ابن خلدون
ولد ابن خلدون أعظم فلاسفة التاريخ في الشرق والغرب في تونس سنة ٧٣٢ﻫ، وتوفي في مصر في سنة ٨٠٨ﻫ، فهو من عظماءِ القرن الثامن الهجري، واسمه أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون ولي الدين التونسي الحضرمي الأشبيلي المالكي، وأصله من أسرة أندلسية توطنت في أشبيلية، ثم نزح أجداده من أشبيلية إلى تونس في أواسط القرن السابع للهجرة، ويعود أجداد ابن خلدون بنسبهم إلى بني وائل من قبائل اليمن، ويردون هجرة جدهم الأعلى من اليمن إلى الأندلس، إلى القرن الثالث الهجري.
نشأ ابن خلدون في تونس وتلقى العلوم المعروفة في عصره، ثم ترك تونس فرارًا من الوباء وسافر إلى هوارة، حيث نزل على صاحبها ابن عبدون فأكرم وفادته وأعانه على السفر إلى بلاد المغرب، وتنقل في بلاد كثيرة وهو لا يزال في مقتبل العمر، مثل ابن بطوطة، ثم استقدمه السلطان أبو عنان المريني صاحب تلمسان إلى فاس سنة ٧٥٥ﻫ وهو في مستهل العقد الثالث من عمره وقربه واستكتبه ورقاه، وقد كان في تقريبه وترقيته ما يدعو إلى حسده، فحسده أقرانه الذين لم يبلغوا شأوه، وسعوا فيه واتهموه بالتآمر على السلطان لاغتياله، فاعتقله وما زال معتقلًا على طريقة الحلفاء في مستعمراتهم، حتى مات السلطان أبو عنان المريني صاحب تلمسان سنة ٧٥٩ﻫ، فأفرج عنه الوزير ابن عمر وخلع عليه وعوضه خيرًا واحتفظ به.
واتفق أن السلطان أبا سالم المريني قدم من الأندلس يريد السفر إلى مكة، فاستعان بابن خلدون، لما بين ابن خلدون وبين شيوخ بني مرين من الإخلاص والمحبة، ففاز ودخل فاس وابن خلدون في ركابه سنة ٧٦٠ﻫ، فعينه كاتب السر، فأجاد ابن خلدون وبرع في أداء تلك الوظيفة التي أسندت إليه.
ولكن الخطيب ابن مرزوق تغلب بمكره ودسه على هوى السلطان، وسعى في ابن خلدون، فانقبض ابن خلدون وغيره من رجال الدولة وحنقوا وتغيروا على السلطان وانتقضوا عليه فمات، وعاد النفوذ إلى ابن خلدون بفضل الوزير عمر بن عبد الله، ثم أراد ابن خلدون السفر إلى الأندلس فمنعه الوزير ابن عمر، فوسط له من قبل الرجاء فأذن له فسافر إلى الأندلس سنة ٧٦٤ﻫ، وقصد «غرناطة» وسلطانها إذ ذاك أبو عبد الله من بني الأحمر، فاهتز السلطان لمقدمه وبالغ في إكرام وفادته، وأعد له دارًا في أعلا قصوره.
وفي سنة ٧٦٥ﻫ رحل إلى «كاستيل» (قشتالة) وتقدم إلى حاكمها وتوسط في عقد الصلح بينه وبين ملوك «العدوة» بهدية فاخرة، فطلب منه صاحب «قشتالة» أن يقيم عنده فاعتذر، فأركبه بغلة فرهة بلجام من ذهب، فلما عاد ابن خلدون إلى «غرناطة» أهدى البغلة ولجامها إلى السلطان أبي عبد الله، فأنزله على الرحب والسعة وأقطعه بلدًا وصيره بذلك من الأمراء الملتزمين، ولكن الإقطاع والترحيب لم يقعدا بهمة ابن خلدون عن الارتحال، فاشتاق إلى أهله وأصابه داء الحنين إلى الوطن (نوستالجيا)، وهو خلة كل أديب وشاعر ولبيب، فرحل إلى (بجاية) فلقيه سلطانها أبو عبد الله مرحبًا، وتهافت عليه أهل البلد يقبلون يديه، فقلده السلطان أعمال دولته وأسند إليه رياسة حكومته، فخدمه بعلمه ونفوذه وقلمه مخلصًا في ذلك الإخلاص كله، دأبه في سائر الأعمال التي أسندت إليه.
ولكن أبا العباس أمير (قسطينة) شهر الحرب على أبي عبد الله صاحب (بجاية) وملك بلده، واستبقى ابن خلدون وأكرمه، ثم كثرت السعايات والوشايات في حقه لدى أبي العباس، فاستأذنه في الانصراف واستقال من منصبه، فأذن له وذهب ابن خلدون إلى قبائل العرب.
ثم كتب إليه أبو حمو صاحب (تلمسان) يستقدمه ليتولى الحجابة والعلامة (منصب كبير الأمناء)، فاعتذر إليه بأنه رغب في العلم عن السياسة، وأراد الخروج إلى الأندلس فاستأذن أبا حمو في ذلك فأذن له وحمله رسالة إلى ابن الأحمر، ولكنه عجز عن ركوب البحر، وعلم السلطان عبد العزيز المريني صاحب المغرب الأقصى خبره، وأن معه وديعة إلى سلطان الأندلس، فاستقدمه وسأله ولم يجد الخبر صحيحًا، فأكرمه واستبقاه عنده واستعانه على (بجاية).
ثم استقرت بابن خلدون النوى في (تلمسان)، فأقام بها مع أهله وولده ونزل بهم في قلعة بني سلامة من بلاد «بني توجين» فأقام بها أربع سنين.
وفي أثناء تلك المدة شرع في تأليف تاريخه فأكمل المقدمة، ودون بعض فصول من التاريخ، وكان ذلك في أواخر العقد الثامن من القرن الثامن للهجرة، وقبل وفاته بثلاثين عامًا تقريبًا، وقد شارف على الخمسين من عمره.
ثم حن إلى تونس مسقط رأسه فاستأذن، فأذن له فبلغها سنة ٧٨٠ﻫ، فأكرمه سلطانها واختصه بأسراره وأخذ بناصره واستحثه على إتمام تأليفه، فاطمأن وواصل العمل في التاريخ حتى أحس بالسعايات والوشايات، فصحت عزيمته على النزوح إلى مصر، فاستأذن في السفر إلى الإسكندرية فبلغها سنة ٧٨٤ﻫ. وانتقل منها إلى القاهرة وجلس للتدريس في الأزهر، فقرأ الفقه على مذهب مالك، واتصل خبره بسلطان مصر إذ ذاك وهو برقوق العظيم فقربه وأكرمه وولاه قضاء المالكية سنة ٧٨٦ﻫ، فقام بعمل القضاء خير قيام، واشتهر أمره عالمًا، وقاضيًا، ومدرسًا، ومؤرخًا، وأديبًا، وكثر المعجبون به وكثر أيضًا عدد حساده، فوشوا به وأشاعوا عنه الأراجيف.
وكان ابن خلدون قد بعث يستقدم أهله وولده من تونس ليقيموا معه في القاهرة، فغرقوا جميعًا في أثناء الطريق، فعظم الأمر على هذا الفيلسوف وأصابه حزن شديد فاستقال من منصب القضاء، وانقطع للتدريس والتأليف وأقام على تلك الحال ثلاث سنين، فلما كانت سنة ٧٨٩ﻫ خرج من القاهرة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وعاد في السنة التالية إلى مصر، وأكب على العمل في كتابه حتى أتمه سنة ٧٩٧ﻫ وهو في الخامسة والستين من عمره، وقد قضى في تأليفه نحو خمسة عشر عامًا.
