أحيانًا تحت الأرض
اندفع «أحمد» يجري … لقد عرف أن الرجل سيهرب، فإذا استطاع اللَّحاق به ربما أصبح مُمكنًا أن يُعاودوا محاولة معرفة ماذا تُخطط العصابة في «مصر» … كان الرجل يسير بسرعةٍ والزحام شديدٌ، وعندما استطاع «أحمد» أن يقترب منه كان الرجل قد دخل شارع «الشريفين» خلف «البنك المركزي» وأمام وكالة «أنباء الشرق الأوسط». وظل الرجل يسير بنشاطٍ والصندوق الخشبي على ذراعه اليسرى، وسرعان ما وصل أمام محل بيع التُّحف القديمة فوقف أمامه لحظات، ونظر حوله ثم دخل إلى المحل.
وصل «أحمد» إلى المحل، كان متجرًا لبيع التحف والأثاثات القديمة في سلاملك إحدى العمارات القديمة، وينزل الداخل إليه خمس درجاتٍ حجرية قديمة … ولم يتردَّد «أحمد»؛ نزل السلالم، وفوجئ بالظلام الذي يسود المتجر، ورائحة الأشياء القديمة تهبُّ عليه، ولكنه استمر في النزول، وعندما اعتادت عيناه الظلام لم يجد لماسح الأحذية أثرًا.
وقف «أحمد» لحظاتٍ يتأمَّل ما حوله … كان المحل كبيرا ومتشعِّبًا، قد تكدَّست فيه عشرات من قطع الأثاث القديم والتماثيل والنجف الضخم، والفازات البللورية والسجاجيد، وكل ما يخطر على البال … وكان مُضاءً من إحدى الثريات الكبيرة بلمبةٍ واحدةٍ لا تكاد تُبدِّد الظلام المُخيِّم على المكان.
أخذ «أحمد» يُدير عينيه في المكان باحثًا عن ماسح الأحذية دون جدوى … فاخذ يتحرك داخل المحل، وفجأة سمع «أحمد» صَوت شخصٍ ما يتحرك، وتنبَّهَت أعصابه واتجه فورًا إلى الجدار يحمي ظهره، ثم ظهر الرجل المُتحرك … كان رجلًا قصير القامة شديد الشحوب كأنه خرج من القبر، أصلع تمامًا كالأقرع، يضم شفتيه بشدَّة كأنه يضغط على أسنانه حتى لا تقع … كان مشهده يُشبه مشهد دودة تخرج لتوِّها من البيضة … وأخذ ينظر إلى «أحمد» في جمودٍ أقرب إلى الكراهية، وحار «أحمد» فيما يقول له، ثم مدَّ يده في النهاية إلى تمثالٍ صغير من البرونز لفارسٍ وقال: كم يساوي هذا؟
ردَّ الرجل بصوتٍ بعيدٍ كأنه يأتي من بُعدٍ سحيق: خمسة وستين جنيهًا.
أحمد: أليس مُرتفع السعر؟
هزَّ الرجل رأسه ولم يجب، ووضع «أحمد» التمثال، وأمسك بفازة من الكريستال وقال: وهذه؟
ردَّ الرجل بنفس الصوت: ثلاثين جنيهًا؟
وضع «أحمد» الفازة مكانها … وأصبح يُواجه مشكلة استمرار الحديث، وقرَّر أن يدخل في الموضوع وليحدُث ما يحدُث فقال: أين ماسح الأحذية الذي دخل هنا؟
قال الرجل ببرودٍ شديدٍ: إننا لا نمسح هنا أية أحذية.
أحمد: إنني لا أسألك عن مسح الأحذية … إنني أسأل عن ماسح الأحذية.
الرجل: من فضلك … الساعة الآن الواحدة والنصف وهو موعد إغلاق المحل، أرجو أن تتفضل بالخروج.
أحمد: هل تسمح لي بالتجول في المحل لحظات؟
الرجل: ليس الآن يا أستاذ … قلت لك إننا سنغلق أبواب المحل الآن، وسوف نعاود فتحه في الخامسة مساءً.
فكر «أحمد» لحظات … إنها فرصته الوحيدة التي قد لا تتكرَّر لمعرفة مصير الرجل الذي كان يُراقبه، ومكان «عثمان»، ووصْل الخيط الذي انقطع … ولكن تفكير «أحمد» لم يستمر طويلًا، فقد تحرك الرجل ومدَّ يدَه ليُطفئ النور.
