مساء الخير سيد روزفلت
كانت طهران تغط في نوم عميق عندما انطلقت قافلة سيارات غريبة في الظلام قبيل منتصف الليل، وذلك في الخامس عشر من أغسطس عام ١٩٥٣. ففي المقدمة انطلقت سيارة مصفحة تحمل شارات عسكرية. وخلفها سيارتان من طراز جيب وشاحنات عسكرية عديدة محملة بالجنود. لقد كان الجو شديد الحرارة في ذلك اليوم. ولكن حدة القيظ هدأت بقدوم الليل. وكان الهلال بازغًا في الأفق. كانت تلك الليلة هي المثلى لإسقاط الحكومة.
جلس العقيد نعمت الله نصيري قائد الحرس الملكي في السيارة المصفحة شديد الثقة. فقد حمل في جيبه مرسومًا من شاه إيران بإقالة رئيس الوزراء محمد مصدق. وكان في طريقه لتقديم ذلك المرسوم لمصدق والقبض عليه إذا لزم الأمر.
وقد افترض عملاء المخابرات الأمريكيون والبريطانيون الذين خططوا لذلك الانقلاب أن مصدق سوف يستدعي الجيش في الحال من أجل إخماده. فرتبوا الأمر على ألا يرد عليه أحد عندما يتصل بالجيش. وكان على العقيد نصيري أن يتوقف أولًا عند منزل رئيس أركان الجيش ويقبض عليه، ثم ينطلق لتوصيل ذلك المرسوم المصيري.
وقد فعل العقيد تمامًا كما طُلب منه، ولكنه عندما بلغ وجهته الأولى وجد ما لم يتوقعه. فمع أن الوقت متأخر، لم يكن رئيس الأركان الجنرال تقي رياحي موجودًا في منزله. لم يكن هناك أحد في المنزل على الإطلاق. لا خدم ولا حرس.
ربما تعتقد أن العقيد نصيري قد شعر بوجود شيء ما خطأ، ولكن ذلك لم يحدث. بل ركب سيارته المصفحة مرة أخرى وأمر السائق بالانطلاق نحو الهدف الرئيسي؛ منزل رئيس الوزراء. وانطلقتْ معه آمالُ اثنين من أكبر أجهزة المخابرات في العالم.
لم يكن العقيد نصيري من الحماقة بحيث يقوم بتلك المهمة الجريئة من تلقاء نفسه. لقد كان المرسوم الذي يحمله مشكوكًا في صحته القانونية، حيث إنه في جمهورية إيران الديمقراطية لا يمكن تعيين رؤساء الوزارة أو إقالتهم إلا بموافقة البرلمان. ولكن تلك الليلة كانت نتاج أشهر عديدة من التخطيط الذي قامت به المخابرات الأمريكية والبريطانية. وهذا الانقلاب الذي خططوا له كان بناء على أوامر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل.
عام ١٩٥٣ كانت الولايات المتحدة لا تزال كيانًا جديدًا بالنسبة إلى إيران، وكان العديد من الإيرانيين يظنون أن الولايات المتحدة صديق يدعم الكيان الديمقراطي الهش الذي كافحت إيران لمدة نصف قرن من أجل بنائه. وكانت إيران تخشى إنجلترا، لا الولايات المتحدة، بوصفها القوة الاستعمارية الغاشمة التي تستغلها.
ومنذ الأعوام الأولى من القرن العشرين احتكرت شركة بريطانية تابعة للحكومة البريطانية إنتاج النفط الإيراني وبيعه. وقد لعبت الثروة التي تدفقت من الأراضي الإيرانية دورًا حيويًّا في الإبقاء على إنجلترا القوة العظمى في العالم، وعاش معظم الإيرانيين في فقر مدقع. ورزحوا تحت وطأة الظلم. واستمر الوضع هكذا حتى عام ١٩٥١ عندما لجئوا إلى مصدق الذي جسد غضبهم من شركة النفط البريطانية الإيرانية. وأخذ على عاتقه أن يطرد تلك الشركة من إيران ويستعيد احتياطي البلاد الهائل من النفط ويحرر إيران من الخضوع للسلطة الأجنبية.
وقد نفذ مصدق وعده بحماس منقطع النظير. فوسط هتاف الجماهير أمَّم الشركة البريطانية الإيرانية، وهي أعلى الشركات البريطانية ربحًا في العالم، وخلال فترة قصيرة استولى الإيرانيون على معامل التكرير الضخمة التابعة للشركة في عبدان التي تقع على الخليج العربي.
وهكذا اجتاحت إيران حمَّى الوطنية، وأصبح مصدق بطلًا قوميًّا. وأغضب ذلك الإنجليز الذين اتهموا مصدق بالاستيلاء على ممتلكاتهم. فطالبوا أولًا بمحاكمته في محكمة العدل الدولية ومعاقبته بواسطة الأمم المتحدة، ثم أرسلوا سفنًا حربية إلى الخليج العربي، وأخيرًا فرضوا حظرًا تجاريًّا على إيران، مما أدى إلى تحطيم الاقتصاد الإيراني. وعلى الرغم من تلك الحملة كان العديد من الإيرانيين في قمة الابتهاج بالجرأة التي تمتع بها مصدق. وهذا أيضًا ما كان يشعر به القادة المناهضون للاستعمار في آسيا وأفريقيا.
ولم يتأثر مصدق مطلقًا بالحملة البريطانية ضده. كتبت إحدى الصحف الأوروبية أن مصدق «يفضل أن يحترق بنار النفط الإيراني عن أن يتنازل للإنجليز». ولفترةٍ ظل الإنجليز يفكرون في إرسال جيش مسلح لاستعادة حقول البترول ومعامل التكرير، ولكنهم تخلوا عن تلك الفكرة عندما رفض الرئيس هاري ترومان دعمها. ولم يتبقَّ سوى خيارين: ترك مصدق في السلطة أو تنظيم انقلاب لخلعه. ولم يواجه رئيس الوزراء البريطاني تشرشل، وهو ربيب الإمبريالية، أي مشكلة في تفضيل خيار الانقلاب.