وما زال ابن خلدون مقيمًا بمصر، وهي ملجأ أهل العلم والأدب من قديم الزمان، حتى توفي بها سنة ٨٠٨ﻫ ودفن بإحدى مقابرها في قبر غير معلوم لأبناء هذا الزمان.
(١) مؤلفات ابن خلدون
(١-١) تاريخ ابن خلدون
اشتهر ابن خلدون بين العلماء والمفكرين بكتاب واحد، بل بجزء واحد من ذلك الكتاب، ألا وهو (مقدمة ابن خلدون)، أما التاريخ فاسمه (العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاشرهم من ذوي السلطان الأكبر) وهذا الكتاب مقسم إلى ثلاثة كتب في سبعة مجلدات.
الكتاب الأول: في العمران، وما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش، والصناعات والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب، وهذا الكتاب الأول هو المقدمة المشهورة، وتقع في نحو أربعمائة صفحة، وبها وحدها نال ابن خلدون القدح المعلي؛ لأنه أتي فيها بمباحث مستحدثة مما أطلق عليه أهل هذا الزمان اسم العلوم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصاد السياسي، والاقتصاد الاجتماعي، وفلسفة التاريخ، والقانون العام، ولا شك عندنا في أن «هيجل» الألماني و«مكيافللي» الإيطالي و«جيبون» الإنجليزي هم من تلاميذ ابن خلدون.
فإن هذا الفيلسوف الإسلامي الذي عاش في القرن الثامن للهجرة (الرابع عشر المسيحي) قد تصدى لتلك المباحث وأجاد فيها حينما كان أهل أوروبا في غفلتهم، ولم يكتب أحد من العرب غيره في هذه المباحث سوى نتف متفرقة لا قيمة لها، فتوسع ابن خلدون في ذلك بما استنبطه من الأسباب والنتائج بمعارضة الحوادث ودرسها، والبحث في عللها، مما وقف عليه بالمطالعة والدرس أو كابده باختباره الشخصي.
ولا ريب في أن اغترابه وتنقله من مملكة إلى مملكة، وارتحاله في طلب المثل الأعلى من دولة إلى سلطنة، ومن إمارة إلى بلاط، واحتكاكه بالأمم المختلفة، وممارسته بعض شئون تلك الدول، أعانه ذلك كله على استيفاء بحثه، ولا ريب أيضًا في أن الفكرة كانت كامنة في رأسه فأنضجها الاختبار والتنقل فاختمرت وظهرت في حيز الوجود.
(أ) الكلام على مقدمة ابن خلدون
-
الفصل الأول: في قسط العمران من الأرض وما
فيها من الأقاليم وتأثير الهواء في ألوان البشر وأخلاقهم، واختلاف أحوال
العمران من الخصب والجوع، وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر
وأخلاقهم.
وهذا المبحث كثير الشبه بما أتى به علماء أوروبا في نظرية النشوء والارتقاء بعد ابن خلدون بخمسة قرون.
-
الفصل الثاني: في العمران البدوي، والأمم
الوحشية والقبائل، وما يعرض في ذلك المباحث في طبيعة البداوة والحضارة، والفرق
بينهما من حيث الأنساب والعصبية والرياسة والحسب والملك والسياسة وغير
ذلك.
وهذا المبحث من قبيل القواعد العامة لنظام الاجتماع الذي ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، وأطلق عليه المعاصرون اسم (سوسيولوجيا).
-
والفصل الثالث: في الدول العامة، والملك
والخلافة والمراتب السلطانية، علل فيه أسباب السيادة وتشييد الدول، وكيف تحفظ
الإمارة، وشروط السلطة والخلافة وطبائع الملك، ومعنى البيعة وولاية العهد
ومراتب السلطان ودواوين الدولة وجندها وأساطيلها وشاراتها، وقواعد الجند والحرب
وأسباب ثبوت الدولة وسقوطها.
وهذا المبحث من نوع السياسة علمًا وعملًا، وقد كتب «جيبون» المؤرخ الإنجليزي كتابًا عن أسباب انحلال الدولة الرومانية وسقوطها، سالكًا الخطة التي رسمها ابن خلدون في مقدمته.
- والفصل الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران، والمدن والهياكل ونسبتها إلى الدول، وما تجب مراعاته في وضعها من حيث البر والبحر، وفي بناء المساجد والبيوت ونسبتها إلى الدول الإسلامية، وهذا المبحث من قبيل الهندسة الحربية.
-
والفصل الخامس: في المعاش ووجوهه من الكسب
والصناعات وفيه مسائل في الرزق والكسب، وأنه قيمة الأعمال البشرية، وفي المعاش
وأصنافه ومذاهبه ونسبة ذلك إلى طبيعة العمران، وفيه مباحث مسهبة في أبواب الرزق
من التجارة والصناعة على اختلاف ضروبها وأنواعها، ووصف أمهات الصناعات في
أيامه، كالزراعة، والعمارة، والنسيج (الحياكة والخياطة) والتوليد والطب،
والوراقة، والغناء وغيره.
وهذا المبحث من قبيل ما يسميه أهل هذا الزمان الاقتصاد السياسي، والاقتصاد الاجتماعي، وكثير من مبادئ هذا الفصل صارت بذورًا لما دوَّنه «كارل ماركس» الإسرائيلي الألماني في كتاب (رأس المال) Das Kapital.
-
والفصل السادس: في العلوم وأصنافها
والتعليم وطرقه وسائر وجوهه، وفيه مباحث في التعليم ونسبته إلى الحضارة،
والكلام في كل علم على حدة وتاريخه وشروطه من علوم القرآن والحديث والفقه،
فالعلوم اللسانية والطبيعية والرياضية والطبية، فالأدب فالشعر، والتاريخ،
والإلهيات وعلم النفس، وعلم النجوم، والعلوم السحرية.
وهذا المبحث من قبيل علم (البيداجوجيا) التربية، ومن فطاحله في أمريكا «وليم جيمس» وفي أوروبا «سبنسر» و«فرويبل» وغيرهم.
وسيأتي الكلام على أسلوب ابن خلدون في موضعه من هذه الترجمة.
أما هذه المقدمة فقد كان لها أثر عظيم جدًّا عند المفكرين من الإفرنج، فنقلها العلامة «كاترمير» إلى اللغة الفرنسية عن نسخة في المكتبة الوطنية بباريس، وطبعت تلك الترجمة الفرنسية في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونقلت منها فصول إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية والتركية، وفي جميع دور الكتب الأوروبية نسخ منها خطية ومطبوعة.
(ب) الكلام على تاريخ ابن خلدون
أما التاريخ نفسه فإنه منطوٍ في الكتابين الثاني والثالث، في ستة أجلاد، ويشتمل الكتاب الثاني على أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ الخليقة إلى القرن الثامن للهجرة، وهو الزمن الذي عاش فيه المؤرخ، مع الألماع إلى من عاصرهم من الأمم والدول، كالفرس والهند والنبط والحبشان والسريان واليونان والرومان والمصريين وغيرهم.
والكتاب الثالث يشتمل على أخبار البربر، والأمة الثانية من أهل المغرب وذكر أوليتهم وأخبارهم، وما كان لهم بديار المغرب من الدول.
ويمتاز تاريخ ابن خلدون عما تقدمه من كتب التاريخ بما تضمنه من المقدمات الفلسفية في صدور أكثر الفصول عند الانتقال من دولة إلى دولة، فإنه يصدر ذلك غالبًا بالأسباب والعلل، وهو أوسع تاريخ للعرب الجاهلية وللبربر ودولهم.
