مغامرات الشوارع
في نفس الوقت الذي كانت هذه الأحداث تجري فيه، كان «أحمد» يتبع السيارة التي ركبها الرجال الثلاثة، وكانوا قد اختاروا وسط المدينة المزدحم طريقًا لسيرهم … وعندما وصلت السيارة إلى شارع «رمسيس»، أخذ «أحمد» يُحاول الاقتراب أكثر فأكثر حتى لا تضيع منه السيارة، واستطاع في النهاية أن يضع سيارته خلف السيارة الأولى تمامًا، وأخذت «ريما» التي كانت تجلس بجانبه تصِف الرجال الثلاثة بقدْر ما استطاعت أن تراهم، بعد أن أخذت أرقام السيارة ونوعها.
توقفت السيارات جميعًا في إشارة «الإسعاف»، ثم بعد لحظاتٍ فُتحت الإشارة وانطلقت السيارة مسرعةً … كانت السيارة الأولى من طراز «مرسيدس ٢٨٠ ي. ل» القوية، وكانت في أول طابور السيارات الواقف، وهكذا لم تكد الإشارة تفتح حتى انطلقت بكل قوتها، فاجتازت بقية شارع «رمسيس» حتى كوبرى «٦ أكتوبر» في ثوانٍ قليلة، وخلفها انطلقت «الرينو» كالصاعقة … وصعدت السيارتان الكوبري الضخم وحدهما، فقد كانت بقية السيارات خلفهما بمسافةٍ كبيرة.
اختفت السيارة المرسيدس عند مطلع الكوبري لحظاتٍ قليلة جدًّا، ثم لحقت بها الرينو … وفي هذه اللحظة ومن أول الكوبري، كانت سيارة نقل ضخمة مُحمَّلة بالغسالات البيضاء ماركة «إيديال» قادمةً في اتجاهٍ متقاطع مع السيارة الرينو. وقبل أن يتمكن «أحمد» من تجاوزها، كانت قد أصبحت أمامه تمامًا، ليس بينها وبين الرينو الصفراء إلا سنتيمترات قليلة، ضغط «أحمد» الفرامل بكل قوته، وأدار عجلة القيادة إلى آخر دَورتها جهة اليسار، ولكنه اصطدم بالعجلات الخلفية للسيارة النقل صدمةً قوية، ودارت الرينو دورةً كاملةً، وانفكَّ رباط الغسالات، وتدحرجت على الكوبري كأنها موجاتٌ بيضاء على سطحٍ أسود.
ما كاد «أحمد» يستعيد قُدرته على كبْح جماح الرينو ويُعيدها إلى طريقها، حتى كانت المرسيدس قد اختفت في أحد طرُق الهبوط … وانطلق «أحمد» خلفها، ولكنه كان قد خسِر السباق، فقد تلاشت السيارة المرسيدس في خضم السيارات الكثيرة في هذه المنطقة المزدحمة. وقاد «أحمد» الرينو وهو في غاية الضيق إلى المقر السري للشياطين، وقد كان قريبًا من مكان المطاردة.
ارتمى «أحمد» على أول مقعدٍ قابله في الصالة، وابتسمت «إلهام» وقالت: لا أدري لماذا تبدو هذه المغامرة كأنها لا تسير في خطٍّ مستقيمٍ.
أجاب «أحمد» على الفور: لأن المعلومات التي لدينا ناقصة جدًّا … إنها مجرد وجود عصابة من المُتوقَّع أن تفعل شيئًا، أما هذا الشيء فلا نعرف عنه أي شيء … ولهذا فنحن نتخبَّط. والأمل الوحيد الآن أن يأتي «عثمان» بخبرٍ ما، أو بمعلومات تدلُّنا على نوع نشاط هذه العصابة.
ريما: والصناديق الثلاثة؟! إني أشعر أنها ليست بريئة.
أحمد: إنها قادمةٌ من «إيطاليا» لحساب السفارة الإيطالية كحقائب دبلوماسية.
ريما: إذا لم يعد «عثمان» بمعلوماتٍ الليلة، فسوف أقوم غدًا بالاستفسار عن حقيقة هذه الصناديق … والآن ما رأيك في أن نتناول العَشاء.
ابتسم «أحمد» رغمًا عنه وقال: هذا هو الشيء الوحيد المضمون في هذا اليوم.
