شمر عن ذراعيك وابدأ العمل
سرت موجة من الحماس في مراكز صنع القرار في لندن عندما أتت أنباء تفيد بانتخاب دوايت أيزنهاور رئيسًا للولايات المتحدة. فقد أصيب الزعماء البريطانيون بكثير من الإحباط على مدار الشهور الماضية في محاولاتهم لإقناع هاري ترومان بالانضمام لحملتهم ضد الحكومة الإيرانية. وكان إصراره على الرفض يثير إحباطهم بشدة، أما الآن فقد تغير المناخ في واشنطن بصورة جذرية. وما كان يبدو مستحيلًا أصبح فجأة يبدو ممكنًا.
على مدار سنوات عديدة تمكنت بريطانيا من جمع شبكة هائلة من العملاء السريين في إيران. وتحت قيادة «مونتي» وودهاوس الذي تولى منصب مدير مقر المخابرات البريطانية في طهران في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، برع هؤلاء العملاء في كل شيء من رشوة السياسيين إلى تنظيم أعمال الشغب. ولكن وودهاوس وغيره من الجواسيس البريطانيين اضطروا إلى مغادرة إيران عندما أغلق رئيس الوزراء مصدق السفارة التي كانوا يعملون من خلالها. ومع ذلك فقد تركوا خلفهم مجموعة لا بأس بها من المخربين.
كان أهم الأشخاص في تلك الشبكة السرية هم الإخوة راشيديان المدهشين. كان والدهم قد كون ثروة من الشحن والأعمال المصرفية والعقارات، ولم يرثوا منه ثروته فحسب بل أيضًا إعجابه الشديد بكل ما هو بريطاني. وبدءًا من أوائل الخمسينيات أخذت المخابرات السرية تدفع لهم عشرة آلاف جنيه إسترليني شهريًّا، أو ما يعادل ٢٨ ألف دولار أمريكي وهو مبلغ في غاية الضخامة طبقًا للمقاييس الإيرانية، كي يحرضوا الإيرانيين في «مجالات مثل القوات المسلحة والمجلس (البرلمان الإيراني)، بالإضافة إلى الزعماء الدينيين والصحفيين وعصابات الشوارع والسياسيين وبعض الشخصيات الأخرى المؤثرة».
كتب أحد المؤرخين عن الإخوة راشيديان: «كان أكبرهم سيف الله مؤلفًا موسيقيًّا وفيلسوفًا، وأكثر إخوته الثلاثة ذكاء. هذا بالإضافة إلى كونه متحدثًا ومضيفًا لبقًا. وكان طالبًا يدرس التاريخ ويفضل الاستشهاد بماكيافيلِّي. وكان أسد الله مسئولًا عن التنظيم وناشطًا سياسيًّا وكاتم سر الشاه، وكان قدرة الله رجل أعمال وصاحب مشروعات.»
انزعج مديرو المخابرات السرية من فكرة تبديد جهود هؤلاء العملاء البارزين في إيران في الوقت الذي كان فيه الكثير من الأعمال العاجلة ينبغي أن تؤدى هناك. وأعطاهم انتخاب أيزنهاور الأمل في أن يواصل الأمريكيون الأمر من حيث اضطروا هم للتوقف. وأعطاهم كيرمت روزفلت المزيد من التشجيع أثناء زيارته للندن. وكانوا شديدي الحماس للاستمرار في مؤامرتهم حتى إنهم لم ينتظروا تولي أيزنهاور السلطة بصورة رسمية. ففي منتصف نوفمبر ١٩٥٢، أي بعد أقل من أسبوعين من الانتخابات، أرسلوا وودهاوس إلى واشنطن.
أكدت أنه حتى لو نجحت مفاوضات التسوية مع مصدق بشأن النزاع على النفط، وهو ما أشك فيه، فلن يستطيع الصمود أمام انقلاب ينظمه حزب تودة في حالة دعمه بواسطة السوفييت. وهكذا يجب أن يرحل مصدق. وكان معي مخطط تمهيدي لتحقيق ذلك الهدف …
اعتمدت الخطة على دمج عنصرين منفصلين، وذلك لأننا كنا نمتلك نوعين مختلفين من الوسائل: منظمة مدنية يديرها الإخوة [راشيديان]، وعدد من زعماء القبائل في الجنوب. وكانت خطتنا تعتمد على تفعيل كليهما في آنٍ واحد. كانت المنظمة المدنية تضم كبار ضباط الجيش والشرطة وعددًا من نواب البرلمان وأعضاء مجلس الشيوخ والملالي والتجار ومحرري الصحف وكبار السياسيين وزعماء الجماهير. وكان على تلك القوات بقيادة الإخوة أن تستولي على مقاليد السلطة في طهران من أجل القبض على مصدق ووزرائه. ويفضل أن يكون ذلك بمساعدة الشاه، ولكن يمكن بدونها إذا لزم الأمر. وفي الوقت ذاته كان على زعماء القبائل أن يستعرضوا قوتهم باتجاه المدن الكبرى في الجنوب …
لقد حصلت على موافقة وزارة الخارجية على قائمة تضم خمسة عشر سياسيًّا نوافق على أي منهم في منصب رئيس الوزراء إذا وافق عليه الأمريكيون. وكانت القائمة تتكون من ثلاث فئات تحمل عناوين مبدئية هي «المجموعة القديمة» و«المجموعة الجديدة» و«الوسط». وكانت الفئة الثالثة تتضمن الجنرال فضل الله زاهدي الذي سرعان ما برز اسمه في المناقشات بوصفه الشخص الأكثر احتمالًا لأن يلاقي قبولًا من صناع السياسات البريطانيين والأمريكيين. وكنت على اتصال به قبل أن نطرد من طهران، وكان واضحًا أن الأمريكيين كانوا على اتصال به أيضًا منذ رحيلنا. وكان اختياره مفارقة تدعو للسخرية، فأثناء الحرب العالمية الثانية كان يعتبر عميلًا ألمانيًّا. وفي ذلك الحين نفذ فيتزروي ماكلين عملية لاختطافه وإخفائه عن الأنظار. والآن نلجأ كلنا إليه بوصفه المنقذ المحتمل لإيران.