وقد أخطأ كثيرون من النقاد في الشرق في الحط من قدر هذا الكتاب، ونسبوا إلى ابن خلدون في تأليفه التعقيد والغموض. والحقيقة أن علماء المشرقيات في أوروبا جعلوا له شأنه الذي يستحقه، واهتموا به كما اهتموا بمقدمته، ونقلوا إلى لغاتهم منه ما ينفعهم وينفع ممالكهم وسياستهم، فاشتغل «دي سلان» بنشر القسم الخاص ببلاد المغرب والبربر، وطبعه في الجزائر قبل ظهور الترجمة الفرنسية للمقدمة بأحد عشر عامًا في مجلدين كبيرين يبلغ عدد صفحاتهما نحو ألف صفحة، وسماه (كتاب الدول الإسلامية في المغرب)، ثم قضى خمس سنين في نقل هذا القسم إلى اللغة الفرنسية ونشره في الجرائر سنة ١٨٥٢م.
واقتطف المستشرقون من التاريخ أيضًا الجزء الخاص بأخبار بني الأغلب في أفريقية وصقلية إلى حين استيلاء الإفرنج عليها، وطبع هذا الجزء في باريس مع ترجمة فرنسية بقلم الأستاذ «دفرجيه» سنة ١٨٤١م، ونقلت إلى الفرنسية قطعة خاصة بتاريخ بني الأحمر.
(١-٢) مذكرات شخصية لابن خلدون
وقد انفرد ابن خلدون بين مؤلفي العرب باتخاذه (يوميات) ومذكرات شخصية يدونها يومًا فيومًا (أجندة)، وأطلق عليها اسم (التعريف بابن خلدون)، وفيها ترجمته ونسبه وتاريخ أسلافه على نسق أوروبي، وشرح في خلالها ما عاناه في حياته، ويتخلل ذلك مراسلات وقصائد نظمها في بعض الأحوال وكثير مما أصابه من دهره، وتنتهي حوادث هذه المذكرات سنة ٨٠٧ﻫ؛ أي قبل وفاته بعام واحد.
وفي دار الكتب المصرية نسخة خطية من هذه المذكرات في مائة وخمسين صفحة بخط جميل مذهب، ومنها ملخص في ذيل بعض النسخ من تاريخه المطول.
(٢) فلسفة ابن خلدون الاجتماعية
سبق ابن خلدون كل كتَّاب أوروبا إلى وضع قواعد علم الاجتماع الذي لم يطرق بابه قبله إلا فلاسفة اليونان، وقد صدق من قال إن التاريخ لم يكن شيئًا مذكورًا في جانب المقدمة، فإن مقدمة ابن خلدون كتاب لفت نظر أوروبا أكثر مما لفت أنظار أهل الشرق؛ لأنه كتاب بالمعنى الصحيح قلبًا وقالبًا، فهو منظم ومنسق شكلًا، وجليل الفائدة جديد المباحث موضوعًا. وقد أجمع العلماء على أن هذا الحكيم العربي المغربي الأفريقي هو من واضعي أساس علم الاجتماع الحديث.
وقد قسم ابن خلدون ظواهر المدنية إلى ظواهر خارجة عن الاجتماع، ويقصد بالظواهر الخارجة عن الاجتماع الظواهر الطبيعية مثل العقائد الدينية والطقس والبيئة، وإلى الظواهر الداخلة في الاجتماع وهي التي تنشأ في حضن الجماعة وتؤثر فيها بقوتها.
وبنى ابن خلدون نظريته على كون الإنسان ميالًا للاجتماع بفطرته، وهذه هي نظرية حكماء الإغريق والعرب التي عالجها بعد ذلك أوجست كومت نفسه في الجزء الرابع من فلسفته الوضعية. ويتفق ابن خلدون مع أرسطو حكيم اليونان في أن الجماعة ليست إلا وسيلة لسعادة الفرد، وهذا هو الرأي الذي نشره وقواه هربرت سبنسر في مذهبه الفلسفي. وقد أصاب ابن خلدون كبد الحقيقة في نقط لم يسبقه إليها فلاسفة اليونان، فقد ميز بين الجماعة الإنسانية والجماعات الحيوانية، فقال إن اجتماع الحيوان يكون عادة مدفوعًا إليه بالفطرة، أما اجتماع الإنسان فالدافع إليه الفطرة والعقل والتفكير معًا.
لقد شبه مكيافيلي بابن خلدون، ويمكننا تشبيهه بمونتسكيو، فإن كلًّا منهما حاول استنباط قوانين الاجتماع من حوادث التاريخ ووقائعه، وقد رأى ابن خلدون حوله أممًا كثيرة تعيش بغير دين منزَّل وأن لها ملكًا واسعًا وسلطانًا قاهرًا وأنظمة مرعية وقوانين مطاعة وجيوشًا فاتحة ومدنًا عامرة آهلة. ورأى أن الأمم التي انتشرت فيها الأديان المنزلة تعد أقلية بجانب الأمم الأخرى، فاستنبط من ذلك الرأي القائل بعدم ضرورة النبوة لتأسيس الممالك والدول.
وقد خالف ابن خلدون بهذا الرأي معظم الفلاسفة والمؤرخين في الإسلام، ولكنه عاد فقال إن النبوة وإن لم تكن ضرورية لتأسيس الممالك العادية، إلا أنها ضرورية لتأسيس الممالك الراقية القريبة جدًّا من الكمال؛ لأن المملكة التي تشاد على أساس النبوة تجمع بين منافع الدنيا ومنافع الدين.
يعتبر ابن خلدون الطقس أول العوامل الخارجة عن الاجتماع، وقد تكلم عن الأقاليم فقسم الأرض إلى سبعة أقاليم، يختلف الطقس فيها من البرودة الشديدة إلى الحرارة القصوى وما بينهما من درجات الاعتدال المتتالية، وقال بما قال به بعده «بوكل» الإنكليزي من أن للبرد والحر تأثيرًا في جسم الإنسان وخلقه، وبعبارة أخرى في الأمم والممالك من حيث المدنية والحضارة.
وقال إن قاطني الأقاليم المتطرفة لا نصيب لهم في المدنية. وإن الإقليم الرابع، وهو أشد الأقاليم اعتدالًا في البرد والحر، هو أوفق الأقاليم للعمران والمدنية ونمو العلوم وظهور الأديان وانتظار الأحكام والقوانين. وقد عين ابن خلدون لهذا الإقليم بلاد سوريا وبلاد العراق، وأثبت أنها مظهر للحضارة والأديان من قديم الزمن.
وقد اتفق ابن خلدون ومونتسكيو في هذه النظرية اتفاقًا كاملًا، والثابت أن ابن خلدون ومونتسكيو مسبوقان إلى اكتشاف هذه النظرية ببقراط وأرسطو الحكيمين الإغريقيين وجان بودان الحكيم الفرنساوي.
ثم انتقل الحكيم العربي إلى العنصر الثاني من العناصر الخارجة عن الاجتماع، وهو الوسط الجغرافي أو البيئة، وبحث في تأثير البيئة في الفرد، فقال إن البيئة الخصبة تغني الفرد عن السعي في سبيل العيش وتغريه بالفراغ واتباع الأهواء، وتميت في نفسه صفات الشجاعة والمحاربة. وإن هي جدبت استحثه الفقر على الجد والاجتهاد والمثابرة، وولد فيه روح الكفاح والتنازع والمقاومة في سبيل الحياة.
