السقوط من أعلى البرج
أمام البوابة الرئيسية للاستاد توقفت «الجراند شيروكي» الذهبية … وانفتح بابها … ونزلت منها «إلهام» … ودارت حول مقدمتها … ثم استأنفت السير إلى أن وصلت إلى غرفة الاستقبال … فحيَّت الموظَّف المسئول، وأخرجت له بطاقتها الأمنية … فطلب منها الجلوس لدقائق … انتظارًا لأوامر رؤسائه … ثم تحدث قليلًا في جهاز الاتصال اللاسلكي الذي يمسكه … ثم قال ﻟ «إلهام»: هل أتيت لمهمة محدَّدة؟
نظرت إليه «إلهام» في صرامة وقالت بحدة: مهمَّة لا تحتمل التأجيل …
أبعد الموظف جهاز اللاسلكي وقال لها: آسف ولكنَّها الأوامر …
قامت «إلهام» بإرسال رسالة شفرية مُقتضَبة عبر ساعتها إلى رقم «صفر» … ولم تمرَّ دقيقتان عندما تلقَّى الموظف اتصالًا … ابتسم بعده لها وقال لها باحترام جمٍّ: تفضَّلي، هل أرسل معك أحدًا يعاونك؟
ردَّت عليه «إلهام» وهي تُغادر الغرفة قائلة: شكرًا لك.
كانت أمنية «إلهام» ألا يلاحظ أحد وجود هذا القتيل حتى تنتهيَ مِن مهمَّتها وتحصل على هذه البندقية وتنصرف.
لم تكن تعلم أن الأمر ليس بهذه البساطة، فعند دخولها إلى ملعب كرة القدم، مسحت المكان بعينيها فلم تر شيئًا … فصعدت إلى مدرجات الدرجة الثالثة … وأخذت تبحث عن القتيل والبندقية وشظايا المنظار فلم تجد شيئًا!
توتَّرت أعصابها … وصعد الدم إلى رأسها وجرت في اتجاه المقصورة، ووقفت تبحث عما جاءت لأجله … فلم تجد شيئًا.
وعندما همَّت بالخروج من المقصورة … فُوجئتْ برجل عملاق مفتول العضلات … يهاجمها بلا سلاح … وقبل أن تفيق من صدمة المفاجأة وتَنتبه له … كان يحملها بين ذراعَيه ويُحاول إلقاءها من أعلى … فضربته ضربةً مُفاجأة في حنجرته أفقدته تركيزه … فقفزت من بين ذراعَيه إلى الأرض، ثم طارت تُسدِّد له ضربة بمشط قدمها … أسقطته فاقد الوعي … ثم جرتْ لتَخرُج من المقصورة … وتغادر الاستاد، وعندما ركبت سيارتها … فتحت التابلوه وأخرجت تليفونًا محمولًا آخرَ يَحمل شريحة طوارئ … وقامت بالاتصال ﺑ «أحمد» … الذي فتح الخط دون أن يَعرف من الذي يَطلبه وقال: مَن معي؟
إلهام: أنا «إلهام»، يا «أحمد»!
أحمد: أين أنت؟ وأين تليفونك؟
إلهام: لقد تعرَّضت لرصاص القناص.
وفي قلق سألها: وكيف حالك؟
إلهام: أنا بخير … فرصاصتُه لم تُصِب إلا تليفوني.
أحمد: هل أخطأك أم لم يكن يُريد قتلك؟
إلهام: لا هذا ولا ذاك.
أحمد: ماذا كان يقصد إذن؟
إلهام: كان يُريد إصابتي بالرعب والهلع قبل أن يقتلني؟
أحمد: وهل هذا حدث بالفعل؟
وفي ثِقة قالت له: هيهات … فنحن الشياطين.
أحمد: هذه نبرة المنتصر.
إلهام: حدث؟
أحمد: حدث ماذا؟
إلهام لقد أصبته بالرعب قبل أن أسقطه …
وفي إعجاب وفخر قال لها «أحمد»: هل أسقطتِه؟
إلهام: نعم.
