويلة، ولم يكن ابن رشد من المبتدعين الذين وضعوا كتبًا في أمور لم يسبقوا إليها مثل الشعراء أو كتاب القصص، ولكنه كان عالمًا والعالم يحتاج قبل التدوين إلى التمحيص والتحقيق، ويجدر بالذكر أنه منذ بدأ بالتأليف لم يقف به عقله القوي وإرادته الغلابة عن الاستمرار في طريق الفكر، فقضى ما بقي من عمره الحافل بجليل الأعمال في الدرس والبحث والتدوين، وقد ذكر رينان عن فهرست عربي في خزانة اسكوريال ثماني وسبعين رسالة أو كتابًا في الفلسفة والطب والفقه وعلوم الكلام، وذكر ابن أبي أصيبعة منه خمسين كتابًا ولم يذكر ابن الأبَّار إلا أربعة كتب ولعله اكتفى بأشهرها.
(٢٧-١) الكتب المطبوعة بالعربية
-
(١)
تهافت التهافت.
-
(٢)
فصل المقال.
-
(٣)
الكشف عن مناهج الأدلة.
-
(٤)
القسم الرابع من وراء الطبيعة.
-
(٥)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
وله بعض كتب عربية مخطوطة سيأتي ذكرها، وما عدا ذلك من الكتب فموجود، إما باللاتينية أو العبرية، ومطبوع بإحداهما، وتوجد مجموعة مخطوطة لبعض كتبه الفلسفية بالعربية في دار كتب أوفيتشي بفلورانس بإيطاليا رأيناها صيف عام ١٩١٠.
(٢٧-٢) تاريخ وضع مؤلفاته
-
حوالي السنة ٣٦ من عمره وضع الكليات في الطب.
-
حوالي السنة ٤٣ من عمره وضع الشرح الصغير للجزئيات والحيوان (بأشبيلية).
-
حوالي السنة ٤٤ من عمره وضع الشرح الوسط للطبيعة والتحليلات الأخيرة (بأشبيلية).
-
حوالي السنة ٤٥ من عمره وضع شرح السماء والعالم (بأشبيلية).
-
حوالي السنة ٤٩ من عمره وضع الشرح الصغير للفصاحة والشعر والوسط لما بعد الطبيعة (بقرطبة).
-
حوالي السنة ٥١ من عمره وضع الشرح الوسط للأخلاق.
-
حوالي السنة ٥٣ من عمره وضع بعض أجزاء من مادة الأجرام (مراكش).
-
حوالي السنة ٥٤ من عمره وضع الكشف عن مناهج الأدلة.
-
حوالي السنة ٦١ من عمره وضع الشرح الكبير للطبيعة.
-
حوالي السنة ٦٨ من عمره وضع شرح غالينوس.
-
حوالي السنة ٧٠ من عمره وضع المنطق (أثناء نكبته).
- (١)
شروحه على التحليلات الثاني.
- (٢)
الطبيعة والسماء.
- (٣)
النفس.
- (٤)
ما بعد الطبيعة.
وما عداها من كتب أرسطو لا يوجد له إلا الشرحان الوسط والصغير، ومن كتب أرسطو مما لا يوجد له شرح: (١) الحيوان. و(٢) السياسة. ومجموعها عشرة كتب، وشرح الحيوان مفقود وذكره عبد الواحد وابن أبي أصيبعة وواضع فهرست اسكوريال، ولم يشرح ابن رشد سياسة أرسطو، وقال في مقدمة الشرح الوسط للأخلاق إنه لم ير ترجمة عربية لسياسة أرسطو في بلاد المغرب، ولما أخذ في شرح جمهورية أفلاطون قال إنه لم يشرع فيها إلا لأن كتب أرسطو في السياسة لم تصل إليه، ولو وصلت لاستغنى بها عن الجمهورية، وهذا يدل على عدم إلمامه بآداب اليونان؛ لأنه لو ألم بها لعرف أن ما دوَّنه أرسطو في السياسة كان نذرًا، وإنه كان مقلدًا لأفلاطون، فلم يكتب شيئًا يداني الجمهورية جمالًا وحكمة، ولأجل تقريب موضوع المؤلفات لذهن القارئ أردنا وضعها على الصورة الآتية …
مؤلفات فلسفية
-
(١)
تهافت التهافت، وموضوعه رد على تهافت الفلاسفة للغزالي. والمقصود بكلمة التهافت سقوط التعاليم على بعضها وانتقاضها، وغاية الكتاب إسقاط كتاب الغزالي ومنه نسخة عربية مطبوعة وله تراجم لاتينية وعبرية.
-
(٢)
رسالة في تركيب الأجرام، وهو جملة مقالات دونت في أوقات مختلفة، والكتاب منتشر باللاتيني والعبراني.
-
(٣)
كتابان في الاتصال يوجدان باللاتينية والعبرية.
-
(٤)
أربعة كتب في مسألة هل العقل المادي يمكنه إدراك الصور المنفصلة (لاتيني).
-
(٥)
شرح كلام ابن باجه في اتصال العقل المنفصل بالإنسان (اسكوريال).
-
(٦)
كتاب الكون.
-
(٧)
في المقولات الشرطية.
-
(٨)
الضروري في المنطق.
-
(٩)
مختصر المنطق.
-
(١٠)
مقدمة الفلسفة في اثني عشر رسالة (عربي اسكوريال عدد ٦٢٩).
-
(١١)
شرح جمهورية أفلاطون عبري ولاتيني.
-
(١٢)
شرح الفارابي وأرسطو في المنطق.
-
(١٣)
شروح على الفارابي في مختلف المسائل.
-
(١٤)
نقد الفارابي في التحليلات الثاني لأرسطو.
-
(١٥)
رد على ابن سينا في تقسيم المخلوقات وقوله إنها ممكنة مطلقًا وممكنة بذاتها ولازمة بما هو خارج عنها ولازمة بذاتها.
-
(١٦)
شرح وسط لما بعد الطبيعة عن ترجمة نيقولا الدمشقي.
-
(١٧)
في علم الله بالجزئيات.
-
(١٨)
في الوجودين الأزلي والوقتي.
-
(١٩)
البحث فيما ورد في كتاب الشفاء عما وراء الطبيعة.
-
(٢٠)
في وجود المادة الأولى.
-
(٢١)
في الزمان.
-
(٢٢)
مسائل في الفلسفة.
-
(٢٣)
في العقل والمعقول (عربي اسكوريال عدد ٨٧٩).
-
(٢٤)
شرح الفردوسي في العقل.
-
(٢٥)
أسئلة وأجوبة في النفس.
-
(٢٦)
أسئلة وأجوبة في علم النفس.
-
(٢٧)
السماء والدنيا.
وقد وضع هذا الجدول على سبيل الحصر، وليس لابن رشد غير هذه الكتب في الفلسفة، ولا يجوز الزيادة عليها أو إنقاصها، ولا يعول على قول أحد في المؤلفات إذا خالف هذا الجدول الدقيق.
في الإلهيات
-
(١)
فصل المقال (مطبوع).
-
(٢)
ملخص لفصل المقال.
-
(٣)
التقريب بين المشائين والمتكلمين.
-
(٤)
كشف مناهج الأدلة.
-
(٥)
شرح كتاب الإيمان للإمام المهدي أبي عبد الله محمد بن تومرت شيخ الموحدين.
كتبه في الفقه
-
(١)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
-
(٢)
مختصر المستصفي في أصول الفقه.
-
(٣)
كتاب في التنبيه إلى أغلاط المتون.
-
(٤)
الدعاوى: ٣ مجلدات.
-
(٥)
دروس في الفقه (عربي اسكوريال).
-
(٦)
كتابان في الذبيحة.
-
(٧)
كتاب الخراج.
-
(٨)
الكسب الحرام.
وله غير هذا أربعة كتب في الفلك، وكتابان في النحو، وعشرون كتابًا في الطب.
(٢٨) تعليم ابن رشد
لم تزد معرفة ابن رشد عن العلوم الشائعة في عصره، فكانت معرفته بالطب محدودة بعلم جالينوس، وفلسفته مستمدة من أرسطو، وفلكه مأخوذًا عن المجسطي، وفقهه فقه معاصريه وأسلافه من أئمة المالكية، فلم يكن الحكيم ابن رشد مبتكرًا ولا مبتدعًا؛ أي إنه لم يؤسس علمًا جديدًا، ولكنه امتاز عن معاصريه بمقدرة في الانتقاد نادرة في زمنه وغير زمنه، وهي ظاهرة في نقده فلك بطليموس، وفيه مبادئ وتقدم فكري لا تصدر إلا عن عقل من أقوى العقول. (راجع النبذة ١٣ من القسم الأول من تلخيص مقالات أرسطو فيما بعد الطبيعة).
كان ابن رشد طبيبًا وفيلسوفًا، ولكن فلسفته أعظم من طبه، فإن مؤلفاته الطبية التي اعتمد فيها على جالينوس لم تبلغ شأو قانون ابن سينا، وكان فقيهًا وفلكيًّا. على أننا لم نقف على آثاره في خدمة الشريعة ولم يحفظ لنا التاريخ أحكامه وفتاواه.
ويظهر أن جده كان أكثر منه توفيقًا في القضاء والتشريع، فله مجموعة فتاوى في مكتبة باريس، عُني أحد تلاميذه بجمعها وتنظيمها، ولكن الذي ميز ابن رُشد حقًّا هو شرحه الكبير لأرسطو، ذلك الشرح الذي جعله في مصاف كبار الفلاسفة المتقدمين، وصدق إرنست رينان حيث قال: «ألقى أرسطو على كتاب الكون نظرة صائبة، ففسره وشرح غامضه، ثم جاء ابن رشد فألقى على فلسفة أرسطو نظرة خارقة ففسرها وشرح غامضها.»
ألف ابن رشد في كل فن شريف مثل الطب والفلسفة والفلك والفقه، وكان يحفظ موطأ مالك عن ظهر قلب.
وكان في جنب اشتغاله بتلك العلوم محبًّا لفنون الأدب، فقرأ شعر العرب في الجاهلية والإسلام، وحفظ كثيرًا من قصائد عنترة وامرئ القيس والأعشي وأبي تمام والنابغة والمتنبي. وأثر محفوظاته ظاهر في أسلوبه ومقتبساته لدى شرح كتاب الشعر لأرسطو، ونستنتج من هذا عرضًا أن العقول الكبيرة القوية تفوق غيرها باتساع دائرتها واقتدارها على الإلمام بأنواع العلوم والآداب ولا ترى في ذلك تناقضًا.
(٢٩) جهله باليونانية
يلفت نظر الباحث في حياة ابن رشد وكتبه عدم إلمامه بلغة غير العربية. أهو اعتداد بالنفس واكتفاء بما حوته اللغة العربية من العلم والأدب، أم ازدراء بما في غيرها من اللغات والكتب، أم يأس من التحصيل لتعذر التعليم؟ لم يعرف ابن رشد اليونانية التي وضعت بها مؤلفات أستاذه ورئيسه أرسطو، ولم يعرف غيرها من اللغات الأخرى الشائعة لعهده، مثل السريانية والفارسية، حتى ولا الإسبانية وهي لغة القوم الذين شب وشاب في بلادهم.
على أن ابن رشد لم يكن وحيدًا في عدم الأخذ باللغات؛ لأن معظم أسلافه من حكماء العرب لم يأخذوا بها، وقد ضاعت عليهم لهذا السبب جميع كنوز آدابها الغنية فلم يقفوا على شعر هوميروس ولا بندار ولا سوفوكليس، فضلًا عن إيشيل وإريستوفان وديموستين. بل إنهم أهملوا أفلاطون نفسه وقصروا كل همهم على درس فلسفة أرسطو، لأن تراجمة الشرق عنوا بكتبه دون غيرها.
ولا شك في أن مؤلفات أرسطو التي شرحها ابن رشد وصلت إليه باللغة العربية التي نقلت إليها في القرن الثالث الهجري قبل ظهور ابن رشد بثلاثة قرون، ويرجع فضل تلك التراجم إلى عصبة من أدباء الشام أمثال حنين بن إسحق وإسحق بن حنين ويحيى بن عدي وأبو بشر متى.
كان ابن رشد حريصًا على الجوهر، فإن فاتته اللغة الأصلية (وهذا يدعو إلى الأسف) فلم تفته فكرة المقارنة بين جميع التراجم المعروفة لعهده، فقد جمعها وفحصها وناقشها بحذق فائق، حتى يكاد من لا يعرف الواقع يحسب أنه كان يعرف اللغة الأصيلة، وقد عزيت إلى جهله باليونانية أغلاط وقع فيها وأخذها عليه ألد أعدائه لويس فيفيس، ولا شك أن التعصب الديني وعمى البصيرة دفعا لويس إلى المعاندة والمعاكسة، ولكن هذا لا ينفي صدق انتقاده في أمور.
فقد خلط ابن رشد بين بروتاغوراس وفيثاغورس، وبين فراطل وديموقريط، وحسب هيراقليط جماعة من أتباع هرقل أولهم سقراط، وزعم أن أناكساغور رئيس المذهب الإيطالي … على أن لويس فيفيس الذي أعماه التعصب أخذ هذه الأغلاط على علاتها وحاسب ابن رشد عليها، ولم يدرك عذره لنقلها عن التراجمة الذين كان جهلهم بآداب اليونان وتاريخهم عظيمًا.
ونظن إحجام العرب عن الشعر القصصي والتأليف التمثيلي راجع إلى جهلهم بآداب اليونان واكتفائهم بدرس فلسفة أرسطو، على أن أرسطو نفسه لم يبدأ بتدوين الفلسفة إلا بعد أن أتقن آداب قومه. وفي مؤلفاته من الأمثال والشواهد والاقتباس ما يدل على ذلك، ويجوز أن إعراض العرب عن القصص والتمثيل نشأ عن الظن بأنهما خاليان من الجد والجلال القائمين بالفلسفة، وحسبوا أن الإسلام دين جد وخشونة، فنَشَئُوا عليهما وبعدوا عن عوامل الاستهواء والتخدير، وخطأ هذا الرأي ظاهر.
(٣٠) أسلوب ابن رشد
أسلوب ابن رشد يشوبه الجفاف، وله العذر؛ فإن الفيلسوف لا يملك أن يصوغ تعاليمه في أسلوب رقيق جميل إلَّا إذا توافرت له شروط كثيرة لم تتوافر لابن رشد، منها سهولة اللغة وغناها وتهذيبها بأقلام العشرات بل المئات من الشعراء والكتاب، بحيث تصبح في يد الفيلسوف أداة سهلة تمكنه من التعبير عن أدق المعاني والأفكار وأبعد العواطف غورًا، ومنها أن يكون الفيلسوف نفسه كاتبًا بارعًا في فنون الأدب، ولا نذكر أن هذين الشرطين اجتمعا لأحد اجتماعهما لنيتشه في ألمانيا، وبرجسون في فرنسا. وكثيرون من الفلاسفة الإفرنج يشبهون ابن رشد في أسلوبه، ونخص منهم بالذكر أوجست كومت، على أن الواقع يدعو إلى التسامح؛ لأن مؤلفات ابن رشد التي تمكن القارئ من الحكم على أسلوبه لصدورها عن قلمه مباشرة نادرة جدًّا، وهي في العربية لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة سيأتي الكلام عليها تفصيلًا.
وذلك لأن معظم كتبه التي كانت موضع الثقة من الطلاب في أوروبا هي باللاتينية ومنقولة عن العبرية.
وسلسلة تأليفه من حيث تعدد الأساليب كثيرة الحلقات؛ فإن أرسطو كتب باليونانية ونقلت كتبه منها إلى السريانية، وترجمها العرب إلى العربية، فقرأها ابن رشد وشرحها، ونقلت شروحها، ونقلت شروحه إلى العبرية فاللاتينية.
ويستخلص من أسلوب ابن رشد في كتبه شغفه بذكر الرجال وتمحيص آرائهم، فأولهم أرسطو ثم شراح فلسفته من اليونان أمثال إسكندر فردوسي فنمستيوس فنيقولا الدمشقي، ومن العرب ابن سينا والغزالي، وقد يشتد في مجادلتهما لأغراض مختلفة، فهو يحارب الغزالي حربًا خارجية لأنه يدافع فيها عن الفلسفة والفلاسفة. أما حربه مع ابن سينا فحرب داخلية أهلية سببها النزاع في تأييد المذاهب ونقضها، وجداله مع إسكندر ونمستيوس قوامه انتقاد شرحيهما وتخطئة فهمهما، وقد ظهر عليهما وبان الحق في جانبه، وإذا ذكر ابن باجه فإنما للثناء عليه وتزكيته، ويسميه والد الفلسفة بالأندلس.
وهو في معظم كتبه حاد المناقشة قاسي اللهجة شديد المراس على خصومه، وقد يسمو به القلم إلى أعلى درجات الكمال الفكري.
ويمتاز أسلوبه بوضوح شخصيته سواء أكان موجزًا أم مسهبًا، فإن أسهب واستطرد كان لطيف العبارة لين القول مقبول الإشارة، ولا تفوته الغاية بالتطويل ولا تغيب عن نظره نتيجة البحث، وله على نفسه سلطان يقفهُ في الوقت الملائم عند حده.
وقيمة كتبه في وقتنا هذا تاريخية محضة، ومن يتناول البحث في كتب ابن رشد وأفكاره فإنما يفعل ذلك بوصف كونها حلقة شريفة من سلسلة الفكر البشري لا مصدرًا موثوقًا به لتعاليم أرسطو، فإن فلسفة أرسطو ظهرت باكتشاف كتبه بأصولها ونصوصها اليونانية في وسط القرن الخامس عشر، ونقلت إلى اللاتينية وسائر لغات أوروبا الحية، ولكنها لم تنقل بجملتها إلى الآن بالعربية. أما تمجيد ابن رشد لأرسطو فلا حد له فيكاد يؤلهه، وقد وضع له أوصافًا تجعله فوق درجات الكمال الإنساني عقلًا وفضلًا، ولو كان ابن رشد يقول بتعدد الآلهة لجعل أرسطو رب الأرباب، والذي يملؤنا إعجابًا وفخارًا بابن رشد أنه بالرغم من تقديس أستاذه بما يفوق العبادة، فهو لا يتنحى عن الجهر برأيه وإن اختلفا. وله في ذلك طريقة ظريفة فلا يعارض المعلم الأول ولا يعترض عليه، بل يلفت نظر القارئ إلى رأي نفسه ويتخلى عن نتائج رأي أستاذه، لا سيما إذا كان يشتمُّ من هذا الرأي مخالفة للدين والعقائد المنزلة، مثل ذلك ما جاء في الشرح الوسط للطبيعيات قال إنه يقصد إلى شرح المشائين دون ذكر رأيه بذاته، وإنه في ذلك يقتدي بالإمام الغزالي في شرح آراء الفلاسفة في كتابه «مقاصد الفلاسفة» ليتمكن من الرد عليها بحقيقتها.
كذلك عند كلامه على اتصال العقل المفارق بالإنسان فقد تنحى عن نتائج الاسترسال فيه، ولم يكن ابن رشد مبتكر هذه الطريقة، فقد سبقه إليها ابن سينا والغزالي وابن طفيل، وسبب هذا الحذر العجيب خوفهم من تهمة الإلحاد، على أن هذا التأدب الشديد في حق الدين لم يق ابن رشد شر تهمة التعطيل؛ لأن الفلاسفة إذا انقلبوا أئمة أو كرادلة فلا يجديهم ذلك نفعًا في نظر أعداء الفلسفة.
شرح ابن رشد مؤلفات أرسطو بثلاث طرق: شرح صغير وشرح وسط وشرح كبير، ففي الكبير اقتباس لكل نبذة من أرسطو مع تحديدها بقوله: «قال أرسطو.» ثم يبدأ الشرح بالإسهاب والتعمق والاستطراد، وهذا الشرح الكبير أشبه شيء بتفسير القرآن من حيث التمييز المطلق بين المتن والشرح، وقد امتاز ابن رشد بهذه الطريقة على الفارابي وابن سينا، فقد كانا يمزجان نصوص أرسطو بشروحهما، أما الشرح الوسط فيقتبس الكلمات الأولى من متن أرسطو، ثم يسير على طريقة الفارابي، والشرح الصغير عبارة عن تحليل وجيز وهو من قبيل نثر المنظوم، فالمتكلم فيه ابن رشد ذاته، ويسير فيه على الطريقة التي ترضيه في الاقتباس والاستشهاد، والناظر في هذا الشرح يعتقد أنه تفسير قائم بذاته. والثابت أن ابن رشد وضع الشرح الكبير بعد الصغير والوسط، ودليلنا على ذلك أنه في آخر الشرح الكبير للطبيعيات الذي أتمه في الستين من عمره أشار إلى شرح أوجز منه، صنفه في مقتبل العمر، وكذلك في الشرح الوسط أعطى على نفسه عهدًا بوضع الشرح الكبير.
(٣١) في أسباب عدم اشتهاره عند المسلمين وسرعة انحلال الفلسفة بعده
السبب في عدم اشتهاره عند المسلمين كما يجب وسرعة انحلال الفلسفة واندثار معالم الحكمة بعده؛ يرجعان إلى عدم انتشار كتبه في الأقطار؛ لأنها لم تخرج من الأندلس التي لم يطل عهد الدول الإسلامية فيها، وقد أمر بعده المتعصب الجهول زيمنينز بإحراق المخطوطات العربية، وذلك بعد الفتح المسيحي وزوال دولة الموحدين، فأحرقت في ساحة غرناطة ثمانون ألف نسخة من الكتب العربية، ولا شك في أن جميع مؤلفات ابن رشد قد التهمتها نيران التعصب الأوروبي في تلك الحريقة العظمى.
