كنت أعلم ذلك! إنهم يحبونني!
تسببت قرعات عنيفة على باب شقة في أحد أحياء طهران الشمالية في حدوث مواجهة بين اثنين من شركاء المؤامرة يتصفان بالجرأة للمرة الأولى. كان أحدهما أكثر شخص تطارده الشرطة في إيران. والآخر سوف يحتل نفس المكانة وربما أكثر لو علمت الشرطة بوجوده.
كان كيرمت روزفلت يشعر بالقلق الشديد وهو يقرع الباب. ففي الليلة السابقة أخفق هو ورجاله في محاولة الإطاحة برئيس الوزراء مصدق. واستحثه رؤساؤه في المخابرات المركزية الأمريكية بواشنطن على الهرب. ولكن روزفلت قرر أن يجازف بمحاولة أخرى.
في صبيحة ذلك الأحد الموافق السادس عشر من أغسطس عام ١٩٥٣ امتلأت الشوارع بالمزيد من قوات الشرطة. وانطلقت صافرات الإنذار في الوقت الذي كانت قوات الأمن تهاجم المتآمرين المتورطين في الانقلاب الفاشل. وقاد روزفلت سيارته بحذر ملتزمًا بتعليمات المرور، ووصل إلى بيت الجنرال زاهدي دون أن يتعرض لأي موقف.
قبل تلك اللحظة كان زاهدي يمني نفسه بأن يصبح رئيسًا للوزراء. ولكنه الآن أصبح هاربًا مطاردًا. وإذا كان لديه الآن أي أمل في النجاح أو حتى في النجاة بنفسه، كان ذلك الأمل يكمن في روزفلت. وأدرك زاهدي من يكون الطارق، ففتح الباب بنفسه.
لم يكن روزفلت مستعدًّا للمزاح. وأعلن أنه أتى كي يوجه سؤالًا واحدًا فقط: هل كان زاهدي مستعدًّا لتكرار المحاولة. ودون تردد أجاب زاهدي بالموافقة. وكانت تلك الإجابة التي يرغب روزفلت في سماعها.
اتفق الرجلان على أنه من الخطورة على زاهدي أن يظل مكانه. وكان روزفلت قد أجرى ترتيبات لإخفائه في فيلَّا تابعة لأحد العملاء تبعد ثلاثة مربعات سكنية عن السفارة الأمريكية. فهبطا سلالم البيت وركبا سيارة روزفلت خلسة. وهكذا رقد الزعيم المفترض لإيران على الأرضي في مؤخرة السيارة مختبئًا تحت غطاء ثقيل وهو ينطلق إلى مخبئه الجديد.
وبعد أن أخفى روزفلت زاهدي عن الأنظار عاد إلى ما أصبح يطلق عليه «أرض المعركة» في مجمع السفارة. فقد اجتمع باثنين من الدبلوماسيين الأمريكيين كُلِّفا بمراقبة الخطة. وأخبره كلاهما بصراحة بأنهما يعتقدان أن اللعبة قد انتهت. بل إن القلة من المسئولين في واشنطن الذين كانوا يعلمون بأمر عملية أياكس كانوا مستعدين للاستسلام. وأرسل بيدل سميث وكيل وزارة الخارجية الذي كان من أشد أنصار الانقلاب حماسًا رسالة حزينة إلى الرئيس أيزنهاور يخبره فيها بأن الولايات المتحدة «قد تضطر الآن إلى التودد لمصدق».
ولكن روزفلت كان لديه مصادر قوة مهمة. كان أحد تلك المصادر الجنرال زاهدي الذي يمتلك العديد من الأصدقاء في سلك الضباط وكان مستعدًّا لعمل أي شيء يتطلبه الأمر كي يصل إلى السلطة. هذا بالإضافة إلى شبكة ضخمة مترامية الأطراف من العملاء والعملاء الفرعيين الإيرانيين. تكلفت هذه الشبكة مبلغًا ضخمًا في جمعها وأثبتت قدرتها على نشر الشائعات التحريضية والمقالات الاستفزازية في الصحف والتلاعب بالسياسيين والتأثير على الملالي وحشد الجماهير المأجورة في وقت قصير جدًّا. ولم تكن تلك الشبكة قد اختبرت بالكامل حتى الآن.