ولكن يظهر أن ابن خلدون لم يعلق على البيئة من الشأن ما علق على الطقس؛ لأنه لم يسبق إلى هذا البحث، ولأن مجال الكلام فيه ضيق بطبيعته بالنسبة للكلام في مجال الطقس.
أما العنصر الثالث وهو الدين، فقد قال عنه ابن خلدون إنه ضروري لكل جماعة إنسانية، وأفاض في المقال بما لديه من الآراء الفلسفية والدينية التي تشبع بها من مؤلفات حكيم الأندس ابن رشد.
ويظهر أن ابن خلدون كان يرمي إلى التوفيق بين الحكمة والدين كما كانت غاية حكيم الأندلس، وهذا الذي يقلل من قدر فلسفة ابن خلدون في نظرنا؛ لأن أستاذه وقدوته ابن رشد لم يكن في الحقيقة فيلسوفًا، إنما كان مترجمًا وناقلًا نقل فلسفة أرسطو إلى اللغة العربية واعتبرها خاتمة الحكمة، ورأى أنه من المحتم عليه وهو حكيم إسلامي أن يوفق بين هذه الآراء اليونانية وبين الشريعة الإسلامية، ولذلك لم يُرض أحدًا من الفريقين: لم يرض الفلاسفة لأنه أحلَّ الدين محلًّا لا يقبله الفلاسفة، ولم يرض الدين لأنه فسره وأوله بما لا ينطبق على منطوقه. وإن هذا الفشل لا يقلل من قدر ابن رشد لأنه كان حسن النية، وكان يريد دينًا مبنيًّا على العقل وفلسفةً لا تؤدي إلى الإلحاد والكفر. ولأن كثيرين من المفكرين بعده حتى في عصرنا هذا حاولوا ما حاوله شيخ قرطبة، فكان نصيبهم من الخذلان كنصيبه ما عدا التنكيل بهم؛ لأن زمن التنكيل بالناس لأجل أفكارهم ومعتقداتهم قد مضى وانقضى.
لا يمكننا أن نعد ابن رشد فيلسوفًا ولكنه كان مصلحًا، فمثله كمثل مارتين لوثير، وقد قضى حياته معذبًا لأنه كان يرنو بعين إلى الدين وبأخرى إلى الحكمة، يحبهما ويحاول التوفيق بينهما ولا يستطيع. فلا غرابة إذا جاء بحث ابن خلدون في المسألة الدينية مشوهًا مضطربًا، لأن فضل ابن رشد راجع لأنه حكيم بذاته ومباشرة، ولكن ابن خلدون كان فيلسوفًا بالواسطة.
وقد أنتج حب ابن خلدون الاستطراد أنه أخذ يبحث في الروح والتصوف والرؤى الصادقة والوحي الإلهي، وكل هذه مواد خارجة بطبيعتها عن موضوع بحثه. ويظهر لنا أن ابن خلدون كان يحاول أن يبحث في تأثير الأديان في الأمم ليظهر الفرق بين الأمم المتدينة والأمم الوثنية، وتأثير العقائد في المدنية والعمران، وارتباط أنواع الدول بالتدين وضده، ثم يبحث في ماضي الإنسانية وحاضرها ومستقبلها من هذه الوجهة، مستشهدًا بحوادث التاريخ ومستقرئًا الوقائع ومقارنًا بين اليونان القديمة — وهي أمة وثنية لم يبعث إليها نبي ولم يظهر فيها سوى حكماء أمثال هيراقليط وبقراط وسقراط وأفلاطون وأرسطو — وبين أية أمة أخرى بعث إليها الأنبياء ولم يظهر فيها حكماء دنيويون أمثال من ذكرنا. ويقارن بين تاريخ الأمتين وما كان من أمرهما ومن تأثيرهما في الأمم المعاصرة.
أما عن حاضر الإنسانية في عصر ابن خلدون فلم يكن لديه شيء أسهل من النظر في حال الأمم لعهده وتأثير التدين وضده في كل منها، وإن مواد مبحث كهذا لم تكن تنقصه لأنه نشأ في بلاد متدينة وساح في إسبانيا وهي تدين بغير دينه، وتنقل بين أفريقيا وآسيا وأوروبا، وكان يعلم حتمًا بوجود أمم وقبائل متوحشة لا دين لها في قلب القارة التي نشأ فيها وألم بأطراف من أخبارها في تاريخه، ثم كان يحسن به أن يمعن النظر في الماضي والحاضر ليحاول الاهتداء إلى ما يكنه المستقبل للأمم المتدينة وسواها.
وإن بحثًا كهذا يكون أعظم نفعًا وأجلَّ ثمرة للإنسانية والعلم من البحث في التصوف والاستخارة والرؤى الصادقة والتجرد، وما شابهها مما شغل به هذا الحكيم عقله ووقته على غير جدوى.
إلى هنا انتهى ابن خلدون من شرح العوامل الخارجة عن الاجتماع، ثم انتقل إلى البحث في العوامل الاجتماعية التي تنشأ في حضن المجتمع، فقرر أن كل جماعة إنسانية تمر بثلاثة أطوار: الطور الأول البدوي، والثاني الغزوي، والثالث الحضري. إن كل أمة تنشأ قبيلة تعيش في الصحراء أو في الوادي، ثم تنهض فتغزوا أممًا أضعف منها متحضرة متمدينة وهذا هو الطور الثاني، ثم تتحضر هي أيضًا فتمدن المدن وتمصر الأمصار وتدون الدواوين وتقنن القوانين وتضع العلوم وتنشئ الفنون الجميلة وتميل إلى الملاذ والمسرات وتنسى الحرب والكفاح؛ فتضعف شيئًا فشيئًا إلى أن تتغلب عليها قبيلة غازية فتقهرها وتسود عليها.
وهكذا تستمر الحركة الإنسانية: تقوم أمم وتسقط، دولة تنهض ودولة تنحط فتغلب، وأخرى تقوى فتنتصر وتسود. هذه سنة الطبيعة في الأمم، وقد اكتشفها ابن خلدون بمحض فكره وعلمه بتاريخ أمم العرب والبربر، ولم يسبقه إليها أحد لأن من سبقه من العلماء لم يشهدوا تاريخ تلك الأمم، ولأن أممهم لم تصب بما أصيبت به أمم العرب والبربر السالفة الذكر في الشرق والغرب.
يقول ابن خلدون إن الحياة البدوية هي الطور الأول لكل جماعة أو قبيلة، وإنها لا تنافي الطبيعة الإنسانية، ويمتاز البدو بالحركة الدائمة والتنقل وهم يعيشون من القطعان التي يرعونها، فإن كانت إبلًا عاشوا في الصحراء لملائمة جوها وأحوالها الظاهرة للإبل، وإن كانت غنمًا وأبقارًا عاشوا في الوديان لكونها أشد ملائمة لهذا النوع من الحيوان من سواها، وإن عيشة البدو واضطرارهم للقناعة بالقوت والثياب وحاجتهم إلى الشجاعة والقوة للدفاع عن أنفسهم وأموالهم تفضلهم على المتحضرين.
يقول ابن خلدون إن العصبية هي التي تدفع بالقبيلة إلى الألفة والمحبة، وتدفعها أيضًا إلى الاتحاد والوئام والدفاع عن المصالح المشتركة، وإن شيئين يقويان العصبية وهما احترام العرف والعادة، والحاجة الدائمة للهجوم والدفاع. ثم تكلم عن الأسرة وتكوينها، فقال إن كل أسرة تفقد صفاتها النبيلة في آخر الجيل الرابع، وإن القبائل تبقى قوية ما دامت محافظة على قوتها وعصبيتها، وقال إن صفاء الدم ونقاوة الجنس شرطان أساسيان لا يمكن لقبيلة أن تنال القوة أو تستبقي العصبية بدونهما، وخلاصة القول على القبيلة أن العصبية هي قوامها وقوتها، وأنها بدونها لا تستطيع الحياة أو المقاومة، وأن القبائل ذات العصبية هي وحدها دون سواها القادرة على الفتح والامتلاك.