وكل ما بقي للعالم من مؤلفات ابن رشد مكتوب بخط مغربي، مما يدل على أنه منقول من الكتب الأصيلة في الأندلس ونقل إلى أفريقيا ومراكش قبل تلك النكبة. أما الكتب العربية الموجودة في مكتبة اسكوريال فليست من أثار عرب الأندلس، إنما من أسلاب السفن التي كان يأسرها قرصان الإسبان من المغاربة، ومع ذلك فلم تنج تلك الكتب المغتصبة من اللهب، فقد أحرقت مرتين في مفتتح القرن السابع عشر وقبيل ختامه (١٦١١ و١٦٧١م.) فتلف أكثر من نصفها.
وعدا الكتب القليلة الموجودة باسكوريال فله كتب عربية بمكتبة أوفيتشي بفلورنسا، وهي شرح وسط لكتاب الكون، وصغير للبلاغة والشعر، وشرح كامل لكتب المنطق وبعض كتبه الطبية في مكتبة باريس الوطنية وليدن واسكوريال. وكتبه العربية نادرة جدًّا، ولكنها كثيرة الانتشار بالعبرية واللاتينية، ولم ينشر بالعربية لابن رشد كتاب قبل أواسط القرن التاسع عشر (١٨٥٩)؛ أي بعد موته بستة قرون ونصف، والفضل في ذلك للعالم الألماني مولر الذي تقدم غيره في نشر فصل المقال. والفضل في نشر كتبه باللاتينية في القرن الخامس عشر لمدن البندقية وبادوا ثم بولونيا وروما ونابولي بإيطاليا، ثم ليون بفرنسا، وقد كثر الإقبال عليها في السادس عشر، ثم نامت في السابع عشر، ثم نسيت بتاتًا، وكان هذا آخر عهد ابن رشد بالشهرة في الغرب.
(٣٢) مذهب ابن رشد
إن تعاليم ابن رشد تشبه بصفة عامة تعاليم أسلافه ومعاصريه من فلاسفة العرب. وهذه التعاليم ذاتها لا تخرج عن فلسفة أرسطو، مضافًا إليها نظريات من الأفلاطونية المستحدثة، وقد امتاز فلاسفة العرب بأن أضافوا إلى تعاليم أرسطو نظرية عقول الدوائر أو الكريات الكائنة بين المتحرك الأول وبين العالم، وانتحلوا فكرة «الانبثاق العام»، والمقصود بها أن الكائنات جمعيها انبثقت وصدرت عن الله؛ أي إنه تعالى هو مصدر خلق الكائنات والمقصود من القول بهذه النظرية اتصال الحركة من المحرك الأول بما هو قريب منه من الكريات ومنها إلى ما هو أدنى من سائر أجزاء الكون، وهكذا إلى العالم الأرضي.
وإنما التجأ فلاسفة العرب إلى هذا المذهب «الانبثاقي» ليطهروا تعليم أرسطو من مذهب الثنوية؛ أي اشتراك القوة والمادة في خلق العالم، وليَمْلَئوا الفراغ الفاصل بين القوة القائمة بذاتها أو القوة المحض وبين المادة الأولى. ولا يخفى أن الثنوية الأرسطية غايتها تعليل العالم بفرض وجود عنصرين مطلقين في ذاتهما مستقلين عن بعضهما منفصلين تمام الانفصال؛ وهما الروح أو القوة والمادة. ولما كان التوحيد أولى فرائض الإسلام، وكان أرسطو هو الفيلسوف الوحيد الذي انتحل المسلمون تعليمه، وكان تحوير تعليمه أهون عليهم وأسهل لديهم من الانحراف عن العقيدة الدينية، انتحلوا مذهب «الانبثاق العام» وأحلوه محل الثنوية الأرسطية، على ما فيه من مخالفة جوهرية لبقية تعاليم أرسطو.
وقد سار ابن رشد على هذا الدرب الذي سار عليه من قبل الفارابي وابن سينا؛ لأجل ما تقدم صار مذهب ابن رشد علمًا على مذاهب فلاسفة العرب الذين اهتدوا بأرسطو وتبعوا مدرسته، ويجوز أن يطلق عليهم تجاوزًا اسم «المشائين في العرب»، فمذهب ابن رشد يجمع مذاهبهم ويوفق بين أرائهم ويلم شعث تعليمهم. وقد صار اسمه اسمًا للفلسفة العربية؛ لأنه لم يشتغل واحد من فلاسفة العرب بغير تعاليم أرسطو، ومن حسن حظه أنه جاء متأخرًا وقد ألم بمؤلفات المتقدمين منهم وذكرهم وروى عنهم وقرظ بعضهم وانتقد البعض الآخر؛ فنتج عن ذلك أن امتزجت أفكارهم بأفكاره، واختلطت آثارهم بآثاره، فنسب إليه المؤرخون في الشرق والغرب آراء الذين سبقوه مثل ابن سينا والفارابي.
على أن العدل يقضي بالقول بأن فضل ابن رشد لا يربو على فضلهم إلا في أنه أسهب في شرح أقوالهم، على أن ابن رشد لم يكن ناقلًا وشارحًا ومقلدًا فقط كما يذهب إليه بعض المؤرخين، بل كان أيضًا واضعًا ومبتدعًا ومجددًا، ومثله في الابتداع والتجديد في أثناء الشرح والتفسير مثل غيره من فلاسفة العرب، فإنهم لم يقنعوا بشرح أرسطو بغير نقص أو ازدياد، إنما اتخذوا شرح مذهبه وسيلة لبيان مذاهبهم.
ومن ينعم النظر في كتب العرب التي جعلوها شرحًا لفلسفة اليونان، يستطع استخلاص فلسفة عربية إسلامية قائمة بذاتها، ممتازة بعناصر فكرية خاصة بها، ومغايرة في مجموعها للفلسفة المعروفة لعهدهم والمعمول بها بين أهل الرأي. وهذه الفلسفة العربية الإسلامية الخاصة ظاهرة آثارها بجلاء في مذاهب الفرق المعتزلة والقدرية والجبرية والصفاتية والباطنية والأشعرية وفي علوم الكلام. ويظهر هذا من مراجعة أمثال كتاب الملل والنحل والفرْق بين الفرَق، ولكن العرب لم يطلقوا على مباحث هذه الفرق اسم الفلسفة لأسباب يطول شرحها، وليس هنا مقام الكلام فيها، إنما قصروا اسم الفلسفة في عرفهم على فلسفة الأقدمين، وأطلقوا اسم الفيلسوف على من ينقطع لدرسها وفحصها وشرحها. إذا تقرر ذلك وضح لنا أن ما يعرف بالفلسفة العربية هو في الحقيقة جزء محدود جدًّا من الحركة الفكرية في الإسلام.
وقد اختلف الناس في أي الوصفين أفضل الفلسفة العربية أو الفلسفة الإسلامية، ولكل من منتحلي أحد الوصفين حجج وقرائن، أما نحن فنفضل وصف الفلسفة الإسلامية؛ لأن أبحاثنا في الكندي والفارابي دلت على أن الفضل في انتحال الفلسفة اليونانية راجع للعباسيين، وهم من سلالة فارسية؛ أي من شعب آري من هنود أوروبا. وإن كانت الفلسفة بعيدة عن العرب وغريبة عنهم بوصف كونهم شعبًا ساميًّا، فما هي بالغريبة عن الإسلام بوصف كونه مجموعة عقائد وجدانية وقواعد عقلية وأنظمة اجتماعية ومبادئ مدنية.
على أن هذا التمييز لا يضير العرب في شيء ولا يقلل من قدرهم، فإن العباسيين لولا الإسلام ما اتجه نظرهم نحو الفلسفة اليونانية، وأول فلاسفة الإسلام عربي صميم وهو الكندي، والإسلام ذاته مصدره نبي عربي نشأ وترعرع ودعا لدينه في البلاد العربية، فمثل الفلسفة الإسلامية كمثل كتاب ذي جزأين: الأول مصدره الشرق، وقد دونه الكندي والفارابي وابن سينا؛ والثاني مصدره الغرب، ومؤلفوه ابن باجه وابن طفيل وابن رشد. والناظر في فلسفة ابن رشد يرى أنها لا تختلف في جوهرها عن فلسفة ابن باجه وابن طفيل. وهذان الحكيمان قد أكملا وأتما في الغرب ما بدأ به الثلاثة الأول في الشرق.
في الفلسفة الإسلامية ثلاثة أسماء تعلو على ما عداها علو قمم حملايا والجبل الأبيض على قلل الجبال الصغرى، هذه الأسماء هي ابن سينا والغزالي وابن رشد: أما ابن سينا فهو أعلى فلاسفة الشرق الإسلامي كعبًا وأوسعهم رأيًا وأطولهم نفسًا وأرحبهم فكرًا. والغزالي باقعتهم وداهيتهم ومقدمهم؛ لأنه أقدرهم بحثًا وأبعدهم نظرًا وأعمقهم فكرًا وأطولهم باعًا وأبلغهم يراعًا، وقد كان من حظه أنه أدرك قبل سواه استحالة الوصول إلى الحقيقة بطريقة العقل، وقد جاءت فلسفة كانط الألماني بعده بعدة قرون تؤيد رأيه. فلما وقر في نفس الغزالي عجز العقل البشري عن الوصول إلى الحقيقة بطريق البحث الفكري، تصوف ظنًّا منه أن طريق الصوفية أقرب الطرق للوصول، وكان من نتائج هذا التحول الطبيعي في عقل جبار كعقله أنه بدأ يهدم آراء الفلاسفة، فألف كتاب تهافت الفلاسفة ضد آراء ابن سينا، وحاول هدم «مبدأ العلة»، فالغزالي سبق كانط في القول باستحالة وصول العقل إلى الحقيقة، وأقول إنه سبق أيضًا هيوم الأيقوسي الذي كان جاحدًا ومعطلًا، وكان لآرائه بعض الأثر في ذهن كانط، والفرق بينهما أن هيوم وضع مبدأ اليأس على أساس الفوضى، ولكن كانط وضعه على أساس المنطق والنظام.
الغزالي أنكر قدر العلم وحط من قيمته، ونهى عنه لقلة نفعه. وأنكر قوة العقل وأثبت عجزه فسبق في ذلك حكيمين من أكبر حكماء أوروبا الحديثة، وهما هيوم وكانط، ثم أخذ يبحث عن طريق للوصول إلى الحقيقة، فاهتدى إلى مذهب الافتطار، وهو المذهب الذي يقول به الآن في فرنسا الفيلسوف برجسون، هذان هما العالمان اللذان ظهرا في الشرق: ابن سينا والغزالي، وثالثهما ابن رشد، وقد ظهر فضله في أمور كثيرة، منها أن الفلسفة كانت منذ القدم تشمل نظريتين عظيمتين في تعليل الكون وتفسيره وحقيقة السبب الأول وتحديده. النظرية الأولى: تقول بحرية علة العلل، وبأن لها مميزات تحددها وتعينها، وأن للعناية ما لها من القدرة في تدبير العالم، وتشرح سبب خلق الكون وغايته ونهايته، وتقول بأن النفس الإنسانية كان مادي خالد. والنظرية الثانية: تقول بأن المادة أزلية، وأن أصل الحياة جرثومة تتطور بفعل قوتها الكامنة، وأن علة العلل غير محدودة، وأن للطبيعة قوانين لا بد من نفوذها، وأن الضرورة من قوانين الكون، وأن للعقل وجودًا غير مستقل. وقد كان من نصيب فلاسفة الإسلام أن انتحلوا النظرية الثانية.
وكان الفضل في إظهارها وتفسيرها ودعمها لابن رشد أكثر من غيره، وهو كما أسلفنا ثالث العلمين ابن سينا والغزالي، وإذا أمعنا النظر في المذهبين السالفين نرى أن أولهما مذهب الخلق، وثانيهما مذهب التطور والارتقاء. وكان من حسن الحظ أن ابن رشد دحض نظرية الخلق ونقضها وأيد نظرية التطور وقال بها، ومن مستلزماتها القول بأزلية المادة وضرورتها، وأنها أصل الكائنات، وأنها «لا بد منها ولا غنى عنها».
أما عن تدبير الكون بالنسبة لعلة العلل فقد قال ابن رشد: «إن حكم الكون يشبه حكم المدينة، فالحاكم هو المصدر الأعلى لكل ما ينفذ، ولكن جزئيات حوادثها وتفاصيلها لا تصدر عنه مباشرة ولا يتحتم علمه بها.»
ويعتبر ابن رشد السماء كائنًا حيًّا مكونًا من عدة أجرام لها أنظمة خاصة بها في حياتها ودوراتها وتأثيرها في بعضها البعض وفي الإنسان، وهذا كله مستفاد من الكتاب الثاني عشر من بعد الطبيعة لأرسطو، ونظرية ابن رشد في العقل الإنساني هي خلاصة الكتاب الثالث من كتاب الروح، مضافًا إليها مزيج من التصوف والتوفيق والتقريب التي يمتاز بها حكماء الإسلام.
(٣٣) مذهبه في العقل
غير أن ابن رشد امتاز بمذهبه في العقل، وقد قال فيه قولًا اهتز له علماء اللاهوت في القرن الثالث عشر المسيحي، فإنه لما أخذ يشرح رأي أرسطو في العقل الفعال أو المؤثر والعقل المتأثر أو المتلقي، بدأ بالرد على آراء الشراح السالفين وفندها وزيفها، وقرر أنه استخرج رأي أرسطو على حقيقته دونهم، وأنهم لم يدركوه ولم يبلغوا شأوه، وهاك رأيه ملخصًا بإيجاز عن مقالته «في النفس» المحفوظة بدار الكتب الوطنية بباريس: إن القوة التي تتلقى المعقولات لا تتأثر بها ولا تنفعل بتأثير، سوى تأثير الإدراك، وهذه القوة تعادل قوة الشيء المُدْرَك ويمكن تصورها بطريق القياس. وقوة المعقولات كالحس للمحسوسات مع فارق وهو أن القوة التي تتأثر بالمحسوسات تخالطها نوعًا.
أما قوة المعقولات فخالصة مطلقًا شريفة بذاتها منزهة عن الاختلاط بالصورة، ومما لا بد من بيانه أن هذه القوة وهي العقل الهيولي، لما كانت تدرك كافة المعقولات وتلم بجميع الصور، فلا يجوز أن تمازج الصور والأشكال؛ لئلا تمنعها إحدى الصور التي تخالطها عن إدراك غيرها من الصور، أو يؤدي التمازج إلى تغير الصور المدْرَكة، فإذا تغيرت تلك الصور اضطرب التعقل، وفقد العقل الهيولي قوته التي أصلها إدراك الصور على حقيقتها، وتحولت طبيعته وهي الإلمام بالأشكال بغير تغير طبيعتها.
لهذا تقضي الضرورة ببقاء العقل قوة قائمة خالصة من شوائب الاختلاط طاهرة من أدران الامتزاج بالأشكال. فإذا تقرر ذلك، ثبت أن طبيعة العقل لا تكون إلا سجية بسيطة غير مركبة، وما العقل بعنصر محتاج إلى الترتيب، إنما هو الترتيب بذاته والنظام بعينه. والعقل في القوة يقابله العقل الهيولي، والهيولي إما مكون من مادة مصورة وإما بسيط فهو المادة الأولى.
هذا هو معنى العقل المتأثر الذي وضعه أرسطو وشرحه إسكندر فردوسي، ثم أخذ ابن رشد يشرح تفسير تمستيس ومرجعه أن العقل أو الهيولي لا يخالط قوى النفس الأخرى، وهو عبارة عن استعداد ذي مادة منفصلة عما عداها من القوى، ويقول ابن رشد إن العقل سجية أو استعداد بغير صور هيولية، وهو كذلك مادة منفصلة محلاة بهذا الاستعداد؛ لأن الاستعداد القائم بالإنسان يجوز اتصاله بالمادة المنفصلة لأنها لاصقة بالإنسان، أما الاستعداد فليس ملازمًا لطبيعة المادة المنفصلة كما ظن الشراح، وليست استعدادًا صافيًا كما ظن إسكندر بمفرده.
ومما يدل على أن الاستعداد ليس خالصًا بذاته كون العقل الهيولي يدرك هذا الاستعداد بدون صور مع إدراك الصور، فيتحتم حينئذ أن يدرك اللاوجود، حيث يمكنه إدراك ذاته بغير صور، وينتج عن هذا أن القوة التي تدرك هذا الاستعداد والصور التي تطرأ عليه تكون حتمًا خارجة عنه، ويظهر من هذا جليًّا أن العقل الهيولي هو شيء مركب ومكون من الاستعداد القائم بالإنسان، ومن عقل يضيف ذاته إلى هذا الاستعداد ويبقى مستعدًا بالقوة لا بالفعل، وهذا العقل هو العقل الفعال بذاته، وما دام فعالًا بالقوة فهو عاجز عن إدراك ذاته، وقادر على إدراك ما عداه؛ أي الموجودات الهيولية، وإذا ما انفصل عن الاستعداد صار عقلًا بالفعل مدركًا ذاته دون ما كان خارجًا عنه من الهيوليات، ولما كان في النفس وظيفتان: الأولى صنع الصور المعقولة، والثانية تلقِّيها، فما دام العقل يصنع صورًا معقولة فهو عقل فعال، وما دام يتلقاها فهو متأثر، وما هاتان الوظيفتان المتعددتان في الظاهر إلا وظيفة واحدة في الحقيقة.
ويظهر مما تقدم أن إسكندر استقل دون من عداه من الشراح برأي يخالفهم، ولكن رأي أرسطو جامع بين الاثنين، وغني عن البيان أن ابن رشد يشارك حكماء العرب في شرح هذه المسألة العويصة، ولكنه امتاز بمبحث عظيم الشأن، وهو ما إذا كان العقل الإنساني أو الهيولي أو المتأثر يستطيع الاندماج في الحياة الدنيوية بالعقل الفعال العام.
فقسم ابن رشد قوى النفس وبيَّن علاقتها ببعضها، ثم أوجب الارتباط بين العقل المنفصل الفعَّال وبين العقل الهيولي كارتباط المادة بالصور، وقال إن العقل بالملكة يدرك العقل الفعَّال العام، وإن العكس مستحيل؛ لأن العقل الفعال العام لو أدرك العقل بالملكة أي العقل الإنساني لطرأ عليه حادث، وحيث إن العقل الفعال العام مادة أبدية وليست عرضة للطوارئ، فالعقل الإنساني هو الذي يدرك العقل العام؛ أي إنه يرفع ذاته إلى العقل العام ويتحد به مع كونه قابلًا للفناء ومع بقائه كذلك، فيتولد منه استعداد جديد يمكنه من إدراك العقل العام، ومثل العقل العام كالنار والعقل الإنساني هشيم يشتعل ويتحول لهبًا بقربه من النار، وهذا هو الاتصال المباشر.
وقد يكون الاتصال بالعقل المستفاد أو المنبثق، وتكلم في إمكان الاتصال بالعقل العام وهو أقصى درجات الكمال، فقال إنه يختلف باختلاف الأفراد، ومرجعه ثلاث قوى: الأولى قوة العقل الهيولي الأصيل وأساسها قوة الخيال، الثانية كمال العقل بالملكة، ويقتضي بذل جهود في التفكير، الثالثة الإلهام وهو معونة ربانية تصدر من فضل الله، جعلها ابن باجه شرطًا أساسيًّا للاتصال، فإذا ما توافرت للفرد تلك المواهب الثلاث وهيأته العناية للوصول، خفيت ذاتية المتصل والعقل الفعال ذاته ينمحي لدى اتصاله بالله الموجود الحق الفرد الذي له الوحدانية المطلقة، وكذلك تنمحي سائر صفات النفس كما تلتهم النار مستصغر اللهب.
ومجمل القول إن الكمال الأعلى يبلغ بالدرس والتفكير والترفع عن الدنايا والشهوات بعد تكميل العقل المفكر، ولا يكفي ما زعمه الصوفيون للاتصال من التأمل العقيم بدون درس، وهذه السعادة العليا لا ينالها الإنسان في هذه الحياة إلا بالدرس والاجتهاد والمثابرة، ومن لا ينالها في هذه الحياة يهلك بالموت ويلحقه العذاب الأليم، ولما كان ابن رشد لم يقل بأن العقل الهيولي مادة فردة، إنما جعله استعدادًا بسيطًا يوجد ويعدم مع الإنسان الذي يولد ويموت، فلا يرى شيئًا خالدًا سوى العقل الفعال العام، والإنسان لا يكسب بالاتصال شيئًا ينقله من الوجود الدنيوي، أما خلود النفس فخرافة.
ومن يقرأ الكتاب الثالث في «الروح» لا يسعه إلا استنتاج مذهب وحدة النفوس نتيجة مباشرة لمذهب أرسطو، ولكن أرسطو لم يقل بها، وأما ابن رشد فقال بها. وما أشبه قول مالبرانش بقول أرسطو في العقل الغير المعين الذي يرشد الخلق جميعًا، وبدونه لا يدرك شيء. وقد اتفق مع ابن رشد في الوصول إلى هذه النظرية واستنتاجها من كتب أرسطو جميعُ الشراح الإغريق الذين تصدوا لشرح أرسطو، أمثال إسكندر فردوسي وتمستيوس دي فليبون وسائر فلاسفة الإسلام، ولما كان لهذه النظرية شأن عظيم فلا بأس من الإلمام بها بإيجاز.
يظهر أن السبب الذي منع أرسطو عن التصريح بها مخالفتها لروح فلسفة المشائين بل غرابتها بتاتًا، وهو نفسه في الكتاب الثامن من الطبيعيات يقول بأنها من آراء أناكساغور، ويمكن تلخيص نظرية أرسطو بأن العقل يحتاج في فعله إلى أمرين: الأول أثر خارجي يتلقاه الكائن المفكر بطريق الحس، الثاني رد فعل يصدر عن الداخل بمناسبة حدوث الأثر: فالحس يقدم للفكر مادة التفكير والعقل الصرف يقدم شكل التفكير؛ أي إن الحس والعقل يتضافران في إحداث المعقول، الأول يعطي الموضوع والثاني يعطي الشكل، وهذه النظرية لا تختلف في شيء جوهري عن النظريات الحديثة في المعرفة التي وصل إليها الفلاسفة في القرن التاسع عشر قبل ظهور برجسون في فرنسا.
