صناديق للسفارة الإيطالية
اتجه «عثمان» إلى الباب؛ فلم يكن هناك بدٌّ من فتحه حتى لا يُحدِث الطارق ضجةً أكبر، ووقف خلف الباب شاهرًا مُسدَّسه، ومدَّ يده الأخرى ففتح الباب، ووجد شابًّا مُتوسط العمر ضخم الجسم، ينظر إليه في ضِيقٍ، ثُم أشار إلى ساعته وقال: السيارة جاهزةٌ.
غمغم «عثمان» ببضع كلماتٍ كأنما يُعلن عن فهمه، فعاد الشاب يقول: إن الوقت ضَيقٌ، فالشوارع مُزدحمةٌ، والمسافة طويلةٌ.
وتذكر «عثمان» كلمة كافتيريا المطار، وربط بين الشوارع المزدحمة والمسافة البعيدة وقال: تقصد المطار؟
ردَّ الشاب: نعم … كان الأستاذ «وليد نبهان» قد طلب سيارةً في التاسعة لتنقله إلى المطار، وقد جئت بالسيارة، والساعة الآن التاسعة وعشر دقائق.
عثمان: لحظة واحدة.
ترك الشاب واقفًا على الباب، ودخل الشقة … بالطبع كان «وليد نبهان» قد فارق الحياة منذ نصف ساعة، ولم يعُد في إمكانه أن يذهب إلى المطار، أو إلى أي مكانٍ آخر … ولكن «عثمان» تظاهر بأنه يُكلِّمه، ثم عاد بعد لحظاتٍ إلى الباب وقال: للأسف الأستاذ «وليد» ألغى المشوار.
بدا الضيق على الشاب وقال: في هذه الحالة لا بدَّ من دفع إيجار السيارة.
قال «عثمان»: بالطبع … كم المبلغ؟
الشاب: عشرون جنيهًا.
مدَّ «عثمان» يده في جيبه ثم أخرج المبلغ ودفعه للشاب، وأخذ منه الإيصال، وأعطاه بقشيشًا سخيًّا، ثم أغلق خلفه الباب ونظر إلى ساعته … كانت التاسعة وخمس عشرة دقيقة، وأسرع إلى التليفون وطلب مقرَّ الشياطين، وردَّت «إلهام» على الفور فقال «عثمان»: اسمعي يا «إلهام» … أعتقد أن أمامنا مُهمةً خطيرةً، من معك؟
إلهام: «أحمد» و«ريما».
عثمان: أحضروا السيارة «الرينو» وتعالوا فورًا إلى شارع «المساحة» … «أحمد» يعرفه طبعًا؛ إنه قريبٌ منكم جدًّا، وستَجِدونني واقفًا أمام شركة سيارات «تيوتا».
أنهى «عثمان» المكالمة ثم نظر حوله نظرةً أخيرةً، وأسرع إلى باب الشقة ففتحه ثم أغلقه وراءه، ولم ينتظر المصعد، بل نزل على السلالم مُسرعًا، وصل إلى الشارع بعد أن أخفى المسدس الضخم الكاتم للصوت تحت ثيابه … وقفز إلى الرصيف الآخر، ووقف ينتظِر. ولم تَمْضِ سوى دقيقتَين فقط، وظهرت السيارة «الرينو» الصفراء يقودها «أحمد». وتوقفت ثانيةً واحدة، وقفز «عثمان» إليها، ثم عاودت سيرَها.
كان واضحًا على وجه «عثمان» وثيابه أنه مرَّ بتجربةٍ مُثيرةٍ … وقالت «ريما» مُعلِّقةً: من الواضح أنك خُضتَ معركةً قاسيةً!
عثمان: نعم، حدث … وقد راح ضحيَّتَها الرجل المريض الذي عن طريقه بدأنا نعرف نشاط العصابة المجهولة … لقد مات الرجل «وليد بن نبهان»!
إلهام: كيف؟
عثمان: كنت محاصرًا بينه وبين زميل له، وقمتُ بحركة الانطراح أرضًا مع ضرب الخصم الخلفي لأنه لا يتوقَّع الحركة، ونشأ عن انطراحي أرضًا أن انطلق الرصاص في نفس الوقت، وأصابت رصاصةٌ الرجلَ الذي كان خلفي وهو «وليد»، فمات على الفور، أما الآخر فقد حمَّلْتُه الفراش وما كان عليه من مراتب.
أحمد: وبعد ذلك؟
عثمان: هرب الرجل … وعثرت على ورقةٍ بها هذه المعلومات.
وأخذ «عثمان» يقرأ الورقة: «خمسين مليونًا … رقم ١٠ – كافتيريا المطار – العينة ممتازة – الإجازة يومان.»
كانت السيارة قد وصلت إلى ميدان «التحرير» وسأل «أحمد»: إلى أين يا «عثمان»؟
«عثمان»: نسيت أن أقول لك … من المهم أن نصِل إلى «مطار القاهرة» قبل الساعة العاشرة.