وأثناء الاجتماعات التي عقدها وودهاوس في واشنطن اكتشف «الاهتمام المتزايد» باقتراحه الذي أطلق عليه البريطانيون «عملية بوت». وكان فرانك ويزنر وهو محامٍ من نيويورك أصبح فيما بعد مدير عمليات المخابرات المركزية الأمريكية وألان داليس رئيسه الجديد شديدَي الثقة. ومن ناحية أخرى، كان مسئولو وزارة الخارجية أقل حماسًا، ولكن جون فوستر داليس سوف يقضي على مقاومتهم فور تقلده منصب وزير الخارجية.
وعندما انطلق وودهاوس عائدًا إلى الديار كانت الإدارة الجديدة قد تعهدت، حتى وإن كان بطريقة غير رسمية، بتنفيذ عملية سرية للإطاحة بمصدق. وهذا بالإضافة إلى موافقتها على المرشحَين البريطانيَّين اللذين سوف يؤديان الأدوار الأساسية: الجنرال زاهدي في دور منقذ إيران وكيرمت روزفلت في دور القائد الميداني من المخابرات المركزية الأمريكية الذي سوف يقلده منصبه. وكانت الخطة على وشك أن تصبح جاهزة فور تولي أيزنهاور الحكم. وعلى جون فوستر داليس وألان داليس أن يحصلا على موافقته ثم ينفذا العملية.
كان الأخوان داليس — اللذان كان جهدهما عاملًا أساسيًّا في نجاح عملية أياكس — مميزين في التاريخ الأمريكي. فلم يحدث قبل ذلك أو بعده أن تولى شقيقان إدارة الجوانب المعلنة والخفية للسياسة الخارجية الأمريكية في آنٍ واحد. وأثناء توليهما منصبَي وزير الخارجية ومدير المخابرات، عملا في تناسق شبه تام من أجل تحقيق أهدافهما المشتركة. ومن أولها وأهمها الإطاحة بمصدق.
وُلد الأخوان فوستر وألي كما كان يطلق عليهما في عائلة موسرة. وكان جدهم جون واتسون فوستر وزيرًا للخارجية عندما كانوا أطفالًا، وكان كثيرًا ما يسمح لهم بمقابلة ضيوفه واستراق السمع في الاجتماعات التي يقيمها. وأثناء عهد ماكينلي وثيودور روزفلت قضيا العديد من الأوقات التي ساهمت في تشكيل شخصياتهما في صالونات واشنطن حيث اعتادا على أساليب السلطة. وكان ألي الذي وصفه كاتب سيرته بأنه اعتاد منذ طفولته أن يبدي «فضولًا لا يشبع تجاه المحيطين به» يسجل ملحوظات حول ما يسمعه.
التحق الأخوان بجامعة برينستون وأبديا تفوقًا ملحوظًا فيها، حيث كان فوستر الذي يكبر شقيقه بخمس سنوات الأول على دفعته. ومع أنهما كانا شديدَي القرب أحدهما من الآخر فقد كانت شخصياتهما شديدة الاختلاف. كان ألي لطيفًا هادئًا. كان يهوى لعب التنس ومعاقرة الخمر وحضور الحفلات الراقية، وفي فترة من الفترات كانت لديه عشيقة تخضع للتحليل النفسي على يد كارل جوستاف يونج. أما فوستر فقد كان صارمًا فظًّا عُرف عنه استهلال الاجتماعات وختامها بأصوات التأفف بدلًا من الشكر أو الترحيب. وقيل إن أصدقاءه لم يكونوا يحبونه كثيرًا.
وعندما تخرَّج الأخوان في برينستون كان عمهما روبرت لانسينج يتقلد منصب وزير الخارجية في إدارة وودرو ويلسون. واهتم كلاهما بالشئون العالمية بفضل تأثيره إلى حد ما. فقد التحق ألي بوزارة الخارجية عند اندلاع الحرب العالمية الأولى. فأُرسل أولًا إلى برن التي كانت بوصفها عاصمة سويسرا المحايدة مركزًا لحياة اللاجئين، ثم إلى برلين وإسطنبول وكلاهما مرتع للخديعة والمؤامرات. وفي كل منصب يتولاه كان يقتحم أعمال المخابرات بسرور. لقد أثبت كفاءة كبيرة في تجنيد المخبرين واستجواب المسافرين ومراقبة الحركات العسكرية وتقييم نقاط القوة والضعف في الحكومات الأجنبية.
وفي حين كان ألي يتعلم أعمال الجاسوسية بدأ فوستر مشواره المهني في المحاماة في نيويورك. فبعد أن تخرَّج في مدرسة الحقوق رتب له جده مقابلة عمل في مؤسسة سوليفان وكرومويل الشهيرة. لقد حصل على وظيفة كاتب مبتدئ، وسرعان ما وجد نفسه يعمل وسط مجموعة من أكثر الأشخاص تأثيرًا في العالم. لم تكن شركة سوليفان وكرومويل شركة محاماة عادية فقط، بل كانت مركزًا للتجارة والتمويل الدولي. وكان محاموها يقومون بدور الوسطاء بين الملوك والرؤساء وأصحاب النفوذ والثروة. وضم عملاؤها العديد من أهم البنوك والاتحادات التجارية. وتعامل فوستر مباشرة مع العديد منها وفيها جيه بيه مورجان وشركة النيكل الدولية وشركة قصب السكر الكوبية. وكان يعرف نفسه بأنه مسئول عن عقد الصفقات رفيعة المستوى وخبير في التمويل الدولي. وعندما توفي شريك المدير في عام ١٩٢٦ تقلد فوستر منصبه. وكان أحد أول القرارات التي اتخذها تعيين شقيقه.