- الأول: تمييز بين العقل الفعَّال والعقل المتأثر.
- الثاني: عدم هلاك العقل الفعَّال أو المؤثر وقابلية الثاني للهلاك.
- الثالث: عقل فعَّال خارج عن الإنسان مثله كمثل شمس العقول.
- الرابع: وحدة العقل الفعَّال.
- الخامس: وحدة العقل الفعَّال مع آخر العقول الدنيوية.
وإذا رجعنا إلى نصوص أرسطو ألفينا كلامه جليًّا واضحًا في المبحثين الأول والثاني، ومترددًا في الثالث. والفضل في إبراز المبحثين الرابع والخامس يرجع إلى ابن رشد وبقية الشراح، وقد قال بهما بعد ذلك ليبنتزو مالبرانش، وكلاهما من أتباع ديكارت وخلفائه المباشرين في فلسفته، وهو يعد واضع الفلسفة الحديثة. وقد تفوق ابن رشد على غيره من الشراح حتى الإغريق منهم، وهم الذين قرءوا أرسطو في الأصل؛ لأن ابن رشد وإن كان قد اعتمد على التراجم إلا أنه وصل بعقله القوي في وسط ظلام النقل والتحريف إلى ما لم يصل إليه أحد من قراء الأصول.
تقدم ابن رشد لأنه بحق أفضل من شراح اليونان أمثال إسكندر فردوسي، فإنه ينسب إلى أرسطو القول بأن العقل حالة استعدادية للتلقي، والحقيقة هي التي قال بها ابن رشد، وهي أن أرسطو قال بأن العقل كائن مستعد للتلقي. ويقيم ابن رشد الحجة على إسكندر ويجادله جدلًا عنيفًا في كتبه، وينسب إليه التقصير والقصور عن إدراك حقيقة آراء أرسطو، ويخطئه بجرأة المفكر الواثق من نفسه، والحقيقة هي التي قال بها ابن رشد وأيده فيها بقية الفلاسفة.
(٣٤) في النفس
أما رأي ابن رشد في النفس فهو يقول بأنها متصلة بالجسم اتصال الصورة بالمادة، وهو يخالف ابن سينا في قوله بنظرية النفوس المتعددة في الخلود؛ أي خلود النفوس جملة؛ لأن النفس لا وجود لها إلا مكملة للجسم المتصل بها. ومجمل آراء ابن رشد في علم النفس تتفق مع آراء أرسطو وتخالف جالينوس، ولا يخالف أرسطو إلا في نظرية واحدة وهي نظرية أرسطو في «نوس»، فإن ابن رشد يخالفه مخالفة على غير أساس مستمدًّا آراءه من الأفلاطونية المستحدثة، على ما فيها من التناقض لمذهب أرسطو في جملته.
أما قوله في العقل فغايته أن العقل المتأثر هو عقل الأفراد، وهو قابل للزوال، والعقل الأزلي هو عقل الإنسان بوصف كونه جنسًا، ووظيفة العقل الفعَّال تقديم الصور النفسية بهيئة مقبولة للعقل المنفعل فيتقبلها ويدركها.
ظن كثيرون من فلاسفة القرون الوسطى أن ابن رشد قال بوحدة النفوس، وحاولوا الطعن فيه والرد عليه، فقد خيل إليهم أن رأي ابن رشد يؤدي إلى القول بأن النفس العامة تكون عاملة وغير عاملة، وطروبًا وحزينة على التوالي، وفي هذا من التناقض ما فيه. إنما عقيدة ابن رشد في وحدة النفوس كانت ترمي إلى غرض أسمى في نظام الكون، فقد كان يعتقد أن أجزاء الكون متشابهة وذات حياة ووجود لا شك فيهما، وأن الفكر الإنساني في مجموعه نتيجة القوى العليا ومظهر عام للكون بأسره.
ومعنى هذا أن ابن رشد كان يقصد بوحدة النفوس القول بأن الإنسانية تعيش عيشة دائمة، وأن خلود العقل الفعال هو إحياء دائم للإنسانية واستمرار دائم للمدنية. وهنا نلفت نظر الباحثين إلى الاتفاق التام بين هذا القول وبين نظرية أوجست كومت في خلود الإنسانية وبقائها، تلك النظرية التي أدت به إلى وضع دين الإنسانية، فأقيمت له معابد في بعض ممالك الغرب.
يقول ابن رشد مستمرًا في نظرية وحدة النفوس إن العقل كائن مطلق مستقل عن الأفراد كأنه جزء من الكون. وإن الإنسانية وهي أحد أفعال هذا العقل عبارة عن كائن لازم الوجود أزلي، وإنه بناء على هذا، لا بد من ظهور الفلسفة، وإن وجودها ضروري ليتمكن الفيلسوف من الإشراف على العقل المطلق، وينتج من هذا أن الإنسان والفيلسوف لازمان لنظام الكون.
(٣٥) مذهب الاتصال
هو أساس علوم النفس في الشرق، وهو المذهب الذي شغل فلاسفة الأندلس أمثال ابن باجه وابن طفيل كما أسلفنا، بل هو مذهب التصوف، وبه كان للصوفية سبع منازل أو درجات، وقد عبر عنه بعض فلاسفة الإفرنج مثل إرنست رينان أنه مذهب «نحن وأنت»، أو مذهب القائلين أنا أنت، وأنت أنا، وأنا هو.
ومن حسن حظ الفلسفة أن ابن رشد بقي بعيدًا عن هذا المذهب، لأنه كان أقل الفلاسفة تصوفًا، وأكثرهم اتباعًا للعقل واقتفاء لأثر الحقائق، وكان يقول بأن الاتصال ممكن بالعلم دون سواه، وأعظم نقط الوصول بلوغ العقل الإنساني أعلى درجات السمو الفكري والعلمي، وأن اتصال الإنسان بواجب الوجود ممكن إذا تمكن الإنسان من رفع النقاب عن وجه الحقيقة ونظر إليها مباشرة وبغير حجاب.
ولابن رشد رأي شديد في الصوفية، فهو يطعن في زهدهم، ويقول بأن غاية الإنسان انتصار أرقى أجزاء نفسه على حواسه، فمن بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الجنة، مهما كانت عقيدته، وأن هذه أرقى درجات السعادة، وأن السبيل إليها وعر والوصول نادر؛ لأنها مقصورة على خاصة العظماء لا يصلون إليها إلا في الشيخوخة بعد طول البحث والتعمق في العقليات والإعراض عن الأعراض الزائلة، والقناعة بما يكفي الحياة المادية.
وإن كثيرين من الحكماء قد بلغوا هذه الدرجة وذاقوا حلاوتها لدى الموت؛ لأن هذا الكمال النفساني ينمو على عكس الكمال البدني، فكلما ضعف الجسم، دنت النفس من تلك الرتبة العليا.
وقال ابن رشد إن الفارابي سعى إلى هذه الدرجة طول عمره وانتظرها إلى آخر نسمة من حياته، فلما لم ينلها قال إنها وهم باطل، ولكن حرمان الفارابي من الوصول ليس دليلًا على عدمه، ولكنه دليل على أنه لم يوفق، ولم يكن بين الذين اختارتهم العناية للتمتع بهذه النعمة الكبرى.
نقول إن الذي يمعن النظر في هذا القول يرى أن ابن رشد لم يستطع التخلص من آراء معاصريه، فما هذا القول إلا نوع من التصوف العقلي قد جعله ابن رشد بديلًا من التصوف الروحاني الذي قال به الغزالي ولكنه «تصوف».
(٣٦) النظام الطبيعي في فلسفته
فلسفة ابن رشد نظام طبيعي متماسك الأجزاء، مجموع الشمل، محبوك الأطراف، وهذا ظاهر في رأيه في الخلود، فقد قال بأن العقل الفعَّال وحده خالد، وأنه هو العقل العام للإنسانية، فالإنسانية وحدها خالدة كما قال بعده أوجست كومت. وأن العناية الإلهية منحت الكائن الهالك قوة التناسل، تعزية وسلوى؛ لأن في التناسل بفضل الوراثة نوعًا من الخلود.
وقد ذهب البعض إلى أن ابن رشد نفى وجود الحواس والذاكرة والعواطف في الحياة الأخرى، وأن البدن بعد انحلاله لا يبقى من آثاره شيء، وأن الذي يبقى هو العقل، وهو من المواهب العليا كما أن الحواسَّ والعواطف من الصفات السفلى.
ولكن ابن رشد لم يقل بهذا في كتبه صراحة، لأن في التصريح إنكارًا صريحًا للبعث والخلود، ولكن يمكن القول بأن روح مذهب ابن رشد تؤدي إلى هذا الاستنتاج، ولكنه قال بغير شك إن الإنسان لا يثاب ولا يعاقب إلا في الحياة الدنيا. وكان هذا القول أمضى سلاحٍ شهره الغزالي في وجه الفلاسفة، ونحن لا نعيب ذلك على ابن رشد، بل نشكره على أنه نقض الخرافات التي يقول بها العوام عن الحياة الأخرى، كالقول بأن الفضيلة الدنيوية وسيلة السعادة الأخروية. وقد أحسن ابن رشد بطعنه في آراء أفلاطون التي سبكها في خرافة لفقها عن الحياة الأخرى باسم «هير الأرمني»، وقال إن هذه الخرافات تضلل عقول الأمم ولا نفع فيها.
قال ابن رشد في «التهافت» إن حكماء العرب المتقدمين يحسبون البعث خرافة، وأن أول من قال به أنبياء بني إسرائيل بعد نبيهم موسى، ثم ورد ذكره في الإنجيل وكتب الصابئين، ودينهم في قول ابن حزم أقدم الأديان، وأن الذي دعا واضعي الأديان إلى القول بالبعث اعتقادهم بقوته في إصلاح البشر وحثهم على الفضيلة حبًّا في المنفعة الذاتية.
ويرد ابن رشد على الغزالي قوله بأن الروح عارض؛ أي إنها تعود إلى جسمها الذي هلك، وخليق بالغزالي أن يقول بأن الروح خالد؛ أي إنه سيحل بدنًا مشابهًا لبدنه الأول؛ لأن البدن الذي هلك واعتراه الفساد لا يعود ثانية إلى الوجود، وهذان الجسمان أي الهالك والجديد وإن تعددا؛ فواحد بالنظر إلى الجنس والنوع، وهذا القول لا يختلف عن قول أرسطو في كتاب «الكون والفساد» من أن الكائن القابل للهلاك لا يعود مماثلًا لذاته بعد هلاكه، ولكن يجوز أن يعود بالنوع الذي كان من جنسه.
(٣٧) مذهبه في الأخلاق
لم يكن لابن رشد مذهب في الأخلاق قائم بذاته، ولم يشأ أن يتخذ آداب أرسطو لأنها لا توافق العرب، ولكن أبحاثه العقلية أدت به إلى مناقشة المتكلمين في أساس الأخلاق وهو الخير والشر. قال: يقول علماء الكلام إن الخير بما يريده الله وإنه تعالى لا يريد الخير لسبب قائم بذاته، سابق لإرادته، بل لمجرد إرادته. وإنه تعالى قادر على الجمع بين المتناقضات، وإنه يدبر الكون بغير قيد ولا شرط بل بحرية مطلقة.
ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطأ لأنه يقلب نظام الكون وينقض مذهب العدل الإلهي. ثم انتقل ابن رشد إلى نظرية الحرية فقال: إن الإنسان ليس حرًّا على الإطلاق ولا مطلقًا بغير قيد؛ أي إنه ليس مخيرًا وليس مسيرًا، وإن الحرية تكمل في نفس الإنسان ولكنها تبقى محدودة بقضاء الأحوال الخارجة. فالعلة المؤثرة في أعمالنا كائنة فينا أما العلة العرضية فخارجة عنا؛ لأن ما يجذبنا مستقل عنا وناشئ عن قوانين طبيعية؛ أي عن العناية الإلهية.
لأجل هذا وردت في القرآن آيات تصف الإنسان تارة بالحرية وطورًا بالجبرية وتارة بالتحكم في أعماله، وهي حال وسط بين الأولى والثانية، وقد أوضح ابن رشد هذا المذهب الوسط بين الجبرية والقدرية في كتابه «مناهج الملة». يقول ابن رشد إن المادة الأولى قابلة للتشكل بالمتناقضات كذلك للنفس قوة تقرير مصيرها حيال مختلف الشئون، فهي بذلك حرة. ولكن ليست حريتها تابعة لهواها ولا حادثة عرضًا؛ لأن القوى الفعالة في الكون مسئولة عن نظامه، وليست خلتها عدم المبالاة بسير الأمور. والمصادفات لا وجود لها في عالم المؤثرات.
(٣٨) فلسفته السياسية والاجتماعية
لم يدرك ابن رشد أن جمهورية أفلاطون كتاب خيالي وضعه فيلسوف واسع التصور في قالب شعري، أو أدرك تلك الحقيقة، ولكنه استصوب تطبيق مبادئ الجمهورية على الأنظمة الاجتماعية، لأجل هذا كانت فلسفته السياسية مستمدة من هذا الكتاب الجميل، فأشار بوضع السلطة في أيدي الشيوخ، وبتعليم الأمة الفضيلة بقوة الفصاحة والشعر والعبارة، ثم قال إن الشعر في ذاته مضر لا سيما شعر العرب، وقال إن الحكومة الكاملة لا تحتاج إلى قاض ولا طبيب، ولا بد من الجيش لحماية الرعية.
ولما كان مجال الكلام في الجمهورية، على العدل والظلم واسعًا، فقد تناول ابن رشد ذلك وتكلم عن الظلم فقال: إن الظالم هو الذي يحكم الرعية لمصلحته لا لمصلحتها. وأفظع أنواع الظلم ظلم القساوسة، ثم قال إن حكومة العرب القديمة في صدر الإسلام كانت على نظام جمهورية أفلاطون، ولكن معاوية هدم نظامها وأتلف جمالها بأن خلع سلفه ثم أسس دولة استبدادية، وكان من نتيجة ذلك، تقوض أركان دولة الإسلام وحدوث الفوضى في سائر بلاده ومنها بلاد أندلس. وتكلم عن المرأة فقال إنها تقل عن الرجل في الدرجة لا في الطبيعة: أي كمية لا نوعًا، فهي قادرة على ممارسة أعمال الرجال مثل الحرب والفلسفة. ولكن بدرجة أقل من الرجل، وقد تفوقه في بعض الفنون مثل الموسيقى، ويحسن وضع الأنغام بواسطة الرجال وتوقيعها بواسطة النساء، وقال لا بأس إذا حكمن الجمهورية؛ فهن صالحات للحرب وضرب أمثالًا بنساء أفريقيا وقال: «إن إناث الكلاب تحرس القطيع مثل ذكورها.»
ثم قال ابن رشد قولًا — كأن نفسه أوحت به إلى قاسم أمين بعد موته بنحو تسعمائة سنة — قال: إن حالتنا الاجتماعية لا تؤهلنا للإحاطة بكل ما يعود علينا من منافع المرأة، فهي في الظاهر صالحة للحمل والحضانة فقط، وما ذلك إلا لأن حال العبودية التي أنشأنا عليها نساءنا أتلفت مواهبها العظمى، وقضت على اقتدارها العقلي، فلذا لا نرى بين ظهرانينا امرأة ذات فضائل أو على خلق عظيم. وحياتهن تنقضي كما تنقضي حياة النبات. فهن عالة على أزواجهن، وقد كان ذلك سببًا في شقاء المدن وهلاكها بؤسًا لأن عدد النساء يربو على عدد الرجال ضعفين، فهن ثلثا مجموع السكان، ولكنهن يعشن كالحيوان طفيلي على جسم الثلث الباقي بعجزهن عن تحصيل قوتهن الضروري.
وقد دام الجدال بين علماء اللاهوت وبين أنصار ابن رشد من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر، إلى أن اضطر الباباليون العاشر إلى تكفيرهم بمنشور بابوي إذا هم أصروا على القول برأي ابن رشد، على أن ابن رشد الذي كفر البابا أتباعه لم يكن كافرًا بل كان مؤمنًا فقد نصح الناس بطاعة الدين في الصبا واحترامه في الشيخوخة.
وقد حاول ما حاوله الفارابي من قبل وهو الجمع بين الدين والفلسفة، فألف في ذلك كتابي فصل المقال ومناهج الأدلة، وقد بلغ ابن رشد بالفلسفة العربية أقصى ما يمكن الوصول إليه، وفسر أرسطو بما لا غاية وراءه. وكان آخر فلاسفة العرب وقد تركت تعاليمه أثرًا عظيمًا لدى اليهود والنصارى، وربما كان هذا الأثر أعظم من أثرها في قومه!
(٣٩) واجب الوجود
- الأول: قوله بأزلية العالم المادي وأزلية الأرواح التي تحركه.
- الثاني: ضرورة السبب لحدوث النتائج، فلا مكان للعناية الإلهية ولا المعجزات النبوية ولا كرامات الأولياء؛ لأن ظهورها جميعًا يؤدي إلى نقض نظرية الأسباب والنتائج.
- الثالث: هلاك الأفراد هلاكًا لا مجال بعده لخلودهم أفرادًا.
وكان ابن رشد مفكرًا شجاعًا ثابت المبدأ ولم يكن مبتكرًا، وقد اكتفى بالبحث في الفلسفة النظرية.
ويخالف ابن طفيل وابن باجه في قولهما بالانفراد الفكري والوحدة، ويؤيد المذهب الاجتماعي، ويقول بضرورة تعاون الناس لاستثمار العالم والانتفاع بالحياة، وقد قاده هذا الرأي إلى القول بتحرير المرأة لإشراكها في أعمال المجتمع كما تقدم.
(٤٠) مبادئ ابن رشد «مستفادة من كتبه»
(٤٠-١) كلمة في مؤلفات الغزالي وفحصها ونقدها بإيجاز عن ابن رشد
يعيب ابن رشد على الغزالي تصريحه بالحكمة للجمهور في أماكن كثيرة من كتبه «التهافت» و«الكشف عن مناهج الأدلة». قال في عرض الكلام على الفساد العارض لسبب التأويل في الكتاب الأخير: «أول من غير هذا الدواء الأعظم (أي الأخذ بظاهر الشرع) هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور وبآراء الحكماء على ما أداه إليه فهمه (كذا)، وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد، فزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم، ثم وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة فكفرهم فيه في مسائل وأتى بحجج مشككة وشبه محيرة أضلت كثيرًا من الناس عن الحكمة وعن الشريعة.
«ثم قال في كتابه «جوهر القرآن»: «إن الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدلية، وإن الحق إنما أثبته في المضنون على غير أهله.» ثم جاء في كتابه المعروف بمشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله فقال: «إن سائرهم محجوبون إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى، وهو الذي صدر عنه هذا المحرك، وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية.»
«وقال في غيرما موضع أن علومهم الإلهية هي تخمينات بخلاف الأمر في سائر علومهم، وأما في كتابه الذي سماه «المنقذ من الضلال» فأنحى فيه على الحكماء، وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة هي من جنس مراتب الأنبياء في العلم، وكذلك صرح بذلك القول بعينه في كتابه الذي سماه بكيمياء السعادة، فصار الناس لسبب هذا التشويش والتخليط فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، وفرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة، وهذا كله خطأ، بل ينبغي أن يفسر الشرع على ظاهره ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة؛ لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم دون أن يكون عندهم برهان عليها. وفي كتابه الذي سماه «التفرقة بين الإسلام والزندقة» عدَّد أصناف التأويلات وقطع فيه على أن المُئَول ليس بكافر، وإنْ خَرَقَ الإجماع في التأويل. وهذا الذي فعله هذا الرجل ضار بالذات للحكمة والشريعة، وإن كان نافعًا لهما بالعرض، وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس بأهلها يلزم عن ذلك بالذات إما إبطال الحكمة وإما إبطال الشريعة، وقد يلزم عنه بالعرض الجمع بينهما (؟) والصواب كان أن لا يصرح بالحكمة للجمهور.»
(٤٠-٢) الحكم على الغزالي وتخطيئه
قال ابن رشد في عرض الكلام على الهيولى ورده على الغزالي فيما نسبه إلى الفلاسفة في حدوث النفس: «فتعرُّض أبي حامد إلى مثل هذه الأشياء على هذا النحو من التعرض لا يليق بمثله، فإنه لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه فهم هذه الأشياء على حقائقها فساقها ها هنا على غير حقائقها، وذلك من فعل الأشرار، وإما أنه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض إلى القول فيما لم يحط به علمًا وذلك من فعل الجهال، والرجل يجل عندنا عن هذين الوضعين، ولكن لا بد للجواد من كبوة، فكبوة أبي حامد هي وضعه هذا الكتاب، ولعله طرأ إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه.»
(٤٠-٣) بذور مناهج الأدلة
كتب ابن رشد كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشُبه المزيفة والعقائد المضلة» حوالي السنة الرابعة من العقد السادس من عمره.
وكانت فكرة هذا الكتاب تجول في خاطره عند وضع «تهافت التهافت»، ولعل الذي أوحى بها إليه وقوفه على كتب الغزالي. وقصد ابن رشد من هذا الكتاب كما بينا ليس التوفيق بين الشريعة والحكمة بل قصده جعل الحكمة مقصورة على فريق من الناس يمتازون بالاستعداد الفطري والاقتدار على الدرس بالمثابرة وهم الخواص.