وقد انتقل ابن خلدون لتحول القبيلة إلى طور الغزو وتأسيس الدولة، ولا شك عندنا في أن سوسيولوجيته هذه مبنية على تاريخ العرب والبربر بصفتها قبائل، وعلى تاريخ الإسلام بصفته دولة. انتقل ابن خلدون إلى الكلام على حياة الحضر، وأن لهذا الحكيم الفضل الأول في التفريق بين السياسة والأخلاق وبينها وبين العقائد والشرائع، وقد كانت السياسة قبل زمنه ممتزجة بها جميعًا، فهو يعد بحق أول مؤلف سياسي في الشرق ومن الأوائل في الغرب.
يقول ابن خلدون إن العصبية والفضيلة تحفظان قوة القبائل، ولكن لا بد لهما من عامل ثالث وهو إما السياسة وإما الدين، وهذا العامل الثالث هو الذي يوجه قوة القبيلة نحو منفعتها الحقيقية ويعين مورد القوة التي تكتسبها القبيلة بالفتح، وبعبارة أخرى يريد ابن خلدون أن يقول إنه مهما كانت القبيلة قوية فإنها في حاجة إلى «مثل أعلى» تقصد إليه وتجعله كعبة آمالها، وقد ضرب مثلًا بقبائل العرب قبل الإسلام، ثم انتقل إلى الأمم التي دالت دولتها وغزتها القبيلة القوية المستجدة، وأسهب في شروط الفتح وظروفه وفي الصعوبات التي يلقاها الفاتح، وقرر أن أثر الفاتح في المغلوب يزول بمجرد الفتح ويبدأ الغالب يتأثر بأحوال المغلوب.
وذكر ثلاثة أسباب لسقوط الأمم القوية هي ضعف الأشراف وتشدد الجنود المرتزقة ثم الترف، وقال إن الدولة لا يطول أجلها أكثر من ثلاثة أجيال، وإن لها كالفرد طفولة وشبابًا وشيخوخة، ولكن هذا لا يمنع الدولة من السقوط في أول أدوار حياتها. نقول إن هذه النظرية وإن صدقت على الدول الإسلامية فلا تصدق على غيرها، وإن كثيرًا من آراء ابن خلدون في السيادة والتغلب والفتح يذكرنا بكتاب الأمير تأليف مكيافيلي الذي نقلناه إلى العربية عام ١٩١٢، ولا ريب في أن الفضل في هذه الآراء لابن خلدون؛ لأنه أسبق من حكيم فلورنسا ووزيرها.
وليس هذا المجال مجال نقد فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ولكننا أردنا تلخيص مبادئه. يرى القارئ أن أهم ما حاوله ابن خلدون في مقدمته الخالدة هو اكتشاف القانون الذي بمقتضاه تكونت المدنية العربية في الغرب. وحاول ابن خلدون باكتشاف هذا القانون أن يضع أساس فلسفة الاجتماع معتقدًا — كما اعتقد بعده بستة قرون أوجست كومت — أن حوادث التاريخ هي مصدر الاستنباط والاستنتاج الذي يعتمد عليه العالم الاجتماعي. (راجع تاريخ فلسفة العرب تأليف بوير).
إن حياة ابن خلدون وأخلاقه تجعل الشبه بينه وبين مكيافيلي مؤلف كتاب الأمير شديدًا جدًّا، ولا فرق بينهما في تاريخ مولدهما إلا قرن واحد. وظروف كل منهما في عصره وفي المناصب التي تقلب فيها والأشخاص الذين احتك بهم تكاد تكون واحدة. وقد استفاد كل منهما خبرة وعلمًا واسعًا بأخلاق الناس وقوانين الأمم وأحوالها.
- الأول: القول بأن الفلسفة هي علم الموجودات، وهذا الرأي لم يقل به أرسطو المسمى بالأستاذ الأول والمعلم الأول، ولكن قال به أوجست كومت بعد ابن خلدون بستة قرون فابن خلدون في هذه النقطة أعلى إدراكًا من أرسطو وأسبق إلى اكتشاف تلك الحقيقة الكبرى من فلاسفة أوروبا إلى أواسط القرن التاسع عشر.
- والثاني: القول بأن الاجتماع الإنساني خاضع لقوانين وقواعد تدخله في حيز العلوم المنتظمة، وسبق أوجست كومت أيضًا في طريقته؛ فإنه بنى علم الحكيم الاجتماعي بالعالم على شيئين: الأول مشاهدة الأمم واختبارها، والثاني تصور القوانين السائدة على الاجتماع واكتشافها بفضل التجارب العقلية والاستنتاج الفكري، ولم يقل أوجست كومت بأكثر من هذا عندما شرح طريقتي «الستاتستيك والديناميك»، فإن الخبرة والعلم يكشفان لنا عن الحقائق، والعقل يكشف لنا عن الأسباب والعلل.
وكذلك كان ابن خلدون أول من اكتشف معنى كون التاريخ علمًا ما دامت غايته جمع الحقائق وتنظيمها وتنسيقها لاكتشاف أسبابها ونتائجها. وبهذا الاختبار يمكن الوصول إلى القول بأن كل حادثة معينة لدى حدوثها تقتضي فرض وجود شروط أو ظروف معينة، وبعبارة أخرى أنه كلما اجتمعت طائفة من ظروف معينة في مدنية من المدنيات حدثت حوادث معينة، وأي شيء أكثر من هذا قاله مونتسكيو أو أوجست كومت أو من جاء بعدهما من علماء الاجتماع؟ وقد وصل ابن خلدون من هذا إلى القول بأن الحاضر دليل على الماضي، والمستقبل شبيه بالحاضر. ثم إن ابن خلدون قال بأن غاية التاريخ درس العمران أو الحياة الاجتماعية.
ذكرنا أن للحياة الاجتماعية ثلاثة أشكال متتالية هي: حالة البداوة وحالة الحرب أو الفتح ثم حالة الحضارة. (الفصل الثاني وما بعده ص٧٣ من طبع ١٣١١ بالمطبعة الأزهرية بمصر). وقد تعقب ابن خلدون حياة الجماعة منذ البداوة إلى الحضارة التي تنشأ في حضنها وبطبيعتها أسباب الفساد والفناء، وقد رد هذه الأسباب إلى عدم المساواة من حيث الغنى والفقر، وذهاب فضيلة الشجاعة من قلوب البدو إذا تحضروا، ثم إلى انغماس تلك القبائل الحديثة العهد بالمدنية في أنواع الملاذ وصنوف الترف.
وإن من يقرأ مقدمته الجليلة لا يرتاب لحظة عين في أنه تعقب سير المدنية العربية في غرب أفريقيا وجنوب أوروبا منذ البداية إلى النهاية، ولا يوجد أدل على ذلك من كلامه في العصبية (ص٧٩ من الطبعة المذكورة) وبحثه في أن نهاية الحسب والمجد والعظمة الإنسانية في العقب الواحد أربعة آباد؛ أي إن الجيل الرابع هو نهاية المجد واعتبار الأربعة في رأيه: بانٍ وهو الجيل الأول، ومباشر وهو الجيل الثاني، ومقلد وهو الجيل الثالث، وهادم وهو الجيل الرابع (ص٨٢).
