مقدمة طبعة ٢٠٠٨
حماقة الهجوم على إيران
مضى أكثر من نصف قرن منذ أن أطاحت الولايات المتحدة بالحكومة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ إيران. ويصف هذا الكتاب تلك العملية المصيرية ويستعرض نتائجها المأساوية. وهو يروي لنا قصةً يجب أن نستخلص منها العِبر. فعام ١٩٥٣ كانت فكرة التدخل في إيران تبدو فكرة حسنة، ولبرهة من الزمن بدا أن تلك الفكرة نجحت. لكن من الجليِّ الآن أن ذلك التدخل لم يؤدِّ إلى مرور إيران بعقود مأساوية فحسب، بل إنه حرك أيضًا قوًى شكَّلت تهديدًا خطيرًا للأمن القومي الأمريكي.
يدعو العسكريون في واشنطن إلى شن هجمة أمريكية أخرى على إيران، هنا تصبح قصة الهجوم الأول وثيقة الصلة بواقعنا أكثر من ذي قبل. فهي توضح حماقة اللجوء إلى العنف من أجل محاولة إعادة تشكيل إيران. وفي عام ١٩٥٣ سعت الولايات المتحدة إلى تعزيز مصلحتها الاستراتيجية عن طريق شن هجوم على النظام الإيراني الذي كانت ترفضه. لكن النتائج أتت بعكس ما توقع القادة الأمريكيون تمامًا.
لو لم ترسل الولايات المتحدة عملاءها لخلع رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام ١٩٥٣، لاستمرت إيران في طريقها نحو تحقيق الديمقراطية الكاملة. وخلال العقود التالية ربما أصبحت أول دولة ديمقراطية في الشرق الأوسط الإسلامي، وربما أصبحت نموذجًا تحتذي به الدول الأخرى في المنطقة وخارجها. كان ذلك من شأنه أن يغير مجرى التاريخ تمامًا؛ ليس تاريخ إيران أو الشرق الأوسط فحسب، بل تاريخ الولايات المتحدة والعالم بأسره أيضًا.
ومن منظور اليوم — من منظور من شهدوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر وحرب العراق وكل الأخطار المصاحبة لها التي زعزعت استقرار العالم الحديث — فإن التدخل الذي حدث عام ١٩٥٣ في إيران يمكن اعتباره نقطة تحوُّل فاصلة في تاريخ القرن العشرين. فبإعادة محمد رضا شاه إلى عرش الطاووس، تسببت الولايات المتحدة في إيقاف تقدم إيران نحو الديمقراطية. وقد حكم الشاه بنظام القمع المتزايد طوال خمسة وعشرين عامًا. وأدت سياسة القمع تلك إلى الانفجار الذي حدث أواخر سبعينيات القرن العشرين، والذي عُرف فيما بعد بالثورة الإسلامية. وقد أتت تلك الثورة إلى السلطة بمجموعة من رجال الدين المتطرفين في معاداتهم للغرب الذين عملوا بجهد بالغ من أجل تقويض المصالح الأمريكية في كل أنحاء العالم.
وفي عام ١٩٥٣، خلعت الولايات المتحدة رئيس الوزراء الإيراني الذي كان يؤمن بالقومية ويعتنق المبادئ الأمريكية الأساسية، واستبدلت به طاغية يحتقر كل ما تمثله الولايات المتحدة. واليوم يجد الغرب نفسه في مواجهة نظام في طهران يجسد مخاوف أشد عمقًا بكثير من تلك التي سعى إلى القضاء عليها في عام ١٩٥٣. ويبدو أن دافع البيت الأبيض للهجوم على إيران لا يزال بالقوة نفسها التي كان عليها آنذاك. وبوسعنا أن نتخيل الحجج التي يحاول مستشارو الرئيس بوش إقناعه من خلالها. لقد تعرضنا لأحداث الحادي عشر من سبتمبر لأن الرئيس كلينتون لم يتمتع بالشجاعة الكافية لوأد الخطر في مهده، لذا فلنتحلَّ بالشجاعة، ولنتعامل مع الخطر قبل أن يستشري، بدلًا من ترك الأمر للرئيس القادم كي يتعامل معه.
لمَ الهجوم على إيران؟ يسوق مؤيدو الفكرة أسبابًا عديدة: يجب عدم السماح لإيران بأن تصبح قوة نووية، إيران تمثل خطرًا على وجود إسرائيل، إيران هي قلب «الهلال الشيعي» الذي يهدد استقرار الشرق الأوسط، إيران تدعم الجماعات المتطرفة في الدول المجاورة، إيران تشارك في قتل الجنود الأمريكيين في العراق، إيران تشن هجمات إرهابية في دول أجنبية، الشعب الإيراني يعاني القهر ويحتاج إلى الأمريكيين كي يمنحوه الحرية، … إلى آخر تلك الذرائع.
وهناك أيضًا ذريعة جيوسياسية للهجوم على إيران. فمنذ بدء عصر الحرب الباردة دأبت الولايات المتحدة على استغلال واحدة من دول الشرق الأوسط كقاعدة لبسط سيطرتها على المنطقة. وطوال ربع قرن كانت تلك الدولة هي إيران تحت حكم الشاه. والآن هي المملكة العربية السعودية، ولكن احتمالات الاستقرار على المدى الطويل هناك غير مؤكدة. وقد تبدد الأمل في أن تصبح العراق بعد الغزو الأمريكي لها الحليف الأساسي للولايات المتحدة في المنطقة. لكن البعض في واشنطن يروجون وهمًا جديدًا، وهو أنه بعد انقشاع غبار الهجوم الأمريكي على إيران سوف يستقر الوضع هناك وتصبح إيران حليفًا للولايات المتحدة.