كان ألان داليس قد تخرَّج في مدرسة الحقوق منذ فترة قصيرة ولم يكن قد انضم إلى نقابة المحامين بعد، ولكن مهاراته الاستثنائية وشبكة علاقاته الواسعة جعلت منه مصدر قوة لشركة سوليفان وكرومويل التي أعلنت عن نفسها أنها تمتلك «وسائل استثنائية متنوعة للحصول على المعلومات». وفي واقع الأمر، كان ضابط مخابرات حرًّا. وكان يستمتع بعمله ولكنه يتوق إلى المزيد من الإثارة. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية التحق بمكتب الخدمات الاستراتيجية مثل كيرمت روزفلت. وأرسل إلى أوروبا حيث درس نظام المخابرات النازية كي يعمل على اختراقه وتقويضه.
قضى فوستر سنوات الحرب في بلاده يلقي الخطب وينشر المقالات التي تحذر من الخطر الذي يمثله التوسع السوفييتي على «الحضارة المتراكمة عبر القرون». وأصبح أحد زعماء السياسة الجمهورية. وفي عام ١٩٤٨ عمل مستشار السياسة الخارجية للمرشح الرئاسي الجمهوري توماس ديوي حاكم نيويورك. وافترض الكثيرون أنه سوف يتولى منصب وزير الخارجية عندما يفوز ديوي، ولكن بعد أن فوجئ الجميع بخسارة ديوي أمام ترومان كان عليه أن يعود إلى ممارسة المحاماة حتى تحين الفرصة المناسبة. وكان ألان الذي التحق مرة أخرى بالشركة بعد الحرب يحلم بأن يصبح سفير ديوي لدى فرنسا، ولكن تلك الخطة أيضًا أفسدتها نتائج الانتخابات.
اهتم الأخوان داليس بإيران اهتمامًا خاصًّا. وكان فوستر يذكر إيران دائمًا في خطبه أو كتاباته عن الدول التي يعتقد أنها سوف تسقط فريسة للشيوعية. وتوجه ألان لزيارة طهران في عام ١٩٤٩ بالنيابة عن أحد عملاء شركة سوليفان وكرومويل، وهي شركة هندسية تسعى إلى إبرام عقود إنشائية. وأعطته تلك الرحلة فرصة ليراقب كلًّا من الشاه البالغ من العمر تسعة وعشرين عامًا الذي أطلقت عليه زوجته «الأمير الكئيب» وزعيم المعارضة العنيف مصدق. وفي وقت لاحق في ذلك العام عندما توجه الشاه لزيارة نيويورك رتب ألان «حفل عشاء خاصًّا له» ولمائة من أعضاء مجلس العلاقات الخارجية.
وفي عام ١٩٤٧ تحوَّل مكتب الخدمات الاستراتيجية الذي أنشئ أثناء الحرب إلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. كان ألان داليس يمتلك العديد من الأصدقاء في الوكالة الجديدة، وبناء على طلبهم كتب مجموعة من التقارير السرية التي تحث الوكالة على إطلاق برنامج عالمي من «الحرب النفسية الخفية والنشاط السياسي السري والأعمال التخريبية وحروب العصابات». وفور أن اختير الجنرال والتر بيدل سميث في منصب مدير المخابرات بواسطة الرئيس ترومان أحضر داليس إلى الوكالة حيث عمل مستشارًا في بادئ الأمر ثم تولى منصب نائب المدير.
كان ألان داليس أحد أكثر رجال المخابرات طموحًا في البلاد، وعُرف جون فوستر داليس على نطاق واسع بكونه واحدًا من أفضل المحامين الدوليين فتمكن بسهولة من الاندماج في عالم الجمهوريين الراقي، ووصل كلاهما إلى قمة السلطة عندما تولى أيزنهاور منصبه.
ظل بيدل سميث معهما منذ أيام المخابرات المركزية الأمريكية حتى تولى منصب وكيل وزارة الخارجية الأمريكية. وشغل سميث منصب رئيس الأركان في إدارة أيزنهاور أثناء الحرب، وظل أحد أكثر أصدقائه الثقات. وكان اختيارًا مثاليًّا في ذلك المنصب الجديد كي يضمن أن المخابرات المركزية الأمريكية ووزارة الخارجية والبيت الأبيض سوف يعملون بتكامل في مشروعات حساسة مثل الانقلاب ضد مصدق.
•••
وفي أحد أيام الشتاء الباردة قبيل تولي أيزنهاور منصبه، استدعى سميث كيرمت روزفلت في مناقشة غير ودية حول إيران. كان سميث يدعم فكرة الانقلاب أثناء إدارة ترومان، ولكن رؤساءه فرضوا نفوذهم عليه. والآن كان متلهفًا على الاستمرار في تلك الخطة. وبعد انقضاء شهرين منذ زيارة وودهاوس إلى واشنطن بدأ سميث يفقد صبره.
تساءل سميث: «متى سيأتي هؤلاء البريطانيون الملاعين كي يخاطبونا؟ ومتى ستبدأ تلك العملية اللعينة؟» أكد له روزفلت أن الجميع مستعدون، ولكن من غير اللائق التحرك قبل تولي أيزنهاور منصبه رسميًّا.
ولكن سميث قال له: «شمر عن ذراعيك وابدأ العمل. ولن تواجه أي مشكلات من ناحية لندن. بل إنهم سوف يرحبون بأي شيء نقترحه. وإنني على ثقة من أنك قادر على ابتكار شيء معقول يوافق عليه فوستر. وسوف يوافق أيكي أيضًا.»
تولى أيزنهاور السلطة رسميًّا في العشرين من يناير عام ١٩٥٣. وبعد ذلك بعدة أيام بدأ لوي هندرسون السفير الأمريكي لدى طهران يتصل بالإيرانيين الذين يعتقد أنهم سوف يرغبون في الإطاحة بمصدق. وعلى غرار رؤسائه الجدد في واشنطن، كان هندرسون قد فقد الأمل في التوصل إلى تسوية. وفي برقية أرسلها إلى واشنطن وصف مصدق بأنه «يفتقر إلى الثبات» و«تحكمه العواطف والأهواء» وبأنه «ليس عاقلًا تمامًا». وفي برقية أخرى أكد أن الجبهة الوطنية تتكون من «العامة والغوغاء واليسار المتطرف … والقوميين الإيرانيين المتطرفين وبعض الزعماء الدينيين الأكثر تعصبًا والمفكرين اليساريين الذين تلقى العديد منهم تعليمهم بالخارج ولم يكونوا مدركين أن إيران غير مستعدة للديمقراطية بعد». واتخذ هو ونظيره البريطاني جورج ميدلتون خطوة غير عادية، وهي كتابة رسالة مشتركة إلى وزارة الداخلية بدولتيهما يعلنان فيها الاستنتاج الذي توصلا إليه، وهو أنه كلما مكث مصدق في السلطة زاد احتمال سقوط إيران فريسة للشيوعية.
