ماذا يفعل هذا الرجل في القاهرة؟
كان «أحمد» يجلس على المقهى كأي شخصٍ آخر، بجواره كوبٌ من الشاي الأسود، وفي عينيه نظرةٌ هادئةٌ كسول، نظرات شخصٍ لا يجد ما يفعله؛ فهو يُضيع وقته على المقهى … وعلى المائدة الصغيرة التي بجواره كان هناك صندوق أحذيةٍ عادي جدًّا … وأي شخصٍ يرى هذا الصندوق سيظن على الفور — ومعه حق — أن هذا الشاب الوسيم قد اشترى حذاءً جديدًا … ومن الذي سيشك في صندوق أحذية؟
والحقيقة أن هذا الصندوق كان يستحقُّ الشك؛ فهو لم يكن صندوقًا عاديًّا للأحذية، لقد كان مجموعة أشياء في وقتٍ واحد، فهو جهاز تسجيلٍ، وكاميرا تصوير، ومرآةٌ عاكسةٌ … وكان «أحمد» يضع يدَه على الصندوق في كسلٍ واسترخاءٍ، ولكن الحقيقة أنه كان يُدير بعض الأزرار الخفية؛ لتشغيل الكاميرا، فبعد جهودٍ استمرت ثلاثة أسابيع متصلةٍ، استطاع في النهاية أن يعثر على دليلٍ في قضيةٍ من أخطر القضايا التي قام الشياطين اﻟ «١٣» بحلها.
وكان هذا «الدليل» رجلًا قصير القامة، أحمر الوجه، يرتدي ملابس عادية، ويضع نظارةً طبيةً على عينَيه، ويجلس في نهاية المقهى يقرأ جريدته باهتمامٍ شديد، وربما كان هذا هو الخطأ الوحيد الذي وقع فيه … فليس من المعتاد أن يقرأ الإنسان جريدته الصباحية باهتمامٍ في الساعة الواحدة ظهرًا، أي بعد شرائها بساعات … لقد كان من الواضح أن الرجل يُخفي وجهه قدْر الإمكان، ولكن العدسة القوية في صندوق الأحذية كانت تُصوره من زاوية لا يمكن أن يُخفي وجهه فيها، وترصد كل حركةٍ من حركاته. وقد كان الحصول على هذا الفيلم مُهمًّا جدًّا، ليس للرجل نفسه، ولكن لمن سيأتي لمُقابلته.
كان الرجل يشرب فنجانًا من القهوة، وقد وضع علبة سجائره أمامه … والخطأ الثاني الذي وقع فيه أنه لم يُشعل منها سيجارةً واحدة؛ فمن المؤكد إذن أنها ليست علبة سجائر … وقد صَدَق ظنُّ «أحمد»، فقد ظهر بائع سجائر أخذ يتحدَّث مع الرجل لحظاتٍ يعرض عليه بعض أنواع السجائر، ثم التقط العلبة الفارغة، ووضع مكانها علبةً من نفس النوع … واختفى وهو ينادي على بضاعته «سجائر … سجائر.»
وابتسم «أحمد»، لقد وقع صيدٌ ثمينٌ … ولكن ابتسامته لم تستمر طويلًا، فقد حدثت ضجةٌ مفاجئةٌ خلفه … اصطدم شخصٌ بالجرسون، وهو يحمل أكواب الشاي، وفناجين القهوة، وأكواب الماء، وسقط كل ذلك على الأرض بجوار «أحمد» تمامًا مُحدثًا ضجةً عالية، دعت «أحمد» إلى الالتفات إلى ما يحدُث خلفه … وشاهد الجرسون التعِس ووجهه يتصبَّب عرقًا، والرجل الذي اصطدم به، يُربِّت على كتفه مُعتذرًا وهو يُخرج من جيبه محفظةً منتفخةً.
كانت الثواني القليلة التي انشغل فيها «أحمد» بحادث سقوط صينية القهوة والشاي والمُثلجات كافيةً لكي تحدُث أشياء كثيرة … فعندما التفت ونظر إلى صندوق الأحذية الثمين وجدَه قد اختفى.
وعندما نظر إلى الرجل الذي كان يُراقبه وجده قد اختفى.
وعندما التفت إلى الرجل الذي اصطدم بالجرسون وجده قد اختفى أيضًا.
كانت ثلاث صدماتٍ قاسية … وأحسَّ «أحمد» — ربما لأول مرةٍ منذ أن اشتغل بالعمل السري — أنه تافِه جدًّا، وأن كل التدريبات التي تلقَّاها كانت عبثًا، وأنه شديد الغباء؛ فلقد أضاع الْتِفاتُه إلى الصينية التي وقعت عملًا استمر ثلاثة أسابيع مُتصلةٍ من المراقبة والاستنتاجات، هو و«عثمان» و«إلهام» و«ريما».