إن الكلام في علم الباري تعالي بذاته وبغيره مما يحرم على طريق الجدل في حال المناظرة، فضلًا عن أن يثبت في كتاب؛ فإنه لا تنتهي أفهام الجمهور إلى مثل هذه الدقائق. وإذا خيض معهم في هذا بطل معنى الإلهية عندهم، فلذلك كان الخوض في هذا العلم محرمًا عليهم؛ إذ كان المكافئ في سعادتهم أن يفهموا من ذلك ما طاقته إفهامهم، ولذلك لم يقتصر الشرع الذي قَصْدُه الأول تعليم الجمهور في تفهيم هذه الأشياء في الباري تعالى لوجودها في الإنسان كما قال الله: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا.
بل واضطر إلى تفهيم معان في الباري تعالى بتمثيلها بالجوارح الإنسانية مثل قوله «خلقت بيدي» فهذه المسألة هي خاصة بالعلماء الراسخين الذين أطلعهم الله على الحقائق، ولذلك لا يجب أن يثبت في كتاب إلا في الموضوعة على الطريق البرهاني، وهي التي شأنها أن تقرأ على ترتيب وبعد تحصيل آخر يضيق على أكثر الناس النظر فيها على النحو البرهاني، إذا كان ذا فطرة فائقة مع قلة وجود هذه الفطرة في الناس، فالكلام في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات التي تلك الأشياء سموم لها، فإن السموم إنما هي أمور مضافة، فإنه قد يكون سمًّا في حق حيوان شيءٌ هو غذاءٌ في حق حيوان آخر. وهكذا الأمر في الآراء مع الإنسان، أعني قد يكون رأي هو سم في حق نوع من الناس وغذاء في حق نوع آخر، فمن جعل الآراء كلها ملائمة لكل نوع من أنواع الناس بمنزلة من جعل الأشياء كلها أغذية لجميع الناس … فإذا تعدى الشرير الجاهل (هل يقصد حجة الإسلام؟) فسقي السم من هو في حقه سم على أنه غذاء، فقد ينبغي على الطبيب أن يجتهد بصناعته في شفائه، ولذلك استخرنا نحن التكلم في مثل هذا الكتاب، وإلا فما كنا نرى أن ذلك يجوز لنا، بل هو من أكبر المعاصي أو من أكبر الفساد في الأرض، وعقاب المفسدين معلوم بالشريعة!
هذه الحملة في التهافت كانت مقدمة للحملة في مناهج الأدلة.
(٤٠-٤) الشريعة والفلسفة
لو تخيلت آمرًا له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون آخرون، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين؛ لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي به صارت موجودة، فإنه أعطى كل شيء وجوده في أنه مأمور، ولا وجود له إلا من قبل الآمر الأول، وهذا المعني هو الذي يرى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف، فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم على التفضيل الذي ذكره الغزالي.
وليس يفهم من مذهب أرسطو غير هذا ولا من مذهب أفلاطون، وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية. والفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوي الإدراكان وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني عنه.
كذلك كان تمثيل المعاد للجمهور بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية كما قال الله تعالى: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فدل على أن ذلك الوجود نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود، وطور آخر أفضل من هذا الطور، والذين شكوا في هذه الأشياء وتعرضوا لذلك وأفصحوا به إنما هي الذين يقصدون إبطال الشرائع وإبطال الفضائل، وهم الزنادقة الذين يرون أن لا غاية للإنسان إلا التمتع باللذات، وما قاله هذا الرجل (الغزالي) في معاندتهم هو جيد.
وهذا الرجل كفر الفلاسفة بثلاث مسائل إحداها هذه، وقد قلنا كيف رأى الفلاسفة في هذه المسألة، وإنها عندهم من المسائل النظرية.
والمسألة الثانية قولهم إنه لا يعلم الجزئيات، وقد قلنا أيضًا إن هذا القول ليس من قولهم. والثالثة قولهم بقدم العالم، وقد قلنا أيضًا إن الذي يعنون بهذا الاسم، ليس هو المعنى الذي كفرهم به المتكلمون، وليس بكفر من قال بالمعاد الروحاني، ولم يقل بالمحسوس إجماعًا، وجوَّز القول بالمعاد الروحاني.
(٤١) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال و«الكشف عن مناهج الأدلة، في عقائد الملة» «وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيفة والعقائد المضلة»
يقال إن الكتاب يعرف من عنوانه، وعنوان كل من هذين الكتابين يدل على ما فيه دلالة صريحة. فقد حاول ابن رشد فيهما، أمرين من أصعب الأمور.
الأول التوفيق بين الفلسفة والدين، ومثله في ذلك مثل الفارابي، إذ حاول في رسالة مشهورة التوفيق بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، ومثل الغزالي نفسه الذي انتهت مبادئه الفلسفية (التي استنبطها في بعض كتبه بعقله القوي وفكره الخارق ونفسه المشتعلة) عند التصوف، فلم ينل إحدى السعادتين، لا سعادة العقل ولا سعادة القلب، ولكن ابن رشد يمتاز بقوة لم تمنح الطبيعة مثلها سواه من فلاسفة العرب، ألا وهي رباطة الجأش عند البحث الفلسفي ووزن الأشياء بميزان الاعتدال الدقيق.
فما رأيناه في أحد كتبه يندفع وراء فكرة اندفاعًا يفقده قيمة الحكم الصحيح، ولا شممنا من يراعه ريح الخيال الذي طار في أفقه كثيرون من الفلاسفة. ونظن ذلك راجعًا إلى سببين: الأول إيمانه الشديد بأرسطو، وأرسطو إله المنطق ورب الاعتدال؛ والثاني تشبعه بالمبادئ القانونية التي من دأبها تحليل الأشياء ووزنها قبل إصدار حكم عليها.
وإلى القارئ دليلًا على قولنا هذا من كتابيه المذكورين آنفًا، فقد تناول في أولهما مسائل في أعلى درجة من الأهمية العقلية والشرعية، تناول تلك المسائل باحثًا ومحللًا ومجادلًا، ولكن بدقة الجراح الحاذق الذي يشرِّح أصغر الشرايين والأوردة ولا يهرق نقطة واحدة من الدم بدون فائدة.
بحث في الكتاب الأول في هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أو محظور؟ واستدل على الإباحة بل الوجوب مستندًا إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية، ثم تدرج من ذلك إلى أن النظر في تلك العلوم لا يجوز أن يكون إلا بأتم أنواع القياس وهو البرهان. وأثبت وجوب الاعتقاد في النظر في القياس العقلي، وأنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله؛ أي النظر في الفلسفة بالمنطق بما قاله من تقدمنا في ذلك، سواء أكان ذلك الغير مشاركًا لنا أم غير مشارك في الملة (أي فلاسفة اليونان وغيرهم من غير المسلمين).
ثم أثبت وجوب استعانة الحكيم بمن سبقه معتبرًا ثمرات العقل البشري منذ بداية تيقظه إرثًا حلالًا لمن يخلفون الحكماء. وأن يستعين في ذلك، المتأخر بالمتقدم، فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك علم الهيئة، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وإبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ولو كان أذكى الناس طبعًا.
ثم ضرب مثلًا بديعًا يصح أن يكون مستنبطًا من صحف شوبنهور أو إرنست هيكل لولا صبغته الشرقية قال: «فهذه صناعة الفقه والفقه نفسه لم يكمل النظر فيها إلَّا في زمن طويل، ولو رام إنسان اليوم من تلقاء نفسه أن يقف على جميع الحجج التي استنبطها النظار من أهل المذاهب في مسائل الخلاف التي وضعت المناظرة فيها بينهم في معظم بلاد الإسلام ما عدا المغرب، لكان أهلًا أن يضحك منه لكون ذلك ممتنعًا مع وجود ذلك مفروغًا منه.»
على أن هذا الحكيم الذي اشتهر بإعجابه بأرسطو إلى درجة التقديس، لم يغب عن ذهنه وجوب الاحتراس لدى الدرس ووجوب «الانتقاد» قبل قبول الرأي، حتى ولو كان رأي أرسطو نفسه قال: «ننظر في الذي قالوه وأثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.» ثم اعترضته فكرة الخوف من قول الفقهاء بأن من ينظر في كتب القدماء يضل ويكفر، فرد على ذلك بأبلغ رد قال: «وليس يلزم من أنه غوى غاوٍ بالنظر في تلك الكتب، وزل زالٌّ إما من قِبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلمًا يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه أو أكثر من واحد منها؛ أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها، فإن هذا النوع من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات، وليس يجب فيما كان نافعًا بطباعه وذاته أن يترك لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.»
وما زال كذلك إلى أن فضل العقل على الشرع الظاهر فقال: «فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني، ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي.» وزاد على ذلك أن استشهد ببعض خصومه في الحكمة قال: «قلنا أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني لم يصح، وإن كان الإجماع فيها ظنيًّا فقد يصح؛ ولذلك قال أبو حامد وأبو المعالي وغيرهما من أئمة النظر إنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل.»
وبعد أن استدل بقول الغزالي على عدم تكفير من يخرق الإجماع بالتأويل سأل القارئ سؤالًا جامعًا قال: «فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام كأبي نصر (الفارابي) وابن سينا، فإن أبا حامد (الغزالي) قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بالتهافت في ثلاث مسائل: (١) في القول بقدم العالم، و(٢) بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات — تعالى عن ذلك! و(٣) في تأويل ما جاء في حس الأجساد وأحوال المعاد.» قلنا الظاهر من قوله (الغزالي) في ذلك أنه ليس تكفيره إياهما في ذلك قطعًا، إذ قد صرح في كتاب التفرقة أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال.
ثم أخذ ابن رشد يبيِّن خطأ الغزالي من حيث الإدراك في النقطة الثانية قال: «فقد نرى أن أبا حامد قد غلط على الحكماء المشائين (أتباع أرسطو أمثال ابن رشد نفسه) فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه — تقدس وتعالى — لا يعلم الجزئيات أصلًا، بل يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا، وذلك أن علمنا معلوم للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا (أي ضده) فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة وذلك غاية الجهل.»
انظر إلى تلك الحملة المدبرة من أولها إلى نهايتها، فقد نظمها عقل جبار ونفذها منطق سليم وصاغها قلم بليغ، لا يقصد ابن رشد الدفاع عن الفارابي وابن سينا، إنما يقصد الدفاع عن نفسه؛ لأنه هو الذي تناول تلك النقط الثلاث بالبحث فأثبتها وقال بها واشتهرت برأيه، فدفاعه ضد الغزالي الذي انتهى برميه «بغاية الجهل» إنما هو دفاع عن مبادئه ألبسه لباس الذود عن حكيمين سالفين من أنصار أرسطو؛ وهما الفارابي وابن سينا.
وقد تناول المسألة الثانية أولًا لأهميتها، ثم عطف على الأولى وهي القول بقدم العالم فأفقدها شأنها قال: «وأما مسألة قدم العالم أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعًا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء.» أفقدها شأنها لأنه ردها إلى خلاف لفظي وهو ما يسميه الفرنسيون (سوء تفاهم)؛ أي إن الطرفين متفقان في الجوهر ومختلفان في العرض، فما على راغب التوفيق إلا أن يرد العرض إلى الجوهر، وهي مسألة لفظية فيزول الخلاف، وقد أخذ فعلًا يبين تقسيم الموجودات من حيث القدم والحدوث إلى ثلاثة أقسام، ثم طرق من حيث يدري باب البحث في الزمان على طريقة الأقدمين وأظهر الفرق بين أفلاطون القائل بأن الماضي متناه، وهذا الذي انتحله المتكلمون، أما أرسطو وشيعته فيرون أن الماضي غير متناه كالحال في المستقبل (غير المتناهي)، واستنتج من ذلك أنه لا يوجد محدث حقيقي ولا قديم حقيقي؛ لأن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة والقديم الحقيقي ليس له علة. ثم ضرب الضربة الأخيرة وهي ضربة معلم خبير بما يقول: «فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة (متناقضة) ويشبه أن يكون المختلفون في هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين، ولذلك قال عليه السلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أحجر.» وأي حاكم أعظم من الذي يحكم على الوجود وهم العلماء.»
ثم انتقل إلى الكلام على الدلائل الثلاثة: (١) الخطابية. و(٢) الجدلية. و(٣) البرهانية. وقال إن الإيمان جائز بأي طريق يتفق للمؤمن من طرق الإيمان الثلاث. فمثلًا يجوز تكفير «من يعتقد أنه لا سعادة أخروية ههنا ولا شقاء، وإنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وإنها حيلة، وإنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط».
ثم عاد إلى الغزالي فلامه على أنه استعمل في كتبه الطرق الشعرية والخطابية والجدلية وقال إنه أضر بالشرع والحكمة معًا من حيث لا يدري؛ لأنه كان يقصد خيرًا وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم، فكثر بذلك الفساد بدون كثرة أهل العلم، وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما، ويشبه أن يكون هذا أحد مقاصده بكتبه، والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبًا من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف، وحتى إنه كما قيل:
ثم انتقل الحكيم الأندلسي إلى قصد الشرع، فقال إن مقصوده إنما هو تعلم العلم الحق والعمل الحق. فالعلم الحق هو معرفة الله وسائر الموجودات على ما هي عليه، والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء، وقد قسم ابن رشد الناس إلى ثلاثة أقسام من حيث العلم بالشريعة والإيمان بما ورد فيها.
-
(١)
صنف ليس من أهل التأويل أصلًا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب.
-
(٢)
صنف من أهل التأويل الجدلي، وهم الجدليون بالطبع أو بالطبع والعادة.
-
(٣)
أهل التأويل اليقيني، وهم البرهانيون بالطبع والصناعة (الحكمة).
قال ابن رشد: «وما يعلم تأويله إلا الله» بمثل هذا يأتي الجواب في السؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور إلى فهمها مثل قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا … فلا يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في كتب الجمهور فضلًا عن الفاسدة. والتأويل الصحيح هي الأمانة التي حملها الإنسان فأبى أن يحملها وأشفق منها جميع الموجودات المذكورة في الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ومن قِبَل التأويلات والظن بأنها يجب أن يصرح بها في الشرع، نشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضًا وبَدَّع بعضهم بعضًا؛ فأوقعوا الناس في تباغض وحروب ومزقوا الشرع وفرقوا الناس.
ويرد ابن رشد هذه الخيبة التي لحقت المسلمين إلى جهل الأشعرية والمعتزلة بشرائط البرهان؛ أي بالمنطق، وإن كثيرًا من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سفسطائية، وقد بلغ بهم التعدي إلى أن فرقة منهم (الأشعرية) كفرت من ليس يعرف وجود الله بالطرق التي وضعوها في كتبهم لمعرفته!
ثم التفت ابن رشد إلى القرآن المحترم لفتة حكيم فقال: «إن الكتاب العزيز إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس (الخطابية) والطرق المشتركة لتعلمي أكثر الناس (الجدلية) والخاصة (البرهانية)، وقال إن أعقل أهل الإسلام هم الصدر الأول؛ فإنهم صاروا إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها، ومن كان منهم وقف على تأويل لم ير أن يصرح به.»
وختم ابن رشد هذا الكتاب العجيب بأبولوجيا ظريفة للتوفيق بين الفلسفة والدين أشبه بصلاة الإكليل بين عروسين متنافرين، جمعت بينهما الضرورة وفرقتهما الطباع والأمزجة والميول، فمثله كمثل قسيس حاذق يهمه قبل كل شيء الخروج من مأزق قال: «إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، فالأذية ممن ينسب إليها أشد الأذية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة!»
أما كتاب «الكشف عن مناهج الملة» فهو مكمل لكتاب «فصل المقال» وتوسع في بعض أجزائه وإلمام بنقط أغفلها المؤلف، إما قصدًا لضيق المجال وإما سهوًا لتشعب البحث، وعادة الاستطراد في بعض الأحوال. وقد نبه إلى ذلك في المقدمة، ولكنه جعل غايته الأصلية فحص مسألة التأويل التي مر بها في «فصل المقال» مرورًا دون أن يتعمق في أصولها وفروعها.
- (١)
الأشعرية.
- (٢)
المعتزلة.
- (٣)
الباطنية.
- (٤)
الحشوية.
وقال بضلال هذه الفرق الأربع، وشرع في بيان ذلك بالكلام على ما قصد الشرع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى. قال: إن الفرقة الرابعة تقول إن طريق معرفة وجود الله هو السمع لا العقل. وقال إن هذه الفرقة بلغت بها فدامة العقل وبلادة القريحة إلى أن لا تفهم شيئًا من الأدلة الشرعية التي نصبها النبي ﷺ للجمهور، فآمنت بالله من جهة السماع.
أما الفرقة الأولى فتصدق بوجود الله بالعقل، ولكنهم سلكوا غير طرق الشرع، وطريقتهم مبنية على نظرية حدوث العالم، وانبنى على حدوث العالم تركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وإن الجزء الذي لا يتجزأ محدث وهو الجوهر الفرد، وطريقتهم غير برهانية وغير مفضية بيقين إلى وجود الله.
وقال إن للأشعرية طريقين أحدهما وأشهرهما ينبني على ثلاث مقدمات:
(١) إن الجواهر لا تنفك من الأعراض؛ أي لا تخلو منها، (٢) أن الأعراض حادثة، (٣) أن ما لا ينفك عن الحوادث حادث؛ أعني ما لا يخلو من الحوادث هو حادث.
وقد فند ابن رشد هذه المقدمات كلها بالبرهان المنطقي (ص٣٤ و٣٥ وما بعدهما من كشف الأدلة) وأثبت أنها محفوفة بشكوك ليس في قوة صناعة الجدل حلها، فإذن يجب أن لا يجعل هذا مبدأ لمعرفة الله. وهذا سر قوله في أول الكتاب أن طريقة الأشعرية «غير مفضية بيقين إلى وجود الله».
- (١)
أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه. كأن تكون حركة كل متحرك فيه إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها (لاحظ ما تشمله هذه النظرية من إمكان انقلاب سائر القوانين الطبيعية كقانون الجاذبية وما يماثله).
- (٢)
أن الجائز محدَث وله محدِث؛ أي فاعل، صيره بإحدى الجائزين أوْلَى — أي وجهه — نحو الحال الحاضرة بقوانينها وأنظمتها، وهي التي عليها العالم.
وقد أظهر ابن رشد أن المقدمة الأولى خطابية قد تصلح لإقناع الجميع، ولكنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع الذي صنع الموجودات على وجه معين لحكمة معينة، فأية حكمة في الإنسان إذا أبصر بأذنه، وشم بعينه؟
ويبدو لنا أن ابن سينا أذعن لهذه المقدمة بوجه ما، فلم يتردد ابن رشد في الرد عليه. وقال عن رأيه: «إنه قول في غاية السقوط.» وقال عنه بازدراء: «وليس هذا موضع الكلام مع هذا الرجل، ولكن للحرص على الكلام معه في الأشياء التي اخترعها هذا الرجل استجرنا القول إلى ذكره.»
إلى هنا فرغ ابن رشد من تفنيد مقدمة أبي المعالي الأولى، ثم انتقل إلى الثانية فقال إنها غير بينة بنفسها وإنها من أعوص المطالب، ولا يتبينها إلا أهل صناعة البرهان والعلماء الذين خصهم الله بعلمه وقرن شهادتهم بشهادته وملائكته. ويقول بين السطور: «وأنت يا أبا المعالي لست منهم، وكفى على ذلك دليلًا أن أفلاطون وأرسطو اختلفا على تلك المقدمة.»
وأخذ ابن رشد نفسه يقدم مقدمات في الإرادة ضرورية لتفهم القضية الثانية التي نحن بصددها، وأعقبها برأي قاطع وهو «أن الظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور، ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة، بل صرح بأن الإرادة موجدة موجودات حادثة، وذلك في قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. فيتبين من هذا أن الطريقين المشهورين للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله ليست طرقًا نظرية يقينية ولا شرعية يقينية».
ثم انتقل فيلسوف قرطبة إلى نقد وسائل الصوفية فقال: «إن طرقهم في النظر ليست نظرية (ويقصد بالطرق النظرية المركبة من مقدمات وأقيسة)، إنما طريقتهم إشراقية؛ فهم يزعمون أن معرفة الله وغيره من الموجودات شيء يُلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكر على المطلوب، ولهم في الاحتجاج لتصحيح هذا ظواهر من الشرع كثيرة، مثل قول الله: وَاتَّقُوا اللهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ.»
وابن رشد يسلم بوجود هذه الطريقة، ولكنها ليست عامة للناس، لأنها لو كانت عامة ومقصودة لبطلت طريقة النظر وكان وجودها بين الناس عبثًا، على أن القرآن كله دعوة إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر والتأمل والتفكير.
ثم انتقل إلى الكلام على المعتزلة فاعتذر عن الخوض في مذاهبهم بأنه لم يصل إليه في «جزيرة الأندلس» من كتبهم شيء، ولكنه يحسب أن طرقهم يشبه أن تكون من جنس طرق الأشعرية. ونحن نظن أن ابن رشد كتب هذه الجملة بحذر وكياسة؛ رغبة منه في تحاشي الكلام على طرق المعتزلة، لأنه لا يعقل أن تنقطع العلاقة العقلية بينه وبينهم بدعوى عدم وصول كتبهم إلى أرض الأندلس. فإن الذي نقل كتب المتقدمين والمتأخرين إلى مدارس أندلس وجوامعها وبيوتها لا يضن بنقل كتب المعتزلة، وإلا فإن كتب خصومهم من السنيين مشحونة بأخبارهم وآرائهم وشرح طرقهم للرد عليها.