إن من أبرز أسباب الهجوم على إيران الرغبة في وضع اليد على مواردها النفطية الهائلة. فعندما شارك وينستون تشرشل في الاستيلاء على قطاع النفط في إيران في العشرينيات من القرن العشرين، أطلق عليها «غنيمة من أرض الأحلام تفوق كل ما حلمنا به». ولا تزال كذلك. وبصرف النظر عما قد يقوله صناع السياسات في واشنطن أو في أي مكان آخر، فلا توجد دولة تتعامل مع إيران دون أن تفكر في مواردها النفطية. وينطبق ذلك الأمر خاصة على إدارة بوش التي ترتبط بصناعة النفط أكثر من أي إدارة أخرى في التاريخ الأمريكي.
وقد يكون للرئيس بوش والمحيطين به أسباب أخرى تغريهم بغزو إيران. إذ يعتقد البعض أن السبيل لتحقيق النصر في العراق يكمن في القضاء على النظام في إيران، على الرغم من أن الأدلة تشير إلى عكس ذلك. وقد أعلن بوش مرات عديدة أنه يتوقع أن ينصفه التاريخ، وهي حجة يمكن استخدامها لتبرير أكثر القرارات الرئاسية جنونًا. ومن وراء تلك الحجج يكمن دافع آخر أكثر ذيوعًا.
يعتقد القادة الأمريكيون وخاصة الرئيس بوش أنه نظرًا إلى أن الولايات المتحدة قوة عظمى، فإن لها الحق وعليها مسئولية التدخل بقوة كلما حدثت مشكلة في أي بقعة من بقاع الأرض. ويرجع ذلك الدافع على الأقل إلى عهد ثوكيديدس الذي كتب أن الأمم لديها «دافع فطري لا يقاوم للسيطرة عندما تكون في موقف قوة». وفي دراسة حديثة عن الحرب الأمريكية الإسبانية التي ترتبط بواقعنا اليوم ارتباطًا وثيقًا، كتب المؤرخ البريطاني جوزيف سميث أن حماس الولايات المتحدة للهجوم على الدول الأخرى ينبع من «نوع من الشعور القومي العدائي وارتباط عاطفي بالقوة الوطنية». ويعتقد البعض في واشنطن أن الغزو وإسقاط الحكومات والاحتلال هو الطريق الطبيعي للأمم العظمى. هذا وإلا فلا داعي لامتلاك القوة على حد زعمهم.
لقد صرح الرئيس بوش قبل بدء غزو العراق قائلًا: «في هذه المرحلة من التاريخ، إذا كانت هناك مشكلة فلا بد أن نحلها.» وطبقًا لمقاييسه الخاصة، فقد أصبحت إيران بالطبع «مشكلة». مما يعني أنه قد يقرر الهجوم عليها من أجل «حلها».
وقبل أن تتخذ القوى العظمى قرارات مؤثرة يمكنها تغيير شكل العالم، فإن قادتها غالبًا ما يعتبرون بدروس التاريخ. ويجب أن تشمل أي مناقشة جادة حول إيران الحديثة — وهل على الولايات المتحدة التدخل هناك — تقييمًا للنتائج التي ترتبت على التدخل الأخير. فعام ١٩٥٣ قامت الولايات المتحدة بعملية كان لها نتائج كارثية عليها وعلى إيران، وذلك بسبب حماسها الشديد لتحقيق أهداف قصيرة المدى، لكن البعض في واشنطن يستنكر فكرة ارتباط التاريخ بالحاضر. ولذلك فهم يعتقدون أنه في هذه المرة يمكن للولايات المتحدة أن تهاجم إيران وتخرج منتصرة.
وصفت شخصيات أمريكية بارزة عديدة قرار الرئيس بوش بغزو العراق عام ٢٠٠٣ بأنه أسوأ خطأ استراتيجي في تاريخ البلاد. وقد يؤدي الهجوم على إيران الآن إلى وقوع كارثة أخطر. فسوف يؤدي إلى تحويل قادة إيران المستبدين الذين لا يتمتعون بشعبية في بلادهم إلى أبطال للمقاومة الإسلامية، وإعطائهم حافزًا قويًّا لإطلاق حملة معادية عنيفة ضد المصالح الأمريكية في كل أنحاء العالم، وتقوية النزعة القومية الإيرانية والشيعية الاستردادية والتطرف الإسلامي، مما يضيف أسبابًا جديدة لا حصر لها للإرهاب، بالإضافة إلى إضعاف الحركة الديمقراطية في إيران، والقضاء على احتمالات التغيير السياسي بها لعقد كامل على الأقل، واستجلاب عداوة الشعب الإيراني للولايات المتحدة، مع أنه يُعد الآن من أكثر الشعوب المؤيدة لها في الشرق الأوسط، وتوريط الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي إلى أجل غير مسمى، مما يجبرها على أن تتخذ موقفًا في مختلف النزاعات الإقليمية فتضيف المزيد إلى قائمة أعدائها، وإغضاب الحكومة الشيعية في العراق المجاورة التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في تهدئة العنف هناك، وعلى الأرجح قطع تدفق النفط من الشرق الأوسط بطريقة قد تدمر اقتصادات الدول الغربية.
ومع وضع تلك النتائج المحتملة في الاعتبار، لماذا تقدِم الولايات المتحدة على مهاجمة إيران؟ يقول مؤيدو الفكرة إنها سوف تحقق ثلاثة أهداف: منع إيران من تطوير أسلحة الدمار الشامل، والإطاحة بنظام شديد العداء للولايات المتحدة، وتعيين حكومة جديدة ديمقراطية موالية للولايات المتحدة. وهم يفترضون أن تلك الحكومة سوف تمكن شركات النفط الأمريكية من الحصول على النفط الإيراني مجانًا، وتعطي الولايات المتحدة فرصة لإعادة بناء النفوذ الذي كانت تتمتع به في إيران. لكن تلك التصورات خطرة بقدر ما هي خيالية.