وعن طريق أحد المبعوثين فتح هندرسون قناة للاتصال بالجنرال زاهدي الذي «لم يكن مثاليًّا» كما أخبر داليس في إحدى البرقيات، ولكنه يمتلك «فرصة أكبر لقيادة إيران في أيام الاضطراب التي تلت تقديم مصدق استقالته أكثر من أي مرشح آخر في الأفق». وكان زاهدي قد أكد لهندرسون أنه في حالة توليه السلطة سوف «يتخذ موقفًا حاسمًا من الشيوعيين». ولكنه أضاف أنه «يستحيل على الإيرانيين التخلص من الحكومة الحالية بجهودهم الخاصة».
أرسل هندرسون برقية إلى واشنطن يقر فيها وجهة النظر تلك، وقوبلت تلك البرقية بحماس شديد حتى إن بيدل سميث أعطى أيزنهاور إياها تحت عنوان «بالغ الدقة». وأرسل سميث أيضًا ردًّا إلى هندرسون يخبره بأن الولايات المتحدة قد قررت أنها «لن توافق على حكومة مصدق بعد الآن وتفضل أن تخلفها حكومة أخرى». وأرسل سميث نسخًا من تلك البرقية إلى مقر المخابرات المركزية الأمريكية في واشنطن وإلى محطة استقبال المخابرات المركزية الأمريكية في إيران. وبلغ الأمر حد إعلان الحرب رسميًّا على مصدق، وإن كان ذلك في السر.
لم يكن هناك سوى شخص واحد في إدارة أيزنهاور لا يزال يطمع في التوصل إلى تسوية مع مصدق: إنه الرئيس أيزنهاور نفسه. فقبل أسبوعين من تولي منصبه اجتمع بتشرشل في نيويورك ولم يبدُ متحمسًا على الإطلاق عندما أتى تشرشل على ذكر إيران. بل إنه في الواقع اشتكى من أن الجهود التي تبذلها بريطانيا كي تورط الولايات المتحدة في مشكلاتها مع إيران لم تُفضِ إلى شيء سوى أنها «جعلت مصدق يتهمنا بأننا شركاء في إرهاب أمة ضعيفة».
كان تشرشل ذكيًّا بما فيه الكفاية كي يكف عن الإلحاح في تلك اللحظة. فقد كان يعلم أن التخطيط للانقلاب جارٍ وأن الأخوين داليس في صفه. وفي شهر فبراير أرسل «ج» رئيس المخابرات البريطانية السير جون سينكلير إلى واشنطن كي يعبر عن بالغ اهتمامه بالأمر.
وأثناء زيارة سينكلير واشنطن أشعل زعماء القبائل الإيرانيون الذين يتقاضون رواتب من بريطانيا انتفاضة قصيرة في المقاطعات الجنوبية بالتعاون مع الجنرال زاهدي. وشك مصدق في تورط الشاه في ذلك الأمر، واقترح عليه أن يغادر إيران حتى تهدأ ثائرة النفوس. وبلا شك كان الشاه مستعدًّا للرحيل. لقد وصفه وزير البلاط حسين علاء بأنه في «حالة هستيرية» وأنه على وشك الإصابة «بانهيار عصبي حاد والإتيان بأفعال غير عقلانية».
ولكن أعداء مصدق الذين يتلقون دعمًا خارجيًّا تمكنوا بمهارة من استغلال الرحلة التي يخطط لها الشاه لمصلحتهم. ولقد اتهموا مصدق في الخطب والزوايا ومقالات الصحف بأنه يجبر الشاه على الرحيل رغمًا عنه وأن خطوته التالية سوف تكون بالطبع إلغاء الملكية. وفي ليلة الثامن والعشرين من فبراير نظموا تجمعًا جماهيريًّا أمام منزل مصدق، وبينما كان التجمع يزداد حجمًا اندفعت سيارة مسرعة من طراز جيب تقل عقيدًا في الجيش وأحد أقوى زعماء العصابات في طهران وهو شعبان جعفري الشهير «بالأبله» فحطمت البوابة الأمامية. واضطر مصدق للفرار عبر سور الحديقة الخلفي مرتديًا منامته. وأرسل أحد الدبلوماسيين البريطانيين برقية إلى الديار يؤكد فيها أن ذلك التجمهر «من تنظيم كاشاني بالطبع، وليس تعبيرًا عفويًّا عن الولاء العميق أو الكافي كي يشد من أزر الشاه».
وبحلول المساء التالي كان الهدوء قد عاد لطهران مرة أخرى، وذلك بسبب إعلان الشاه إلغاء قراره بالسفر. ولكن الظهور المفاجئ لجماهير مدفوعة الأجر واستعدادهم للهجوم على رئيس الوزراء ساهم في خلق حالة من عدم الاستقرار المتزايد. هذا بالإضافة إلى إعطائه سببًا وجيهًا لمخططي الانقلاب في حملتهم الرامية إلى إقناع أيزنهاور بأن إيران تسقط في هاوية الفوضى.
لم يروِ أيزنهاور أو أيٌّ من المقربين له قصة اقتناعه بتأييد فكرة الانقلاب. لكن الأدلة تشير إلى أنه اقتنع بالفكرة في شهر مارس، أي بعد شهرين من توليه منصبه. واستغل الأخوان داليس أحداث العنف التي وقعت في طهران في الثامن والعشرين من فبراير لمصلحتهما. بل إن السفير هندرسون اعترف بأن تلك المظاهرات كانت مفتعلة ولم تكن حقيقية، ولكن من الواضح أن أحدًا لم يخبر أيزنهاور بذلك. بل أرسل إليه ألان داليس تقريرًا مخابراتيًّا يحذره من أن «الوضع في إيران آخذ في التدهور شيئًا فشيئًا» وأن «احتمالات سيطرة الشيوعيين عليها تتزايد يومًا بعد يوم».