على أننا نترك الأسباب التي دعت ابن رشد لأن يغفل ذكر المعتزلة، وننتقل إلى كلامه على الطريق الشرعية التي اعتبرها الطريق المثلى، فقد قال إن الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها، وجدت أنها تنحصر في جنسين.
-
(١)
طريق الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجلها، ويسميها ابن رشد «دليل العناية».
-
(٢)
الطريق الثانية ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء والموجودات مثل اختراع الحياة والجماد والإدراكات الحسية والعقل، ويسميها ابن رشد «دليل الاختراع».
وقال إن الأدلة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين، دلالة العناية ودلالة الاختراع، وهما بعينهما طريقة الخواص أي العلماء وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، فالجمهور يقتصرون على المعرفة الأولى، والعلماء يزيدون على ما يدرك بالحس، ما يدرك بالبرهان.
وقال ابن رشد إن الدهريين مثلهم كمثل من أحسَّ بالمصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل ينسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته.
وبعد أن فرغ ابن رشد من إثبات وجود الله بالطريقة المتقدمة تكلم على وحدانية الله، فأثبت ذلك على الطريقة الشرعية أولًا بآيات قرآنية مثل: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا وذكر أيضًا الآية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا … وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا وقد تناول ابن رشد هذه الآية وأخرج منها ردًّا مفحمًا على الأشعرية، فإنهم يستنبطون منها دليل الممانعة، وهو دليل لا يقدر الجمهور على فهمه، فضلًا عن أن يقنع بصحة مدلوله؛ لأن دليل الممانعة المذكور يعرف عند أهل المنطق بالقياس الشرطي المنفصل، ويسميه الأشعرية «دليل السبر والتقسيم» والدليل الذي في الآية هو الذي يعرف في المنطق بالشرطي المتصل، فالفرق بين الدليلين ظاهر.
وختم ابن رشد قوله في هذه النقطة بهذه النتيجة العامة: من نظر في كلمة «لا إله إلا الله»، وصدق بالمعنيين الواردين فيها؛ وهما الإقرار بوجود الباري ونفي الإلهية عمن سواه، وكان تصديقه بالطريقة المذكورة آنفًا؛ فهو المسلم الحقيقي وعقيدته إسلامية. ومن لم تكن عقيدته مبنية على هذه الأدلة، وإن صدق بهذه الكلمة، فهو مسلم مع المسلم الحقيقي باشتراك الاسم.
ثم تكلم عن الصفات الإلهية فقال هي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان؛ وهي العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وقال يسأل بعض الفرق هل الصفات نفسية أو معنوية، فالأشعرية تقول إنها معنوية وزائدة على الذات، فالله عالم بعلم زائد على ذاته، وهكذا يقول ابن رشد: «وهذا قول النصارى الذين اعتقدوا أن الأقانيم ثلاثة: الوجود والحياة والعلم، وأن واحدًا منها قائم بذاته، والآخر قائم بالقائم بذاته، والعرض هو القائم بغيره والمؤلف من جوهر وعرض جسم ضرورة «ومكان الخلاف بين ابن رشد وبين العقيدة المسيحية أن النصارى اعتقدوا كثرة الصفات، واعتقدوا أنها جواهر غير قائمة بغيرها، بل قائمة بنفسها كالذات، واعتقدوا أن الصفات التي بهذه الصفة هما صفتان: العلم والحياة، قالوا فالإله واحد من جهة، ثلاثة من جهة، يريدون أنه ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم، وهو واحد من جهة أن مجوعها شيء واحد».»
ثم تكلم ابن رشد في معرفة تنزيه الخالق عن النقائض، فأورد الأدلة الشرعية والعقلية على التنزيه، ثم قال: إن كل فرقة تأولت في الشريعة تأويلًا خاصًّا بها وزعمت أنه الذي قصده الشرع حتى تمزق كل ممزق وبعد جدًّا عن موضعه الأول، وقد قال صاحب الشرع: «ستفترق أمتي على اثنتين وسبعين فرقة كلها في … إلا واحدة.» يعني التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلًا صرحت به للناس.
وأول من غيَّر هذا الدواء الأعظم (أي سلوك ظاهر الشرع) هم الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد (يعني الغزالي خصمه اللدود) فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور وبآراء الحكماء على ما أداه إليه فهمه، وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد، فزعم أنه ألفه للرد عليهم ثم وضع التهافت فكفرهم في مسائل ثلاث (وهي التي سبق ذكرها). ثم قال في كتابه «جواهر القرآن»: إن الذي أثبته في التهافت هي أقاويل جدلية، وإن الحق إنما أثبته في «المضنون على غير أهله»، وهذا كله خطأ بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة.
ثم انتقل ابن رشد للمبحث الخامس في معرفة الأفعال، وهي إثبات خلق العالم وبعث الرسول والقضاء والقدر والتحوير والتعديل والمعاد. ويظهر للقارئ أن هذا المبحث هو أكبر المباحث شأنًا؛ لأن به محاولة حل مسائل الحياة والكون، بعد أن مهد لها ابن رشد بأبحاثه وفنونه تمهيدًا يدل على خطة مرسومة وغاية مقصودة وطريقة مختارة. فقال عن خلق العالم إن الذي قصده الشرع من معرفة العالم هو أنه مصنوع لله ومخترع له، وأنه لم يوجد عن الاتفاق ومن نفسه، وقد سلك الشرع بالناس في تقرير هذا الأصل الطريق البسيطة القليلة المقدمات، التي نتائجها قريبة من المقدمات المعروفة بنفسها أو بالبداهة. وينهي ابن رشد عن سلوك غير هذا النوع من الطرق بالجمهور، ويرمي من يحيد عن الطريق البسيطة في تفهيم الجمهور ومخاطبتهم بالجهل والزيغان. فقد لجأ الشرع إلى دليل قطعي بسيط مبناه على أصلين معترف بهما عند الجميع.
الأول أن العالم بجميع أجزائه موافق لوجود الإنسان ولوجود جميع الموجودات التي ههنا.
والأصل الثاني أن كل ما يوجد موافقًا في جميع أجزائه لفعل واحد ومسددًا نحو غاية واحدة فهو مصنوع وأن له صانعًا. وهذا النوع من الاستدلال هو النوع الموجود في القرآن واستشهد ابن رشد ببعض آيات منها: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا، ثم قال تعليقًا على هذه الآية عبارة تدل على عدم علمه بدوران الأرض وهاك نصها: «إن الأرض خلقت بصفة يتأتى لنا المقام عليها، وإنها لو كانت متحركة أو بشكل آخر غير الموضع الذي هي فيه أو بقدر غير هذا القدر، لما أمكن أن نوجد فيها ولا أن نخلق عليها.» فقول ابن رشد «وإنها لو كانت متحركة» دليل قاطع على عدم علمه بأن الأرض متحركة في الواقع، فكيف يكون تعليل ابن رشد لهذا الدليل لو كان عالمًا بحركتها ودورانها؟ وهل يصلح هذا الدليل لإقناع الجمهور في كل العصور، حتى عصرنا هذا الذي أصبح برنامج التعليم المدرسي فيه أوسع من سائر علوم القرون الوسطى؟
واستمر ابن رشد في الاستدلال بسكون الأرض على حكمة الخلق فقال: «وأما قوله تعالى «والجبال أوتادًا» فإنه نبه بذلك على المنفعة الموجودة في سكون الأرض من قِبل الجبال، فإنه لو قدرت الأرض أصغر مما هي، كأن كانت دون الجبال، لتزعزعت من حركات باقي الاسطقسات؛ أعني الماء والهواء ولتزلزلت وخرجت من موضعها.» على أن ذكر هذه النصوص لا ينقص قدر ابن رشد؛ لأنه لم يكن عالمًا طبيعيًّا ولا فلكيًّا ولا رياضيًّا، بل كان فيلسوفًا ولا لوم عليه إذا لم تصل إليه في عصره وفي وطنه وبلغته تلك الحقائق العلمية التي اكتشفت بعده بأجيال، ولكننا أوردنا هذه الملاحظة لتقدير قيمة الدليل الذي قدمه ابن رشد بحسن نية وجعله ميزانًا لإقناع الجمهور بخلق العالم. ولعل مبالغة ابن رشد في التبسط في التدليل للعامة، وشدة رغبته في إقناع الجمهور بأمور سبق ثبوتها في أذهانهم؛ هو الذي دعاه إلى الطعن في طرق الأشعرية الذين حاولوا التدليل ببراهين مركبة تنطبق على عقلية أرقى نوعًا من عقلية الجمهور، لأن ابن رشد يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن «ليس يمكن للجمهور أن يتصوروا معنى ليس له مثال في الشاهد».
من أجل هذا يقول ابن رشد إن الآيات وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ يجب أن لا يتأول شيء من هذا للجمهور ولا يتعرض لتنزيله على غير هذا التمثيل، ومن غير ذلك فقد أبطل الحكمة الشرعية؛ لأن العلماء فضلًا عن الجمهور لا يتصورون عقيدة الشرع في العالم، وهي أنه محدث وأنه خلق من غير شيء وفي غير زمان.
فينبغي الاكتفاء بهذا التمثيل، وهو الموجود في القرآن والتوراة وسائر الكتب المنزلة، وأنه لم يثر الشبه في الإسلام إلا أهل الكلام بتصريحهم في الشرع بما لم يأذن به الله، فلا هم اتبعوا ظواهر الشرع فكانوا ممن سعادته ونجاته باتباع الظاهر، ولا هم أيضًا لحقوا بمرتبة أهل اليقين فكانوا ممن سعادته في علوم اليقين.
ثم انتقل إلى الكلام على بعث الرسل، وفيه موضعان: الأول إثبات الرسل، والثاني أن الذي يدعي الرسالة واحد منهم وليس بكاذب في دعواه. وأثبت ابن رشد بالمنطق تارة وبآيات القرآن طورًا أن الرسل موجودون، وأن الأفعال الخارقة لا توجد إلا منهم، وأن تلك الأفعال الخارقة أو المعجز دليل على تصديق النبي؛ ويقصد ابن رشد بالمعجز شيئين: «المعجز البراني» الذي لا يناسب الصفة التي بها سمي النبي نبيًّا، ويشبه أن يكون التصديق الواقع من قبل المعجز البراني هو طريق الجمهور فقط، والتصديق من قبل المعجز المناسب طريق مشترك للجمهور والعلماء، فإن الشكوك والاعتراضات التي وجهها ابن رشد على المعجز البراني ليس يشعر بها الجمهور، لكن الشرع إذا تؤمل وجد أنه إنما اعتمد المعجز الأهلي والمناسب لا المعجز البراني.
وانتقل ابن رشد إلى المسألة الثالثة وهي القضاء والقدر. وقد سلم من أول وهلة أنها أعوص مسائل الشرع؛ لأن دلائل السمع والعقل فيها متعارضة. ففي القرآن آيات تدل بعمومها على أن كل شيء بقدر، وأن الإنسان مجبر على أفعاله، وفيه آيات تدل على أن للإنسان اكتسابًا بفعله وأنه ليس مجبرًا على أفعاله وقد أوردها، وكذلك تلقى الأحاديث في هذا أيضًا متعارضة.
وقد افترق المسلمون في هذا إلى فرقتين: الأولى: تعتقد أن اكتساب الإنسان هو سبب المعصية والحسنة، ولمكان هذا ترتب عليه العقاب والثواب، وهي المعتزلة. والثانية: تعتقد أن الإنسان مجبور على أفعاله ومقهور، وهي الجبرية. وقد رامت الأشعرية أن تأتي بقول وسط بين القولين، فقالوا إن للإنسان كسبًا، وإن المكتسب به والكسب مخلوقان لله تعالى.
وابن رشد ينتقد آراء الفرق الثلاث ويقول بأن الظاهر من مقصد الشرع ليس تفريق المسموع والمعقول، وإنما قصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في هذه المسألة، وذلك أنه يظهر (كذا) أن الله خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد، لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء لا يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعًا، فالأفعال المنسوبة إلينا يتم فعلها أيضًا بإرادتنا وموافقة الأفعال التي من خارج لها، وهي المعبر عنها بقدر الله.
أما (الأفعال التي من خارج) فهي متممة للأفعال التي نروم فعلها أو عائقة عنها على مقتضى الحال، وهي أيضًا السبب الذي يدفعنا لأن نريد أحد المتقابلين أي أحد شيئين مختلفين، وبيان ذلك (وهنا دخل ابن رشد في علم النفس على طريقة قديمة) أن الإرادة إنما هي شوق يحدث لنا عن تخيل ما أو تصديق بشيء، وهذا التصديق ليس هو لاختيارنا بل هو شيء يعرض لنا عن الأمور التي من خارج، مثال ذلك أنه إذا ورد علينا أمر مشتهى من خارج اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار فتحركنا إليه، وكذلك إذا طرأ علينا أمر مهروب عنه من خارج كرهناه باضطرار فهربنا منه، وإذا كان هكذا فإرادتنا محفوظة بالأمور التي من خارج ومربوطة بها (وهنا يقرر ابن رشد مذهب الديترمنزم وتأثيره في أفعال الإنسان) ويقول: «ولما كانت الأسباب التي تجري من خارج تجري على نظام محدود وترتيب منضود، فواجب أن تكون أفعالنا تجري على نظام محدود، وليس يوجد هذا الارتباط بين أفعالنا والأسباب التي من خارج فقط، بل وبينها وبين الأسباب الموجودة في داخل أبداننا والنظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة والخارجة؛ أعني التي لا تحل هو القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده، وهو اللوح المحفوظ وعلم الله بالأسباب هو العلة في وجودها، وعلمه بها هو علمه بالغيب الذي انفرد به وحده.»
وانتقل ابن رشد إلى الكلام على الجور والعدل، وهي المسألة الرابعة، فتحفز كعادته في مستهل كل بحث للرد على الأشعرية في رأيهم في العدل والجور، ووصفه بأنه في غاية من الشناعة لأنهم ميزوا بين الله والإنسان. فقال إن أفعال الإنسان توصف بأنها عدل أو جور لكونه مكلفًا بالشرع، وأما من ليس مكلفًا ولا داخلًا تحت حجر الشرع فليس يوجد في حقه فعل هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدل. وهذا القول في ذاته صحيح لأن الأفعال بوصف كونها أفعالًا مجردة من قيود الأوصاف الشرعية لا يجوز أن تنسب إلى شيء دون آخر، فضلًا عن أن الأفعال يجب تقديرها من وجهة النظريات نسبيًّا بحسب مقتضيات حدوثها زمانًا ومكانًا ودافعًا وسببًا وعلة وأثرًا.
ولكن ابن رشد يقيم القيامة على الأشعرية لقولهم بهذا الرأي، على أن ابن رشد نفسه لم يتمكن من الإقدام على هذا البحث بدون الالتجاء إلى التأويل الذي نهى عنه وعابه على أرباب المذاهب الأخرى، وذلك في عرض الاستشهاد بالآيات القرآنية التي يظهر فيها التناقض فقال: «فإن قيل: فما الحكمة في ورود هذه الآيات المتعارضة في هذا المعنى حتى يضطر الأمر فيها إلى التأويل وأنت تنفي التأويل في كل مكان؟» وكان جوابه أن تفهيم الأمر على ما هو عليه الجمهور في هذه المسألة اضطره إلى هذا وفي هذا القدر كفاية.
المسألة الخامسة وهي مسألة المعاد، قال إنه مما اتفقت على وجوده الشرائع واختلفت في الشاهدات التي مثلت بها للجمهور تلك الحال الغائبة، وذلك أن من الشرائع من جعله روحانيًّا، أعني للنفوس، ومنها من جعله للأجسام والنفوس معًا.
وإن الشريعة الإسلامية رأت أن التمثيل بالمحسوسات هو أشد تفهيمًا للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركًا، فأخبرت أن الله تعالى يعيد النفوس السعيدة إلى أجساد تنعم فيها الدهر كله بأشد المحسوسات تنعيمًا وهو مثلًا الجنة، وأنه تعالى يعيد النفوس الشقية إلى أجزاء تتأذى فيها الدهر كله بأشد المحسوسات أذى وهو مثلًا النار.
والشرائع كلها متفقة على أن للنفوس من بعد الموت أحوالًا، وذكر ابن رشد انقسام المسلمين في تلك المسألة إلى ثلاث فرق، وإن بعض هذه الثلاث قد انقسم إلى طائفتين ثم قال: «والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد أن لا يكون نظرًا يفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة، فإن هذا النحو من الاعتقاد يوجب تكفير صاحبه، فهذا كله ينبني على بقاء النفس أو تنبيه على ذلك.»
وهذا ختام بحث ابن رشد، وقد نبهنا إلى أهم ما جاء فيه وبينا على قدر ما استطعنا وجهة نظر هذا الحكيم العميق الفكر البعيد النظر.
(٤٢) تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت
لهذين الكتابين شأن عظيم جدًّا في تاريخ الفلسفة العربية، فأولهما تهافت الفلاسفة ألفه أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، وبفضل هذا الكتاب وكتاب «إحياء علوم الدين» وصفه أنصاره ومريدوه بأنه الإمام، وحجة الإسلام، لأنه نصب نفسه مدافعًا عن العقيدة، ومحاميًا عن الشريعة ضد الفلسفة والفلاسفة في جميع الأجيال وعلى مر القرون من أول حكماء اليونان، الذين يسميهم القدماء إلى ابن سينا وهو أحدث الفلاسفة عهدًا في عصر الغزالي.
وليس هنا مجال الكلام على هذا الكتاب تقريظًا أو نقدًا، إنما محل الكلام عليه عند فحص مؤلفات الغزالي وترجمته وتلخيص تعاليمه. أما تهافت التهافت فهو الرد الذي دبجه يراع ابن رشد بعد ظهور الكتاب في عالم الوجود بنحو مائة عام. وقد وضع ابن رشد نفسه بالنسبة للفلسفة والفلاسفة في موضع يعادل مكانة الغزالي بالنسبة للشريعة؛ أي إنه نصب نفسه محاميًا ومدافعًا ومحاربًا ومقارعًا ونصيرًا وظهيرًا للحكماء من أول عهد الحكمة اليونانية إلى وقته؛ أي بعد وفاة الغزالي بنحو قرن من الزمان.
فإن الغزالي توفي في مستهل القرن السادس للهجرة، وابن رشد توفي في ختامه، فحق لابن رشد أن يكون حجة الحكمة والحكماء كما كان الغزالي حجة الإسلام، فإن كتاب التهافت بقي مائة سنة قائمًا يشن الغارة على الفلسفة والفكر الحر ويسفه أحلام الحكماء ويكفرهم ويلعنهم ويتوعدهم بعذاب النار ويستنزل عليهم سخط الخلق وغضب الخالق، ولم يتقدم أحد من فلاسفة الشرق أو الغرب للرد على هذا الكتاب أو تفنيد بعض ما جاء فيه، مما يلحق العار والخزي بالفلاسفة أجمعين.
فلما تصدى ابن رشد لهذا الكتاب بالنقد والتفنيد محا عن أسلافه وأساتذته وتلاميذه وإخوانه من أهل الحكمة وصمة لم يقدر غيره على محوها عنهم، وأعاد الحياة إلى الفلسفة، فاستردت تاجها وبهجتها، بعد أن أدمى الغزالي فؤادها وأصمى مهجتها، ولنبدأ الآن بالكلام على تهافت التهافت، بعد مقدمة وجيزة من تهافت الفلاسفة، تبين اسمه والغرض من وضعه.
(٤٢-١) اسم الكتاب وغايته
قال الغزالي: «ابتدأت بتحرير هذا الكتاب، ردًّا على الفلاسفة القدماء، مبينًا تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفًا عن غوائل مذهبهم وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء.»
(٤٢-٢) الفلاسفة الأقدمون وقصد الغزالي من تأليف الكتاب
وطريقة الغزالي هي حكاية مذهب الفلاسفة على وجهه (أي على حقيقته) ليتبين للملحدين، تقليدًا، اتفاق كل مرموق من الأوائل والأواخر (أي كل شهير منهم) على الإيمان بالله واليوم الآخر. وعندئذ يتحقق كل من يظن أن التجمل بالكفر تقليدًا يدل على حسن آرائه، أو يشعر بفطنته أن هؤلاء الذين تشبه بهم من زعماء الفلاسفة ورؤسائهم براءُ عما قذفوا به من جحد الشرائع، وأنهم مؤمنون بالله ومصدقون لرسله، ولكنهم اختبطوا في تفاصيل بعد هذه الأصول قد زلوا فيها فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.
(٤٢-٣) سبب وضع الكتاب
يقول الغزالي إنه رأى طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب بالفطنة، قد رفضوا طوائف الإسلام والعبادات واستحقروا شعائر الدين وخلعوا ربقته، ولا مستند لكفرهم غير سماع الغي وسماعهم أسماء هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وأمثالهم، وأطناب متبعيهم في وصف عقولهم ودقة علومهم (الهندسة والمنطق والطبيعة والإلهيات)، واستبدادهم بفرط الذكاء والقول عنهم إنهم مع رزانة عقولهم وغزارة فضلهم منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان، يعتقدون أنها نواميس مؤلفة، وحيل مزخرفة. فلما قرع ذلك سمعهم (أي سمع هذه الطائفة التي تعتقد في نفسها التميز عن الأتراب في الذكاء) ووافق ما حكي لهم من عقائد الفلاسفة طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر تحيزًا إلى غمار الفضلاء بزعمهم وانخراطًا في سلكهم، وترفعًا عن مساعدة الجماهير والدهماء واستنكافًا من القناعة بأديان الآباء.