إيران واحدة من أقدم الأمم في العالم. ويحفل تاريخها بالانتصارات والأمجاد، وقد عاش فيها قادة عظماء من أمثال قورش وخشايار شاه وداريوس، بالإضافة إلى شعراء ومفكرين كانت لهم إسهامات لا حصر لها في الثقافة العالمية. وقد أعطى ذلك التراث الخصب الإيرانيين شعورًا قويًّا بالفخر الجماعي، وارتباطًا عاطفيًّا بتراثهم، وهوية قومية تتعدى مجرد ترديد الشعارات الوطنية التي تميز أشكال الوطنية الأكثر سطحية. ويبغض العديد من الإيرانيين النظام الذي يحكمهم حاليًّا، ولكن ذلك لا يضعف من ارتباطهم بالأمة الإيرانية. فهم يعلمون أنه عندما قامت الولايات المتحدة كان عمر دولتهم يزيد على ألفَي عام. وبصرف النظر عن معتقداتهم السياسية، يستشيط معظمهم غضبًا عندما يسمعون تهديدات من واشنطن.
ويبدو أن فكرة القصف الأمريكي لإيران لإجبارها على انتهاج الديمقراطية تزداد سخافة على إثر الهزيمة في العراق. ولكن في رأي الإيرانيين بوجه خاص تنطوي تلك الفكرة على مفارقة محزنة. فهم جميعًا يعلمون ما لا يعلمه كثير من الأمريكيين، وهو أن الديمقراطية كانت تشق طريقها في إيران عندما تدخلت الولايات المتحدة لقمعها عام ١٩٥٣. ونظرًا إلى هذه الحقيقة التاريخية، فمن حق الإيرانيين اعتبار رغبة الأمريكيين في تحريرهم فكرة شديدة الغرابة. وهم يدركون تمامًا أن الولايات المتحدة ساعدت على إنشاء الدولة الثيوقراطية الظالمة التي تحكمهم الآن.
ويرى بعض الإيرانيين أن الأمريكيين الذين يؤيدون الهجوم على بلادهم يهدفون إلى جلب الحرية معهم. ويعتقد الكثيرون أيضًا أن الولايات المتحدة تهدف أساسًا إلى القضاء على برنامج إيران النووي، وهو البرنامج الذي طرحته الولايات المتحدة على إيران في السبعينيات من القرن الماضي عندما كان الشاه في السلطة، والذي يراه معظم الإيرانيين حقًّا طبيعيًّا لبلادهم. ووراء تلك الأهداف المعلنة، وخلف تلك التهديدات التي تزيد حدَّتها كلما دقت طبول الحرب بشدة في واشنطن، ينظر الإيرانيون إلى المشروع نظرة أكثر تشاؤمًا. فهم يعتقدون أن الولايات المتحدة ترغب في تحويل إيران إلى كيان يقف بين الحليف والتابع، حيث تستخرج النفط منها وتبني قواعد على أراضيها. وكان ذلك السبب الحقيقي وراء تدخل الولايات المتحدة في إيران عام ١٩٥٣، ولا يوجد ما يدعونا للاعتقاد بأن أهدافها قد تغيرت تغيُّرًا جوهريًّا.
ظل الهجوم اللفظي على إيران مادة أساسية في خطب واشنطن منذ تولي الرئيس بوش الحكم عام ٢٠٠١. فمن المعروف أن الرئيس بوش وصف إيران بأنها جزء من «محور الشر» العالمي. وفي الخطاب الذي ألقاه في بدء فترته الرئاسية الثانية أطلق على إيران «الراعي الرسمي للإرهاب في العالم»، وحذر فيما بعد من أنَّ تحوُّل إيران إلى قوة نووية أمر «غير مقبول». وقد وضع نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني إيران «على رأس قائمة» مناطق الصراع في العالم. ووصفت كوندوليزا رايس — وزيرة الخارجية الأمريكية — سجل إيران لحقوق الإنسان بأنه «شيء يثير الاشمئزاز». ويصر جون بولتون سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحدة على أنه حان الوقت «لزيادة الضغط بشدة» على إيران، وإذا لم تؤدِّ العقوبات والتدابير القسرية الأخرى المتخذة ضد إيران إلى إجبار النظام الإيراني على تغيير مساره، «فعلينا في تلك الحالة أن نفكر في استخدام القوة». وقد صرح السيناتور جوزيف ليبرمان أحد مؤيدي الرئيس بوش في شئون السياسة الخارجية في حوار تليفزيوني قائلًا: «إذا لم يلتزم الإيرانيون بقواعد اللعبة فسوف نضطر إلى اللجوء إلى العنف، ويعني ذلك استخدام القوة العسكرية من أجل ردعهم عما يفعلون.»
وقد استخدم ليبرمان حجة جديدة لتبرير دعوته للهجوم على إيران، فقد اتهم إيران بمساعدة المتمردين في العراق، مما تسبب في مصرع نحو مائتي جندي أمريكي. وتلك حجة عجيبة. ذلك لأنه أثناء حرب فييتنام زود الاتحاد السوفييتي شمال فييتنام بأسلحة وذخيرة تسببت في مقتل عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين. وفعلت الصين نفس الشيء مع حلفائها في كوريا الشمالية في الخمسينيات من القرن الماضي. ولكن الولايات المتحدة لم تهاجم مورِّدي الأسلحة آنذاك. كما لم تحاول حكومة ساندينو في نيكاراجوا مهاجمة الولايات المتحدة خلال الثمانينيات من القرن الماضي عندما كانت الأسلحة الأمريكية والمقاتلون الأمريكيون يتسببون في مصرع الجنود والمدنيين في نيكاراجوا. إن تقديم المساعدة للأصدقاء أثناء الحروب وسيلة قديمة قِدم الحرب بالإنابة. والآن مع تلهف إدارة بوش للعثور على كبش فداء لإخفاقها في العراق، يحث ليبرمان الولايات المتحدة على «اتخاذ إجراء عسكري عنيف ضد الإيرانيين لمنعهم من قتل الأمريكيين في العراق.»