بدأ العملاء البريطانيون في التآمر للإطاحة بمصدق بعد تأميمه شركة النفط بفترة وجيزة. وكانوا شديدي الحماس والعنف بشكل أضرَّ بهم. وعندما علم مصدق بتآمرهم أغلق السفارة البريطانية في أكتوبر ١٩٥٢، واضطر جميع الدبلوماسيين البريطانيين في إيران — وقد شمل هذا العملاء السريين الذين يعملون تحت غطاء دبلوماسي — إلى الرحيل. ولم يبقَ أحد كي ينظم الانقلاب.
وفي الحال طلب البريطانيون المساعدة من الرئيس ترومان. ولكنه كان في أعماقه متعاطفًا مع الحركات القومية من أمثال الحركة التي قادها مصدق، ويحتقر الإمبريالية من الطراز القديم مجسدة في مديري الشركة البريطانية الإيرانية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المخابرات المركزية الأمريكية لم تطِح أبدًا بأي حكومة من قبل، ولم يرغب ترومان في أن تكون له السابقة.
ولكن الموقف الأمريكي حيال الانقلاب في إيران تغير تمامًا بعد انتخاب دوايت أيزنهاور رئيسًا في نوفمبر عام ١٩٥٢. ففي غضون بضعة أيام من الانتخابات قدِم كريستوفر مونتاجيو وودهاوس أحد كبار عملاء المخابرات البريطانية إلى واشنطن كي يلتقي كبار مسئولي المخابرات المركزية ووزارة الخارجية الأمريكية. وقرر وودهاوس بذكاء ألا يلجأ إلى الحجة البريطانية التقليدية، وهي أن مصدق يجب أن يرحل لأنه أمم الممتلكات البريطانية. فتلك الحجة لم تكن تلقى قبولًا في واشنطن. وكان وودهاوس يعلم جيدًا ما الذي يثير حماسهم.
كتب وودهاوس في مرحلة لاحقة عن ذلك الأمر قائلًا: «لم أكن أرغب في أن أُتهم بمحاولة استغلال الأمريكيين لمصلحة البريطانيين، لذا فقد قررت أن أؤكد على الخطر الشيوعي الذي تمثله إيران بدلًا من حاجتنا إلى استعادة السيطرة على صناعة النفط.»
لقد أُعد هذا الطلب بحيث يحفز الشقيقين اللذين سوف يوجهان السياسة الخارجية الأمريكية بعد تنصيب أيزنهاور رئيسًا؛ وهما جون فوستر داليس وزير الخارجية المقبل وألان داليس مدير المخابرات المركزية الأمريكية المقبل؛ اللذين كانا من أشرس مقاتلي الحرب الباردة. وكانا يريان العالم ساحة معركة أيديولوجية، وينظران إلى كل صراع محلي من منظور الصراع الأكبر بين الشرق والغرب. ومن وجهة نظرهما، فإن أي دولة لا ترتبط بتحالف صريح مع الولايات المتحدة تعتبر عدوًّا محتملًا. وقد اعتبرا إيران تحديدًا عدوًّا خطرًا.
كانت إيران تتمتع بثروة نفطية هائلة، ولها حدود ممتدة مع الاتحاد السوفييتي، وبها حزب شيوعي نشط ورئيس وزراء يؤمن بالقومية. وكان الأخوان داليس يعتقدان أن إيران مهددة بالوقوع فريسة للشيوعية قريبًا. وكانت فكرة وجود «صين أخرى» تثير الرعب لديهم. ولذلك عندما قدم البريطانيون اقتراحهم للإطاحة بمصدق واستبدال رئيس وزراء موالٍ للغرب به، أبدى الأمريكيون اهتمامهم على الفور.
وفور تولي الرئيس أيزنهاور الحكم في العشرين من يناير عام ١٩٥٣، أبلغ الأخوان داليس نظيريهما البريطانيَّين باستعدادهما للتحرك من أجل الإطاحة بمصدق. وأطلقا على ذلك الانقلاب الاسم الكودي عملية أياكس، بلغة المخابرات الأمريكية. واختارا لإدارة تلك المهمة أحد مسئولي المخابرات المركزية الأمريكية الذين يتمتعون بخبرة كبيرة في شئون الشرق الأوسط، وهو كيرمت روزفلت حفيد الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت.
وعلى غرار بقية أفراد عائلته الشهيرة، كان كيرمت روزفلت مولعًا باتخاذ إجراءات مباشرة، وهو معروف بالحسم في أوقات الأزمات. كان يبلغ من العمر سبعة وثلاثين عامًا، ويرأس في ذلك الوقت إدارة الشرق الأدنى وآسيا بالمخابرات المركزية الأمريكية، وكان أستاذًا مشهودًا له بالبراعة في عمله السري. وقد وصفه العميل الروسي كيم فيلبي بالأمريكي النموذجي الهادئ، بالإضافة إلى كونه «رجلًا لطيفًا حلو المعشر من شرق الولايات المتحدة ذا علاقات اجتماعية مثالية، مهذبًا أكثر من كونه مثقفًا، شديد التواضع سواء أكان ضيفًا أم مضيفًا. وكان له زوجة رائعة. وفي الواقع فإنه آخر شخص يمكن أن تتخيله غارقًا حتى النخاع في الحيل القذرة».
وفي تلك الأيام كان عملاء المخابرات المركزية الأمريكية يعتنقون نوعًا من التصورات المثالية، حيث يعتقدون أنهم يقومون بالأعمال القذرة اللازمة من أجل تحقيق الحرية. والكثير منهم يمزجون بين روح المفكر والمغامر. ولكن لم يمزج أحدهم بين هاتين الصفتين مثلما فعل كيرمت روزفلت.