نظر «أحمد» إلى ساعته نظرةً خاطفةً وقال: الزحام الآن على أشُدِّه في شارع رمسيس، من الأفضل أن نتجه إلى المطار عن طريق «صلاح سالم».
وأدار «أحمد» السيارة دورة واسعة دخل بها شارع «التحرير»، ثم انطلق عن طريق شارع «حسن الأكبر»، بينما استمر «عثمان» يتحدث: لقد حللتُ جزءًا من هذه الرموز والكلمات.
أنصت الثلاثة بانتباهٍ شديدٍ … ومضى «عثمان» يقول: هناك موعدٌ هامٌّ في كافتيريا المطار الساعة العاشرة … وقد عرفت ذلك من سائقٍ كان «وليد» قد اتفق معه على مشوار المطار.
أحمد: إنك تقوم في هذه العملية بدورٍ خطيرٍ يا «عثمان».
ابتسم «عثمان»، ولمعت أسنانه البيضاء في ظلام السيارة، التي كانت قد بدأت السير في طريق «صلاح سالم» متجهةً إلى المطار، وضغط «أحمد» على بدَّال البنزين، فانطلقت السيارة تلتهم الطريق الطويل … وساد الصمت فترةً طويلة حتى أشرفوا على المطار الضخم الرابض في الصحراء، وقد تلألأت على مبانيه مئات الأنوار.
قال «أحمد»: سنتفرَّق عند دخول المطار، فمن الأفضل عدم لفت الأنظار إلينا، فإذا لم نلتقِ فسنجتمع مرة أخرى عند السيارة.
عثمان: أرجو ألا يبتعد بعضنا عن بعض مسافة طويلة؛ قد نحتاج إلى عملٍ سريع معًا.
أحمد: بالطبع سنتبادل الإشارات من بعيدٍ لبعيد عند اللزوم.
ركن «أحمد» السيارة في موقف المطار، ونزلوا جميعًا وساروا حتى وصلوا إلى باب المطار، فدخل «عثمان» أولًا ثم «ريما» مع «إلهام». ثم دخل «أحمد» وحده وساروا إلى الكافتيريا، وكانت الساعة العاشرة تمامًا.
نظر «عثمان» حوله، لم يكن هناك ما يُريب … الحياة العادية في أي مطارٍ في العالم … مسافرون ومُودِّعون، وأصوات الطائرات تدوِّي، وأصوات مُكبرات الصوت تُعلن عن قيام الطائرات أو وصولها … وفجأة، وبأسرع مما توقَّع «عثمان»، شاهد ثلاثة رجال يدخلون الكافتيريا في خطواتٍ سريعةٍ، وكان بينهم الرجل الذي قلب عليه «عثمان» الفراش. وبسرعةٍ انحنى «عثمان» وتظاهر بأنه يربط حذاءه … وشاهده «أحمد» وفهم على الفور أنه يُخفي وجهه عن القادمين. ومن آثار الجراح في وجه الرجل الذي غطَّاه برباطٍ طبي عرف «أحمد» أنه رجل العصابة الذي كان في الشقة مع «وليد بن نبهان».
اتجه الرجال الثلاثة إلى مائدةٍ منعزلة وجلسوا، وبسرعة اختار «عثمان» مائدة بعيدة عن الأضواء، وجلس … وفعل «أحمد» مثله. أما «ريما» و«إلهام» فقد اختارتا أقرب مائدة للرجال الثلاثة وجلستا … وابتسم «أحمد» وهو يرى كيف جلست «إلهام» بحيث تُصبح أذنها أقرب ما تكون إلى الرجال الثلاثة.
لم تمض سوى ثوانٍ قليلةٍ حتى دخل الكافتيريا رجلٌ شمل المكان بنظرةٍ واسعةٍ، ثم اتجه إلى الرجال الثلاثة … كان يحمل مجموعةً من الأوراق، ودون أن يجلس وضع أوراقه على المائدة، وأخذ أحد الرجال الثلاثة يُوقِّعها … وتبادل «أحمد» و«عثمان» نظرةً بعيدة … وعندما انصرف الرجل عائدًا ومعه أوراقه تَبِعه «أحمد» وشاهده يتجه إلى منطقة جمرك المطار، ثم يُبرز تصريحًا ويمر من باب الجمرك.
وقف «أحمد» بجوار الباب يشهد تحركات الرجل، وكم كانت دهشته أن وجد الرجل ومعه مجموعة من الحمَّالين يرفعون ثلاثةَ صناديق ضخمة، ويأخذون عليها موافقات الخروج من رجال الجمارك دون أن تُفتح، واستنتج على الفور أنها تابعةٌ لإحدى السفارات؛ فهو يعرف أن الحقائب الدبلوماسية لا تُفتح، وكل شيءٍ يرِدُ إلى أية سفارةٍ يحمِل كلمة حقيبة دبلوماسية لا يُفتش … والسؤال الذي خطر ببال «أحمد» على الفور: هل تتعامل العصابة مع إحدى السفارات؟ وهل بين أفراد العصابة دبلوماسيون؟ إن هذا سيكون حدثًا خطيرًا!