ولا ننسى أن ابن خلدون سبق كل علماء الاجتماع في أوروبا في القرون الوسطى والحديثة ببحثه في أثر الهواء في أخلاق البشر واختلاف أحوالهم في الخصب والجوع (ص٥٢ وما بعدها). وهو كذلك أول من بحث في قسط العمران من الأرض، وتكلم على أثر الأقاليم في الأخلاق والتمدين، وهذه مسائل قد حام حولها بعض فلاسفة اليونان، ولكن ابن خلدون أول من وفاها حقها من البحث والاستقصاء على قدر ما وصل إليه علمه الجغرافي في ذلك الزمان، وأهمية هذه الأبحاث غنية عن البيان لأنها تدلنا على رغبة هذا الحكيم العربي في رد ظواهر الحياة الاجتماعية إلى العوامل الطبيعية المعلومة لنا والواقعة بالفعل تحت مشاهدتنا.
وما أشدنا ألمنا عند قول ابن خلدون إنه لم يف كل بحث حقه، ولم يستوعب كل ما ينبغي استيعابه وتدوينه، إنما ألم بأطراف المسائل وأحاط ببعضها عجزًا منه عن الإحاطة بكلها، وإنه يترك ما بقي لمن يجيء بعده من العلماء الأعلام! يشتد ألمنا لأن هذا النداء لم يجبه أحد في العالم العربي ولا في العالم الإسلامي منذ وفاة ابن خلدون في أواسط القرن الخامس عشر للآن، ولكن يسرنا أن أجابه الكثيرون من علماء أوروبا، ويسرنا أن كثيرين منهم لم ينسوا فضل هذا الحكيم العربي الشرقي. ونحن لا نرتاب في أن أوجست كومت وقف على مؤلف هذا الحكيم، وإن كان لم يذكره بكلمة واحدة في كتابه واكتفى بذكر كوندروسيه ومونتسكيو، ولا يمكن أن يجهل أوجست كومت فضل ابن خلدون، وقد كتب عنه شولز مقالة في المجلة الآسيوية في عام ١٨٢٥، أي قبل ظهور فلسفة أوجست كومت بسبع سنين، وكان كومت إذ ذاك في السابعة والعشرين من عمره. والمجلة المذكورة تنشر في باريس وطنه.
(٣) معارضة (مقارنة) بين ابن خلدون وتلميذه نيقولا مكيافيلي
نيقولا مكيافيلي فيلسوف اجتماعي سياسي من أهل فلورنسا، ولد سنة ١٤٦٩م، وتوفي سنة ١٥٢٧م. تقلب في عدة مناصب سياسية في جمهورية فلورنسا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. فتولى سكرتيرية ديوان القضاة العشرة فيها أربعة عشر عامًا وبعض العام، قام في أثنائها بثلاث وعشرين مهمة سياسية في الأقطار الخارجية، وإيطاليا يومئذ في أحرج المواقف تتنازع السيادة عليها ألمانيا وفرنسا والبابا، يعتركون في مدنها وإماراتها، ويتخطفونها تخطف اللصوص بالدهاء أو السيف. غير ما انتشب من الخصام بين حكومة البابا والناهضين للإصلاح ومقاومة تعاليم الكنيسة، وكانت أسرة مديتشي تحارب حزب الشعب تحت طي الخفاء.
عاصر مكيافيلي هذه الحوادث فاكتسب الحنكة، واعتبر بما رآه وعلمه بالاختبار فوضع علمًا أو فلسفة في السياسة العملية عرفت باسمه، وألف في التاريخ والسياسة والتمثيل والأدب ونظم الشعر، وكتب في فنون الحرب، وأشهر مؤلفاته كتاب (الأمير) ألفه للأمير «لورنزودي مديتشي» الكبير.
واختلف العلماء في قيمة ما حواه كتاب الأمير من الحقائق العمرانية والسياسية، وهم بين قائل بأن قواعده السياسية ضارة لأنها مبنية على الاستبداد والغدر والخيانة وغيرها من الوسائل الدنيئة، وبين من يزعم أنها قواعد صحيحة لا بد منها لقيام الدولة.
(٣-١) كتاب الأمير ومقدمة ابن خلدون
أثبت ابن خلدون آراءه في فلسفة العمران بمقدمته المشهورة، كما دون مكيافيلي فلسفته في كتاب (الأمير) فيحسن بنا المقابلة بين الكتابين على الإجمال. فكتاب (الأمير) يشتمل على القواعد السياسية والأخلاقية اللازمة لتأييد سلطة الأمراء في فصول تقدم بيانها ولا يزيد حجمه على ١٥٠ صفحة، أما مقدمة ابن خلدون فقد أسهبنا في وصفها وتلخيصها فيما سبق من هذه الترجمة، وفيها مباحث لم يتعرض لها مكيافيلي ومباحث أخرى تصدى لها عرضًا.
(٣-٢) أوجه المشابهة بينهما
يتفق مكيافيلي وابن خلدون فيما بعثهما على الكتابة في هذا الموضوع وفي الطريق الذي سلكاه، فإن مكيافيلي إنما بعثه على تدوين تلك القواعد السياسية ما شاهده من اختلال الأحوال في أوروبا وما قاساه بنفسه من المشقة والعذاب في تدبير الدولة وملافاة الأخطار المحدقة بها. وهو كاتب سر الدولة يطلع على دخائلها ويرى ما يحدق بذلك من الأخطار والمفاسد والدسائس، فدرس ذلك كله وبني عليه آراءه في كيف يستطيع الأمير تثبيت سيادته. وضرب الأمثلة على ذلك مما شاهده من أحوال معاصريه أو قرأه من تاريخ الدول الماضية، لكنه في كل حال لم يتعد تاريخ أوروبا القديم والحديث ولم يذكر من الشرقيين غير الأتراك.
أما ابن خلدون فعاش في بلاد المغرب وعانى مناصبها السياسية والقلمية، وعاصر كثيرًا من حوادثها وتقلباتها في مراكش وتونس والأندلس ومصر، ودخل في كثير منها بنفسه واطلع على دخائلها وأسرارها وتولى كتابة السر في بعضها، ونال مقامًا رفيعًا ونفوذًا عظيمًا وتقلبت عليه أحوال شتى، ونكب بموت أهله فزادته المصائب عبرة وصقلت قريحته الفلسفية. وكان واسع الاطلاع في التاريخ الإسلامي وما يتعلق به، فعني بوضع تاريخه المشهور، وخطرت له خواطر فلسفية في أحوال العمران دونها في مقدمة ذلك التاريخ قد تقدم ذكرها. فيشبه مكيافيلي في أنه بعث على هذه الفلسفة من مؤثرات الوسط الذي نشأ فيه والأحوال التي عاصرته. ولكنه أيد آراءه في سياسة الدولة بما عرفه من تاريخ الإسلام وسائر الشرق ولم يتعرض لتاريخ اليونان والرومان إلَّا عرضًا في بعض الأماكن.
وقد تشابه الفيلسوفان في كثير من آرائهما في الوزارة وأحوال الموالي والمصطنعين وتجنب المتملقين، وفي تعليل أسباب سقوط الدولة ونهوضها ووجوب الاعتماد على الجند وغير ذلك مما لا حاجة بنا إلى تفصيله هنا. وإنما نكتفي بذكر أهم ما اختلفا فيه من القواعد السياسية في تأييد السلطة.