تذكرت ما كتبه والدي حول وصوله إلى أفريقيا مع والده ثيودور روزفلت عام ١٩٠٩ على متن رحلة: «لقد كانت مغامرة رائعة، وكان العالم بأكمله صغيرًا.» وفي تلك اللحظة شعرت بما كان يشعر به آنذاك. اضطربت أعصابي وحلَّقت روحي عاليًا ونحن نتحرك في الطريق الجبلي. وفي التاسع عشر من يوليو عام ١٩٥٣، كان مسئول الجمارك والهجرة الذي قابلنا في مدينة خانقين شديد التبلد والغباء وشِبه أميٍّ. وفي تلك الأيام كانت جوازات السفر الأمريكية تتضمن وصفًا مختصرًا لأي علامات مميزة لدى حاملها، وليس كما هي الحال الآن. وبمساعدةٍ وتشجيع مني كتب الحارس اسمي بصعوبة بالغة كالتالي «السيد ذو الندبة على الناحية اليمنى من الجبهة». وقد شعرت أن ذلك فأل حسن.
قضى روزفلت أسبوعين في طهران يدير أعماله من المقر الذي استأجره له أحد العملاء الأمريكيين. وقد أصبحت العقود التي قضيت في المكائد البريطانية في إيران، بالإضافة إلى تدخل المخابرات المركزية الأمريكية حديثًا، مصدر قوة له في ميدان المعركة. ومن ضمن مصادر القوة التي تمتع بها أيضًا حفنة من العملاء الإيرانيين ذوي الخبرة وسَعَة الحيلة الذين قضوا أعوامًا في بناء شبكة سرية من السياسيين وضباط الجيش ورجال الدين ومحرري الأخبار وعصابات الشوارع المؤيدين لهم. وكانت المخابرات المركزية الأمريكية تدفع لهؤلاء العملاء عشرات الآلاف من الدولارات الأمريكية شهريًّا، واستحقوا كل سنت منها. وخلال ربيع وصيف عام ١٩٥٣، لم يمر يوم دون أن يوجه أحد الملالي أو المعلقين على الأخبار أو السياسيين الذين تدعمهم المخابرات المركزية الأمريكية النقد إلى مصدق. وقد رفض رئيس الوزراء الذي يحترم حرية الصحافة منع تلك الحملة الموجهة ضده.
لم يكن العملاء الإيرانيون الذين يأتون إلى فيلَّا روزفلت يعرفون سوى اسمه المستعار جيمس لوكريدج. وبمرور الوقت نما بينهم نوع من الصداقة وبدأ بعض الإيرانيين ينادونه باسم «جيم». وهو ما كان مثار تندُّر له، وكانت الأوقات الوحيدة التي يكاد يفضح فيها سره هي أثناء لعب التنس الذي كان يمارسه بانتظام في السفارة التركية وفي مقر المعهد الفرنسي. فعندما يخطئ في إحدى الرميات يلعن نفسه قائلًا: «يا لك من غبي يا روزفلت!» وقد سئل أكثر من مرة عن سبب تلك العادة. فكان يجيب قائلًا إنه جمهوريٌّ متحمس، ولذلك فهو يكره فرانكلين دي روزفلت حتى إنه يستخدم اسمه في السباب.
وقد تضمنت الخطة الموضوعة لعملية أياكس شن حملة نفسية مكثفة ضد مصدق، كانت المخابرات المركزية الأمريكية قد بدأتها بالفعل، وتلاها إعلان عن طرد الشاه له من منصبه. وعلى الجماعات والوحدات العسكرية التي حصل قادتها على مرتبات من المخابرات المركزية الأمريكية أن يقضوا على أي محاولة للمقاومة من جانب مصدق. ويتلو ذلك الإعلان عن اختيار الشاه للجنرال فضل الله زاهدي — وهو ضابط متقاعد حصل على ما يزيد عن مائة ألف دولار أمريكي من المخابرات المركزية الأمريكية — رئيسًا جديدًا للوزراء.
ومع حلول شهر أغسطس كانت إيران تضطرم بنار الفتنة. حيث نظم الغوغاء الذين يعملون لحساب المخابرات المركزية الأمريكية احتجاجات ضد مصدق ومسيرات في الشوارع حاملين صور الشاه ومرددين الشعارات الملكية. وقدَّم العملاء الأجانب رشوة لأعضاء البرلمان وكل الأشخاص الآخرين الذين رأوهم ذوي نفع في محاولة الانقلاب المقبلة.
وصل هجوم الصحافة على مصدق إلى مستويات غير مسبوقة من الحدة والعنف. فقد اتُّهم في المقالات الصحفية بامتلاكه ميولًا شيوعية ومخططات ضد مصلحة العرش، واتُّهم أيضًا بانحداره من أصول يهودية وبتعاطفه سرًّا مع البريطانيين. ولم يعلم مصدق أن معظم ذلك النقد موجَّه من المخابرات المركزية الأمريكية أو كتبه محترفو الدعاية في واشنطن. وقدر ريتشارد كوتام أحد محترفي الدعاية أن أربعة أخماس الصحف في طهران كانت واقعة تحت تأثير المخابرات المركزية الأمريكية.
وقد قال كوتام بعد ذلك بأعوام عديدة: «كان أي مقال أكتبه ينشر في اليوم التالي مباشرة في الصحف الإيرانية، وهو ما كان يعطيني شعورًا بالقوة. فقد رتبوا للأمر بحيث يظهر مصدق في صورة المتآمر الشيوعي المتعصب.»
•••
وحين اكتسبت الخطة قوة قابل روزفلت أكثر العقبات خطورة في طريقه: محمد رضا شاه. فالعاهل الذي يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا والشاه الثاني في أسرة بهلوي ذو طبيعة تتميز بالجبن والتردد، ورفض بإصرار شديد أن يتورط في تلك الخطة الجريئة. وقد وصفه أحد الدبلوماسيين البريطانيين قائلًا: «إنه يكره اتخاذ القرارات ولا يمكن الاعتماد عليه للالتزام بها بعد اتخاذها. فهو لا يمتلك شجاعة أخلاقية ويستسلم بسهولة للخوف.»
ولم تكن الصفات الشخصية فحسب هي ما يقيد الشاه. فمصدق أكثر الشخصيات شعبية في تاريخ إيران الحديث، ومع أن الحملة البريطانية للتدمير والتخريب الاقتصادي قد أضعفته فإنه كان في ذلك الوقت لا يزال محبوبًا على نطاق واسع. ولم يكن مؤكدًا هل يملك الشاه السلطة القانونية اللازمة لإقالته. ومن الممكن أن تعطي تلك الخطة نتائج عكسية وتعرِّض حياة الشاه للخطر، بل تعرض النظام الملكي ذاته أيضًا للخطر.