انتظر «أحمد» حتى مرت الصناديق الثلاثة أمامه من باب الجمرك، وألقى عليها نظرة فاحصة … ودُهش مرة أخرى إذ وجد الصناديق تتبع السفارة الإيطالية بالقاهرة، وتمنَّى في هذه اللحظة أن يعرف ما في هذه الطرود؛ إنها قد تُحدِّد على الفور نشاط العصابة.
وأخذ يُفكر سريعًا فيما ينبغي عمله، ولم يطُل به التفكير فقد ظهر الرجال الثلاثة، وخلفهم على مسافاتٍ متساوية «عثمان»، ثم «إلهام» و«ريما»، وتبادل «أحمد» معهم النظرات، وفهموا من إشارةٍ خفيَّة أنه سيتبع الصناديق الثلاثة، ولكن «عثمان» أشار له مجموعة من الإشارات تعني أنه هو الذي سيتبع الصناديق، وعلى «أحمد» أن يتبع الرجال الثلاثة لأنهم لا يعرفونه، وأحنى «أحمد» رأسه موافقًا.
أسرعت «إلهام» و«ريما» إلى جوار «أحمد» في السيارة، وعيونهم على الرجال الثلاثة، بينما أسرع «عثمان» خلف الصناديق الثلاثة. وبينما انطلقت السيارة برجال العصابة، وتبعها «أحمد» بسيارته «الرينو» ومعه «إلهام» و«ريما»، قبع «عثمان» في الظلام يرقُب الصناديق الثلاثة التي اجتمع حولها عدد من الحمَّالين، ثم اقتربت سيارة نقل ضخمة، وأخذ الرجال يحملون ويصيحون حتى وضعوا الصناديق الثلاثة على ظهر السيارة، ثم أخذ الحمَّالون أجرهم وبدءوا ينصرفون، وبدأت السيارة تتحرك.
وقفز «عثمان» في الظلام خمس قفزات سريعة، وضعته خلف السيارة تمامًا، وما كادت تتحرك حتى قفز إليها واختفى بين الصناديق الضخمة.
انطلقت السيارة النقل مُسرعة على طريق المطار الواسع، وجلس «عثمان» يفكر فيما سيحدث بعد ذلك … كان هناك حارس بجوار السائق، ومن المؤكد أنه حارسٌ مسلحٌ، ولكنه ليس مشكلة على كل حال، فمعه المسدس الضخم الذي استولى عليه من شقة شارع «المساحة» … ولكن المشكلة التي واجهت «عثمان» في هذه اللحظة كانت إحساسه بالتعب والجوع؛ فهو منذ أن خرج من المنزل في الصباح لم يأخذ وقتًا من الراحة مُطلقًا، ولم يضع شيئًا في فمه، ورغم أنه ككل الشياطين اﻟ «١٣» قويٌّ صلب العود، إلا أنه كان فعلًا قد وصل إلى حالةٍ من الإرهاق والجوع يحتاج فيها إلى الراحة والطعام.
وظلت السيارة مُنطلقة بسرعة متوسطة حتى وصلت إلى شارع «صلاح سالم»، واقتربت من حي «القلعة» العريق. قبل أن يدري «عثمان» بما حدث، كانت قد انحرفت إلى ناحية «مقابر الغفير». ثم دخلت إلى «جراج» سرعان ما أغلق أبوابه.
كانت المفاجأة كاملة … ولم يكن أمام «عثمان» إلا أن يقفز في ظلام الجراج مُحاولًا الاختفاء عن الأعين … ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان؛ فقد كان هناك رجلان في الجراج تلقَّياه على الفور وهو في الهواء، واستطاع «عثمان» أن يضرب أحدهما بقدمه فانطلقت منه آهة موجعة … ولكن الثاني لم يترك ﻟ «عثمان» فرصةً للاشتباك معه، فقد هوى عليه بماسورةٍ من الحديد أخطأته، ولكنها هبطت بشدةٍ على ذراعه اليُسرى، وأحس بألمٍ هائلٍ كأن عظامه قد تفتَّتَتْ إلى عشراتٍ من القطع … وكان سائق السيارة والحارس قد نزلا، وأحاط الثلاثة ﺑ «عثمان» الجائع، المتعب، ذي الذراع المضروبة، وكان الحارس يرفع في يده بندقية سريعة الطلقات يمكن أن تقتل فيلًا في ثانية … وهكذا وجد «عثمان» نفسه في موقفٍ لا يسمح له بالحركة، فرفع يديه فوق رأسه مُستسلمًا.