وقامت «إلهام» و«ريما» بإعداد عشاءٍ سريعٍ تناوله الثلاثة، ثم جلسوا في انتظار «عثمان» ولكنَّ الوقت مضى حتى أشرفت الساعة على الثانية صباحًا دون أن يظهر «عثمان»، فدخلت «ريما» و«إلهام» غُرفتيهما للنوم، بينما بقي «أحمد» في الشرفة ينتظر وينظُر في ساعته بين لحظةٍ وأخرى حتى أحسَّ في النهاية أنه لا يستطيع مُقاومة النعاس، فقام إلى الغرفة الأمامية، وفي دقائق قليلة كان قد استسلم للنوم.
عندما استيقظ «أحمد» في الثامنة وجد «إلهام» في الصالة، ومن وجهها الساكن عرف أن «عثمان» لم يعُد، وهذا يعني أن الأمور اتخذت اتجاهًا خطيرًا. وظهرت «ريما» وقد استعدَّت للخروج، فقال «أحمد»: سأخرج أنا أيضًا … سأبحث عن السيارة المرسيدس، وعليك يا «إلهام» البقاء هنا فقد يعود «عثمان».
إلهام: سأرسل تقريرًا إلى رقم «صفر» بأحداث الأمس.
أحمد: بالطبع … وقد يَصِلنا منه شيءٌ يُنير لنا الطريق؛ فهذه المغامرة تنتهي دائمًا إلى طريقٍ مسدود … يُمكننا أن نُسمِّيَها «الهدف لا شيء».
ركبت «ريما» سيارةً صغيرةً من طراز «هوندا»، واتجهت إلى السفارة الإيطالية … بينما ركب «أحمد» السيارة «الرينو» التي كانت إصابتها ما زالت واضحةً، وسرعان ما غاص في شوارع المدينة المزدحمة، واختار أن يركن سيارته عند «دار القضاء العالي»، واتجه إلى مقهى شارع ٢٦ يوليو، حيث استطاعت العصابة أن تضحك عليه، وتسرق منه صندوق الأحذية الثمين.
اختار كرسيًّا في نهاية المقهى وجلس، وأخذ يرقُب باهتمام كلَّ من يدخل المقهى، وفي أعماقه إحساس أنه سيجد طرف خيطٍ مرة أخرى … ولكن مضى نصف ساعة دون أن يظهر أي شخصٍ ممن رآهم حتى الآن من رجال العصابة … ولكن حدث فجأة ما لم يكن في الحسبان؛ فقد اقترب منه الجرسون وقال له: تليفون يا أستاذ.
كانت مفاجأة كاملة … تليفون؟! من الذي يعرف أنه هنا؟ إنه هو نفسه لم يكن يعرف أنه سيتَّجه إلى هذا المكان مُطلقًا … على كل حالٍ تبع الجرسون إلى داخل المقهى، حيث كان التليفون في جانبٍ منه داخل كابينة من الزجاج، ورفع سماعة التليفون، وسمع على الطرف الآخر صوتًا يقول: لقد توقعنا أن تأتي إلى المقهى، ووصفناك للجرسون.
أحمد: من أنتم؟
الصوت: نحن الذين نسأل … مَن أنتم؟ ماذا تريدون؟
أحمد: أرجو ألا تحاول …
ولكن الصوت قَطع عليه كلماته وقال بغضبٍ: اسمع يا بني … ليس لدينا وقتٌ نُضيعه معكم، إن زميلك الأسمر في أيدينا.
ضغط «أحمد» على أسنانه غضبًا وضيقًا؛ لقد وقع «عثمان» … ومضى الصوت يقول: إنه لا يُريد أن يتحدث رغم ما فعلناه به!
أحمد: إنني أُنذركم.
الصوت: دعك من الإنذارات … إننا سنُمهلك ربع ساعة ثم نُحدثك مرة أخرى … خلال ربع الساعة هذا يجب أن يستقر رأيك على ما ستفعله، إنَّ أحد رجالنا الذي لم تره أبدًا يُراقبك الآن، ويمكنه أن يقضي عليك في ظلام المقهى دون أن يُحسَّ به أحد. وبعد ربع الساعة سيموت صديقك، وستموت أنت … والآن أتركك لتُفكر، وأرجو أن تكون عاقلًا بما يكفي؛ لنتفاهم، وإذا كنتم تريدون كسب بعض المال من العملية، فالمال كثيرٌ، وليس عندنا مانع من منحك أنت وزميلك بعض المال.