قد تكون لغة التهديد تلك مفزعة للدول الصغيرة الفقيرة المنعزلة غير الآمنة. ولكن عندما يوجه مثل هذا التهديد إلى أمة تفخر بنفسها مثل إيران فإنه يؤدي إلى تأثير عكسي. حيث يزيد من حدة المقاومة، ويوحد الناس الذين لا يحبون أن يتلقوا الأوامر ممن يعدُّونهم «بلطجية»، مثلهم في ذلك مثل بقية شعوب العالم.
ويبدو أن بريطانيا التي ظلت عدو إيران فترة أطول من الولايات المتحدة قد تعلمت هذا الدرس. فعام ١٩٥٣ تعاونت المخابرات السرية البريطانية مع المخابرات المركزية الأمريكية من أجل خلع رئيس الوزراء مصدق، وعلى مدار القرن العشرين زادت حمَّى معاداة بريطانيا في إيران أكثر من معاداة الولايات المتحدة. ولكن عندما ألقت دورية إيرانية القبض على تسعة عشر بحارًا وجنديًّا بحريًّا بريطانيًّا زعمت أنهم دخلوا المياه الإيرانية بطريقة غير قانونية في ربيع عام ٢٠٠٧، اختلف رد فعل القادة البريطانيين على ذلك الأمر تمامًا عن رد فعل القادة الأمريكيين لو كان الجنود المشار إليهم ينتمون إلى الجيش الأمريكي. فقد أكد رئيس الوزراء توني بلير مرارًا أنه لن يلجأ إلا إلى الأساليب الدبلوماسية لتحرير الأسرى، واستبعد تمامًا اللجوء إلى القوة. وقد أثر ذلك الموقف بشدة في الحكومة الإيرانية، فأطلقت سراح الأسرى بسرعة، وهكذا انتهت واقعة ربما نجمت عنها أزمة طويلة المدى تزعزع استقرار المنطقة من خلال التفاوض دون أن يفقد أي من الطرفين ماء وجهه.
لا ينتهز القادة الأمريكيون أي فرصة كي يكشروا عن أنيابهم في وجه إيران فحسب، بل إنهم أيضًا بدءوا سلسلة من العمليات من شأنها زعزعة استقرار النظام الإسلامي. وكان يمكن أن تعد تلك العمليات سرية لو لم يكن النظام في طهران على علم بها. وكان جزء من المشروع الأمريكي يتمثل في إرسال عشرات الملايين من الدولارات الأمريكية خصصها الكونجرس علنًا لجماعات يراها مؤيدة للديمقراطية في إيران. وهكذا فمن الطبيعي أن يعتبر الملالي الحاكمون كل منظمة خاصة في إيران أداة محتملة للعدوان أو التدمير الأمريكي. فأطلقوا حملات قاسية لفرض النظام تسببت في إرسال المئات من الإيرانيين المثاليين إلى العالم السفلي المتمثل في سجن إيفين بطهران، حيث ينتشر تعذيب السجناء ومنعهم من ممارسة حقوقهم القانونية بنسبة مساوية تقريبًا للسجن الأمريكي في جوانتانامو. ويقول منشقون إيرانيون إنه عند القبض عليهم لا يكاد المحققون يهتمون إلا بسؤالهم عن مصادر أموالهم، هل يأتي أيٌّ منها من مصدر أمريكي. وبتخصيص الولايات المتحدة الأموال علانية لبرنامج يهدف صراحة إلى زعزعة استقرار النظام الإيراني، ساعدت على بدء حملة قاسية لقمع المعارضة وتقليل مساحة التقدم الديمقراطي في إيران وإعاقة الحرية التي تزعم التمسك بها.
وإلى جانب تلك المحاولة الخرقاء لإعادة تشكيل المشهد السياسي في إيران، تتدخل الولايات المتحدة أيضًا بطرق أكثر مباشرةً. فقد أرسلت بعض حاملات الطائرات إلى الخليج العربي وقاذفات القنابل الثقيلة إلى قطر. وبالإضافة إلى ذلك، فطبقًا للتقارير الصحفية بدأت الولايات المتحدة سرًّا في تمويل العصابات المسلحة من الأكراد والبلوش وبعض الأقليات العرقية في إيران التي اشتهرت باغتيال المسئولين الإيرانيين ومقاتلي الحرس الثوري. وتهدف أشكال الضغط تلك إلى إخافة النظام في إيران أو إفقاده أعصابه. ولكنها عوضًا من ذلك تقود النظام إلى قمع المعارضة المحلية بمزيد من الشراسة.
ويبدو أن النظرية الكامنة خلف سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران هي ضعف النظام الإيراني أمام الأشكال التقليدية للضغوط. ولكن في حقيقة الأمر فإن ذلك النظام أصبح أقوى مما كان عليه، فقد أدى انهيار الاتحاد السوفييتي الذي خفف الضغط على حدود إيران الشمالية وتسبب في ظهور دول جديدة عديدة ذات أقليات مسلمة إلى إتاحة فرص استراتيجية كثيرة أمام إيران. فقد أدى ارتفاع أسعار النفط إلى منحها قوة اقتصادية جديدة في الأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين. وعلى نحو فجائي قدمت الولايات المتحدة — التي تعلن في كل مناسبة عن قيادتها لتحالف عالمي ضد إيران — خدمة كبيرة لإيران تتمثل في القضاء على النظامين اللذين تخشاهما إيران بشدة، وهما حكومة طالبان في أفغانستان التي كانت خاضعة لمتطرفين سنيين متعصبين ضد الإيرانيين، وحكومة صدام حسين في العراق التي خاضت معها إيران حربًا مدمرة في الثمانينيات من القرن الماضي.