توصل السيد داليس إلى أن النتائج المحتملة للأحداث التي وقعت في الأيام الأخيرة تتمثل في قيام نظام دكتاتوري في إيران بقيادة مصدق. وما دام مصدق حيًّا يظل الخطر ضعيفًا، ولكن اغتياله أو إزاحته من السلطة سوف تخلف فراغًا سياسيًّا في إيران قد يؤدي إلى استيلاء الشيوعيين على السلطة بسهولة. وقد لخص السيد داليس بجدية شديدة نتائج مثل هذا الاستيلاء. فلن يحرم العالم الحر من الأصول الهائلة التي يمثلها إنتاج واحتياطي النفط الإيراني فحسب، بل أيضًا سوف يؤمِّن الروسيون تلك الأصول ويتحررون من القلق بشأن موقفهم النفطي. والسيناريو الأسوأ من ذلك كما أوضح السيد داليس أنه إذا خضعت إيران للشيوعيين فسوف تسقط الدول الأخرى في الشرق الأوسط على الأغلب فريسة للشيوعية في الحال، وهي تمتلك بضعًا وستين بالمائة من احتياطي النفط في العالم.
وفيما بعد في ذلك الأسبوع توجه وزير الخارجية إيدن لزيارة واشنطن. وفي العديد من اجتماعاته رفيعة المستوى طرق إيدن موضوع إيران والانقلاب المقترح. فوجد تأييدًا من الجميع ما عدا أيزنهاور. كان ألتون جونز استشاري النفط الذي سافر إلى إيران منذ عام صديقًا شخصيًّا لأيزنهاور الذي أخبر إيدن بأنه يرغب في إرسال جونز مرة أخرى «كي يبذل كل ما بوسعه ليجعل النفط يتدفق مرة أخرى». وقال إنه يعتبر مصدق «الأمل الوحيد للغرب في إيران»، وهو الاعتقاد نفسه الذي كان يؤمن به ترومان.
دُهِشَ إيدن عندما قال له أيزنهاور: «أريد أن أعطي هذا الرجل عشرة ملايين دولار أمريكي.»
وحاول برفق أن يثنيه عن عزمه حيث قال: «من الأفضل لنا البحث عن بديل لمصدق بدلًا من أن نحاول رشوته.» ولكنه اتبع أفضل الطرق الدبلوماسية وترك العمل الفعلي لضباط المخابرات الذين أحضرهم معه. وفي حين كان يتحدث برفق في البيت الأبيض كانوا يحكمون خيوط مؤامرتهم مع الرفاق في المخابرات المركزية الأمريكية ووزارة الخارجية.
كان الأخوان داليس قد اكتسبا خبرة هائلة في كيفية استدراج رؤسائهم لطريقة تفكيرهم. وفي السابع من مارس أصدر جون فوستر داليس وإيدن بيانًا مشتركًا يعلنان فيه موافقتهما على عرض جديد يسمح لإيران «بالاحتفاظ بالسيطرة على قطاع النفط واتباع سياسات النفط الخاصة بها». وبدا ذلك العرض مناسبًا لأيزنهاور، ولكن ذلك البيان لم يوضح بأمانة طبيعة العرض الذي كان ككل العروض البريطانية السابقة خلال العامين المنصرمين يعتمد على افتراض عودة البريطانيين لإدارة قطاع النفط الإيراني. ولكن مصدق رفض هذا العرض وأخبر السفير هندرسون بأنه يشعر بالإحباط لأن إدارة أيزنهاور قد «سمحت للمملكة المتحدة بصياغة السياسات الأمريكية حيال إيران». وقدم هو العديد من العروض المضادة، بل إنه اقترح ذات مرة الخضوع للتحكيم بواسطة سويسرا أو ألمانيا، ولكن البريطانيين وأصدقاءهم الجدد في واشنطن تجاهلوا تلك العروض.
وفي حين كان إيدن في واشنطن كان الإخوة راشيديان يبذلون أقصى ما بوسعهم كي يثيروا المشكلات في إيران. وبفضل جهودهم أخذت بعض الشخصيات البارزة التي كانت جزءًا من ائتلاف مصدق تنقلب ضده. وأخذ آية الله كاشاني أكثر المنشقين صراحة يدين مصدق بالنقد اللاذع نفسه الذي كان يوجهه للبريطانيين ذات يوم. وبدأ يستخدم المجرمين كي يروع خصومه، بل إنه طرح مذكرة في المجلس بالعفو عن خليل تاهماسيبي الذي أدين باغتيال رئيس الوزراء رازمارا. وكان حلفاء مصدق السابقون الآخرون الذين اختلفوا معه واتبعوا برنامجهم الخاص يتضمنون مظفر باقي رئيس حزب الشغيلة العمالي وحسين مكي الذي ساعد في الاستيلاء على مصفاة التكرير بعبدان وكان يعتبر ذات يوم الخليفة المنتظر لمصدق. وكتب روبين زينر في تقرير إلى لندن أن الجهود الناجحة لإبعاد كاشاني وباقي ومكي عن الجبهة الوطنية قد «بدأها الإخوة راشيديان وتولوا قيادتها».
أضعفت تلك الانشقاقات بشدة من الجبهة الوطنية وتركت مصدق وحيدًا ضعيفًا. وفي الوقت ذاته زادت بشدة من قوة الأخوين داليس في إقناع الرئيس أيزنهاور بأن الوقت قد حان كي تتدخل الولايات المتحدة. وفي اجتماع لمجلس الأمن القومي في الحادي عشر من مارس أكد داليس وزير الخارجية أن الأمريكيين يجب أن يصبحوا «شركاء رئيسيين مع البريطانيين في تلك المنطقة». ولم يعبر أيزنهاور عن اعتراضه.