وبينما «أحمد» يستعد للقفز ليمنعه، أحسَّ بحركةٍ خلفه، ورأى على الضوء الخفيف خيال ذراع ترتفع إلى فوق مُمسكةً بعصًا، أو قطعة حديدٍ، وكانت تهبط على رأسه سريعًا … ولكنه انحنى جانبًا ثم دار سريعًا، وهو مُنحنِي الرأس، وأصاب الرجل الذي كان يقف خلفه بضربةٍ موجعةٍ جعلته يُطلِق آهة ثم يسقط على ظهره وسط الأثاث القديم مُحدثًا ضجةً عالية … وسرعان ما ظهرت من الظلام أشباح أشخاصٍ آخرين، وبدأت معركةٌ هائلةٌ بين «أحمد» وبين الأشباح، كان يطير إلى سقف المحل، ثم يهبط ضاربًا الرَّجُلَين معًا … ثم عندما يصِل إلى الأرض يُوجِّه ضرباتٍ مُتتالية.
كان «أحمد» يُحسُّ أنه في مصيدة رهيبة، وأن عليه أن يخرج منها سريعًا وإلَّا فلن يخرج منها أبدًا … وتمنَّى في هذه اللحظة أن يُوجَد معه «عثمان» أو «بو عمير»، أو أي واحد من الشياطين، فقد كانت معركة هائلة.
ظل «أحمد» يُصارع الرجال في المحل تحت الأرض، بينما أسرع الرجل النحيف بإغلاق الباب حتى لا يلفت الأنظار … ولاحظ «أحمد» أن المحل الذي يبدو صغيرًا من الخارج هو في الحقيقة يحتل مساحةً ضخمةً تحت الأرض. وفجأة ظهر رجل مُشوَّه الوجه يحمل مُسدسًا ضخمًا، وصاح بغضبٍ: كفُّوا عن كل هذا!
وتوقفت المعركة الناشبة بين «أحمد» والرجال أمام المُسدس الذي صوَّبه الرجل إلى «أحمد» في حسمٍ واضحٍ وقال: ماذا تريد يا بني؟
توقف «أحمد» مبهور الأنفاس بعد هذه المعركة الضارية، وكان اثنان من الرجال الذين صرعهم يُحاولان النهوض، ووقف أحدهما، وترنَّح قليلًا ثم تمالك توازنه، ولدهشة «أحمد» الشديدة وجد الرجل يهجم عليه كالثور ثُم يوجِّه إليه ضربةً قويةً، ولكن «أحمد» مال برأسه جانبًا، وطاشت الضربة … وأرسل «أحمد» يدَه في ضربةٍ هائلةٍ استقرت على الرجل كالمطرقة وترنَّح وسقط، وكانت سقطته على الرجل الذي يُمسك بالمسدس الذي لم يستطع تمالُك توازنه … وانتهز «أحمد» الفرصة وأسرع نحو الباب مُحاولًا النجاة بحياته من هذا الفخ … وفجأة أحسَّ بالأرض تهتزُّ تحت قدمَيه، ثم ينفتح باب في أحد الجدران وتمتدُّ ذراعان تشدَّانه إلى مكانٍ مظلم، ثم هوت عليه ضربة قوية وغابت الدنيا أمام عينيه. وتهاوى على الأرض وذهب في إغماء عميق …
عندما استيقظ «أحمد» من إغمائه وجد نفسه يسبح في ظلامٍ ثقيلٍ، حتى خُيِّل إليه أنه تحت الأرض، وقد كان فعلًا تحت الأرض … فقد ألقاه الرجال الذين صارعهم في غرفةٍ مظلمةٍ تقع تحت مستوى الشارع بخمسة أمتارٍ، وكانت التهوية سيئةً حتى أحسَّ بالهواء ثقيلًا ورطبًا … وأخذ يحاول الوقوف، ولكنه لم يتمكن من الوقوف تمامًا فقد اصطدم رأسه بالسقف، وأحس بآلامٍ جديدةٍ تُضاف إلى ألم الضربة التي وُجِّهت إليه.