وقفز من مكانه مُسرعًا، واتجه إلى باب المقهى الذي يُطلُّ على شارع ٢٦ يوليو. وخُيِّل إليه أنه يرى رجلًا يُسرع في المَشي، يرتدي نفس الملابس التي كان يلبسها الرجل الذي افتعل حادث الاصطدام بالجرسون … وأطلق «أحمد» لساقَيه العنان وراءه.
ورغم أن التعليمات كانت تقضي بالمُراقبة فقط، إلا أنه قرَّر أن يلتحِم بالرجل فورًا … وأمام ازدحام الرصيف، قرَّر النزول إلى أرض الشارع والجري وسط السيارات، ولكنه لم يكد يضع قدَمه على أرض الشارع حتى فُوجئ بسيارةٍ مندفعةٍ تأتي من خلفه وتكاد تصطدم به … ولم ينقذه من موتٍ مُحققٍ إلا أنه رمى نفسه على الرصيف، وللأسف أنه ارتطم بسيدةٍ أوقعها على الأرض بين صيحات المارة.
وهكذا وجد «أحمد» نفسه مُلقًى على أرض الشارع، وقد اتَّسخت ثيابه، وضاع منه الصندوق الثمين الحافل بالمعلومات، وضاعت جهود المُراقبة التي استمرَّت كل هذه الأيام.
قام «أحمد» واقفًا يُنظِّف ثيابه أمام نظرات المارة المُستطلِعة، وأحسَّ بأعصابه تشتعِل، وكان ذلك خطأً آخر؛ فليس من أصول العمل الغضب في وقتٍ يحتاج إلى تفكيرٍ هادئٍ عميق.
عاد إلى داخل المقهى فدفع حسابه، ثم خرج من طريقٍ جانبيٍّ أدَّى به إلى شارع «شريف» … كان الزحام على أشُدِّه في هذه الساعة، فأخذ يتلوَّى بين المارة، وهو يفكر فيما ينبغي عليه عمله بعد هذه الهزيمة المُنكرة، وسرعان ما وجد نفسه أمام عمارة «الإيموبيليا» الضخمة، حيث كانت «إلهام» و«عثمان» في انتظاره في الكافيتريا أسفل العمارة.
وعندما ظهر في مدخل الكافتيريا بدت نظرة دهشة شديدة في عينَي «إلهام»، لأنها بالطبع لم ترَ صندوق الأحذية معه؛ هذا الصندوق المُهم جدًّا الذي يُعتبَر من أهم ابتكارات المقر الرئيسي للشياطين اﻟ «١٣» (ش. ك. س).
كان وجه «أحمد» هادئًا رغم العاصفة التي كانت تدور في رأسه، وأخذ مقعدًا وجلس، وقال في كلماتٍ سريعةٍ قاطعةٍ: وقعت في كمينٍ دبَّره «نوكلوز» … كنت أقوم بمُهمتي في مراقبة العميل الصغير، عندما اصطدم شخصٌ بالجرسون خلفي، وأسقط كل ما يَحمِله من أكوابٍ وفناجين، والتفتُّ دون وعيٍ لأرى ما يدور خلفي، وعندما استدرتُ كان صندوق المراقبة قد اختفى، واختفى العميل الصغير، واختفى الرجل الذي اصطدم بالجرسون.
صمت «أحمد»، ولم تعلق «إلهام» ولا «عثمان»، كانت هزيمةً غير متوقعةٍ لهم جميعًا … وبعد أن مرَّت لحظات قالت «إلهام»: لا تترك نفسك فريسة للغضب والتأنيب … المُهم الآن أن نفكر فيما يجب عمله.
قال «عثمان»: لقد اتضح أن صديقنا «نوكلوز» أذكى كثيرًا مما تصورنا.
وسكت «عثمان» قليلًا ثم أضاف: وبالطبع سأقوم مرة أخرى بالعمل.