ولكنَّ أيًّا من ذلك لم يثبط من عزم روزفلت. ومن أجل تنفيذ الانقلاب كان يحتاج إلى قرارات موقَّعة من الشاه بطرد مصدق ووضع الجنرال زاهدي بدلًا منه. ولم يشك روزفلت أبدًا في إمكانية الحصول على تلك القرارات. فقد كانت معركته مع الشاه غير متكافئة منذ البداية. فروزفلت ذكي متمرس، وتوجد قوى عالمية هائلة تسانده. والشاه ضعيف وساذج ووحيد.
تمثلت مناورة روزفلت الأولى في إرسال مندوبين قد يكون لهم تأثير خاص على الشاه. فأرسل إليه شقيقته التوءم الأميرة أشرف كي تزوره وتقوي من عزيمته؛ كانت الأميرة على النقيض من شقيقها، فبقدر ما كان هو متبلد الحس كسولًا كانت هي متوقدة الذهن حادة الطباع. والتقريع الذي توجِّهه له لا يصدق، حيث طالبته ذات مرة، بحضور وفد من الدبلوماسيين الأجانب، أن يصبح رجلًا وإلا فسوف تبوح للجميع بجبنه الشديد. وكانت الأميرة تكره مصدق لأنه كان عدوًّا للسلطة الملكية. وأصبح هجومها على حكومته حادًّا حتى إن الشاه شعر أنه من الأفضل إرسالها إلى خارج البلاد. ومن منفى الأميرة الذهبي في أوروبا كانت تشاهد الأحداث التي تجري في موطنها بحماس شديد.
كانت الأميرة أشرف تستمتع بالحياة في نوادي القمار والملاهي الليلية بفرنسا عندما اتصل بها أسد الله راشيديان، وهو أحد أهم العملاء الإيرانيين الذين يعملون لحساب روزفلت. ولكنها لم ترحب بالدعوة، فزارها في اليوم التالي وفد من العملاء البريطانيين والأمريكيين كي يكرروا عليها الدعوة بشكل أقوى. وكان قائد الوفد — وهو أحد كبار العملاء البريطانيين ويدعى نورمان داربيشاير — يتمتع ببصيرة ثاقبة، حيث أحضر معه معطفًا من الفراء وحقيبة من النقود هدايا للأميرة. وذكر داربيشاير لاحقًا أن الأميرة عندما رأت تلك الإغراءات «لمعت عيناها» وانهارت مقاومتها ووافقت على السفر إلى طهران، ودخلت البلاد باسم عائلة زوجها (مدام شفيق). وفي بادئ الأمر رفض شقيقها استقبالها، ولكن بعد أن ضغط عليه بشدة زملاء على صلة بالمخابرات المركزية الأمريكية لان قليلًا. وتم لقاء الأخ والأخت في مساء التاسع والعشرين من يوليو. وكان اللقاء حافلًا بالتوتر. وأخفقت في إقناعه بإصدار تلك القرارات المصيرية. ومما زاد الأمر سوءًا أن أنباء وجودها تسربت وأدت إلى انطلاق عاصفة من الاحتجاج. وابتهج الجميع بعودتها إلى أوروبا سريعًا.
ذهب روزفلت بعد ذلك إلى الجنرال إتش نورمان شوارتسكوف الذي قضى معظم عقد الأربعينيات من القرن العشرين في إيران يقود فوجًا عسكريًّا، والذي كان الشاه يشعر بالامتنان له. وقد أعطت المخابرات المركزية الأمريكية الجنرال شوارتسكوف «مهمة تغطية» الاجتماعات والمعاينات في لبنان وباكستان ومصر بحيث تفسَّر زيارته لإيران بأنها مجرد محطة توقف قصيرة. وطبقًا لإحدى الروايات فقد وصل إلى هناك حاملًا «حقيبتين كبيرتين» ملئتا بملايين الدولارات الأمريكية نقدًا. فقابل روزفلت أولًا ثم المسئولين الإيرانيين عن العملية الذين وزع أموالًا كثيرة عليهم. وفي الأول من أغسطس زار الشاه في قصر سعد آباد.
وكانت تلك المقابلة غريبة. ففي بداية الأمر رفض الشاه أن يوجه أي كلمة إلى ضيفه، مشيرًا بيده إلى احتمال وجود أجهزة تنصت. ثم قاد شوارتسكوف إلى قاعة رقص كبيرة وسحب منضدة إلى وسط القاعة وجلس فوقها وطلب من الجنرال أن ينضم إليه. ثم همس له بأنه لم يقرر بعدُ هل سيوقع على القرارات التي يريدها روزفلت أم لا. فهو يشك في استجابة الجيش لأي قرار يصدره، ولم يكن يرغب في أن ينضم إلى الطرف الخاسر في مثل تلك العملية الخطرة.
شعر شوارتسكوف وهو يستمع أن مقاومة الشاه بدأت تضعف. وكان زائر واحد آخر يكفي لتحقيق النتيجة المطلوبة، وذلك الزائر يجب أن يكون روزفلت نفسه. كان ذلك الاقتراح خطرًا. فإذا شوهد روزفلت في القصر قد تتسرب أنباء وجوده في إيران وتعرِّض العملية للخطر. ولكن شوارتسكوف أخبره أنه لا يوجد بديل.
كان روزفلت يتوقع تلك النصيحة. وكتب عن ذلك الأمر لاحقًا: «كنت متأكدًا منذ البداية أن اللقاء الشخصي سوف يكون ضروريًّا. فيمكننا أنا والشاه أن نحل المشكلات العديدة التي تواجهنا إذا جلسنا على انفراد في مكان آمن. ولا يمكن القيام بذلك إلا في لقاء شخصي. وعلى الأغلب يجب أن نتقابل مرات عديدة وليس مرة واحدة. لذلك كلما عجلنا بذلك اللقاء كان أفضل.»