ذكر كاتب الجلسة في ذلك الاجتماع قائلًا: «أعلن الرئيس شكه الشديد في أنه حتى إذا أجرينا محاولات أحادية الجانب فبمقدورنا التوصل إلى اتفاق ناجح مع مصدق. فقد شعر أن مثل هذا الاتفاق قد لا يساوي الحبر الذي كتب به، وقد يكون لهذا النموذج تداعيات خطيرة على امتيازات النفط الخاصة بالولايات المتحدة في أماكن أخرى من العالم.»
توصل أيزنهاور إلى أن إيران تنهار، وأن ذلك الانهيار لا يمكن منعه ما دام مصدق في السلطة. فتوقف عن التساؤل عن إمكانية التسوية. واتخذ المحيطون به ذلك التغير في النبرة دليلًا على أنه لن يقاوم فكرة الانقلاب. وفي الثامن عشر من مارس أرسل فرانك ويزنر رسالة إلى نظرائه البريطانيين يخبرهم فيها بأن المخابرات المركزية الأمريكية على استعداد الآن لمناقشة تفاصيل المؤامرة ضد مصدق. وبعد ذلك بأسبوعين وافق ألان داليس على إرسال مبلغ مليون دولار أمريكي إلى مقر المخابرات المركزية الأمريكية بطهران كي تُستخدم «بأي طريقة تؤدي إلى سقوط مصدق».
شجعت تلك التطورات البريطانيين تشجيعًا كبيرًا. ففي شهر أبريل تبنت وزارة الخارجية عملية أياكس رسميًّا. ثم في اعتراف صريح بأن السيطرة قد انتقلت من أيديهم إلى أيدي الأمريكيين أرسل العملاء البريطانيون رسالة للإخوة راشيديان يخبرونهم فيها بأن عليهم العمل الآن مع المخابرات المركزية الأمريكية.
قرر الإيرانيون المتصلون بشبكة راشيديان إشاعة المزيد من الفوضى في إيران عن طريق اختطاف كبار المسئولين الحكوميين. وكان هدفاهما المفضلان وزير الخارجية فاطمي والجنرال رياحي رئيس الأركان الذي تولى منصبه حديثًا يسافران مصطحبين الكثير من الحرس، فاختاروا رئيس شرطة طهران الجنرال محمود أفشار طوس. وكان بعض المتآمرين تربطهم به علاقات شخصية، فدعاه أحدهم إلى منزله في التاسع عشر من أبريل حيث قُبِضَ عليه واقتيد معصوب العينين إلى كهف خارج المدينة. وتعرف ضباط الشرطة على الخاطفين في الحال، ولكنهم عندما اقتربوا أطلق أحد الخاطفين الرصاص على أسيرهم فأردوه قتيلًا.
كان لجريمة القتل تلك أثرها المطلوب. فقد سببت صدمة في البلاد وتخلصت من ضابط ذي شعبية كان من الممكن أن يكون عقبة كبرى في طريق نجاح الانقلاب الوشيك. وزج باسم الجنرال زاهدي الذي ظهر مرة أخرى على الساحة بعد إسقاط التهم الموجهة إليه بالخيانة في تلك العملية. فلجأ إلى المجلس تحت حماية آية الله كاشاني.
كان إخفاق إيران والمملكة المتحدة في التوصل إلى اتفاق بشأن التعويض عائقًا أمام الولايات المتحدة في محاولاتها لمساعدة إيران. وهناك شعور قوي يسري في الولايات المتحدة حتى بين المواطنين الأمريكيين المتعاطفين مع إيران والمحبين للشعب الإيراني بأنه ليس من العدل لدافعي الضرائب الأمريكيين أن تمد الحكومة الأمريكية يد المساعدة الاقتصادية لإيران ما دامت إيران تمتلك القدرة على تدبير الموارد المالية عن طريق بيع النفط … وإنني ألحظ القلق البادي في خطابك بشأن الوضع الحالي الخطير في إيران، وآمل بصدق أن تتخذ الحكومة الإيرانية الخطوات التي تستطيعها لمنع المزيد من التدهور في الموقف قبل أن يفوت الأوان.
كشف ذلك الخطاب لمصدق ما كان أصدقاء أيزنهاور المقربون يعلمونه بالفعل، وهو أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد حركت السياسة الأمريكية نحو إيران في الاتجاه المعاكس. فلم تعد هناك محاولات للاستفادة من الموقف بأقل الخسائر الممكنة كما كان الحال في عهد ترومان، ولم يعد هناك انتقادات لتفضيل البريطانيين خيار الانقلاب. وفي الواقع عندما أرسل أيزنهاور رده إلى مصدق كان كلاهما يعلم ما يحدث.
كان أيزنهاور قد أعطى موافقته الضمنية على خطة الانقلاب، ولكن نظرًا إلى تداعياتها الخطيرة لم تكن الموافقة الضمنية كافية. وفي الرابع عشر من يونيو ذهب ألان داليس إلى البيت الأبيض كي يطلع الرئيس على أحدث الأنباء. ولما شعر داليس أن الرئيس يرغب في ألا يعلم الكثير من التفاصيل، أعطاه «ملخصًا عامًّا للاقتراحات التي تمت حتى الآن». كان ذلك كل ما يحتاجه أيزنهاور كي يعطي موافقته. وفي الوقت نفسه أعطى تشرشل موافقته السرية الأكثر حماسًا.
كان التخطيط للانقلاب قد قطع شوطًا كبيرًا عندما صدق عليه كلٌّ من أيزنهاور وتشرشل رسميًّا. والتقى اثنان من ضباط المخابرات المحنكين، أحدهما أمريكي والآخر بريطاني، في قبرص كي يضعا مخططًا تفصيليًّا. وكان كلاهما خبيرًا بإيران. كان رجل المخابرات الأمريكي يدعى دونالد ويلبر الذي عمل عدة سنوات في وظيفة عالم آثار ومهندس معماري في الشرق الأوسط، وأدى الخدمة العسكرية في إيران أثناء الحرب العالمية الثانية بصفته عميلًا لمكتب الخدمات الاستراتيجية، ثم قسم وقته بين الدراسات العليا في جامعة برينستون والعمل مستشارًا للمخابرات المركزية الأمريكية مختصًّا بالحرب النفسية. وفي عام ١٩٥٢ قضى ويلبر ستة أشهر يدير مكتب «النشاط السياسي» التابع للمخابرات المركزية الأمريكية بطهران، وهي مهمة أعطته خبرة مباشرة بالأحزاب السياسية والعسكرية المؤيدة والمعارضة لمصدق. أما نظيره البريطاني نورمان داربيشاير فقد عمل عدة فترات في إيران بالتعاون مع روبين زينر. وعندما اضطر مقر المخابرات البريطانية في طهران لإغلاق أبوابه انتقل إلى قبرص وعين داربيشاير لرئاسته.