وقد أخذ التأثير الإيراني في الشرق الأوسط يزداد على نحو منتظم منذ الغزو الأمريكي للعراق. فالحكومة العراقية الجديدة شيعية تكن الإعجاب لإيران وتتعاون معها. ويطلق الرئيس الأفغاني حامد قرضاي على إيران «صديقتنا العزيزة». وفي لبنان حقق النظام الإيراني نصرًا كبيرًا من وجهة نظر العديد من المسلمين عام ٢٠٠٦ عندما قاومت ميليشيات حزب الله الذي تدعمه إيران عدوانًا إسرائيليًّا مدمرًا، ثم تولت جهود إعادة البناء بعد الحرب.
وبوقوع العراق في حالة فوضى، وانشغال كلٍّ من سوريا ومصر بالتحديات الداخلية، أصبحت إيران القوة الإسلامية الوحيدة في الشرق الأوسط القادرة على التأثير في الأحداث خارج حدودها. فقد زاد نفوذ إيران في العراق ولبنان وسوريا، وزاد تأثيرها على الفلسطينيين، بالإضافة إلى عناصر أخرى غير حكومية مثل جماعات حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي. ولم تكن إيران قط بالقوة التي هي عليها الآن في التاريخ الحديث. والعجيب أن معظم الفضل في ذلك يرجع إلى الولايات المتحدة. فطفرة القوة والنفوذ التي تتمتع بها لم تأتِ نتاج جهدها الخاص، بل يستغل قادتها الأخطاء الأمريكية لمصلحتهم.
أوقفت الولايات المتحدة تقدم إيران نحو الحرية بعنف شديد عندما خلعت رئيس الوزراء مصدق عام ١٩٥٣، والنتائج بعيدة المدى المترتبة على ذلك جاءت مدمرة لكلتا الدولتين. وبعد مضي نصف قرن أعطت مجموعة أخرى من القادة الأمريكيين أوامرها بغزو العراق، وهو الحدث الذي أحدث تأثيرًا كارثيًّا مشابهًا. وعلى الرغم من تلك الهزائم فلا يزال البعض في واشنطن يعتقدون أن القوة العسكرية يمكن أن تؤدي إلى تغيرات إيجابية في إيران. وأكثر من يخشى ذلك الأمر هم الديمقراطيون الإيرانيون الشجعان الذين يقومون بحملات للإصلاح في بلادهم رغم خطورة ذلك عليهم.
وفي حوار أجري عام ٢٠٠٧ مع المتمرد الإيراني أكبر جانجي — الذي قضى ست سنوات شاقة في السجن بسبب تأليف كتاب يتهم فيه المسئولين الإيرانيين بتنظيم اغتيالات سياسية — قال: «إن الدولة الإيرانية متهمة بالطبع بانتهاك حقوق أساسية عديدة لمواطنيها. ولكن الهجوم العسكري ليس حلًّا عادلًا أو فعالًا لتلك المشكلة … فسوف يكون الهجوم كارثة على شعب إيران البريء وعلى المنطقة بأسرها … وسوف يعزز أيضًا من نمو الأصولية في المنطقة، ويعيد إحياء الاعتقاد بأن الغرب اليهودي المسيحي بقيادة الولايات المتحدة يهاجم العالم الإسلامي، من أفغانستان وفلسطين إلى العراق وإيران … لقد ساهمت التهديدات العسكرية الأمريكية الحالية في إعطاء الحكومة الإيرانية حرية قمع المجتمع المدني الناشئ في إيران باسم الأمن القومي، وغطت على الخطاب الديمقراطي حتى إن بعض الإصلاحيين الإيرانيين يرون أنفسهم بين شقَّي الرحى: الاستبداد المحلي والغزو الأجنبي. إن التغيير السياسي في إيران ضرورة، ولكن لا يمكن تحقيقه عن طريق التدخل الأجنبي.»
وفي الحوار نفسه أثار جانجي نقطة في غاية الأهمية. إذ قال إن الولايات المتحدة لا تتمتع بالمصداقية لدى إيران كدولة تحمل لواء الديمقراطية، وذلك بسبب دورها في القضاء على الديمقراطية هناك منذ نصف قرن، وأيضًا بسبب إخفاقها منذ ذلك الحين في إبداء أي اهتمام بتنمية المجتمع المدني في إيران.
وأضاف جانجي قائلًا: «أعتقد أن معظم الإيرانيين يشتركون في وجهة نظر عامة بشأن السياسة الخارجية الأمريكية. فهم يرون أن أهمية إيران تنبع من موارد الطاقة الهائلة التي تمتلكها ودورها في السياسة الإقليمية فحسب، وأن الثقافة والتنمية الاقتصادية الإيرانية وتحقيق السلام والرفاهية وتوفير الحقوق الأساسية للمواطن الإيراني أمور لا تعني صناع السياسات الأمريكية في شيء … فلن ينسى الإيرانيون أبدًا الانقلاب الذي دعمته الولايات المتحدة عام ١٩٥٣ والذي أطاح بالحكومة القومية المعتدلة الديمقراطية التي كان يرأسها د. محمد مصدق، وأتى بنظام سياسي دكتاتوري منغلق. وهكذا فقد المجتمع الإيراني إحدى أهم الفرص التاريخية لتحقيق الديمقراطية.»