(٤٢-٤) الاقتصار على أرسطو
وقد قال الغزالي في أول الأمر، إنه سيقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول، فإنه رتب علومهم وهذبها بزعمهم (كذا)، وحذف الحشو من آرائهم، وانتقى ما هو الأقرب إلى أصول أهوائهم (أي الفلاسفة) وهو أرسطاطاليس، وقد رد على كل من قبله حتى على أستاذه الملقب عندهم بأفلاطون الإلهي، ولكن الحقيقة هي أن الغزالي لم يقتصر على أرسطو كما ادعى بل خلط آراءَ جميع الفلاسفة.
(٤٢-٥) علوم الفلاسفة
يقول الغزالي إنه سيقصر بحثه على المسائل الإلهية، لأن العلوم الحسابية والهندسية والمنطقية لا مجال فيها للنقد، وإن الفلاسفة يستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون بها ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية والمنطقية، لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية. وطبعًا لم يكن الغزالي يستطيع الرد عليها؛ لأنه معترف بصحة العلوم الحسابية والمنطقية.
(٤٢-٦) فلاسفة الإسلام
ثم المترجمون لكلام أرسطو، لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل، محوج إلى تفسير وتأويل، حتى أثار ذلك أيضًا نزاعًا بينهم، وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة الإسلامية الفارابي أبو نصر وابن سينا، فلنقتصر على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذاهب رؤسائهما في الضلال (كذا) فليعلم أنا مقتصرون على رد مذاهبهم بحسب نقل هذين الرجلين.
(٤٢-٧) بيان المسائل العشرين التي أظهر فيها الغزالي تناقض الفلاسفة في كتابه
-
(١)
مذهب الفلاسفة في أزلية العالم.
-
(٢)
مذهبهم في أبدية العالم.
-
(٣)
قولهم إن الله صانع العالم وإن العالم صنعه.
-
(٤)
عجزهم عن إثبات الصانع.
-
(٥)
تعجيزهم عن إقامة الدليل على استحالة إلهين.
-
(٦)
مذهبهم في نفي صفات الله.
-
(٧)
قولهم إن ذات الأول (الله) لا ينقسم بالجنس والفصل.
-
(٨)
قولهم إن الأول موجود بسيط بلا ماهية.
-
(٩)
تعجيزهم عن بيان الأول ليس بجسم.
-
(١٠)
القول بالدهر ونفي الصانع لازم للفلاسفة.
-
(١١)
تعجيزهم عن القول بأن الأول يعلم غيره.
-
(١٢)
تعجيزهم عن القول بأن الأول يعلم ذاته.
-
(١٣)
قولهم إن الأول لا يعلم الجزئيات.
-
(١٤)
قولهم إن السماء حيوان متحرك بالإرادة.
-
(١٥)
ما ذكروه من الغرض المحرك للسماء.
-
(١٦)
قولهم إن نفوس السماوات تعلم بالجزئيات الحادثة في هذا العالم.
-
(١٧)
قولهم باستحالة خرق العادات.
-
(١٨)
تعجيزهم عن البرهان العقلي على أن نفس الإنسان جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا عرض.
-
(١٩)
قولهم باستحالة الفناء على النفوس البشرية.
-
(٢٠)
إنكارهم البعث وحشر الأجساد مع التلذذ والتألم في الجنة والنار باللذات والآلام الجسمانية.
ويرى القارئ الملم بهذه المباحث أن هذه المسائل العشرين تناولت جميع مشاكل العلوم الإلهية والطبيعية قديمًا وحديثًا عند فرق المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد، ما عدا ما كان سبب القول به جهل المفكرين كالمسائل ١٤ و١٥ و١٦.
- (١)
مسألة قدم العالم وقولهم إن الجواهر كلها قديمة.
- (٢)
قولهم إن الله تعالى لا يحيط علمًا بالجزئيات الحادثة من الأشخاص.
- (٣)
في إنكار بعث الأجساد وحشرها.
فهذه المسائل الثلاث لا تلائم الإسلام بوجه. ومعتقدها معتقد كذب الأنبياء، وأنهم ما ذكروه إلا على سبيل المصلحة تمثيلًا لجماهير الخلق وتفهيمًا. وهذا هو الصريح الذي لم يعتقده أحد من فرق المسلمين.
فأما ما عدا هذه المسائل الثلاث من تصرفهم في الصفات الإلهية واعتقاد التوحيد فيها، فمذهبهم قريب من مذاهب المعتزلة ومذهبهم في تلازم الأسباب الطبيعية هو الذي صرح المعتزلة به في التولد، وكذلك جميع ما نقلناه عنهم قد نطق به فريق من فرق الإسلام إلا هذه الأصول الثلاثة.
فمن ير تكفير أهل البدع من فرق الإسلام يكفرهم أيضًا به، ومن يتوقف على التكفير يقتصر على تكفيرهم بهذه المسائل، وأما نحن فلسنا نؤثر الآن الخوض في تكفير أهل البدع، وما يصح منه وما لا يصح، كي لا يخرج الكلام عن مقصود هذا الكتاب.
وبديهي أن هذه النتيجة الختامية الوديعة المتواضعة، لا تلتئم في شيء مع الطبل والزمر الذي بدأ به الغزالي كتابه، فقد يخيل لقارئه في أوله أنه سيخرق الأرض وسيبلغ الجبال، وأنه سيهدم قبة الفلسفة على رءوس الحكماء، ولن يبقى في بناء الأكروبول حجرًا على حجر! وهو ذلك الهيكل الفخم الذي شاده القدماء لعبادة منرفا إلهة الحكمة.
ويظهر أن الغزالي كان يعرف طريقة «التمهيد بالمدافع»، فإنه حشد في مقدمة كتابه ألفاظًا وجملًا طنانة تدخل الرعب إلى قلوب خصومه، ثم أخذ يناقش الفلاسفة بطريقة شبه منطقية، ويعزز قوله في كل حين بعبارات دينية يعد من لا يؤمن بها كافرًا، وهو بين جملة وجملة يلعن الفلاسفة ويسبهم ويحقرهم ويستعيذ بالله منهم ومن كفرهم.
كل ذلك على أشكال تهيج غيظ الحليم، وتبعث المتعجل على سوء الظن به، لا سيما وأن الغزالي يناقش الفلاسفة بأصول علومهم كأنه واحد منهم قد أتقن معرفتهم ووقف على أسرارهم، ثم شهر عليهم هذه الحرب الشعواء في كتبه، وهذا الذي ينفر القارئ الخالي الغرض من الغزالي مع أنه ذو شخصية مقبولة، وكان من أئمة الفكر البشري في الشرق.
وأغرب مما تقدم هبوط الغزالي من أفق التهويل بتلك الخاتمة البسيطة التي سحب بها معظم أبحاثه، فقد سبق فكفر الفلاسفة في عشرين مسألة، وتصدى للرد عليهم من أرسطو إلى ابن سينا ناقدًا ومفندًا ومظهرًا أوجه الخلاف والتناقض.
سادتي إنني أظهرت لكم مهارتي، والحقيقة أنني وخصمي متفقان إلا في ثلاث حركات، ولعلنا نتفق فيها أيضًا إذا طالت فرصة الامتحان.
وبعد هذه المقدمة التي لم يكن عنها بد، سنترك المجال لابن رشد، وهو خصم الغزالي ونده ومصارعه وصارعه في ميدان الفكر الفلسفي.
•••
لابن رشد في كتبه التي وقعت لنا ترتيب وتقسيم وتبويب وطرق تنطبق على أصول العلم الحديث في التأليف.
أما كتاب التهافت الذي نحن بصدده، فقد اتبع فيه طريقة الغزالي في «تهافت الفلاسفة»، فصار يقتبس المتن جملة جملة ويردفها بالرد عليها، وأخذ في ذلك إلى قدر كبير، ثم أدرك أن هذه الطريقة تقتضي تدوين كتابين في كتاب، وفي ذلك من الملل والتطويل ما فيه، فصار يكتفي باقتباس أوائل جمل الغزالي ويختمها بقوله «إلى قوله كذا أو إلى آخر ما قال أبو حامد»، وهذه الطريقة تقتضي وجود الكتابين أمام القارئ ليقرأ كلام الغزالي ورد ابن رشد عليه.
ولكن دون هذه الغاية مصاعب شتى، منها أن ابن رشد لا يشير إلى الصفحات أو النبذ لأنها لم تكن في زمنه معينة بأعداد، ولم تكن النسخ متحدة في الكتابة والشكل حتى ينطبق ما في نسخته على ما في عداها مما يوجد بين أيدي الجمهور، ومنها أن الشخص الشرقي الذي طبع هذين الكتابين جمعهما في مجلد واحد، ولا بد من فصلهما قبل البدء في التمتع بقراءتهما، هذا فضلًا عن أن الطمع وعدم الذوق أدَّيَا بالناشر إلى «تزيين» هوامش الكتابين بكتاب ثالث تأليف من يدعى «خوجه زاده أو أحد علماء الروم»، وهو لا شك من علماء زمن الانحطاط في الشرق الإسلامي وليس لكتابه قصد أو قيمة.
ولا عجب، فإن هذا العالم الرومي تصدى للتحكيم بين الغزالي وابن رشد فيما اختلفا فيه، وهذه العبارة وحدها كافية للدلالة على قلة فهمه؛ لأن التحكيم والتوفيق بينهما مستحيلان؛ إذ كل منهما في اتجاه من الفكر، والعقيدة، والرأي، والطريقة، يناقض ويخالف اتجاه الآخر.
وبهذا وبذاك أصبح كتاب التهافت، في حاله الحاضرة، عبارة عن مجموعة ملازم مطبوعة على ورق نباتي بحروف سقيمة في صحف متلاصقة مزدحمة، تصد بمنظرها وقطعها أشجع القراء وأشدهم تعلقًا بالحكمة. ولا شك في أن المقارنة بين كتب الفلسفة العربية، وبين ما يماثلها من الكتب الإفرنجية كافية للدلالة على مكانة الحكمة من عقولنا وقلوبنا، بل كافية للدلالة على مركزنا العقلي في العالم.
•••
على أن لكتاب تهافت التهافت، قيمة خاصة لأنه عبارة عن دفاع فيلسوف عن الفلسفة، وفي نظرنا أنه أعظم دفاع لأعظم فيلسوف عربي مسلم، ضد أعظم مفكر شرعي مسلم.
يظهر ابن رشد في هذا الكتاب بمظهر الواقف على الفلسفة في جميع أدوارها، العالم بما جاء في كتب القدماء والمحدثين من اليونان والعرب، كذلك يظهر بمظهر المدافع الرزين الثابت الجأش، الذي لا يخرجه افتراء الخصم عن حلمه، ولا يحرجه سوء النية فيقول ما لا يليق بالعاقل، ولا تستهويه رغبة الانتصار على خصمه إلى الاستهانة بقدره، ولا يدفعه حب الانتصار لأسلافه من الفلاسفة إلى مظاهرتهم بغير حق.
ويظهر لنا أنه لا يحترم أحدًا بعد اليونان، ولا يحترم في اليونان أحدًا قبل أرسطو أو بعده. وهو لا يغمط حق ابن سينا والفارابي، ولكنه يتناول مبادئهما بالنقد الصحيح. كذلك لا يندفع في الطعن على الغزالي، بل كثيرًا ما يذكره بالعلم والفطنة.
ويقول في مواضع كثيرة «قال أبو حامد رضي الله عنه أو رحمه الله»، ولكنه لا يقبل عثرته في أماكن معينة، فيحمل على طريقته فيقول مثلًا عنه: «وهذه المعاندة كما قلنا خبيثة، وهي من مواضع الإبدال المغلظة إن كنت تعلم (للقارئ) كتاب السفسطة.»
وعندي أن بقاء كتاب التهافت راجع إلى أن المسلمين تمسكوا بكتاب الغزالي لما ظنوه من مناصرته للشريعة ضد الحكمة، ثم إن النساخ جمعوا بين الكتابين لضرورة وجودهما معًا للارتباط الذي ذكرته.
ويظهر أن خوجه زاده المتوفى في أواخر القرن التاسع للهجرة خدم العلم بأمر واحد، ليس هو تطوعه للتحكيم بينهما، إنما تأليفه دعا إلى عناية بعض الترك بالكتابين ونشرهما ليكون لخوجه زاده، شرف الخلود على الهوامش. فقد دلنا الاختبار على أن المؤلفات الرشدية التي لا مساس لها إلا بالفلسفة قد فنيت وبادت وأحرقت.
•••
بدأ ابن رشد كتابه ببساطة جميلة تعلمها بدون شك من أساتذة اليونان، فجعل مقدمته سطرين لا بأس من نقلهما، قال بعد الحمد والصلاة: «الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان.»
فأين هذه المقدمة البسيطة الهادئة من مدافع الغزالي وقنابله، ودباباته وطبله، وهجماته على الفلاسفة وأهل الذكاء والملحدين؟
لا ريب عندنا في أن الحقيقة لا تحتاج إلى زفة، لأنها غنية بقوتها وجمالها عن كل المظاهر.
(٤٢-٨) كلام ابن رشد على الكتاب
قال لا يمتنع عند الفلاسفة أن يعدم العالم بأن ينقل إلى صورة أخرى؛ لأن العدم يكون ههنا تابعًا وبالعرض، وإنما الذي يمتنع عندهم أن ينعدم الشيء إلى لا موجود أصلًا؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لكان الفاعل يتعلق فعله بالعدم أولًا وبالذات، فهذا القول كله أخذ فيه الغزالي بالعرض على أنه بالذات، وألزم الفلاسفة منه ما قالوا بامتناعه!
وأكثر الأقاويل التي ضمن هذا الكتاب هي من هذا القبيل، ولذلك كان أحق الأسماء بهذا الكتاب كتاب التهافت المطلق أو تهافت أبي حامد لا تهافت الفلاسفة. وكان أحق الأسماء بهذا الكتاب (أي تهافت التهافت تأليفه) كتاب التفرقة بين الحق والتهافت من الأقاويل (ص٤١ طبع مصر).
وقال: إذا كان الغرض إنما هو أن نبين أن ما يحتوي عليه هذا الكتاب من الأقاويل هي أقاويل غير برهانية وأكثرها سفسطائية، وأعلى مراتبها أن تكون جدلية، فإن الأقاويل البرهانية قليلة جدًّا، وهي من الأقاويل بمنزلة الذهب الإبريز من سائر المعادن والدر الخالص من سائر الجواهر (ص٨٤).
وقال في عرض الكلام على علم الله بالكون والموجودات: «وهذا كاف في تهافت هذا القول كله وسخفه، فلنسم هذا الكتاب التهافت بإطلاق لا تهافت الفلاسفة.» (ص٩١).
وقال: هذا الفصل (يقصد مسألة نفي الصفات وهي السادسة في كلام الغزالي) كله مغالطة سفسطائية؛ فهذا الرجل (أبو حامد) في أمثال هذه المواضع في هذا الكتاب لا يخلو من الشرارة أو الجهل، وهو أقرب إلى الشرارة منه إلى الجهل (ص٩٩).
وقال: وجميع ما في هذا الكتاب لأبي حامد على الفلاسفة، وللفلاسفة عليه أو على ابن سينا كلها أقاويل جدلية من قبل اشتراك الاسم الذي فيها (ص١٠٠).
وتكلم في مواطن كثيرة عن الغزالي نفسه بما اقتضاه سياق الموضوع، فقال في كلام أبي حامد ضد رأي الفلاسفة في أزلية العالم. (المسألة الأولى من المسائل العشرين).
هذا القول هو في أعلى مراتب الجدل وليس هو موصلًا موصل البراهين، لأن مقدمته عامة والعامة قريبة من المشتركة، ومقدمات البراهين من الأمور الجوهرية المتناسبة. وهذا كما لا يخفي على القارئ رد منطقي، لأن الغزالي عالج جميع المسائل على طريقة المنطق التي أتقنها لتكميل نفسه أو لمحاربتهم.
وحاول الغزالي في هذه المسألة الأولى بعينها أن يضرب أمثالًا من الشرع، فرد عليه ابن رشد: هذا المثال الوصفي الوهمي من الطلاق أوهم أنه يؤكد به حجة الفلاسفة، وهو يوهنها لأن الأشعرية لها أن تقول إنه كما تأخر وقوع الطلاق في اللفظ إلى وقت حصول الشرط من دخول الدار أو غير ذلك، كذلك تأخر وقوع العالم عن إيجاد الباري إياه إلى وقت حصول الشرط الذي تعلق به وهو الوقت الذي قصد فيه وجوده. لكن ليس الأمر في الوصفيات كالأمر في العقليات.
وقال عن أدلة الغزالي في المسألة ذاتها: فقد تبين لك أنه ليس في الأدلة التي حكاها عن المتكلمين في حدوث العالم كفاية في أن تبلغ مرتبة اليقين، وإنها ليست تلحق بمراتب البرهان ولا الأدلة التي أدخلها وحكاها عن الفلاسفة في هذا الكتاب لاحقة بمراتب البرهان، وهو الذي قصدنا بيانه في هذا الكتاب.
وقال في الرد على قول الغزالي بإلزام الفلاسفة أن وصفوا الإمكان بحدوث النفس غير منطبع في المادة أن يكون الإمكان الذي في القابل كالإمكان الذي في الفاعل؛ لأن يصدر عنه الفعل فيستوي الإمكانان.
ويقصد الغزالي من هذا أن تكون النفس مفارقة أي بعيدة عن الجسم وتدبره من خارج كما يدبر الصانع المصنوع، فلا تكون النفس في البدن، كما لا يكون الصانع هيئة في المصنوع أخرى. وهذا الغرض ينطبق على توفق العلماء إلى ابتداع سفينة حربية أو طيارة أو سيارة تتحرك بقوة كهربائية بعيدة عنها ومستقلة دونها.
وقد فرض ابن رشد إمكان ذلك قائلًا إنه لا يمتنع أن يوجد من الكمالات التي تجري مجرى الهيئات ما يفارق محله، ولو صح هذا أيضًا فهو لا يرى منفعة في تساوي الإمكانين، الإمكان الذي في القابل والإمكان الذي في الفاعل، ولا فائدة في تشبيههما. ولما شعر أبو حامد أن هذه الأقاويل كلها إنما تفيد شكوكًا وحيرة عند من لا يقدر على حلها، وهو من فعل الشرار السفسطائيين؛ أقر بأنه إنما يحارب الفلاسفة بمعارضته الإشكالات التي تنتج من أقوالهم بإشكالات من نوعها، ويقصد بالإشكالات شكوكًا تعرض عند ضرب أقاويل الفلاسفة بعضها ببعض، ومثل الغزالي في ذلك كمثل المتقاضي الذي يتقن فهم قانون الإجراءات، ليستفيد منه وسائل لإرباك خصمه بالدفوع الفرعية. وقد كان ابن رشد قاضيًا ابن قاض ابن قاض، كما كان فيلسوفًا منطقيًّا، ولذا تمكن من تلخيص أقوال الغزالي ومعرفة الجيد منها من الرديء، وعاب عليه أنه يلجأ إلى معاندة غير تامة؛ لأن المعاندة التامة إنما هي التي تقتضي إبطال مذهب الخصم بحسب الأمر في نفسه لا بحسب قول القائل. فقال: وقد كان واجبًا على أبي حامد أن يبتدئ بتقرير الحق قبل أن يبتدئ بما يوجب حيرة الناظرين وتشكيكهم؛ لئلا يموت الناظر قبل أن يقف على ذلك الكتاب أو يموت هو (الغزالي) قبل وضعه. ويشير ابن رشد بذلك إلى وعد الغزالي بتأليف كتاب يظهر به الحق دون أن ينصر مذهبًا مخصوصًا غير «مشكاة الأنوار»، ونظن أنه «مقاصد الفلاسفة»، ولكن هذا الكتاب لم يكن وصل إلى المغرب. لأن ابن رشد يقول: «والظاهر من الكتب المنسوبة إليه أنه راجع في العلوم الإلهية إلى مذهب الفلاسفة، ومن أثبتها في ذلك وأصحها ثبوتًا له كتابه المسمى بمشكاة الأنوار.»
ولا يتردد ابن رشد في الاعتراف بصحة أقاويل الغزالي كقوله في ص٧٨: «قد أجاد في أكثر ما ذكره من وصف مذاهب الفلاسفة في كون الباري تعالى واحدًا مع وصفه بأوصاف كثيرة، ومثاله أيضًا لدى قوله: «إن العالم ليس موجودًا في باب الإضافة، وإنما هو موجود في باب الجوهر والإضافة عارضة له».»
وقد رد الغزالي على الفلاسفة في شخص ابن سينا فجاء ابن رشد ونصر الغزالي على ابن سينا وقصر الصحة في رأي ابن سينا على صور الأجرام السماوية وما يدرك من الصور المفارقة للمواد (ص٤٥). ومعنى هذا أن ابن رشد كتب كتابه لنصرة الفلاسفة، ولكنه لم يتحيز لرأي من آرائهم، وأقر الغزالي في بعض المسائل المنسوبة إليهم وحاول تفسيرها وتبين أسباب خطأ الحكماء فيها، وهذا أعظم دليل على حسن النية حيال خصم عنيد نسب ابن رشد إليه سوء النية في أكثر من مكان من كتابه.