أنهى صاحب الصوت المكالمة، ووضع السماعة، وأحسَّ «أحمد» بالعرق يتصبَّب على ظهره، ووجهه … وخرج من الكابينة وذهنه يعمل بسرعة الصاروخ … إن عليه الآن أن يتَّخذ قرارًا خطيرًا … إمَّا أن يترك «عثمان» يموت، وإما أن يَقبل المساومة، وبالطبع كانت المساومة تُعطيه فرصةً أكبر للعمل … ولكن ما هي شروطهم؟
عاد «أحمد» إلى مقعده وأدار عينَيه في المقهى … أخذ يتفحص كل الوجوه التي حوله … إن بينها صاحب الوجه الذي تعرَّف عليه وأبلغ العصابة، وتحدَّث إليه صاحب الصوت. وفجأة خطر له خاطر … إن هذا الذي اتصل بالعصابة، في الأغلب اتصل بها من المقهى، ففيها أقرب تليفون؛ إذن فليسأل الجرسون۰
أشار إلى الجرسون الذي أتى بعد لحظاتٍ وقال له «أحمد»: أريد أن أسألك بضعة أسئلة.
بدت الدهشة على وجه الجرسون وقال: أنا يا أستاذ؟
مدَّ «أحمد» يده في جيبه، وأخرج جنيهًا وضعه في يد الجرسون، وقال: إنها ليست أسئلة مؤذيةً مطلقًا.
الجرسون: تفضل يا أستاذ.
أحمد: هل تستخدمون قطعة عملة في صندوق التليفون؟
الجرسون: لا يا أستاذ … عندنا قِطع نحاسية خاصة لا يعمل التليفون إلا بها، نُسمِّيها «المارك».
أحمد: عظيم … من الذي معه «المارك»؟
الجرسون: إنه الرجل المسئول عن «الكيس»، أي المُحصِّل، وهو يجلس هناك عند طرف المقهى.
وأشار الجرسون إلى شخصٍ يجلس أمام مائدة صغيرة، يُعد المشروبات ويتسلَّم ثمنها، قال «أحمد»: أريد أن أعرف من الذي تحدث تليفونيًّا خلال نصف الساعة الذي مضى. قال الجرسون مُبتسمًا وهو يتناول الجنيه: بسيطة يا أستاذ … ستعرف حالًا.
أسرع الجرسون إلى الرجل الجالس على الكيس وتهامس معه لحظاتٍ، ثم شمل الجالسين بالمقهى ببصرِه بضع مراتٍ، ثم عاد إلى «أحمد» ومال عليه، وقال: أربعة يا أستاذ.
أحمد: هل عرفت من هم؟
الجرسون: طبعا يا أستاذ … شخصٌ أسمر طويل القامة، يبدو أنه من خارج القاهرة هو أول من تحدَّث. وقد تحدث وخرج.
وانحنى الجرسون على «أحمد». وقال: والشخص الجالس خلفك على بعد ثلاثة «كراسي» تحدث مرة، وقال إنه في انتظار مكالمةٍ ستأتيه بعد قليلٍ.
توترت أعصاب «أحمد» على الفور … هذا بالتأكيد هو الرجل الذي يُراقبه، إنه في انتظار مكالمة من العصابة ليُطلق عليه رصاصة صامتة لا يراها ولا يسمعها أحد، ثم ينصرف بهدوءٍ دون أن يشتبه فيه إنسان … وقال الجرسون: والشاب الجالس بجوار الباب الزجاجي، هذا الذي يبدو عليه القلق تحدَّث مرتين …
أحمد: ومَن هو الرابع؟
ابتسم الجرسون وهو يقول: إنه ماسح الأحذية الذي تراه يتحرَّك بين الموائد لمسح أحذية الزبائن.
شكر «أحمد» الجرسون، وجلس هادئًا، وهو ينظُر إلى ساعته … كانت قد مضت سبع دقائق منذ تلقَّى المحادثة التليفونية؛ فما زالت أمامه ثماني دقائق قبل أن يتلقَّى المكالمة الثانية، وقام واقفًا بعد لحظاتٍ، وتحرَّك ذاهبًا إلى دورة المياه، وألقى نظرةً سريعةً على الرجل الذي خلفه، وكم كانت دهشته عندما وجده مُستغرقًا في النوم … هل كان يتظاهر؟ ربما … على كل حالٍ، مشى «أحمد» بين الموائد، وألقى نظرةً على ماسح الأحذية، ووقعت عيناه على صندوق الأحذية، وعرفت عينه الخبيرة على الفور مَن أين يأتي الموت، إنه قادمٌ من صندوق الأحذية … ورفع ماسح الأحذية عينيه إلى «أحمد»، والتقت العيون في نظرةٍ كأنها من الصلب … وتحرك ماسح الأحذية سريعًا، وفي لحظاتٍ كان قد خرج إلى الشارع.