(٣-٣) أوجه الاختلاف بينهما
أساس بحث مكيافيلي في السلطة أنه قسمها إلى جمهورية وملكية كما كانت تقسم بأوروبا في عهده ونسبة ذلك إلى الكنيسة والأسر المطالبة بالسيادة في عصره. وأما ابن خلدون فلا تجد للجمهورية ذكرًا في كتابه، ولكنه يقسم ضروب السلطة إلى الخلافة والملك والسلطنة والإمارة مما كان شائعًا في الدولة الإسلامية، وعلاقة ذلك بالدين والعصبية من أحوال العرب والمسلمين.
يرى ابن خلدون أن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين، إما من نبوة أو دعوة حق. وأن هذه الدعوة الدينية لا تقوم إلَّا بالعصبية بين أهل الأنساب (البدو) غير أهل الأمصار (الحضر)؛ لأن هؤلاء عدوان بعضهم على بعض لا تجتمع كلمتهم. وأما البدو فيدافع بعضهم عن بعض بالعصبية وتدافع عنهم مشايخهم وكبراؤهم بما قام في نفوس الكافة لهم من الوقار. ولا يصدق دفاعهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب. وأتى بالأدلة على تأييد قوله من تاريخ الإسلام، وهي كثيرة، لأن الدولة الإسلامية قامت بالدين والعصبية.
لا ينبغي للأمير أن يكون له مقصد وفكر ويعنى بدرس أمر سوى الحرب ونظامها وترتيبها؛ لأنها الصنعة الوحيدة الضرورية للذي يأمر وينهى، وفائدتها في أنها تحفظ ملك من يولد أميرًا، وترفع إلى مرتبة الأمراء بعض الناس من الطبقات الأخرى، وقد رأينا أن الأمراء الذين يفكرون في الرفاهية أكثر من التفكير في الحرب يفقدون إمارتهم، والسبب الذي يُفقد الأمراء ممالكهم هو احتقارهم الحرب، ووسيلة الحصول عليها هي التبحر في علوم الحرب.
ومن هذا ينشأ سؤال مهم وهو: أيهما أنفع للأمير أن يُحب أكثر مما يُخشى أم يُهاب أكثر مما يُحب؟ فالجواب أنه ينبغي له أن يكون محبوبًا مهيبًا، وحيث يصعب الجمع بين الحالتين، فإذا احتاج الأمير لأحدهما فالأفضل أن يهاب؛ إذ يحق القول عن الناس عامة أنهم ينكرون الجميل سريعو التحول مختلفو الطبائع والغرائز ميالون لاتقاء الأخطار ومحبون للكسب.
ويرى أن الأمير يجب أن يقود جيشه وأن يعرف بالقسوة؛ لأنه بدونها لا يستطيع أن يحافظ على اتحاد جيشه وطاعته (ص١٤٩). واستشهد على ذلك بهنيبال وغيره.
وعقد مكيافيلي فصولًا في كيف ينبغي أن يتصرف الأمير لحفظ سيادته فقال (ص١٤٠): «إذن فينبغي للأمير الذي يريد أن يحفظ عرشه أن يتعلم كيف يقلل من طيبته وكيف يستعمل الخير أو ضده في الأوقات والأحوال المناسبة.»
وقال (ص١٤٢): «ويجب عليه أن لا يخشى عار المعايب التي يصعب عليه بدونها الاحتفاظ بالملك؛ لأن الإنسان إذا أمعن النظر رأى أن كثيرًا من الأمور التي تظهر له أنها فضائل قد تؤدي به إلى الخراب إذا اتبعها، وكثيرًا مما يبدو كأنه من الرذائل قد يؤدي إلى الخير والسلامة.»
وبحث في الكرم والبخل بالنظر إلى الأمراء، فكان حكمه «لا ينبغي للملك أن يهتم باتهامه بالبخل إذا كان يريد أن لا يسرق شعبه، ويدافع عن نفسه وقت الشدة، وأن لا يصير فقيرًا محتقرًا، وأن لا يصاب بالجشع؛ فإن رذيلة البخل من الرذائل التي تسهل له الاحتفاظ بالسلطة».
وأطلق لقلمه العنان في فصل «كيف يكون وفاء الأمراء»؛ يعني إذا عاهد الأمير أحدًا على أمر هل يجب عليه الوفاء به؟ فقال: «لا يخفى على أحد ما يلحق بالأمراء من الثناء إذا اشتهروا بحفظ الوعود ومراعاة العهود، ولكن تجارب زماننا هذا دلت على أن الأمراء الذين لم يراعوا العهود قاموا بأعمال كبيرة، وتمكنوا من تحيير أوهام الناس بمكرهم، وتغلبوا في نهاية الأمر على الأمراء الذين اتخذوا الأمانة عادة والوفاء أساسًا لحياتهم.»
ثم فصل الكلام في ذلك وقال إن الأمير ينبغي له أن تكون فيه طبيعتا الأسد والثعلب؛ فيفتك كالأسد ويحتال كالثعلب. إلى أن قال: «لذا ينبغي للأمير أن يكون ثعلبًا ليتقي الحفائر والحبائل، وأسدًا ليرهب الذئاب، أما من يريد أن يكون أسدًا فقد فلا أمل له في النجاة، لأجل هذا لا ينبغي للأمير الحذِر أن يحفظ العهود إذا كانت ضد مصلحته، أو ما دامت الأسباب التي دعت للوعد قد انقضى عهدها. إذا كان الناس كلهم أخيارًا فإن القاعدة التي ذكرتها تكون لا شك سيئة، ولكنهم أشرار ولن يحفظوا لك عهدًا، فلست مضطرًّا لحفظ عهودهم.»
«ثم إن الأمير لا يفقد حيلة شرعية يركن إليها إذا لم يف بوعده، وإن الأمثال في هذا الباب كثيرة تثبت أن السلم قد تزعزع مرارًا، وأن الوعود قد نسيت تكرارًا عند أمراء لا وفاء لهم، وأن الأمراء الذين استطاعوا تقليد الثعلب قد فازوا وانتصروا، ولكن من الضروري أن يخفي الرجل هذه الخليقة، وأن يكون ماهرًا في فن التظاهر بغير شعوره، ثم إن الناس من البساطة بمكان وهم أصحاب حاجات وصاحبها أرعن مطيع فلا يعدم الخادع فريسته.»
واستشهد على ذلك بإسكندر السادس، لأنه لم يفعل في حياته سوى خداع الرجال. قال مكيافيلي: «فلم يكن مثله رجلًا قادرًا على تأكيد الأقوال وتثبيتها والوعد بالإنجاز، ولم يكن كذلك أحد مثله أقل وفاء بما وعد به، ومع ذلك فإنه فاز على الدوام في خداعه لأنه عرف طبيعة البشر، فليس من الضروري للأمير أن يتصف حقيقة بكل الفضائل التي سبق الكلام عليها، ولكن من الضروري أن يذاع عنه الاتصاف بها. وإنني أجسر فأقول إن الاتصاف بكل تلك الفضائل خطر، ولكن الظهور بالتحلي بها نافع. من الخير لك أن تظهر بالتقوى والأمانة وحب الإنسانية والدين والإخلاص، وأن تكون في الواقع كذلك، ولكن ينبغي أن تكون متنبهًا بحيث إذا اضطررت للتحول إلى الصفات الأخرى كان ذلك بدون مشقة.»