أحمد: وأين أنتِ الآن؟
إلهام: أنا عائدة من الاستاد؟
أحمد: أكانت المعركة هناك؟
إلهام: نعم، ولكنها لم تنتهِ بعد …
أحمد: ألم تقولي إنك أسقطتِه؟
إلهام: نعم … ولكني دخلت للحصول على بندقيته …
أحمد: وماذا حدث بعد ذلك؟
إلهام: هاجمني رجل آخر هناك …
أحمد: وهل تخلصتِ منه؟
إلهام: نعم، ولكني لم أجد جثَّة الأول ولا بندقيته.
أحمد: إذن هناك المزيد منهم.
إلهام: لماذا لا نُبلغ الأجهزة الأمنية ليُحاصروا الاستاد؟
أحمد: قد لا يجدون شيئًا.
إلهام: وماذا ستَفعل إذن؟
أحمد: سنقسم أنفسنا بين المعرض والاستاد.
إلهام: أمَا زالت الأمور في المعرض سيئة؟!
أحمد: لا أعرف كيف يُشعلون الحرائق.
إلهام: يجب إخراج الناس من المعرض.
أحمد: سيخرج معهم المجرمون.
إلهام: وهل تمنعون الناس الآن من الخروج؟
أحمد: لا … ولكن من يريد الخروج نُجري معه تحقيقًا سريعًا، ونأخُذ بصماته … ونجري عن طريق الكمبيوتر بعض التحريات عنه.
إلهام: إنكم بهذا تصيبون الناس بالقلق وعدم الشعور بالأمان.
قالت «إلهام»، هذا ثم صرخت قائلة: «أحمد»!
وانقطع الاتصال بينهما … فقد هاجمها رجل كان ينام مختبئًا في الكنبة الخلفية … وطاش صواب السيارة … فأطاحت بالعديد من السيارات في طريقها وهي تُحاول السيطرة عليها كلما أمكنها ذلك … فذراع الرجل تُطبق على رقبتها، ودون أن تدري صعدت السيارة إلى الرصيف ودون أن تَدري نزلت إلى الطريق، ولكن في الاتجاه المعاكس … وعلا في المكان زئير الفرامل المفاجئة، واختلط بأصوات آلات تنبيه السيارات المعترضة على السلوك الشاذ لهذه السيارة … ولا أحد يعلم ماذا يدور فيها … لقد أخرج الرجل سكينًا يُحاول ذبح «إلهام» بها وهي لا تستطيع أن تُقاومه … فذراعُه لم تسترخ دقيقة واحدة عن رقبتها … وبالفعل وضع سكينته على حافة رقبتها تحت ذقنها … وشعرت «إلهام» أنها النهاية، وأنها نهاية مخزية … فهل كُتب عليها أن تموت مذبوحة كالشاة … لا … لا. لا بدَّ أن هناك حلًّا … وعليها ألا تيئس … إنها تستطيع أن تترك عجلة قيادة السيارة … لتسير على هواها، وتصطدم بأقرب سور أو مبنى وتموت بشرف ويموت هو معها.
غير أنها لا تفقد الأمل بسهولة … لذلك تركت مخها يعمل بكافة طاقته … وتراسلت مليارات الخلايا فيه … تتداول ألف حلٍّ وحلًّا … ولم يكن ملائمًا لها غير حلٍّ واحد؛ فالسيارة مزوَّدة ببالونات مانعة اصطدام … في الكراسي الأمامية والخلفية، فإذا انتفخت … ألصقت راكبيها بمَساند مقاعدهم … نعم … هذا هو الحل الوحيد العملي … نعم سأنفذه.
وقامت بضغط زر في التابلوه … غير أن أصابعها لم تتمكن منه … فعادت تُحاول وتحاول الوصول إليه … وأخيرًا حدث … أخيرًا ضغطت الزر … فانطلق الهواء من البالونات الأربع كالصاروخ … وفي أقل من ثانية كان الرجل يلتصِق بمسند المقعد الجالس عليه … والبالون يضغط على صدره بقوة، فلا يستطيع الخلاص … وبالسكين التي كانت في يده ضرب البالون ضربة عصبية فانفجر في وجهه بقوة.