لم يتمالك «أحمد» نفسه من الابتسام، فقد قام «عثمان» و«ريما» بالعمل في إحدى الصيدليات، وعن طريق هذا العمل بدأ الوصول إلى أول خيطٍ في العملية … كانت «ريما» تقوم بعمل مُساعِدة مَعملٍ فهي تُجيد مزْج الكيماويات، ولها دراسةٌ مُتقدمةٌ في هذا المجال، بينما كان «عثمان» يقوم بعمل مُمرضٍ لإعطاء الحقن … وعن طريق «ريما» و«عثمان» استطاع الشياطين دخول منزل أحد أفراد عصابة «نوكلوز» … وقد أطلقوا هذه التسمية على أغرب رئيس عصابة سمعوا عنه؛ فهو رجلٌ ارتكب العشرات من أضخم السرقات في العالم، دون أن يترك وراءه دليلًا واحدًا، حتى أصبح يعيش وينعم بحريته دون أن تستطيع أية دولةٍ في العالَم أن تمسكه … بل أكثر من هذا، أنه أصبح شخصيةً اجتماعيةً معروفة، ينتقل من مكانٍ إلى آخر دون أن تعترضه أية صعوباتٍ … وكان رجال الشرطة في كل مكانٍ يتحرَّقون شوقًا للقبض عليه، ولكن لم يكن هناك دليلٌ واحد ضدَّه، وهكذا أصبح هذا المجرم العجيب يتمتع بما يتمتع به الشرفاء.
ولكن حدَث أنه بدأ نقْل جزءٍ من نشاطه إلى منطقة «الشرق الأوسط»، ووصلت أخباره إلى رقم «صفر»، ولمَّا كان الشياطين اﻟ «١٣» بلا عملٍ، فقد طلب منهم رقم «صفر» أن يتدخَّلوا لإيقاف هذا الرجل عند حدِّه، وهكذا انتقل أربعة منهم من «ش. ك. س» إلى «القاهرة»، لبدء التحريات التي أدَّت إلى العثور على رجلٍ مريض من أعضاء عصابة «نوكلوز»، وعن طريقه بدأ الشياطين يجمعون المعلومات عن نشاط العصابة. ولكن كل ذلك انقطع فجأة بما حدث ﻟ «أحمد» على المقهى.
كان «أحمد» يفكر في كل هذا وهو يشرب كوبًا من الشاي، وينظر إلى الشارع … لقد جاءوا إلى «القاهرة» خلف عصابةٍ لا يعرفون هدفها بالضبط. كل ما حدث أنَّ زعيم هذه العصابة وصل إلى «القاهرة»، وقام بعدة اتصالاتٍ مشبوهةٍ، ثم غادرها، وترك خلفه بعض أعوانه ممَّن لا غبار عليهم، وكانوا جميعًا تحت رقابة الشرطة، ولكنَّ أحدًا منهم لم يقُم بأي نشاطٍ مشبوهٍ … وفجأة اختفى هؤلاء الأعوان، وعددهم ثلاثة، ولم يبقَ لهم أثرٌ، ومن المؤكد أنهم لم يُغادروا البلاد؛ وإلَّا لعرف رجال الشرطة، وبقية أجهزة الأمن أين ذهبوا … كل ما هنالك أنهم اختفوا فجأةً ولم يتركوا خلفهم — تمامًا على طريقة زعيمهم — أيَّ دليلٍ، أو أثرٍ يدلُّ على مكان وجودهم … وكإجراء رُوتينيٍّ جدًّا، وصل إلى رقم «صفر» تقريرٌ عن مستر «نوكلوز» وزيارته للقاهرة، واجتماعاته ثم سفره، ثم اختفاء أعوانه الثلاثة.
وقرَّر رقم «صفر» أن يعهد إلى الشياطين بالبحث عنهم في «مصر»، فحضر إلى «القاهرة» أربعة من الشياطين هم «أحمد» و«عثمان» و«إلهام» و«ريما» … وبدءوا عملية بحثٍ شاقةً بناء على الأوصاف التي عندهم عن الرجال الثلاثة، وقد عرفوا أن أحدهم مريض بالسُّكَّر ويتعاطى حقنة يومية من «الأنسولين». وهكذا قام «عثمان» و«ريما» بالالتحاق بالعمل في عددٍ من الصيدليات، وأخذ الشياطين الأربعة يتابعون كل مُشتر «للأنسولين» حتى منزله … وفي خبطةِ حظٍّ موفقةٍ عثر «عثمان» على أحد الرجال الثلاثة، وكان قد أطال ذقنه، وارتدى الملابس العربية، وأخذ يُنفق ببذخٍ حتى ظنَّ الجميع أنه من الأثرياء العرب، وسمَّى نفسه «وليد بن نبهان»، ولكن «عثمان» كشفه عن طريق إحدى أُذنيه التي كانت أُذنًا صناعية … وهكذا بدا أول الخيط الذي انقطع اليوم بحادث المقهى.
كان «أحمد» يفكر في كل هذا ويُحس بأسفٍ وألمٍ حقيقيَّين.