سرعان ما اتضح أن د. ويلبر والسيد داربيشاير يحملان نفس وجهة النظر تجاه الشخصيات الإيرانية، بالإضافة إلى توصلهما إلى نفس الاستنتاجات للعوامل التي تتدخل في المشهد السياسي الإيراني. ولم يكن هناك أي خلاف أو اختلاف ملحوظ في الرأي بينهما أثناء المناقشات. وسرعان ما اتضح أيضًا أن المخابرات السرية البريطانية راضية تمام الرضا عن اتباع أي مبادرة تتخذها المخابرات المركزية الأمريكية. وبدا واضحًا لويلبر سرور البريطانيين الشديد بالتعاون النشط الذي تبديه المخابرات المركزية الأمريكية وإصرارهم على ألا يعرضوا الولايات المتحدة للخطر بسبب مشاركتها في ذلك الأمر. وفي الوقت ذاته كان هناك شعور ضئيل بالحسد من كون المخابرات المركزية الأمريكية أفضل تجهيزًا من المخابرات السرية البريطانية من حيث التمويل والعاملين والمرافق.
-
من خلال وسائل متعددة سوف يتلاعب العملاء السريون بالرأي العام ويعملون على تأليب أكبر عدد ممكن من الإيرانيين ضد مصدق. وسوف يؤدي ذلك المسعى الذي خصص له ١٥٠ ألف دولار أمريكي إلى «خلق حالة من العداء الشعبي والارتياب والخوف من حكومة مصدق ونشر تلك الحالة وتعزيزها». وتهدف تلك الحملة إلى تصوير مصدق في صورة الفاسد المؤيد للشيوعية المعادي للإسلام المصر على تحطيم الروح المعنوية للقوات المسلحة واستعداداتها.
-
وفي حين يعمل العملاء الإيرانيون على نشر تلك الأكاذيب، يحصل المجرمون على أموال في مقابل شن هجمات منظمة على الزعماء الدينيين وجعل الأمر يبدو كما لو كان مصدق أو مؤيدوه هم المنظمون لتلك الهجمات.
-
وفي أثناء ذلك يعمل الجنرال زاهدي على إقناع أكبر عدد ممكن من الضباط ورشوتهم كي يستعدوا لأي تدخل عسكري قد يكون مطلوبًا لإتمام الانقلاب. وكان مقررًا له أن يحصل على ٦٠ ألف دولار أمريكي زادت فيما بعد إلى ١٣٥ ألف دولار أمريكي كي يتمكن من «كسب المزيد من الأصدقاء» و«التأثير على الشخصيات المهمة».
-
وكان هناك مسعى مشابه خصص له ١١ ألف دولار أمريكي أسبوعيًّا من أجل إغراء أعضاء المجلس عن طريق الرشوة.
-
وفي صباح يوم الانقلاب ينظم آلاف من المتظاهرين المأجورين اجتماعًا حاشدًا ضخمًا ضد الحكومة. ويستجيب المجلس المستعد بتصويت «شبه قانوني» لإقالة مصدق. وإذا أبدى مقاومة فسوف تلقي وحدات الجيش بقيادة زاهدي القبض عليه هو وأهم مؤيديه، ثم تستولي على مقرات القيادة العسكرية وأقسام الشرطة ومكاتب الهاتف والتلغراف ومحطات الإذاعة والبنك الوطني.
بالتعاون مع الرفاق في واشنطن وطهران الذين كانوا على اتصال دائم بهم عبر شبكة إذاعية مقرها في قبرص، انتهى ويلبر وداربيشاير من وضع ذلك المخطط بنهاية شهر مايو. وفي الثالث من يونيو وصل هندرسون إلى واشنطن كي يطلع على ملخص لمحتوياته. وظل هناك كي يحضر اجتماعًا مهمًّا في الخامس والعشرين من يونيو وضعت فيه خطة الانقلاب بالتفصيل.
لم يكن الرئيس أيزنهاور يرغب في أن يطلع على تفاصيل العمليات السرية، ولذلك لم يحضر هذا الاجتماع. ولكن مستشاري السياسات الخارجية الأقرب له حضروا الاجتماع. وعقد الاجتماع في مكتب جون فوستر داليس بوزارة الخارجية. وعندما اجتمع المتآمرون أمسك داليس بالتقرير الذي كتبه ويلبر وداربيشاير قائلًا: «هكذا نتخلص من الرجل المجنون الذي يدعى مصدق!»
أوضح كيرمت روزفلت المقترح الخاص به لتنفيذ الانقلاب، وعندما انتهى من حديثه سأل داليس الآخرين عن رأيهم. فأقر ألان داليس وبيدل سميث الخطة بلا تحفظات. وانضم إليهم وزير الدفاع تشارلز ويلسون. ووافق اثنان من كبار مسئولي وزارة الخارجية وهما هنري بيرود مساعد الوزير لشئون الشرق الأوسط وروبرت بوي رئيس مركز تخطيط السياسات، ولكنهما كانا أقل حماسًا، وذلك لأنهما كانا يدركان بالطبع أنهما سوف يفقدان وظيفتيهما إذا اتخذا موقف المعارضة من هذا الأمر. وعندما حان دور هندرسون للحديث أعلن أنه لا يفضل «هذا النوع من الأعمال»، ولكن في تلك الحالة «ليس أمامنا خيار آخر».
وهنا قال داليس وزير الخارجية بابتسامة عريضة على غير العادة: «هكذا إذن. فلنستمر في العمل.»