أرسل روزفلت العميل الثقة أسد الله راشيديان لمقابلة الشاه في الثاني من أغسطس كي يمهد الطريق لزيارته. وكانت الرسالة التي كلف راشيديان بتوصيلها بسيطة: إن البريطانيين والأمريكيين يخططون لانقلاب ولن يثنيهم عنه شيء. وفي تلك الظروف، كما لاحظ راشيديان بدهاء، لم يكن الشاه يملك خيارًا سوى التعاون معهم، وهز الشاه رأسه في صمت موافقًا.
لكن روزفلت وحده هو الذي يملك إبرام الاتفاق. فطلب من أحد العملاء في البلاط الملكي الذي كان يعرف باسم روزينكرانتز أن يخبر الشاه بأن «هناك رجلًا أمريكيًّا مفوضًا بالحديث نيابة عن أيزنهاور وتشرشل يطلب مقابلة خاصة». وفي خلال بضع ساعات وافق الشاه على العرض. وأمر بإرسال سيارة إلى فيلَّا روزفلت في ذلك المساء عند منتصف الليل.
وبعد تسلمه للرسالة فكر روزفلت قائلًا: «ساعتان من الانتظار! لأعد ثيابي إذن. لم تكن تلك الثياب صالحة لمقابلة ملكية، ولكنها على الأقل كانت تصلح في تلك الظروف الغريبة. ارتديت قميصًا غامق اللون وسروالًا رماديًّا وحذاء أسود مريحًا. لم تكن تلك الثياب في قمة الأناقة، ولكنها كانت تؤدي الغرض ولا تلفت الأنظار.»
انتظر روزفلت — الذي أجرى حوارًا مع الشاه منذ ستة أعوام أثناء قيامه ببحث لتأليف كتاب بعنوان «العرب والنفط والتاريخ» — قدوم الميعاد وبصحبته مجموعة من العملاء. وفضل ألا يتناول الشراب، ولكن رفاقه لم يكن لديهم مثل تلك التحفظات. وعند منتصف الليل خرج من البوابة الأمامية. وكانت سيارة بانتظاره. فركب في المقعد الخلفي.
لم يتحرك أي شيء في الطرقات بينما كان روزفلت يتجه نحو القصر الفخم. وعندما كانت السيارة تصعد التل الذي يقع فوقه القصر قرر أنه يجب أن يختفي عن الأنظار. وكان مضيفوه قد تركوا له غطاء ثقيلًا على مقعد السيارة، واستفاد منه خير استفادة، فرقد على الأرض وتدثر به.
لم تكن هناك أي مشكلة في عبور بوابة الحراسة، بل مجرد تحية روتينية. وتابعت السيارة سيرها للحظات ثم توقفت قبيل السلم الرخامي العريض للقصر. وهنا رفع روزفلت الغطاء عنه وقام واقفًا. فرأى شبحًا ضئيلًا يقترب نحوه. أدرك في الحال أنه الشاه نفسه، الذي اقترب من السيارة وفتح الباب ودلف إليها. وهنا تسلل السائق خلسة إلى مكان آخر.
«مساء الخير سيد روزفلت» كانت تلك أول كلمة تفوه بها الشاه مادًّا يده للمصافحة. وتابع قائلًا: «لم أكن أتوقع مجيئك، ولكنه حدث سار.»
أخبر روزفلت الشاه بأنه موجود في إيران بصفته ممثلًا لأجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية، وأن الشاه يمكنه التأكد من ذلك عن طريق كلمة سر سوف تذاع في البي بي سي في الليلة التالية. فقد رتب تشرشل الأمر بحيث تختم إذاعة البي بي سي إرسالها بعبارة «الساعة الآن منتصف الليل تمامًا» بدلًا من «الساعة الآن منتصف الليل» كالمعتاد. ولم يكن الشاه في حاجة لمثل تلك التأكيدات. فالرجلان يفهم أحدهما الآخر.
ولكن برغم ذلك كان الشاه مترددًا في الاشتراك في تلك الخطة. أخبر روزفلت أنه ليس مغامرًا، ولا يمكنه تحمل نتائج المغامرة. وهنا زادت نبرة صوت روزفلت حدة. وأخبر الشاه أن ترك مصدق في السلطة سوف يؤدي إلى «أن تصبح إيران دولة شيوعية أو نسخة أخرى من كوريا»، وهو ما لم يكن القادة في الغرب مستعدين لقبوله. ولتجنب حدوث ذلك فقد اتفقوا على خطة للإطاحة بمصدق، وفي الوقت ذاته زيادة السلطة الممنوحة للشاه. وعليه أن يوافق على تنفيذ تلك الخطة في غضون بضعة أيام، وإلا فسوف يغادر روزفلت البلاد ويفكر في «خطة بديلة».
لم يعطِ الشاه إجابة مباشرة. ولكنه اقترح أن يتقابلا مرة أخرى في اليوم التالي. وقبل أن يترجل الشاه من السيارة ويدلف إلى الظلام، ألقى نظرة أخرى على روزفلت وقال: «يسعدني أن أرحب بك مرة أخرى في بلادي.»
ومنذ تلك الليلة ظل روزفلت يقابل الشاه كل يوم تقريبًا عند منتصف الليل، ويدخل القصر راكبًا نفس السيارة على المقعد الخلفي ومتدثرًا بنفس الغطاء. وقبل كل اجتماع وبعده كان يتشاور مع العملاء الإيرانيين. وعندما شكَّت الشرطة الإيرانية في الفيلَّا التي كان يقيم بها توقف عن العمل هناك وتوصَّل إلى طريقة أخرى لعقد اجتماعاته. فاشترى سيارة أجرة إيرانية، وفي المواعيد المتفق عليها يقودها إلى مكان هادئ رافعًا لافتة «تحت الطلب». ثم يترجل ويأخذ في السير جيئة وذهابًا حتى يأتي أحد العملاء شديدي الحماس للعملية ويصطحبه في سيارة من طراز كرايزلر أو بويك. حيث يضعون خططًا يومية أثناء تجوالهم في ضواحي المدينة الجبلية.