ولا تزال الولايات المتحدة تدفع الثمن غاليًا لقاء تدخلها العنيف في إيران منذ عقود مضت. وإذا هاجمت إيران مرة أخرى الآن فسوف يلعنها الإيرانيون لمدة نصف قرن آخر. ويدرك الأمريكيون العقلاء تلك الحقيقة، حيث حذر الأستاذ إيه ريتشارد نورتون بجامعة بوسطن، وهو خبير في الحركات السياسية الإسلامية عمل من قبل مستشارًا لمجموعة دراسة العراق ثنائية الأحزاب، قائلًا: «ستؤدي الهجمة الأمريكية إلى إسكات الأصوات العاقلة في إيران، وتمنحها الدافع لكي تجعل الحياة أكثر صعوبة للولايات المتحدة في العراق وأماكن أخرى، ومن المحتمل أيضًا أن تعوق تجارة النفط الدولية.» ووصف ميلت بيردن — ضابط المخابرات المركزية الأمريكية المحنك الذي أدار الحرب الأمريكية في أفغانستان في الثمانينيات — تلك الفكرة بأنها «مجنونة»، وأكد قائلًا: «إن الدخول في حرب مع إيران لن يفيد أحدًا عدا إيران.» بل إن روبرت جيتس قبل أن يصبح وزيرًا للدفاع كان عضوًا في فريق يدرس الخيارات المتاحة للولايات المتحدة تجاه إيران، وقد أوصى باتباع «توجه استراتيجي معدل» يعتمد على المعاملة والحوار.
ويجب أن يكون أول مظاهر ذلك التوجه المعدل التزام الولايات المتحدة بالحوار المباشر غير المشروط مع الحكومة الإيرانية. ونظرًا إلى استعداد الولايات المتحدة للتفاوض مع كافة النظم البغيضة، فإن رفضها التفاوض مع إيران لا يدعو للحيرة فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى نتيجة عكسية. فهذا الرفض قائم في الظاهر على المبدأ الغريب الذي ينهى عن التفاوض مع الأعداء. وقد أعلن مسئولون في إدارة بوش أنهم يرفضون المباحثات الموسعة مع إيران لأنهم لا يرغبون في مكافأة «السلوك السيئ»، ولكن الدول الأعداء التي ترتكب «السلوك السيئ» هي ذاتها التي يجب أن ترغب كل الدول في التعامل معها بصورة عاجلة، وخاصة عندما تتمتع تلك الدول بنفوذ كبير وتمثل تهديدًا متزايدًا للأمن العالمي على غرار وضع إيران اليوم. فلا يمكن أن تكون الغطرسة والشجب والتهديد ووضع مطالب حادة اللهجة أسسًا لسياسة خارجية سليمة.
ولكن هناك سببًا آخر خفيًّا جعل الولايات المتحدة عاجزة عن التفاوض مع إيران طوال الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة. فالطبقة السياسية الأمريكية لم تتعافَ قط من صدمة خسارة الشاه وذل أزمة الرهائن التي أعقبتها. وهي تحمِّل النظام الإسلامي الحالي مسئولية تلك الإهانات. ويبدو إصرار البعض في واشنطن على الأخذ بالثأر القديم من إيران أكبر من حرصهم على بناء علاقات جديدة مع حكومتها وشعبها. وإلى أن تتمكن الولايات المتحدة من تخطي ذلك الحاجز النفسي والتخلي عن عنادها الشديد ورفضها القاطع إجراء محادثات جدِّية مع إيران، فلن يكون هناك أي تحسن حقيقي في العلاقات بين البلدين.
إن الأزمة العنيفة بشأن برنامج إيران النووي تجعل التفاوض الآن حاجة ملحة أكثر من ذي قبل. وكي تحظى تلك المفاوضات بفرصة للنجاح، يجب أن تكون مباشرة وثنائية، حيث إن الولايات المتحدة وحدها تمتلك سلطة إعطاء إيران الضمانات الأمنية التي تطلبها في أي اتفاق مستقبلي. ويجب أيضًا أن تكون تلك المفاوضات غير مشروطة، بحيث يشجَّع كلا الطرفين على إثارة نقاط الخلاف. وقد تكون اللقاءات بين الدبلوماسيين الأمريكيين والإيرانيين لبحث طرق جلب الاستقرار إلى العراق — وهي الأولى من نوعها منذ قيام الثورة الإسلامية — وسيلة للتقدم نحو إجراء مباحثات موسعة. وقد وصف كلا الجانبين تلك الاجتماعات بأنها «إيجابية»، ولكنها كي تكون إيجابية حقًّا يجب أن تؤدي إلى مفاوضات شاملة.
ومن الأمثلة النموذجية لتلك المفاوضات السياسة التي انتهجتها كلٌّ من الولايات المتحدة والصين عندما أعادا إحياء علاقتهما في السبعينيات من القرن الماضي. وكانت أول وثيقة صادرة عن تلك العملية بيان شنغهاي الذي كان يبدو بسيطًا على غير حقيقته. فلم يقدم أي من طرفيه أي تنازل أو تعهد بأي التزام، ولكن البيان كان قائمة بمخاوف كل طرف وتعهدًا بالتفاوض الجاد من أجل حلها فقط. وتعتبر مثل تلك الوثيقة بداية طيبة لعلاقة جديدة بين الولايات المتحدة وإيران.
ما المخاوف التي تحملها كلٌّ من الدولتين إحداهما تجاه الأخرى؟ بالطبع سوف تضع الولايات المتحدة برنامج إيران النووي في رأس القائمة، يليه الدعم الإيراني للإرهاب الدولي. وسوف ترغب إيران في مناقشة التصرفات الأمريكية التي تهدف إلى تقويض نظامها. فكل طرف يعتقد أن الآخر مسئول عن ارتكاب العنف في الشرق الأوسط.