وهاك نموذجًا من كلام هذا الحكيم الجليل عند الكلام على القول «بأن الواحد بالعدد البسيط لا يصدر عنه إلَّا واحد بسيط بالعدد لا واحد بالعدد من جهة وكثرة من جهة، وأن الوحدانية منه هي علة وجود الكثرة». فقد تناول الغزالي أصل هذا القول المنسوب إلى ابن سينا ظنًّا منه أنه يفحم الفلاسفة في النيل من أحدهم، فقال ابن رشد: «هذه الأقاويل التي هي أقاويل ابن سينا ومن قال بمثل قوله وهي غير صحيحة وليست جارية على أصول الفلاسفة، ولكن ليست تبلغ من عدم الإقناع المبلغ الذي ذكره هذا الرجل (الغزالي)، وليس هذا القول من الشناعة في الصورة التي أراد أن يصورها هذا الرجل حتى ينفر بذلك النفوس عن أقوال الفلاسفة ويبخسهم في أعين النظار، فإن كان الرجل قصد قول الحق في هذه الأشياء فغلط فهو معذور، وإن كان عَلِمَ التمويه فيها فقصده فإنه لم يكن هنالك ضرورة داعية له فهو غير معذور، وإن كان إنما قصد بهذا ليعرف أنه ليس عنده قول برهاني يعتمد عليه في هذه المسألة، أعني المسألة التي هي «من أين جاءت الكثرة؟» فهو صادق في ذلك إذ لم يبلغ الرجل المرتبة من العلم المحيط بهذه المسألة، وهذا هو الظاهر من حاله فيما بعد، وسبب ذلك أنه لم ينظر الرجل إلا في كتب ابن سينا فلحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة.»
وقد خرج الغزالي بأقوال ابن سينا في مسألة علم الباري بذاته وبسائر الموجودات، فإن ابن سينا إنما رام أن يجمع بين القول بأنه لا يعلم إلَّا ذاته ويعلم سائر الموجودات بعلم أشرف مما يعلمها به الإنسان؛ إذ كان ذلك العلم هو ذاته. وهذا قول جميع الفلاسفة واللازم عن قولهم، وقد أحرجت مكابرة الغزالي صدر ابن رشد في هذه المسألة فقال: «إذا تقرر هذا لك فقد بان لك قبح ما جاء به هذا الرجل من الحمل على الحكماءِ مع ما يظهر من موافقة الرجل لهم في أكثر آرائهم.» وهذا مصداق لما هو مشهور عن الغزالي من أنه يوافق الفلاسفة في معظم أقوالهم، ولكنه أراد الظهور بمخالفتهم ليحظى بشرف الانتصار للشريعة، أو أنه كان مع الحكماءِ بعقله ومع الشرع بقلبه، فغلب القلب على العقل في مواطن كثيرة، ولكن اقتناع العقل كان ظاهرًا في كل حال.
وأما قوله إن قصده ههنا ليس هو معرفة الحق، وإنما قصده إبطال أقاويلهم وإظهار دعاواهم الباطلة فقصد لا يليق به بل بالذين في غاية الشر، وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاد هذا الرجل من النباهة، وفاق الناس فيما وضع من الكتب التي وضعها، إنما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعاليمهم؟! وهبك إذا أخطَئوا في شيء فليس من الواجب أن ينكر فضلهم في النظر وما راضوا به عقولنا، ولو لم يكن لهم إلا صناعة المنطق لكان واجبًا عليه وعلى جميع من عرف مقدارها شكرهم عليها، وهو معترف بهذا المعنى وداع إليه وقد وضع فيها التآليف ويقول إنه لا سبيل إلى أن يعلم أحد الحق إلا من هذه الصناعة، وقد بلغ الغلو فيها إلى أن استخرجها من كتاب الله تعالى، أفيجوز لمن استفاد من كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها حتى فاق أهل زمانه وعظم في ملة الإسلام صيته وذكره؛ أن يقول فيهم هذا القول ويصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم؟
وإن وضعنا أنهم يخطئون في أشياء من العلوم الإلهية، فإنا إنما نحتج على خطئهم من القوانين التي علمونا إياها في علومهم المنطقية، ونقطع أنهم لا يلزموننا على التوقيف على خطأ إن كان في آرائهم، فإن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن إلا هذا القصد لكان ذلك كافيًا في مدحهم، مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولًا يعتد به، وليس يُعصم أحد من الخطأ إلا بأمر خارج عن طبيعة الإنسان، فلا أدري ما حمل هذا الرجل على مثل هذه الأقاويل، أسأل الله العصمة والمغفرة من الزلل!
على أن ابن رشد كان في كتابه حائرًا بين أمرين: الأول ضرورة الرد على الغزالي بما يقنع ويفحم ويعجز الخصم، والثاني بغضه التصريح بالحكمة للجمهور خوفًا عليهم من الضلال بالقليل الذي لا يشفي الغليل، فهو يقول: «ولذلك كان هذا الكتاب أحق باسم التهافت من الفرقتين جميعًا، وهذا كله عندي تعدٍّ على الشريعة وفحص عما لم تأمر به شريعة لكون قوى البشر مقصرة عن هذا، وذلك أن ليس كل ما سكت عنه الشرع من العلوم يجب أن يفحص عنه ويصرح به للجمهور، وربما أدى إليه النظر أنه من عقائد الشرع، فإنه يتولد عن ذلك مثل هذا التخليط العقيم فينبغي أن يمسك من هذه المعاني كل ما سكت عنه الشرع، ويعرف الجمهور أن عقول الناس مقصرة عن الخوض في هذه الأشياء، ولا يتعدى التعليم الشرعي المصرح به في الشرع؛ إذ هو التعليم المشترك للجميع الكافي في بلوغ ذلك.»
هذا ابن رشد، أشهر فلاسفة الإسلام، وقد رماه معاصروه بالإلحاد ونسبوا إليه التعطيل، وحاكمه الأمير في مجلس حافل وعاقبه بالنفي، ولو أن ابن رشد عاصر الغزالي لكان أشد خصومة، ولقامت بينهما حرب عقلية أشد من التي أثار الغزالي غبارها بكتابه وحركها الوليد بعد موت خصمه بمائة عام، نقول إن ابن رشد يظهر في كل صفحة من صفحاته أنه أصدق دفاعًا عن الشريعة، وأشد مناصرة لأحكامها من ذلك الرجل الذي لقبوه بحجة الإسلام.
فإن ابن رشد في مواضع كثيرة من كتبه ينهى عن بذل الحكمة وعن تأويل ظاهر الشرع، ويتناول تلك المسائل كارهًا الخوض فيها وناقمًا على من هتك ستر الحكمة ورفع النقاب عن وجهها وأباح لسائر الأنظار أن تطأها يقول: «فلنرجع إلى ما كنا بسبيله مما دعت إليه الضرورة، وإلا فالله العالم والشاهد والمطلع إنا ما كنا نستجيز أن نتكلم في هذه الأشياء، هذا النحو من التكلم.»
وقد كتب ابن رشد كتاب التهافت إنقاذًا للعقول من الضلال؛ أي إنه تدارك الخطر الذي يحدثه الغزالي، فعمله مفهوم لأنه لغاية معلومة، أما الغزالي فقد انتدب نفسه لغير سبب وقصد إلى تشويش الأفكار باعترافه. فأيهما أقرب إلى الصواب؟ وأيهما أكثر ارتباطًا بالحق؟ وأيهما أحسن نية وأسلم طوية وأشرف قصدًا من صاحبه؟
لقد أجاب ابن رشد على هذا السؤال في عرض الكلام على «الغرض المحرك للسماء، إذ قال الفلاسفة إن السماء حيوان مطيع لله تعالى»، وهي المسألة الخامسة عشرة من مسائل الغزالي، قال ابن رشد ردًّا عليه: «قد يظن أن هذا الكلام لسخفه يصدر عن أحد رجلين إما رجل جاهل وإما رجل شرير، وأبو حامد مبرأ عن هاتين الصفتين، ولكن قد يصدر من غير الجاهل قول جاهلي، ومن غير الشرير قول شريري على جهة الندور، ولكن يدل هذا على قصور البشر فيما يعرض لهم من التقلبات.»
فما أصدق هذا القول على من تصدى للحق ظنًّا منه أنه يقلل من نوره!
(٤٢-٩) رد ابن رشد على طريقة الغزالي
يتهم ابن رشد خصمه الغزالي بأنه سفسطائي، وأنه تناول مسائل كثيرة عظيمة تحتاج كل واحدة منها إلى أن تفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها، وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين السبعة، والغلط في واحد من هذه المبادئ هو سبب لغلط عظيم في إجراء الفحص عن الموجودات.
ويتهمه أيضًا بأنه سريع الأخذ بأبسط الخطأ المنسوب إلى الحكماء شديد الفرح به، فإنه لما ظفر في مسألة «جواز وجود كثرة في المعلول الأول عن غير علة» بوضع فاسد منسوب إلى الفلاسفة، ولم يجد مجيبًا يجيبه بجواب صحيح، سر بذلك وكثرت المحالات اللازمة لهم، وكل ما جر باطلًا يسره.
أما ما عدده من أجناس العلم الطبيعي الثمانية فصحيح على مذهب أرسطوطاليس، وأما العلوم التي عددها على أنها فروع له فليست كما عددها، أما الطب فليس هو من العلم الطبيعي، وهو صناعة تؤخذ مباديها من العلم الطبيعي؛ لأن العلم الطبيعي نظري والطب عملي، أما الكلام في المعجزات فليس فيه للقدماء من الفلاسفة قول؛ لأن هذه كانت عندهم من الأشياء التي لا يجب أن يتعرض للفحص عنها وتجعل مسائل، فإنها مبادئ الشرائع، والفاحص عنها والمسلك فيها يحتاج إلى عقوبة عندهم مثل من يفحص عن سائر مبادئ الشرائع العامة مثل هل الله تعالى موجود؟ وهل السعادة موجودة؟ وهل الفضائل موجودة؟ وإنه لا يشك في وجودها، وإن كيفية وجودها هو أمر إلهي معجز عن إدراك العقول الإنسانية.
إن ما حكاه الغزالي في الرؤيا عن الفلاسفة فلا أعلم أحدًا قال به من القدماء، والذي يقول القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنما هو عن الله تعالى بتوسط موجود روحاني ليس بجسم، وهو واهب العقل الإنساني عندهم، وهو الذي يسميه الحذاق منهم العقل الفعال، ويسمى في الشريعة ملكًا.
ولا حاجة بنا إلى القول بأن الإقدام على تأليف تهافت التهافت كاف بذاته للتدليل على رسوخ قدم ابن رشد في الفلسفة بأصولها وفروعها، والإلمام بتاريخ مذاهب الفلاسفة القدماء منهم والحديثين، لما يقتضيه وضع مثل هذا الكتاب من الاستشهاد بأقوالهم ومقارنتها ببعضها وبغيرها، ونقدها وتوضيح ما أشكل فهمه منها على أذهان خصومها.
(٤٢-١٠) عن فلاسفة اليونان
- (١)
جسم لا ثقيل ولا خفيف وهو الجسم السماوي الكري المتحرك.
- (٢)
جسم ثقيل بالإطلاق وهو الأرض.
- (٣)
جسم خفيف بالإطلاق وهو النار.
- (٤)
جسم ثقيل بالإضافة إلى الأرض وهو الماء.
- (٥)
جسم خفيف بالإضافة إلى النار وهو الهواء.
ثم قال للقارئ: «لا تطمع هنا في تبين هذا ببرهان، وإن كنت من أهل البرهان فأنظره في مواضعه.» وتكلم عن حركة الأكر السماوية وقال إنها تتحرك من جهات محدودة.
أما ما يرى أرسطو أن للسماء يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا وفوقًا وأسفل، فاختلاف الأجرام السماوية في جهات الحركات هي لاختلافها في النوع، وهو شيء يخصها؛ أعني أنها تختلف أنواعها باختلاف جهات حركاتها، وكون الجرم السماوي الأول حيوانًا واحدًا بعينه اقتضى له طبعه، أما من جهة الضرورة أو من جهة الأفضل أن يتحرك بجميع أجزائه حركة واحدة من المشرق إلى المغرب، وسائر الأفلاك اقتضت لها طبيعتها أن تتحرك بخلاف هذه الحركة، وأن الجهة التي اقتضتها طبيعة جرم الكل حينئذ أفضل الجهات لكون هذا الجرم هو أفضل والأفضل، في المتحركات واجب أن يكون له الجهة الأفضل.
(٤٢-١١) مسألة علم الله بالموجودات وهي من جزئيات الثالثة عشرة من مسائل الغزالي
قال ابن رشد: إن العلم يتكثر بتكثر المفعولات للعالم؛ لأنه إنما يعقلها على النحو الذي هي عليه موجودة وهي علة علمه، وليس يمكن أن تكون المعلولات الكثيرة تعلم بعلم واحد، ولا يكون العالم الواحد علة لصدور معلولات كثيرة عنه في الشاهد، مثال ذلك أن علم الصانع الصادر عنه مثلًا «الخزانة» غير العلم الصادر عنه «الكرسي»، لكن العلم القديم مخالف في هذا العلم المحدث والفاعل القديم للفاعل المحدث، فإن قيل فما تقول أنت في هذه المسألة، وقد أبطلت مذهب ابن سينا في علة الكثرة، فما تقول أنت في ذلك؟
- (١)
الكثرة جاءت من قبل الهيولى.
- (٢)
الكثرة جاءت من قبل الآلات.
- (٣)
الكثرة جاءت من قبل الوسائط.
أما فرقة أرسطو فقد صححوا الجواب الثالث، وهذا لا يمكن الجواب فيه في هذا الكتاب بجواب برهاني، ولكن لا نجد لأرسطو أو لمن اشتهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نسب إليهم إلَّا (لفرفوريوس الصوري) صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذَّاقهم، والذي يجري عندي على أصولهم أن سبب الكثرة هي مجموع الثلاثة الأسباب؛ أعني المتوسطات والاستعدادات والآلات.
وقال عند الكلام على تعجيز أبي حامد الفلاسفة عن إثبات الصانع: إن وجود المتقدمات عند الفلاسفة ليس شرطًا في وجود المتأخرات، بل ربما كان الشرط فساد بعضها، وأمثال هذه العلل (وجود المطر عن الغيم والغيم عن البخار) هي عندهم مرتقية لعلة أولى أزلية تنتهي الحركة إليها في علة من هذه العلل في وقت حدوث المعلول الأخير، مثال ذلك أن سقراط إذا ولد أفلاطون فإن المحرك الأقصى للتحريك عندهم في حين توليده إياه هو الفلك أو النفس أو العقل أو جميعها أو الباري، ولذلك يقول أرسطو إن الإنسان يولده إنسان وكذا الأفلاك بعضها عن بعض إلى أن ترتقي إلى محركها، ومحركها إلى المبدأ الأول، فإذن ليس الإنسان الماضي شرطًا في وجود الإنسان الآتي.
(٤٢-١٢) في علم الباري بالجزئيات
وكذلك الأمر في الكليات والجزئيات يصدق عليها سبحانه أن يعلمها ولا يعلمها، هذا هو الذي يقتضيه أصول الفلاسفة القدماء منهم، وأما من فصَّل فقال إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فغير محيط بمذهبهم ولا لازم لأصولهم، فإن العلوم الإنسانية كلها انفعالات وتأثيرات عن الموجودات، والموجودات هي المؤثرة فيه، وعلم الباري سبحانه هو المؤثر في الموجودات، والموجودات هي المنفعلة عنه، وإذا تقرر هذا فقد وقعت الراحة من جميع المشاجرة بين أبي حامد وبين الفلاسفة في هذا الباب وغيره.
(٤٢-١٣) نقد الفلاسفة
قلنا إن ابن رشد لم يتحيز لفريق دون آخر، بل كان في كتابه حكمًا بين الجميع، قال في مسألة القول بأن الله ليس هو فاعلًا وإنما هو سبب من الأسباب التي لا يتم الشيء إلا به وقدم العالم وحدوثه «هذا القول هو من جواب ابن سينا في هذه المسألة عن الفلاسفة وهو قول سفسطائي. والحال في وجود الحركة أنها دائمًا تحتاج إلى المحرك، والمحققون من الفلاسفة يعتقدون أن هذه هي حال العالم الأعلى مع الباري، فضلًا عما دون العالم العلوي، وبهذا تفارق المخلوقات المصنوعات، فإن المصنوعات إذا وجدت يقترن بها عدم، يحتاج من أجله إلى فاعل به يستمر وجودها».
لما أراد أرسطو أن يبين كون الأرض مستديرة بطبائعها أنزلها محدثة ليتصعد العقل منها العلة ثم ينقلها إلى الأزلية، وذلك في المقالة الثانية من السماء والعالم، وذلك لأن الفلاسفة تقول إن من قال إن كل جسم محدث، وفهم من الحدوث الاختراع مِن لا موجود؛ أي من العدم، فقد وضع معنى من الحدوث لم يشاهده قط، وجملة الأمر أن الجسم عندهم سواء كان محدثًا أو قديمًا ليس مستقلًّا في الوجود بنفسه، وهي عندهم في الجسم القديم واجبة على نحو ما هي عليه في الجسم المحدث، إلَّا أن الخيال لا يساعد كيفية وجودها في القديم كما يساعد في الجسم المحدث.
وأما الدهرية فالحس هو الذي اعتمدت عليه، وذلك أنه لما انقطعت الحركات عندها بالجرم السماوي وانقطع به التسلسل ظنت أنه قد انقطع بالعقول وانقطع بالحس. وأما الفلاسفة فإنهم اعتبروا الأسباب حتى انتهت إلى الجرم السماوي، ثم اعتدوا الأسباب المعقولة فأفضى بهم الأمر إلى موجود ليس بمحسوس، هو علة ومبدأ للموجود المحسوس.
وأما الأشعرية (وهم أهل السنة الذين تلقى ابن رشد أصول الفقه في صباه على طريقتهم كما تقدم في ترجمته) فإنهم جحدوا الأسباب المحسوسة؛ أي لم يقولوا بكون بعضها أسبابًا لبعض وجعلوا علة الموجود المحسوس، موجودًا غير محسوس بنوع من الكون غير مشاهد ولا محسوس، وأنكروا الأسباب والمسببات وهو نظر خارج عن الإنسان بما هو إنسان.
مسألة كون الجسم ليس واجب الوجود بذاته، إذا وضع واجب الوجود موجودًا مركبًا من أجزاء قديمة من شأنها أن يتصل بعضها ببعض، كالحال في العالم وأجزائه؛ صدق على العالم وأجزائه أنه واجب الوجود، هذا كله إذا سلمنا أن ههنا موجودًا هو واجب الوجود، ويظهر ضعف هذه الطريقة عند من يفرض جسمًا بسيطًا غير مركب من مادة وصورة وهو مذهب المشائين.
ولذلك يقول الإسكندر إنه لا بد أن يكون ههنا قوة روحانية سارية في أجزاء العالم كما يوجد في أجزاء الحيوان الواحدة قوة تربط أجزاء بعضها ببعض، والفرق ههنا أن الرباط الذي في العالم قديم، من قبل أن الرابط قديم، فتدارك الخالق هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لا يمكن فيه غيره كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان.
وقد رأينا في هذا الوقت كثيرًا من أصحاب ابن سينا لموضع هذا الشك قد تأولوا على ابن سينا هذا الرأي، وإنما سمَّى فلسفته المشرقية لأنها مذهب أهل المشرق، فإنهم يرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية على ما كان يذهب إليه، وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة.
(٤٢-١٤) الكلام عن واجب الوجود
مذهب ابن رشد في الذات والصفات أن الصفات لاصقة بالذات وقائمة بها ومتحدة معها وليست زائدة عنها. وأن الجسم السماوي عند الفلاسفة ليس مركبًا من مادة وصورة، وإنما هو عندهم بسيط وقد يظن أنه يصدق عليه أنه واجب الوجود بجوهره.
(٤٢-١٥) مذهب النصارى في الأقانيم الثلاث
إنهم ليسوا يرون أنها صفات زائدة على الذات، وإنما هي عندهم متكثرة بالحد، وهي كثيرة بالقوة لا بالفعل؛ ولذلك يقولون ثلاثة لا واحد أي واحد بالفعل ثلاثة بالقوة. الفلاسفة تقول إن الباري تعالى واحد مع وصفه بأوصاف كثيرة.
إن تسمية الباري عقلًا هو الاسم الأخص بذاته عند الفلاسفة المشائين، بخلاف ما يراه أفلاطون من أن العقل غير المبدأ الأول وأنه لا يوصف بأنه عقل.
للموجود وجودان، وجود أشرف ووجود أخس، والوجود الأشرف هو علة الأخس، وهذا هو معنى قول القدماء إن العلوي تعالى هو الموجودات كلها، وهو المنعم بها والفاعل لها، ولذلك قال رؤساء الصوفية: «لا هو إلا هو.» ولكن هذا كله هو من علم الراسخين في العلم، ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلف الناس اعتقاد هذا، ولذلك ليس هو من التعليم الشرعي، ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم، كما أن من كتمه عن أهله فقد ظلم.
(٤٢-١٦) نظام الكون في نظر ابن رشد والفلاسفة
مذهب القوم القديم (يقصد قدماء الفلاسفة وهو يتبعهم) هو أن ههنا مبادئ للأجرام السماوية، والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها، وإن الأجرام إنما خلقت من أجل الحركة، وهي حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها، وهذه المبادئ ليست مادة فوجب أن يكون جوهرها علمًا أو عقلًا أو كيف شئت أن تسميها.
وهذه المبادئ المفارقة وجودها (يقصد بذلك مفارقة للمواد أي مختلفة عنها) مرتبطة بمبدأ أول فيها، ولولا ذلك لم يكن ههنا نظام موجود. وقد صح عند الفلاسفة أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول، وهو أن سبحانه وتعالى قد أمر سائر المبادئ أن تأمر سائر الأفلاك بسائر الحركات، وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض، كما أن بأمر الملك في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل له الملك ولاية أمر من أمور المدينة إلى جميع من فيها من صنوف الناس، وهذا التكليف والطاعة اللذان وجبا على الإنسان، لكونه حيوانًا ناطقًا.
(٤٢-١٧) انطباع غريزة القدماء من حكماء اليونان في ابن رشد
فالله يأخذ الحق ممن تكلم في هذه الأشياء الكلام العام ويجادل في الله بغير علم.