هذا أهم ما يراه مكيافيلي وسيلة لتأييد سلطة الأمراء، أما ابن خلدون فيخالفه أو هو يناقضه في أكثر المواضع:
يرى ابن خلدون أن إرهاف الحد مضر بالملك مفسد له، وأنه إنما يملك الأمير الرعية بالرفق واللين، فأشار بحسن الملكة والابتعاد عن العسف، وهذا قوله: «إن حسن الملكة تقوم بالرفق؛ فإن الملك إذا كان قاهرًا باطشًا بالعقوبات منقبًا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله لذلك؛ فتفسد الدولة ويخرب السياج. وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية لما قلناه أولًا، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رفيقًا بهم متجاوزًا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه، فاستقام الأمر من كل جانب. وأما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم، فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك، وأما النعمة عليهم والإحسان لهم فمن جملة الرفق بهم والنظر لهم في معاشهم، وهي أصل كبير في التحبب إلى الرعية.»
ويرى ابن خلدون أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة قال: «إن خلال الخير هي التي تناسب السياسة والملك؛ لأن المجد له أصل ينبني عليه وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخلال، وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي الخلال؛ لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عريانًا بين الناس. وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصًا في أهل البيوت والأحساب، فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب؟ وأيضًا فالسياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح.»
ولولا ضيق المقام لأتينا بأمثلة أخرى، على أن في كتاب الأمير كثيرًا من القواعد الاجتماعية الصحيحة مثل: بحثه في الإمارات المختلطة، وكيف ينبغي للأمير أن يفعل لتمكين سلطته فيها. فإنه قرر قواعد يحكم العقل بصحتها حالًا، ويرى أمثلة منها تحدث كل يوم. وأحكامه في الولايات التي امتلكت بقوة الجيش، وآراؤُه في الإمارة المدنية، فإن فيها فوائد هامة وغير ذلك.
ونغتفر له بعض سقطاته متى علمنا الوسط الذي كتب فيه كتابه، وإنما أردنا المقابلة بين الرجلين لتشابهما فيما كتباه.
(٤) إيضاح ابن خلدون بنبذ من أسلوبه (رأيه في الفلسفة)
لمن ندخل ابن خلدون في زمرة فلاسفة الإسلام بوصف كونه فيلسوفًا عقليًّا، فإنه لم يكن كذلك، ولكننا حذونا حذو مؤرخي الإفرنج الذين اعتبروه من أهل العبقرية في علوم الاجتماع والاقتصاد وفلسفة التاريخ، ولأنه يكمل سلسلة الفلاسفة الذين بدءوا بالكندي وانتهوا بابن رشد.
على أن ابن خلدون لم يكن بعيدًا عن الفلسفة بل إنه ضرب فيها بسهم وأدرك أوائلها، ثم أعرض عنها بسبب مزاجه واتجاه عقله إلى المباحث الاجتماعية العملية، فنظر في العالم نظر الفيلسوف في النظريات، وطبق على العمران والمدنية قواعد البحث العقلي، ولما أطلق وصف المقدمة على الكتاب الأول من تاريخه النفيس كان في ذلك متواضعًا، وإلا فإنه يستحق أن يوصف بحق بفلسفة التاريخ.
إن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصدع بشأنها، ويكشف عن المعتقد الحق فيها. وذلك أن قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تدرك ذواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة، فبحثوا عن ذلك وشمروا له، وحوموا على إصابة الغرض منه، ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق.
ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين، وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه، وهو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم، أنهم عثروا أولًا على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس، ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس في الحيوانات، ثم أحسوا من قوى النفس بسلطان العقل ووقف إدراكهم، فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية، ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان، ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر، تسع مفصلة ذواتها جملة، وواحد أول مفرد وهو العاشر، ويزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالفضائل، وأن ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته، وأن ذلك إذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة، وأن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي، وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم.
وإمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها ودون علمها وسطر حجاجها فيما بلغنا في هذه الأحقاب؛ هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونيا من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون، ويسمونه المعلم الأول على الإطلاق، يعنون معلم صناعة المنطق، وهو أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها، ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات.
ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة، وأبو علي ابن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرها.
واعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه، فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب؛ فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقًا من ذلك وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام، خاصة المعرضين عن النقل والعقل، المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء، وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات ويعرضونها على معيار المنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض.
أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقيني؛ لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها. ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي، اللهم إلا ما يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين، فأين اليقين الذي يجدونه فيها؟ وربما يكون تصرف الذهن أيضًا في المعقولات الأُوَل المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية، فيكون الحكم حينئذ يقينيًّا بمثابة المحسوسات، إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها، فنسلم لهم حينئذ دعاواهم في ذلك، إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها، إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه، فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا (!) فوجب علينا تركها.
وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس، وهي الروحانيات، ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة؛ فإن ذواتها مجهولة رأسًا ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها، لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية، إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها، فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها، وخصوصًا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد، وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه.
وقد صرح بذلك محققوهم، حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه؛ لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية، وقال كبيرهم أفلاطون: «إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين، وإنما يقال فيها بالأحق والأولى.» يعني الظن، وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط، فيكفينا الظن الذي كان أولًا، فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات، وهذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم.
وأما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيف مردود، وتفسيره أن الإنسان مركب من جزأين: أحدهما جسماني والآخر روحاني ممتزج به، ولكل واحد من الجزأين مدارك مختصة به، والمدرك فيهما واحد وهو الجزء الروحاني، يدرك تارة مدارك روحانية وتارة مدارك جسمانية، إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة، والمدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس، وكل مدرك فله ابتهاج بما يدركه واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية، التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء وبما يسمعه من الأصوات، فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد وألذ، فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنها، وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم، وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المدارك الجسمانية بالجملة. والمتصوفة كثيرًا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة، فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية ومداركها حتى الفكر من الدماغ؛ ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب والموانع الجسمانية، فيحل لهم بهجة ولذة لا يعبر عنها، وهذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم، وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم.
فأما قولهم إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته، إذ البراهين والأدلة من جملة المدارك الجسمانية؛ لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر، ونحن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها؛ لأنها منازعة له قادحة فيه.
وتجد الماهر منهم عاكفًا على كتاب «الشفاء والإشارات والنجاء» وتلاخيص ابن رشد للفص من تأليف أرسطو، وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها، ولا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها، ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا «أن من حصل له إدراك العقل الفعال واتصل به في حياته، فقد حصل حظه من هذه السعادة». والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات، ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي، وقد رأيت فساده (؟!)
وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والإدراك، إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة، وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس، وأما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضًا؛ لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركًا آخر للنفس من غير واسطة، وأنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجًا شديدًا، وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية ولا بد، بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة.
وأما قولهم إن الإنسان يجد السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه؛ فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط.
وأما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم؛ فأمر مبني على أن ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها، وقد بينا أن أثر السعادة والشقاوة من وراء الإدراكات الجسمانية والروحانية، فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط، وأما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها فأمر لا يحيط به مدارك المدركين، وقد تنبه لذلك ابن سينا فقال في كتاب (المبدأ والمعاد): «إن المعاد الروحاني وأحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس؛ لأنه على نسبة طبيعية محفوظة ووتيرة واحدة، فلنا في البراهين عليه سعة، وأما المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان؛ لأنه ليس على نسبة واحدة، وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية، فلينظر فيها ولنرجع في أحوالها إليها. ا.ﻫ. كلام ابن سينا.
فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع، إلا أنه وإن كان غير واف بمقصودهم فإن قوانينه أصح ما علمناه من قوانين الأنظار. هذه هي ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت، فليكن الناظر فيها متحرزًا جهده من معاطبها. ا.ﻫ.