ولكن وراء نقاط الاختلاف الواضحة تكمن نقاط اتفاق كثيرة بين الولايات المتحدة وإيران. فهاتان الدولتان لم يكتب عليهما مناصبة العداء قط. وهما في الواقع يشتركان في أهداف استراتيجية عديدة، بل من الممكن أن يصبحا حليفين في يوم ما. فكلتاهما ترغبان بشدة في جلب الاستقرار للعراق وأفغانستان. وكلتاهما تبغض الحركات السنِّية المتطرفة مثل القاعدة وطالبان. وكلتاهما تسعى إلى توفير احتياطي ثابت من البترول للأسواق الغربية. وإن كان كلٌّ منهما لديه أسبابه، وحاليًّا تعتبر صناعة النفط في إيران معرضة للخطر، وهي تحتاج إلى استثمار عشرات المليارات من الدولارات الأمريكية فيها، في حين تمتلك الولايات المتحدة رأس مال ضخمًا وشهية مفتوحة للنفط.
لا يزال أمام الأمريكيين الكثير كي يستفيدوه من إقامة علاقة جديدة مع إيران، خاصة إذا أمكنها أن تؤدي إلى تهدئة مشاعر الغضب التي تعصف بالشرق الأوسط. وإيران أيضًا سوف تستفيد. فقد أصبح الانقسام بين الشعب والنظام الإيراني مثل الهوَّة بين الأغنياء والفقراء في إيران تمامًا، أكبر مما كان عليه خلال العقود الأخيرة. والتضخم لا يرحم. ونسبة البطالة شديدة الارتفاع خاصة بين الشباب، والأمراض الاجتماعية مثل إدمان المخدرات والبغاء انتشرت كالوباء. ولا يعتمد القطاع الاقتصادي على شيء سوى النفط، ويرجع ذلك بصورة كبيرة إلى السيطرة الحكومية الخانقة وقلة الاستثمارات الأجنبية. وتلك الدورات اللانهائية من الاتهامات المتبادلة بين واشنطن وطهران تمنع كلا الجانبين من اتباع منهج جديد يمكن أن يستفيد منه كلاهما.
ومن غير المؤكد أن المفاوضات الشاملة بين الولايات المتحدة وإيران سوف تنجح في النهاية. ولكن عدم القيام بمحاولة في ذلك الشأن يعتبر خطأ تاريخيًّا فادحًا. وقد يؤدي تقديم عرض للمحادثات الشاملة إلى حدوث أزمة صغيرة في النظام الإيراني، حيث يجادل المتشددون النفعيون حول ما إذا كانوا يقبلون العرض أم لا.
وفور بدء المحادثات لا يوجد طريقة لإنجاحها سوى التسوية، وهي الطريقة التي لا يزال الطرفان يرفضانها حتى الآن. لكن ذلك كان الهدف من التفاوض. ولا يعتبر بدء محادثات شاملة مع إيران مكافأة «للسلوك السيئ»، ولكنه بحث عن حلول يمكنها التخفيف من حدة الصراع المتقلب والمساهمة في الأمن العالمي.
وتعتبر الطريقة الوحيدة التي يمكن لإيران بها كبح جماح طموحاتها النووية هي إجراء «صفقة كبرى» تعالج فيها مخاوفها الأمنية. وسوف يتطلب ذلك حلًّا يتعدى حدود إيران ويؤدي إلى إنشاء بناء أمني جديد في الشرق الأوسط. فمن غير المعقول أن نتوقع تخلي إيران عن برنامجها النووي ما دام عدوها الإقليمي اللدود — إسرائيل — وعدوها العالمي — الولايات المتحدة — يمتلكان أسلحة نووية ويصدران مجموعة من التهديدات شبه الصريحة لإيران.
ومن الاتفاقات التي قد يضعها المتفاوضون نصب أعينهم الاتفاق الذي وقع عام ٢٠٠٧ بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. ففي مقابل وعد كوريا الشمالية بالتخلي نهائيًّا عن برنامج الأسلحة النووية الخاص بها، وافقت الولايات المتحدة على «محاولة إنشاء علاقات دبلوماسية كاملة» مع كوريا الشمالية، وتخفيف العقوبات الاقتصادية عليها، و«اتخاذ خطوات عملية» لإزالتها من قائمة الدول التي تدعم الإرهاب ومن قائمة الدول التي يقيد المعاملات التجارية معها قانون التجارة مع العدو، وإنشاء مجموعات عمل للتفاوض بشأن نزع السلاح النووي من المنطقة، وإيجاد «آلية جديدة للسلام والأمن في شمال شرق آسيا». وإذا كانت تلك المبادئ قد نجحت في صياغة اتفاق بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، فبالتالي يمكنها أن تنطبق على إيران التي تزيد قدرتها عن كوريا الشمالية على تعزيز الأمن العالمي أو تهديده.
وكي ينجح التوجه الأمريكي الجديد نحو إيران على المدى الطويل، يجب ألا يقتصر على محادثات فقط مع النظام. فكي تنعم إيران — أو أي دولة أخرى — بالاستقرار والديمقراطية يجب أن تكون بها طبقة وسطى قوية. ومن مصلحة الولايات المتحدة أن تعزز كل صور التواصل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مع طوائف المجتمع الإيراني المختلفة. ففي ظل مناخ جديد لن تصبح إقامة المشروعات الأمريكية مع إيران ممنوعة بل مرحَّبًا بها. وبدلًا من الحد من عدد التأشيرات الممنوحة للإيرانيين سوف تدعو الولايات المتحدة أكبر عدد ممكن من الإيرانيين إليها وتملأ إيران بالأمريكيين، بدءًا من الطلبة والأساتذة إلى الفلاحين وأصحاب المشروعات والكتَّاب والفنانين.