وقد رأيت أن أقطع ههنا القول في هذه الأشياء والاستغفار من التكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله ما تكلمت في «ذلك علم الله بحرف».
(٤٢-١٨) اتساع علمه في الفلسفة (الكلام على طبيعة الموجود بالفعل وهي التي يسمونها بالهيولى)
لا أعلم أحدًا من الحكماء قال إن النفس حادثة حدوثًا حقيقيًّا ثم قال إنها باقية إلا ما حكاه عن ابن سينا، وإنما الجميع على أن حدوثها هو إضافي وهو اتصالها بالإمكانات الجسمية القابلة لذلك الاتصال، كالإمكانات التي في المرايا لاتصال شعاع الشمس بها، وهذا الإمكان عندهم ليس هو من طبيعة إمكان الصور الحادثة الفاسدة، بل هو إمكان على نحو ما يزعمون أن البرهان أدى إليه، وأن الحامل لهذا الإمكان طبيعة غير طبيعة الهيولى. ولا يقف على مذاهبهم في هذه الأشياء إلا من نظر في كتبهم على الشروط التي وضعوها مع فطرة فائقة، ومعلم.
(٤٢-١٩) مسألة الزمان
وهي من أهم المسائل عند الفلاسفة القدماء والمحدثين، وقد تكلم فيها ابن رشد توضيحًا ونقدًا لما كتبه الغزالي، فتناول أزلية العالم وحدوثه وأدلة الفلاسفة وأهل الشرع في الأمرين، فإن الفلاسفة يقولون بالأزلية والشرعيين يقولون بالحدوث، فمثلًا أبو الهذيل العلاف موافق للفلاسفة في أن كل محدث فاسد وأشد التزامًا لأصل القول بالحدوث. ومخالف لهم في كون العالم أزليًّا من الطرفين، وابن رشد يرد عليه بقوله إنه إذا سلم أن العالم لم يزل إمكانه، وإن إمكانه يلحقه حالة ممتدة معه يقدر بها ذلك الإمكان كما يلحق الموجود الممكن إذا خرج إلى الفعل على تلك الحال وكان يظهر من هذا الامتداد أنه ليس له أول صح لهم أن الزمان ليس له أول، إذ ليس هذا الامتداد شيئًا إلا الزمان وتسمية من سماه دهرًا لا معنى لها.
وإذا كان الزمان مفارقًا للإمكان والإمكان مفارقًا للوجود المتحرك، فالوجود المتحرك لا أول له لأن الفلاسفة لا يضعون للحركة الدورية ابتداءً، فليس يلزمهم أن يكون لها انقضاء لأنهم لا يضعون وجودها في الماضي وجود الكائن الفاسد، وإن ما دخل في الماضي بالحقيقة فقد دخل في الزمان، وما دخل في الزمان فالزمان يفضل عليه بطرفيه وله كل وهو متناه ضرورة، وكل مبدأ حادث هو حاضر وكل حاضر قبله ماض، وما يوجد مساوق للزمان والزمان مساوق له، فقد يلزم أن يكون غير متناه.
وقد تخلص ابن رشد من هذا البحث النظري الجليل إلى الكلام على أزلية العالم، فقال إن أهل الشرع جعلوا امتناع الفعل أزليًّا ووجوده أزليًّا، وذلك غاية الخطأ، لكن إطلاق اسم الحدوث على العالم كما أطلقه الشرع أخص به من إطلاق الأشعرية، لأن الفعل بما هو فعل فهو محدث، وإنما يتصور القدم فيه لأن هذا الإحداث والفعل المحدث ليس له أول ولا آخر، ولذلك عسر على أهل الإسلام أن يسمي العالم قديمًا والله قديم وهم لا يفهمون مِن القديم إلا ما لا علة له.
ولا يخفى أن مسألة قدم العالم هي أول مسألة تناولها البحث بين الغزالي وابن رشد وهي أولى المسائل التي يكفرون بها الفلاسفة.
(٤٢-٢٠) دفاع ابن رشد عن الفلسفة
أما الفلاسفة فقد طلبوا معرفة الموجودات بعقولهم لا مستندين إلى قول من يدعوهم إلى قبول قوله من غير برهان، بل ربما خالف الأمور المحسوسة، وقد أثبتوا أسبابًا أربعة هي الصورة والمادة والفاعل والغاية.
أما السبب الفاعل، وهو الذي يسميه جالينوس القوة المصورة أو الخالق وشكَّ هل هي الإله أو غيره، لأن السبب الفاعل هو معطي النفس ومعطي الصورة والحركة. وفحصوا أيضًا عن السماوات بعد ما اتفقوا أنها مبادئ الأجرام المحسوسة، واعتقدوا أن الأجرام السماوية عاقلة وأنها ذوات نفوس، ورأوا أنها أشرف من العقل الإنساني، ولما نظروا إلى الجرم السماوي رأوا في الحقيقة جسمًا واحدًا شبيهًا بالحيوان الواحد، له حركة واحدة كلية وهي الحركة اليومية، واعتقدوا أن ارتباط هذه الأجسام الكروية بعضها ببعض ورجوعها إلى جسم واحد وتعاونها على فعل واحد وهو العالم بأسره؛ أنها ترجع لمبدأ واحد وأن هذا النظام والترتيب هو السبب في سائر النظامات والترتيبات، وأن العقول تتفاضل في ذلك بحسب حالها منه في القرب والبعد.
والأول عندهم لا يعقل إلَّا ذاته، وهو يتعقل ذاته بعقل جميع الموجودات، فعلى هذا ينبغي أن يفهم مذهب الفلاسفة في هذه الأشياء والأشياء التي حركتهم إلى مثل هذا الاعتقاد في العالم، فإذا تؤملت فليست بأقل إقناعًا من الأشياء التي حركت المتكلمين من أهل الملة؛ أعني المعتزلة أولًا والأشعرية ثانيًا، إلى أن اعتقدوا في المبدأ الأول ما اعتقدوا؛ أعني أنهم اعتقدوا أنه ههنا ذات غير جسمانية ولا في جسم، حية عالمة فريدة قادرة متكلمة سميعة بصيرة.
وقد قام عندهم البرهان على أن في الحيوان قوة واحدة، بها صار واحدًا وبها صارت جميع القوى التي فيه تؤم فعلًا واحدًا؛ وهو سلامة الحيوان. وهذه القوى مرتبطة بالقوة الفائضة عن المبدأ الأول، ولولا ذلك لافترقت أجزاؤه ولم تبق طرفة عين.
والعالم أشبه شيء عندهم بالمدينة الواحدة، وذلك أنه كما أن المدينة تتقوم برئيس واحد ورياسات كثيرة تحت الرئيس الأول، كذلك الأمر عندهم في العالم، وذلك أنه كما أن سائر الرياسات التي في المدينة إنما ارتبطت بالرئيس الأول، من جهة أن الرئيس الأول هو الموقف لواحدة واحدة من تلك الرئاسات على الغايات التي من أجلها كانت تلك الرئاسات، وعلى ترتيب الأفعال الموجبة لتلك الغايات، كذلك الأمر في الرئاسة الأولى التي في العالم مع سائر الرئاسات، وتبين لهم أن المبدأ الأول هو مبدأ جميع المبادئ، فإنه فاعل وصورة وغاية، وصارت جميع الموجودات تطلب غايتها بالحركة نحو المبدأ الأول، وتطلب بها غاياتها التي من أجلها خلقت، وجميع الموجودات فتطلبها بالطبع (غريزة)، وأما الإنسان فبالإرادة.
(٤٢-٢١) الكلام على حشر الأجساد
أخذ الغزالي يزعم أن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، وهذا شيء ما وجد لواحد ممن تقدم فيه قول، والقول بحشر الأجساد أقل ما له منتشرًا في الشرائع ألف سنة، والذين تأدت إلينا عنهم الفلسفة دون هذا العدد من السنين، وذلك أن أول من قال بحشر الأجساد هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى، وذلك بين من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لهم. وثبت أيضًا ذلك في الإنجيل وتواتر القول به عن عيسى، وهو قول الصابئة. وقد قال عنها أبو محمد ابن حزم إنها أقدم الشرائع، والحكماء بأجمعهم يرون في الشرائع أن يتقلدوا من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في ملة ملة.
والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة، حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها. فما قيل في الميعاد في الشريعة الإسلامية هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل الميعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية.
(٤٣) ابن رشد وحرية الفكر
ومن فضل العرب علينا أنهم هم الذين عرفونا بكثير من فلاسفة اليونان، وكانت لهم الأيدي البيضاء على النهضة الفلسفية عند المسيحيين. وكان الفيلسوف ابن رشد أكبر مترجم وشارح لنظريات أرسطاطاليس، ولذلك كان له مقام جليل عند المسلمين والمسيحيين على السواء، وقد قرأ الفيلسوف النصراني توماس نظريات أرسطاطاليس شرح العلامة ابن رشد. ولا ننس أن ابن رشد هذا هو مبتدع مذهب «الفكر الحر»، وهو الذي كان يتعشق الفلسفة ويهيم بالعلم ويدين بهما، وكان يعلمهما لتلاميذه بشغف وولع شديدين، وهو الذي قال عند موته كلمته المأثورة: «تموت روحي بموت الفلسفة.»
إن ابن رشد أشهر مفكر مسلم؛ لأنه كان أعظم المفكرين المسلمين أثرًا وأبعدهم نفوذًا في الفكر الأوروبي، فكانت طريقته في شرح أرسطو هي المثلى في القرون الوسطى، وقد ظهر فضله بشرح نص السيانتزم (ألوهية العالم)، الذي يؤيد أزلية الكون المادي، ويقول بأن النفس الفارقة تخلق من النفس العامة وتعود إليها فتتلاشى فيها، فجعل شرح هذا المذهب لابن رشد شأنًا كبيرًا في عالمي الفكر المسيحي والإسلامي.
وقد انشق على مذهب الزهد والتصوف الذي نشره ابن باجه وابن طفيل، وحارب الغزالي في آرائه الدينية المخالفة للعقل، وأفرد لذلك كتاب «تهافت التهافت» ردًّا على «تهافت الفلاسفة» أشهرِ كتب الغزالي وأظهرها غرضًا. فأثبت ابن رشد بكتبه أنه أقل فلاسفة الإسلام تصوفًا وأكثرهم تأييدًا للعقل، وهو يعارض وجهة النظر الدينية في كل رأي جوهري، فأنكر بعث الأجساد، وعدَّ القول ببعث الجسد خرافة، وشأنه في ذلك شأن من سبقه من المعطلين، وبحث مسألة «الخيار» بحثًا يكاد يكون علميًّا، وعارض في ذلك مذهب المتكلمين المتلف للأخلاق؛ لأنهم قالوا بأن إرادة الله هي مقياس الحق ولا مقياس سواها، وكانوا جبرية. وكذلك عارض ابن رشد مذهب القدرية.
وقد أدرك ابن رشد ما بين مذهبه وبين العقائد الشائعة من العداء، وفطن إلى الأفكار التي تتهدده إذا لم يصانع في بعض الأمور، فحاول استرضاء أهل الشريعة ببعض كتب ألفها وجعل نفسه أوسع صدرًا من ابن طفيل، فقال بأن الإسلام أكمل نظام قومي، وأصلح ملة للشعوب. وهو واضع مذهب الحقيقة المزدوجة أي حقيقة العلم أو الفلسفة وحقيقة الدين، وكان لهذا المذهب شأن يذكر في مباحث النصرانية عدة قرون.
وقد تكلم في كتابيه «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» بلهجة الرجل المحافظ على العقائد وحامي ذمار الظاهر من أمور الشرع. وقال إن العاقل لا ينطق بكلمة ضد العقيدة السائدة، وإن الملحد الذي يطعن في الدين يستحق الموت؛ لأنه يهدم كيان الفضيلة القومية. وقال إن مذهب خلق العالم مخالف للعقل، ولكن الفضل في بقائه للعادة، وإن المتدين لا يكفيه الإيمان؛ لأن المؤمن بغير علم ينقلب زنديقًا إذا بحث واستقصى.
ولكن ابن رشد كان يعيش في عهد انحطاط المعرفة وانتعاش التعصب، فلم ينفعه ظهوره بالتقوى ولم يحفظه من الاضطهاد، فنكل به الخليفة الذي كان يبجله، وجريمته في نظره نشر آراء القدماء وبها ضرر الإسلام. وقد حرِّم النظر في كتب اليونان وفلسفتهم، وأتلفت جميع الكتب التي كانت تبحث فيها، ومات ابن رشد في مراكش سنة ١١٩٨، ولم يطل عهد العرب في الأندلس بعده، فلما أفل نجم سعدهم كان الدين قد حل محل الفلسفة، وبذا دللت دولة الأندلس في جو من التقوى!
هذه هي الصورة التي رسمها قلم جون روبرتسون، وهو من مشاهير أحرار الفكر، ويعد زعيمهم في جزر بريطانيا بعد عميدهم برادلو الشهير، وهي صورة فيها شيء كثير من المبالغة، على أن رينان الذي تفرغ لدرس ابن رشد وزمنه قال إن عداء الشعب الأندلسي للفلاسفة كان قويًّا جدًّا، ولكن اللوم فيه راجع إلى عنصر المسيحيين المغلوبين، وهم أهل البلاد أصلًا وكانوا من قديم الزمن متشددين في الدين، وكانوا معرضين عن العلوم الصحيحة مثل الفلك والطبيعيات (صفحات ٣١–٣٦).
ونحن نرى رأي رينان ونزيد عليه أن ما أصاب ابن رشد وأصحابه كان مظهرًا من مظاهر أخلاق أهل إسبانيا؛ لأن أمثاله في الشرق لم ينلهم أقل أذى، ولو كان الاضطهاد من لوازم الإسلام ما نجا منه أمثال الكندي والفارابي وابن سينا.
(٤٤) اليهود وابن رشد
كان الفضل في نشر فضل العرب وعلومهم في أوروبا لليهود؛ فإن الذين اضطهدوا منهم وطردوا من إسبانيا وطنهم لَجَئوا إلى جنوب فرنسا، وأقاموا بمقاطعة برونصة وأسسوا المكاتب والمدارس في ناربون وبزييرس ونيم وكاراسكون ومونبليه، وكانت كلية مونبليه تعلم الطب والنبات والرياضة على طريق العرب. وكانت الفلسفة والعلوم العربية تعلم في تلك الأرجاء كما لو كانت ولاية إسلامية، وفي مدارسها درست فلسفة ابن رشد وحكمته وحفظت شروحه، وقد عاشت في كنف فلسفته فلسفة أخرى هي فلسفة ابن ميمون الحكيم الإسرائيلي.
يمتاز مذهب أرسطو برأي جعل فلسفته من دعائم العقل الإنساني، هذا الرأي هو أزلية المادة، وقد انتحله ابن رشد وسائر المعتزلة قبله وبعده. وقد قلنا إن فلسفة ابن ميمون عاشت في كنف ابن رشد؛ لأن ابن ميمون وغيره من حكماء ملته ما عدا ليفي بن جرشوم جحدوا أزلية المادة وفندوها؛ لا حبًّا بالحقيقة أو تبعًا لمبادئ الفكر، ولكن حبًّا بالتوراة.
ولكن الفضل في نقل فلسفة ابن رشد إلى العبرانية فاللاتينية يرجع إلى ابن ميمون وأصدقائه وتلاميذهم، وقد حاولوا تحويرها وتحريفها لتنطبق على مبادئهم ولتحل في معابدهم المحل الأول بعد كتبهم المقدسة، ولكن هذه المحاولة فشلت لأن البون شاسع بين سفر التكوين وفلسفة ابن رشد!
(٤٥) ثمار الفلسفة الرشدية في أوروبا
في أواخر القرن الثاني عشر ظهر في مقاطعة بريتانيا بفرنسا مفكر مصلح اسمه أموري البنياوي، وصاحبه داود الدنيانتي، فخالفا تعاليم الكنيسة واستجلبا سخطها، فحوكم أتباعهما وعوقبوا بالإحراق أحياء، أما المصلحان فقد فرا طلبًا للنجاة، ولكن يد الكنيسة في القرون الوسطى كانت طولى، وكان صبرها أطول، فإنها ترقبت موتهما ونبشت قبرهما وأحرقت رفاتهما ليكونا عبرة للمؤمنين!
وقد ظهر للكنيسة أن سبب هذا البلاء فلسفة أرسطو كما شرحها ابن رشد، فاجتمع في باريس مجمع ديني علمي (سنة ١٢٠٩) وحظر درس الفلسفة الأرسطية والشروح الرشدية، فحرمت أولًا الطبيعيات، ثم كتب ما بعد الطبيعة، وقد استمر هذا المنع ثلاثين عامًا.
وفي سنة ١٢٦٩ حمل أسقف باريس حملة كبرى على الفلسفة في شخص ابن رشد، وخص باللعن والتكفير المبادئ الآتية: (١) أزلية العالم. (٢) إنكار آدم. (٣) وحدة العقل الإنساني. (٤) القول بأن العقل، وهو شكل الإنساني ومهيئ ذاته، يهلك مع البدن. (٥) في أن أفعال البشر خارجة عن حكم العناية. (٦) أن العناية عاجزة عن تخليد ما مآله للفناء، وصيانة ما مآله للفساد.
ولما كانت كتب ابن رشد الطبية انتشرت من جنوب فرنسا إلى شمال إيطاليا وذاعت في مدارس بدوا، فقد ذاعت أيضًا فيها تعاليمه الفلسفية، ومال الأطباء الذين تعلموا عليها إلى حرية الفكر وأخذوا بفلسفته، وأشهر من نذكر من علماء هذا البلد جاتياد السيناوي، الذي بدأ بدرس الشرح الكبير سنة ١٤٣٦ وأوعز بطبعه فلم يدركه، ولكنه طبع سنة ١٤٧٦. وقد خلفه في منصب تدريس الفلسفة سينكوفرنياس، ولم يبال هذان الحكيمان بالاعتراض، بل نشرا مذهب «روح العالم» على ما فيه من مخالفة الدين المسيحي في عقيدة الخلود، وقد ازداد النقد وانقلب سخطًا إذ نشر تلميذهما نينو كتابه في العقل.
ولابن رشد فضل لا ينكر على روجير بيكون الفيلسوف الشهير، فقد استفاد من كتبه وحيًا واستنزل من حكمته إلهامًا، وذكره في كتابه اللاتيني «أبوس ماجوس» وأثنى عليه وعلى مواهبه وسعة علمه، وقال: «إنه فيلسوف متين متعمق، صحح كثيرًا من أغلاط الفكر الإنساني، وأضاف إلى ثمرات العقول ثروة لا يستغنى عنها بسواها، وأدرك كثيرًا مما لم يكن قبله معلومًا لأحد، وأزال الغموض من كثير من الكتب التي تناولها ببحثه.»
أما توماس أكويناس الشهير (١٢٢٥–١٢٧٤) الذي صار قديسًا لأنه كان أعظم لاهوتي في كنائس الغرب وأكبر فلاسفة القرون الوسطى، فقد علا نجمه بكتابه إجمال اللاهوت «سوماتيولوجيا»، وقد وصف الله فيه بالطبيعة الفعالة.
ذكر القديس توماس أسباب اتصاله بالأفكار الدنيوية، ودل على أن الفضل في وضع كتابه شكلًا ومادة يرجع إلى طريقة ابن رشد وفلسفته، وهو في الظاهر يفندها وينتقدها، ولكنه كلما حاول الوصول بالفكر إلى إحدى نتائج الحكمة قرر مبدأ التعدد الذي أساسه أزلية المادة، مستمدًّا ذلك من ابن رشد وأرسطو.
ولم ينج ابن رشد من ألسنة رجال الكنيسة، فقد ذموه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن. قال بترارك عنه: «إنه ذلك الكلب، الكلب الذي هاجه غيظ ممقوت، فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية.» أما دانتي فقد جعله في وقار وهدوء يتبوأ مجلسه في الجحيم جزاء كفره واعتزاله.
وممن تعذب في سبيل ابن رشد هرمان فان ريزويك الكاهن الهولندي الذي أحرق بتهمة الهرطقة في لاهاي في سنة ١٥١٢، ومن عجائب القدر أن هذا الحكيم الفاضل كان قبل هدايته بالحكمة قاضيًا في محكمة التفتيش، ولم يدافع أحد عن الدين المسيحي مثل دفاعه بلاغة وإخلاصًا واعتقادًا. ولكنه بعد ذلك غير فكره فقال — بلسانه وهو حائز سائر صفاته الشرعية ومتمتع بجميع قواه العقلية — أمام مجلس التفتيش الذي عقد في سنة ١٥٠٢ لمحاكمته: «إن العالم أزلي ولم يخلق كما ادعى ذلك المجنون (!) موسى، وإنه لا يوجد جحيم ولا حياة مستقبلة، وإن السيد المسيح لم يكن ابن الله، لقد ولدت مسيحيًّا ولكنني لست الآن منكم لأنكم مجانين.» فحكم عليه المجلس بالسجن المؤبد.
ثم تقدم للمحاكمة ثانية بعد عشرة أعوام، وقد حسِبوه قد تحوَّل أو أن السجن ألان من صلابته وأضعف من شكيمته، أو لطف من مغالاته، أو قلل من تحامله، فوجدوه أصلب وأقوى وأعند مما كان! فحكموا بإحراقه وأحرق فعلًا في ١٤ ديسمبر سنة ١٥١٢، وقد قال في ذلك اليوم جملة هي سبب هذا الاستشهاد الطويل وهي: «إن أعلم العلماء أرسطو وشارحه ابن رشد، وهما أقرب إلى الحقيقة. بهما اهتديت وبفضلهما رأيت النور الذي كنت عنه عميًا.»
فأثبت بذلك أنه كان رشدي المبدأ والنزعة، وأنه لولا اعتقاده ومجاهرته ما تعذب في سبيل فكره.