وأثناء محادثاتهما أخبر روزفلت الشاه أنه يمتلك تحت تصرفه «ما يوازي مليون دولار أمريكي تقريبًا»، بالإضافة إلى العديد من «المنظمين ذوي الكفاءة والخبرة» الذين يمكنهم «توزيع المنشورات وتنظيم الجماهير وتعقب المعارضة». وقد وصف عملية أياكس بأنها مبنية على «أربعة محاور للهجوم». أولًا: شن حملة في المساجد والصحف والشوارع تقلل من شعبية مصدق. ثانيًا: توصيل الضباط الملكيين قرار طرده. ثالثًا: يمسك الغوغاء بزمام الأمور في الشارع. رابعًا: يظهر الجنرال زاهدي منتصرًا ويقبل ترشيح الشاه له في منصب رئيس الوزراء.
كانت تلك الخطة جذابة، ولكنها لم تكن مقنعة بالدرجة الكافية. وظل الشاه مترددًا. وتحوَّل مزاجه إلى ما أطلق عليه روزفلت «التردد العنيد». ولكن كان من المستحيل الاستمرار في ذلك الأمر دون معاونة الشاه كما أخبر بذلك روزفلت رؤساءه في المخابرات المركزية الأمريكية في برقية بعث بها إليهم، ولذلك فقد استمر روزفلت في الضغط على الشاه. وأخيرًا، كان من المحتم أن تنهار مقاومة الشاه، فوافق على توقيع الفرمانات، ولكن بشرط أن يسمح له بمغادرة طهران إلى مكان آمن بعدها مباشرة.
لم يُعرف محمد رضا شاه بالشجاعة قط، ولذلك لم يُفاجأ روزفلت بذلك الاحتياط الأخير. وقرر الرجلان أن أكثر الأماكن أمانًا كي يختبئ فيها الشاه هو كوخ صيد تمتلكه العائلة المالكة بالقرب من رامسار على ساحل بحر قزوين. وكان هناك مطار قريب منه، وهو ما وجده الشاه مطمئنًا.
وقال الشاه بحدة: «إذا حدثت أي مشكلات فسوف نرحل أنا والإمبراطورة بالطائرة إلى بغداد.»
تقابل الرجلان للمرة الأخيرة قبيل فجر التاسع من أغسطس. وقبل أن يودع روزفلت الشاه شعر أنه من اللائق أن يشكره على اتخاذه قرارًا بالتعاون، رغم أنه اتخذ ذلك القرار على مضض. كانت تلك اللحظة تاريخية، ولذا فقد كانت تتطلب قولًا غير عادي. وفي نهاية الأمر وجد روزفلت طريقة رائعة يصوغ بها رسالته. حيث توصل إلى كذبة صغيرة يجمِّل بها الموقف.
فصاح قائلًا: «مولاي، لقد تسلمت برقية هذا المساء من واشنطن. طلب مني فيها الرئيس أيزنهاور أن أبلغك بما يأتي: أتمنى لجلالتكم التوفيق. وإذا كان بهلوي وروزفلت لا يمكنهم حل تلك المشكلة الصغيرة معًا، فلا يوجد أمل في أي شيء. وإنني على ثقة تامة من قدرتك على تحقيق هذا الأمر.»
تم الاتفاق على إحضار ساعي المخابرات المركزية الأمريكية الفرمانات المهمة إلى القصر في الصباح الباكر. على أن يوقعها الشاه ويرحل في الحال إلى مخبئه في رامسار. كان كل شيء على ما يرام.
وعندما عاد روزفلت إلى الفيلَّا حاملًا تلك الأخبار العظيمة، أقام هو وعملاؤه احتفالًا ضخمًا وأسرفوا في الشراب. ولم يخلد إلى النوم إلا في الخامسة صباحًا. وبعد بضع ساعات استيقظ على أخبار مفزعة. فقد حدث خطأ في اللحظة الأخيرة. حيث وصل الساعي الذي كان من المفترض أن يحصل على توقيعات الشاه إلى القصر متأخرًا. وعندما وصل كان الشاه والملكة قد رحلا.
وسواء أكان ذلك خطأ بسيطًا غير مقصود في التوقيتات أم محاولة من الشاه للهروب من توقيع الفرمانات، فروزفلت صمم على عدم السماح لذلك الأمر بإفساد الخطة. فتلك الفرمانات تلعب دورًا أساسيًّا في الانقلاب الذي خطط له. فلم تكن تمثل ورقة توت من الشرعية فحسب، بل إنها أيضًا قلب الخطة. وإذا لم يكن الشاه في طهران كي يوقعها، يجب أن تُبعث إليه أينما كان.
أدرك روزفلت بسرعة أن الشخص الأفضل الذي يمكن أن يقدم المساعدة في تلك اللحظة هو العقيد نصيري من الحرس الملكي. الذي كان مناصرًا للملكية، ويمكنه العثور على طائرة والإقلاع بها، ويرتبط بعلاقة قوية مع الشاه. تمت الترتيبات بسرعة فائقة، وفي تلك المرة أفلح الأمر. حيث انطلق نصيري إلى رامسار وحصل على توقيع الشاه على الفرمانات، ونظرًا إلى سوء الأحوال الجوية الذي أعاقه عن الإقلاع بالطائرة أرسلها إلى طهران بالسيارة.
قضى روزفلت ورفاقه نهارهم ينتظرون بفارغ الصبر حول حمام السباحة، غير مدركين ما الذي جعل نصيري يتأخر إلى هذا الحد. وعند قدوم الليل بدءوا في التدخين ولعب الورق واحتساء الفودكا. كانت طهران تخضع لحظر تجول بعد التاسعة مساء، ولكن بعد أن تجاوزت الساعة التاسعة كانوا لا يزالون يأملون في ظهور أي أخبار. وكان الليل قد انتصف تقريبًا عندما سمعوا ضجيجًا عند البوابة. فهرعوا إليها، فوجدوا مجموعة صغيرة من الإيرانيين الشُّعث الشعر المتحمسين الذين لم يتعرفوا على معظمهم. ودفع هؤلاء الإيرانيون بلفافة إلى روزفلت فتحها بحذر شديد، فوجد داخلها الفرمانات الموقعة من قبل الشاه.