وتمكنت «إلهام» أخيرًا من إيقاف السيارة … وعندما استدارت لترى الرجل لم تجده لا على المقعد ولا في أي مكان آخر … فتحيرت لما يَجري … فجثة الرجل الذي سقط من أعلى البرج اختفت … والآن هذا الرجل يختفي وهي لا تعرف إن كان حيًّا أو ميتًا!
وعندما نظرت إلى شاشة تليفونها عرفت أنها تلقَّت أكثر من مكالمة … وبالاطلاع على سجل المكالمات عرفت أنها من «أحمد» ورقم «صفر» … فقامت بالاتصال برقم «صفر» … فوجدت تليفونه غير متاح فعرفت أنه في اجتماع … فقامت بالاتصال ﺑ «أحمد» الذي قال لها: أين أنت الآن؟
إلهام: أنا في الحي العاشر …
أحمد: وما الذي أرسلكِ إلى هناك؟
إلهام: لقد كان أحدهم يَختبئ في السيارة …
أحمد: هل كانت هذه المهمَّة لك وحدك؟
إلهام: أنا في الطريق إليكم.
أحمد: هناك صراع على وشك النشوب.
إلهام: مع من؟
أحمد: مع عملاء مخابرات وأعضاء إحدى الجماعات المتطرِّفة.
إلهام: وأين سأجدكم؟
أحمد: تجدينني أنا في الكافتيريا الزرقاء في منطقة المطاعم … وأنصحك بعدم الدخول أو الاقتراب من البوابة الرئيسية … فالناس تخرُج منها أفواجًا.
توجهت «إلهام» إلى البوابة الخلفية في الوقت الذي كان فيه «أحمد» يجلس في الكافتيريا الزرقاء يُراقب عن كثب رجلًا يجلس وحده منذ الصباح … وقد توافد عليه الكثير من الرجال والنساء، ولم يُغادر مقعده.
فمن يكون هذا الرجل …؟! هذا ما دار برأس «أحمد» … وقد قرَّر أن يمسك به ويسأله ويضطره للإجابة بوسائل مختلفة … غير أنه تراجَع لاعتبارات كثيرة، أهمها … ألا يُثير من يعملون معه للتصرُّف بعصبية أو الهرب.
غير أنه لاحظ أنه يُوجِّه فتحة البلوتوث في تليفونه المحمول إلى مائدة تجلس عليها فتاة صفراء اللون ضيقة العيون، وقد وجهت نفس الفتحة في تليفونها المحمول إلى تليفون الرجل … فعرف «أحمد» أنَّ هناك تبادلًا للمَعلومات يتمُّ بينهما … فقام بالجلوس على مائدة خلف الفتاة … ووجَّه تليفونه دون أن يراه أحد إلى تليفون الرجل، وما إن انتهت الفتاة من شرب كوب الشاي الذي كان موضوعًا أمامها … حتى قامت وانصرفت … وكانت «ريما» تجلس على مائدة في أول الكافتيريا … فأشار لها «أحمد» بتتبُّعها … فانتظرت حتى كادت تغيب عن عينيها … فقامت لتلحق بها …
وفي هذه اللحظة دخل شاب في الأربعين من عمره يرتدي معطفًا طويلًا لونه أسود … ونظارة طبية مستديرة … وأخذ يتفحص الجالسين في الكافتيريا … قبل أن يتوجَّه للجلوس على إحدى الموائد … وبالمصادفة كانت مواجهة لمائدة نفس الرجل.
ورأى «أحمد» أنها ليست مصادفة … لأنه ابتسم له، ثم ترنَّح على كرسيه والدماء تنزف من صدره.
وفي هذه اللحظة نهض ذو المعطف الأسود … وغادر الكافتيريا في عجالة … ومن خلفه «أحمد» يُحاول اللحاق به … وعندما بلغ مُنعطفًا بين قاعات العرض … وكان المكان هناك مُظلمًا … أسلم ساقيه للرياح … ومن خلفه «أحمد» يُحاول الإمساك به.