إن إيران مستعدة كي تنتهز فرصة ذلك النوع من الارتباط. فهي تضم مجتمعًا مدنيًّا مزدهرًا يتعطش إلى الاتصال بالعالم الخارجي ووعيًا ديمقراطيًّا يرجع إلى أكثر من قرن مضى. وكما أوضحت الإخفاقات في العراق، لا يمكن فرض الديمقراطية على دولة من الخارج. فالديمقراطية لا تتمثل في إجراء انتخابات، لكنها منهج حياة وطريقة لحل المشكلات. وفي أي مجتمع ينمو الوعي بالقيم الديمقراطية ببطء. وعلى النقيض من الدول الأخرى في المنطقة ظلت إيران تتقدم نحو الديمقراطية منذ إقرار دستورها الأول منذ أكثر من قرن مضى. ولم يكن الدستور الإيراني يُحترم على الدوام ولا كانت الانتخابات الإيرانية دائمًا نزيهة. ولكن طوال تلك الفترة أظهر الشعب الإيراني وعيًا عميقًا بمعنى الديمقراطية ولا يزال هناك العديد من المتعطشين لها. وهناك أيضًا أرض خصبة للتغيير الديمقراطي في إيران أكثر من أي دولة إسلامية أخرى. ومن اللافت للنظر أن العديد من المواطنين الإيرانيين يحملون بقايا إعجاب للولايات المتحدة. ويجب أن يستغل القادة الأمريكيون تلك النقطة لمصلحتهم.
إن فكرة الهجوم على إيران ومحاولة كسر عنق النظام بها تنطوي على افتراض في منتهى الخطورة، وهو أن ذلك الهجوم سوف يليه تحسن في الأوضاع. وقد مر الإيرانيون بتجربة مريرة تنفي صحة ذلك الاعتقاد. ففي أواخر السبعينيات من القرن الماضي، توحد الشيوعيون والأصوليون وأنصار مصدق الليبراليون من أجل الإطاحة بالشاه. وذلك لأنهم افترضوا أن أي نظام يأتي بعد ذلك سوف يكون أفضل، ولكن يعتقد الكثيرون الآن أن ذلك كان خطأ فادحًا.
ويحاول البعض في واشنطن أن يبرهن على أن أي نظام جديد في إيران سوف يكون أفضل من نظام الملا القمعي الذي يتميز بكراهية الأجانب، ولكنهم مخطئون بشدة. فمن المتوقع أن يؤدي شن هجوم على إيران الآن إلى حالة من الفوضى في البلاد تشبه تلك التي أصابت العراق، وفي مثل تلك البيئة الفوضوية لن يكون هناك سلطة مركزية تسيطر على المتطرفين مرتكبي أحداث العنف. وأكثر ما يدعو للخوف أن يتضمن هؤلاء المتطرفون علماء نوويين غاضبين. فسوف يزيد احتمال استخدام الإيرانيين خبراتهم التكنولوجية لنقل أسلحة الدمار الشامل إلى الجماعات الإرهابية عند حدوث هجوم، ولن يكون قصف المنشآت النووية في إيران، بافتراض أنها يمكن أن تُكتشف وتدمَّر كلها، سوى حل مؤقت. وهذا من شأنه أن يؤدي قطعًا إلى ظهور تهديدات أكثر خطورة من تلك التي تمثلها إيران الآن. وكما أوضح د. محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن المباني يمكن مهاجمتها وتدميرها، ولكن «العلم لا يمكن قصفه بالقنابل».
وبسحب الولايات المتحدة إيران بعيدًا عن طريق الديمقراطية عام ١٩٥٣، أنشأت دوامة من عدم الاستقرار أدت لاحقًا إلى ظهور تهديدات لم تكن متوقعة. ولم تؤدِّ الحملة الأمريكية الطويلة من فرض العزلة والضغط والتحذيرات إلى أي تغيير في سلوك إيران. ويعني استمرار ذلك الضغط زيادة مضطردة في التوتر الذي يعتقد البعض في واشنطن أنه سوف يؤدي إلى هجوم عسكري. وهو الهجوم الذي سيقودنا إلى عهد جديد من الاضطراب في إيران والمنطقة المحيطة، ولكنه في تلك المرة محاط بخطر الإرهاب النووي.
لقد تسببت الخطة التي وضعتها المخابرات المركزية الأمريكية لخلع رئيس الوزراء مصدق، والتي عُرفت بالاسم الكودي عملية أياكس، في مآسٍ لا حصر لها لإيران، وقد ساهمت أيضًا في نشأة الإرهاب المضاد للولايات المتحدة. وأخيرًا تسببت في إضعاف أمن الولايات المتحدة. وتعتبر تلك الحقبة من أوضح الأمثلة تجسيدًا لمفهوم «الضربة المرتدة» في تاريخ القرن العشرين. واليوم، حيث يزداد الخطاب المضاد لإيران في واشنطن عنفًا وحدَّة، يجب أن يدرك الأمريكيون على وجه السرعة مدى خطورة الهجوم الأخير الذي شنته الولايات المتحدة على إيران. وقد يتعين عليهم أيضًا التفكير في المسئولية الأخلاقية التي تتحملها الولايات المتحدة نحو إيران على إثر ذلك التاريخ المؤلم.
لقد أظهر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون قدرة على تفهُّم إعادة توازن القوى العالمي عن طريق تجاهل ربع قرن من العداء الأمريكي المرير تجاه الصين. وأدت تلك المغامرة إلى تغيير مجرى التاريخ. واليوم يهتف العالم مطالبًا بقائد أمريكي بمثل تلك الجرأة يمكنه تصور علاقة بين إيران والولايات المتحدة تختلف عن تلك التي نشأت بين البلدين منذ عام ١٩٧٩.