وبعد أن عانق روزفلت أصدقاءه الجدد فرحًا، فكر في سرعة التحرك على الفور. ولكنه استاء عندما أخبره العملاء أنه ما زال هناك سبب يدعو للتأخير. فالعطلة الأسبوعية التي تشمل يومي الخميس والجمعة في إيران على وشك البدء، ولم يكن الإيرانيون يحبون العمل أثناء العطلات الأسبوعية، فما بالك إذا كان هذا العمل يتمثل في إسقاط حكومة؟ وافق روزفلت على مضض أن يؤجل الانقلاب حتى مساء السبت الموافق الخامس عشر من أغسطس.
كان روزفلت ورفاقه واثقين من نجاح خطتهم، ولكنهم أيضًا كانوا مدركين أن كل ساعة تمر تزيد من احتمال وقوعهم فريسة للخيانة، وهكذا فقد قضوا ثلاثة أيام حول حمام السباحة وهم في معاناة شديدة. وكان يوم السبت هو الأصعب، وذلك لأن لحظة الحقيقة اقتربت جدًّا. وكتب روزفلت لاحقًا أن ذلك اليوم «كان أبطأ يوم مر عليهم من قبل».
في الوقت ذاته بلغت الحرب النفسية ضد مصدق ذروتها. وكانت الصحافة التي وضعت تحت السيطرة تبذل أقصى ما في وسعها للوقوف في وجه مصدق، بينما [حذف] تحت إشراف المحطة كان يطبع مواد تراها المحطة مفيدة. وكان عملاء المخابرات المركزية الأمريكية ينتبهون لتحذير الزعماء الدينيين في طهران عن طريق نشر الدعاية السوداء باسم حزب تودة [الشيوعي]، مع تهديد هؤلاء الزعماء بالعقاب الشديد في حالة معارضتهم لمصدق. هذا بالإضافة إلى المكالمات الهاتفية التهديدية باسم حزب تودة والقصف المزيف لمنازل هؤلاء الزعماء.
وقد انتشر خبر دعم الشاه للعمليات المباشرة انتشار النار في الهشيم من خلال مؤامرة العقيد التي تدعمها المحطة. وقد رأى زاهدي العميل الرئيس للمحطة العقيد [حذف] وعيَّنه في منصب ضابط الاتصال مع الأمريكيين، واختاره أيضًا كي يشرف على تخطيط الفريق للعملية …
وفي الرابع عشر من أغسطس أرسلت المحطة برقية تفيد بأنه عند الانتهاء من العملية سوف تكون خزانة الدولة الفارغة في حاجة إلى تمويل عاجل، واقترحت مبلغ خمسة ملايين دولار أمريكي، وطلبت من المخابرات المركزية الأمريكية توفير ذلك المبلغ خلال ساعات من انتهاء العملية.
وحسب ما ورد في تقرير المخابرات المركزية الأمريكية: «لم يكن هناك شيء يمكن للمقر فعله سوى انتظار بدء الأحداث.» وعند غروب شمس الخامس عشر من أغسطس على طهران استقل روزفلت سيارة الأجرة ورفع لافتة «تحت الطلب» وانطلق إلى منزل آمن قريب اجتمع فيه العملاء في انتظار أخبار النصر. وبينما كئوس الفودكا تدور، أخذوا يغنون على ألحان عروض برودواي. كان لحنهم المفضل «أيها الحظ فلتكن معنا الليلة» من المسرحية الموسيقية «الرجال والدمى»، وقد حرفوها لتصبح النشيد الرسمي لعملية أياكس:
هم يسمونك سيدة الحظ، لكن ثمة مجال للشك؛ فأحيانًا تكون أبعد ما يكون عن السيدات الفضليات. ها أنتِ تواعدنني والأمور تجري على ما يرام، ثم قبل أن ينقضي المساء، ألقى منك أسوأ المعاملات. ربما تنسين أخلاقك، ربما ترفضين البقاء. ولا يكون أمامي سوى اللجوء إلى الصلاة؛ تجسد أيها الحظ في صورة سيدة، الليلة.
عاد روزفلت إلى السفارة الأمريكية متأخرًا في ذلك المساء، ومر في طريقه على مقر الجنرال رياحي رئيس الأركان. سُرَّ روزفلت بتلك المصادفة. فإذا نجحت خطته فسوف يصبح الجنرال رياحي في السجن خلال بضع ساعات.
كان العقيد نصيري الذي اختاره روزفلت كي ينفذ مهمة القبض على رئيس الوزراء في تلك الليلة هو الرجل المناسب لتلك العملية. فهو يؤمن بأحقية السلطة الملكية في الصدارة ويكره مصدق. وقد أعطته قيادته للحرس الملكي المكون من سبعمائة رجل صلاحية التحكم في موارد كثيرة. وبحصوله على الفرمانات المهمة في وقت حرج تمكن من إثبات جدارته.
ولكن في ليلة الخامس عشر من أغسطس لم يكن نصيري يفكر كما ينبغي. فالساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ليلًا عندما وصل إلى منزل الجنرال رياحي ووجده خاليًا. ومع ذلك ظل مطمئنًا هادئ البال، وطلب من رجاله أن يتقدموا نحو منزل مصدق. ولم يكن يعلم أن قافلة عسكرية أخرى في طريقها إلى هناك. لقد علم الجنرال رياحي بالانقلاب وأرسل قوات لإفساده.
لم يعلم أحد قط هوية من أفشى ذلك الخبر. ولكن الشبهات تدور حول ضابط ينتمي إلى خلية شيوعية سرية. وربما اشترك أكثر من شخص في إفشاء الخبر. ولكن في نهاية الأمر، حدث ما كان روزفلت يخشاه. تسربت أنباء الخطة إلى أشخاص أكثر من اللازم على مدار فترات طويلة. وكان تسرب الخبر محتمًا.