وبذلك الإجماع أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر النهائي لعملية أياكس أو عملية بوت كما ظل البريطانيون يسمونها. وأخيرًا اتحدت حكومتا لندن وواشنطن في حماسهما. كانت إحداهما ترغب في استعادة امتياز النفط الخاص بها. وكانت الأخرى ترى في الأمر فرصة لتوجيه ضربة قاتلة للشيوعية.
كان هناك بعض المعارضة لذلك الاتفاق الجديد. وأتى بعضها من الدبلوماسيين المحترفين مثل تشارلز بولين، وهو سفير سابق للاتحاد السوفييتي وجه «انتقادات مؤثرة» لأحد الدبلوماسيين البريطانيين في واشنطن ضد الانقلاب المخطط له. وعارض العديد من ضباط المخابرات المركزية الأمريكية أيضًا تلك الفكرة. وكان أحدهم روجر جويران رئيس مقر المخابرات المركزية الأمريكية بطهران.
كان جويران قد بنى شبكة مخابرات ضخمة عرفت بالاسم الكودي بيدامن يهدف نشاطها الدعائي إلى تشويه صورة الاتحاد السوفييتي في إيران. وكانت أيضًا على استعداد لإطلاق حملة من التدمير والتخريب للبلاد في حالة وقوع انقلاب شيوعي. وكانت شبكة بيدامن تتكون من أكثر من مائة عميل وتمتلك ميزانية سنوية قدرها مليون دولار أمريكي، وهو مبلغ ضخم في ضوء حقيقة أن إجمالي الميزانية العالمية للمخابرات المركزية الأمريكية للعمليات السرية كان ٨٢ مليون دولار أمريكي فقط. والآن طلب من جويران أن يستخدم تلك الشبكة في تنفيذ انقلاب ضد مصدق. وكان يعتقد أن ذلك سوف يعتبر خطأ كبيرًا، وحذر من أنه في حالة تنفيذ الانقلاب سوف يظل الإيرانيون للأبد ينظرون للولايات المتحدة بوصفها مؤيدًا لما أطلق عليه «الإمبريالية الأنجلوفرنسية». وكانت معارضته شديدة حتى إن ألان داليس اضطر إلى إقالته من منصبه.
وبينما كان ألان داليس يجمع الموارد لعملية أياكس أصبح جون فوستر داليس المشجع الأشد حماسًا لها. وأخذ يتابع الاستعدادات بمزيج من السرور ونفاد الصبر. وذات مرة شعر بالقلق عندما ذكرت إيران في اجتماع رفيع المستوى ولكن دون أن يذكر الانقلاب المخطط له. وفي الصباح التالي أجرى مكالمة هاتفية إلى شقيقه في المخابرات المركزية الأمريكية كي يسأله بلهفة عما إذا كان هناك خطب ما. وجاء في المذكرة التي دون فيها نص المحادثة: «لقد اتصل السكرتير وقال إنك في حديثك عن إيران في اجتماع أمس لم تذكر الأمر الآخر، هل أصبح لاغيًا؟ وقال ألان داليس إنه لا يتحدث في ذلك الأمر، فقد صدق عليه مباشرة من الرئيس ولا يزال جاريًا … قال ألان داليس إن الأمور تسير على نحو مُرْض.»
ولما اطمأن داليس وزير الخارجية إلى كون المؤامرة لا تزال تتخذ مجراها، قصر بياناته العامة على إبداء الاستياء العام لمجرى الأحداث في إيران. وفسر تعليقه في مؤتمر صحفي عقد في شهر يوليو بأنه تحذير صيغ بلغة شديدة الدبلوماسية. لقد قال: «لقد سببت لنا التطورات الأخيرة في إيران، وخاصة النشاط المتزايد للحزب الشيوعي المحظور، القلق الشديد. وتلك التطورات تزيد من صعوبة الأمر على الولايات المتحدة في مد يد المساعدة لإيران ما دامت الحكومة تجيز ذلك النوع من الأنشطة.»
وعندما دخل كيرمت روزفلت إيران في التاسع عشر من يوليو كانت البلاد تضطرم بنار الفتنة. فقد صوت مؤيدو مصدق في المجلس على إقالة آية الله كاشاني من منصب الناطق بلسان المجلس، وأدى النزاع الذي نشأ عن ذلك التصويت إلى استقالة أكثر من نصف أعضاء المجلس. وملأت المظاهرات التي تنادي بحل المجلس شوارع طهران. وأعلن مصدق أنه سوف يعقد استفتاء على ذلك الأمر وتعهد بأن يقدم استقالته إذا لم يؤيد الناخبون طرد المجلس الحالي. وكان الاستفتاء الذي دعي له على عجل في بداية شهر أغسطس محاولة مأساوية لتمثيل الديمقراطية. فقد كان هناك صناديق اقتراع منفصلة للتصويت بنعم وأخرى للا، وتجاوزت النتيجة المعلنة ٩٩٪ لطرد المجلس. وأذكى الظلم البين في ذلك الاستفتاء حملة العداء لمصدق.
وبحلول منتصف أغسطس كان روزفلت وفريق العملاء الإيرانيين التابع له قد اتخذوا مواقعهم واستعدوا للهجوم. فقد دفعوا بإيران إلى حافة الفوضى. وأخذت الصحف والزعماء الدينيون يصرخون مطالبين برأس مصدق. وحولت الاحتجاجات وأعمال الشغب التي نظمتها المخابرات المركزية الأمريكية الشوارع إلى ساحات للمعارك. وأعلن دونالد ويلبر أن الدعاية المضادة للحكومة كانت «تتدفق من صحف المخابرات الأمريكية إلى طهران». وأصبح مصدق أكثر ضعفًا ووحدة من أي وقت مضى. وعلى ضوء تلك الخلفية كان لدى روزفلت الحق في أن يتمتع بالثقة الشديدة عندما أرسل العقيد نصيري كي ينفذ المهمة في ليلة الخامس عشر من أغسطس. وقد وضع خطته بدقة بالغة حتى إنه عندما اكتشف فشل الانقلاب في اليوم التالي قرر المحاولة مرة أخرى.