أسند ظهره إلى الجدار، وأحس برطوبة الحائط تسري إلى بدنه؛ كان واضحًا أن المياه تنشع في هذه الغرفة الصغيرة السيئة التهوية، وأدرك «أحمد» أنه قد يموت مُختنقًا لو بقي فترةً طويلة في هذه الغرفة المخيفة، ولكن لِحُسن الحظ لم يستمر بقاؤه طويلًا؛ فقد وقعت عيناه على ضوء بطارية وسمع من يقول له: اتبعني.
مشى نصف مُنحَنٍ خلف صاحب الصوت، وظل يسير فترةً طويلة في دهاليز مُتعرجة ترتفع فيها رائحة الرطوبة والمُخلَّفات كأنها مجارٍ، حتى وصل إلى صالةٍ مضاءة إضاءة خفيفة، وقد وقف فيها ثلاثة رجال مسلحون … وأشار واحد منهم إلى باب غرفة في طرف الصالة، وسار «أحمد» إليها خلف حارسه … كان ذهنه يعمل بسرعةٍ … ماذا ينبغي أن يفعل في اللحظات القادمة؟ من المؤكد أنه ذاهبٌ الآن للاستجواب … إن الدروس التي تلقَّاها في «ش. ك. س» والتجارب الكثيرة التي مرَّ بها تؤكد له أنه الآن سيخضع لاستجوابٍ دقيقٍ، وهو يعلم أنه سيتعرض في هذا الاستجواب إلى ضروبٍ من القسوة التي لا مثيل لها فماذا سيفعل؟
انفتح الباب، ووجد «أحمد» نفسه يدخل غرفةً مُضاءةً، لدهشته الشديدة كانت تُشبه كابينة غواصة … كانت حافلةً بالأزرار والعدادات وآلات الحركة، وقد امتدَّت منها خراطيم من الكاوتشوك في أماكن مُتفرقة، ومواسير من النحاس اللامع وبعض أنابيب الأوكسجين، ولم يكن «أحمد» ليتصوَّر أن يُوجَد كل هذا تحت أرض هذا المحل العادي المظهر في شارعٍ في قلب «القاهرة».
وأخذت عيناه تنتقِلان بين مجموعة الرجال التي احتلت الغرفة، ولفت نظره على الفور منظرهم الأنيق. كانوا جميعًا كأنهم خارجون للسهرة، ولم يرَ بينهم ماسح الأحذية الذي طارده، ولا «عثمان» … وأخذوا جميعًا ينظُرون إليه، وقال واحد منهم وهو يهرش رأسه بأصابع نحيلة أنيقة: هذا الولد … هذا الوجه ليس غريبًا عني.
التفت إليه بقية الرجال، فعاد يقول: نعم … إنه ليس غريبًا.
دقَّ قلب «أحمد» … إنه يتذكَّر فعلًا أن إحدى العصابات كانت قد التقطت له مجموعة من الصور، وأن رقم «صفر» استخدم هذه المعرفة بطريقةٍ بارعةٍ عندما طردَه من مجموعة الشياطين بحركةٍ تمثيليةٍ، وزرعه في قلب عصابة، واستطاع في النهاية ضربها من الداخل.
قال أحد الرجال: متى رأيته، وكيف؟
ردَّ الرجل الأول: أعتقد في ملف عصابة أوروبيةٍ كانت تعمل في هذه المنطقة.
الرجل الثاني: هذا يعني أنه محترفٌ!
الأول: نعم … إنه على ما أذكر مُنضم إلى إحدى المنظمات السرية التي تعمل على مكافحة الجريمة. وأتصور أننا لو استطعنا معرفة هذه المنظمة، والقضاء عليها، فسوف نُحقق انتصارًا لا نحلم به، فقد استطاعت هذه المنظمة الانتصار في جميع المعارك التي خاضتها حتى الآن.
ثم التفت الرجل إلى «أحمد» في حركةٍ مسرحية وقال: أليس كذلك؟
كانت معلومات الرجل دقيقةً إلى حدٍّ بعيدٍ … فالشياطين اﻟ «١٣» منظمةٌ سريةٌ تعمل ضد الجريمة الدولية، وقد حقَّقت الانتصار في كل معاركها.
تحدث رجلٌ سمينٌ كان يجلس هادئًا مُشبِّکًا ذراعيه على صدره قائلًا: والآن يا ولدي، ها أنت ترى أننا نعرف عنك الكثير … فهل من الممكن أن تتفضَّل فتقول من الذي وضعك في طريقنا … هذا؟ أجب وإلا كانت هذه نهايتك ونهاية زميلك الأسمر الظريف!