وفي الساعات المربكة التي تلت منتصف الليل كانت طهران تجيش بالخطط والخطط المضادة. لقد علم بعض الضباط المتمردين بالخيانة في وقت مناسب فأوقفوا المهام المكلفين بها. وانطلق آخرون لتنفيذ مهامهم غير عالمين بالخطر المحدق بهم. واستولى أحدهم على مكتب الاتصالات في السوق. وأيقظ آخر وزير الخارجية حسين فاطمي من نومه وأخرجه إلى الشارع حافيًا صارخًا.
كان مستقبل الحكم الدستوري في إيران يعتمد على قافلة الجنود التي تتمكن من الوصول إلى منزل مصدق أولًا. وقبيل الواحدة صباحًا انطلقت القافلة المتمردة في شارع كاخ حتى تجاوزت ركن حشمت دولة ثم توقفت. كان مصدق يقيم مع زوجته في شقة صغيرة تعتبر جزءًا من مجمع سكني كبير امتلكته عائلته لفترة طويلة. كانت البوابة مغلقة. فتقدم العقيد نصيري كي يطلب الإذن بالدخول حاملًا في يده الفرمان الخاص بطرد مصدق من منصبه. وخلفه اصطف عدة طوابير من الجنود.
لقد وصل العقيد نصيري بعد فوات الأوان. فعقب وصوله إلى البوابة بلحظات ظهر العديد من القادة العسكريين المخلصين. واقتادوه إلى سيارة من طراز جيب إلى مقر قيادة الأركان العامة. وهناك اتهمه الجنرال رياحي بالخيانة وجرده من الزي العسكري وحبسه في زنزانة. وأصبح الرجل — الذي من المفترض أن يلقي القبض على مصدق — سجينًا.
لم يكن روزفلت يملك أي وسيلة يعلم بها ما حدث، كان جالسًا في مقر القيادة بالسفارة ينتظر مكالمة من العقيد نصيري. وتحركت الدبابات عدة مرات، لكن الهاتف لم يرن. ازدادت مخاوف روزفلت عمقًا مع بزوغ الفجر. فلم تبدأ إذاعة طهران إرسالها في السادسة صباحًا كالمعتاد. وبعد مرور ساعة دبت فيها الحياة فجأة وبدأت بإذاعة الموسيقى العسكرية، تلاها إعلان بيان رسمي. لم يكن روزفلت يتحدث الفارسية، لكنه توقع الأسوأ عندما سمع اسم مصدق. ثم ظهر مصدق نفسه على الهواء مباشرة معلنًا إخماد محاولة للانقلاب نظمها الشاه بالتعاون مع «عناصر أجنبية».
كان الشاه الذي انكمش مرتعدًا في فيلته المطلة على البحر يستمع هو أيضًا للبيان. وفور أن علم ما حدث أيقظ زوجته وأخبرها أن وقت الهرب قد حان. فأعدا في عجلة حقيبتين صغيرتين وأخذا ما تيسر حمله من الملابس وهرعا إلى طائرتهما الثنائية المحركات. كان الشاه طيارًا متمرسًا، فتولى القيادة وطار إلى بغداد، وعند وصوله هناك أخبر السفير الأمريكي أنه «سوف يبحث عن عمل قريبًا، حيث إنه يعول أسرة كبيرة ولا يملك سوى القليل من الموارد المالية خارج إيران».
وأثناء هروب الشاه أخذت الوحدات العسكرية الموالية للحكومة تنتشر في كل أنحاء طهران. وسرعان ما عادت الحياة في المدينة إلى طبيعتها. حيث ألقي القبض على العديد من المتآمرين واختبأ البعض الآخر، ورصدت مكافأة للقبض على الجنرال زاهدي. واندفع عملاء المخابرات المركزية الأمريكية هاربين إلى السفارة الأمريكية أو المنازل الآمنة. وهللت الجماهير في الشوارع تنشد «النصر للأمة!» و«انتصر مصدق!»
داخل مقر السفارة شعر روزفلت بأنه «على حافة اليأس». ولم يكن لديه خيار سوى إرسال برقية إلى واشنطن يخبرهم فيها بأن الأمور قد ساءت بشدة. وتلقى جون والر مدير مكتب إيران بالمخابرات المركزية الأمريكية تلك البرقية بإحباط شديد. كان والر قلقًا على حياة عملائه، فبعث إلى روزفلت ردًّا عاجلًا. ولكن لا توجد نسخة من ذلك الرد محفوظة حتى الآن. وطبقًا للمعلومات المتداولة في المخابرات المركزية الأمريكية حملت البرقية أمرًا لروزفلت بمغادرة إيران في الحال. لكن والر أعلن بعدها بأعوام أن نص البرقية لم يكن حاسمًا إلى تلك الدرجة. حيث يتذكر أنه كتب فيها «إذا كنت في مأزق فاحضر كي تنجو بحياتك، وإن لم تكن في مأزق فاستمر في أداء واجبك.»
بدا الوضع كئيبًا للمتآمرين. فقدوا عنصر المفاجأة. وأصبح العديد من عملائهم الرئيسيين غير صالحين للعمل. واضطر رئيس وزرائهم المرشح إلى الاختباء. وفر الشاه هاربًا. وبعد أن قضى فاطمي وزير الخارجية عدة ساعات في سجن المتمردين خرج يلقي خطبًا نارية يتهم فيها الشاه بالتعاون مع عملاء أجانب.
هتف فاطمي أمام حشد من الجماهير «أيها الخائن! في اللحظة التي سمعت فيها في إذاعة طهران أن مؤامرتك الأجنبية قد فشلت، لذت بالفرار إلى أقرب دولة توجد بها سفارة بريطانية!»
فشلت عملية أياكس. وأعلنت إذاعة طهران أن الموقف «تحت السيطرة»، وبالفعل بدا الأمر كذلك. وترددت أصداء الصدمة في مقر المخابرات المركزية الأمريكية بواشنطن.
ولكن فجأة عند منتصف المساء تقريبًا بعث روزفلت برقية غير متوقعة على الإطلاق. لقد قرر أن يمكث في طهران وأن يفكر في طعنة أخرى يوجهها لمصدق. كانت المخابرات المركزية الأمريكية قد أرسلته الأمريكية كي يطيح بالحكومة الإيرانية، وهو مصمم على ألا يرحل قبل أن ينفذ ما جاء من أجله.