كان روزفلت يحتفظ أيضًا بالفرمانين المهمين اللذين وقعهما الشاه بطرد رئيس الوزراء مصدق وتعيين زاهدي بدلًا منه. فقد أعطيا الانقلاب سيماه الشرعية. فلن يفكر الكثير من الإيرانيين هل لدى الشاه الحق القانوني في إصدار مثل تلك القرارات. فاحترام السلطة الملكية تقليد عتيق عندهم. وهكذا أعطت الفرمانات مخططي عملية أياكس طريقة للاختباء خلف ستار ذلك التقليد.
وفي اجتماعهم العاجل في ذلك الصباح، حث الجنرال زاهدي روزفلت على إصدار نسخ من الفرمان الذي يأمر بتعيينه رئيسًا للوزراء وتوزيعه في أرجاء المدينة، لا سيما في الأحياء الجنوبية العنيفة التي جند فيها الجماهير. كانت فكرة رائعة، ووافق عليها روزفلت على الفور. وبحلول منتصف النهار كان قد صادر إحدى آلات التصوير القليلة الموجودة في طهران لحسابه. ولم يكتفِ بإرسال نسخ من الفرمان مع كل العملاء المتاحين فحسب، بل إنه أيضًا أرسل نسخًا طبق الأصل كي تتصدر عناوين الصحف في اليوم التالي. وأرسل فيما بعد رسلًا ثقات منهم اثنان من الضباط الإيرانيين المزودين بأوراق هوية مزورة يحملون نسخًا إلى القادة العسكريين في المدن النائية.
ولضمان وصول الفرمان إلى أكبر عدد ممكن من الناس، أرسل روزفلت رسالة إلى المراسلين الصحفيين الأمريكيين في طهران التابعين لكلٍّ من وكالة أنباء «أسوشييتد بريس» وجريدة «نيويورك تايمز». وكانت الرسالة تتضمن دعوة لحضور اجتماع سري مع الجنرال زاهدي. ولبى كلاهما الدعوة بسرور، فأرسل سيارة كي تقلهما إلى مكان الاجتماع. ولكنهما عندما وصلا إلى المنزل الآمن لم يجدا زاهدي بل ابنه الحاد الذكاء أرديشير. وقد قدم لهما نسخًا من الفرمان وبلغة إنجليزية سليمة ألقى خطبة حماسية عن أهميته.
وعلى الرغم من الظروف غير العادية المحيطة فقد كان هذا الاجتماع غريبًا. فلم يظهر الرجل الذي عقد الاجتماع باسمه. وكان المسئول عن الجانب الأمني زوجة المضيف الشابة التي جلست في كرسي هزاز بالقرب من أرديشير زاهدي وهي تخفي مسدسًا تحت الملابس التي تحيكها. ولكن أكثر ما أثار فضول الصحفيين كان الجهاز الضخم الغريب الشكل الذي يصدر ضوضاء مرتفعة بالقرب منهما.
تذكر كينيت لوف مراسل «نيويورك تايمز» ذلك الموقف قائلًا: «انظروا، إنها آلة تصوير عملاقة. كنا في عام ١٩٥٣، وكانت آلة التصوير بحجم ثلاجتين تقريبًا. ولكن في ذلك الوقت لم أكن أدرك أنا أو معظم الصحفيين الأمريكيين بل معظم الشعب الأمريكي ما ترمز له حروف الاختصار سي آي إيه.»
وبحلول مساء الأحد كان روزفلت قد وضع خطته الجديدة. ففي يوم الاثنين والثلاثاء سوف ينتشر عملاؤه في طهران لتقديم الرشوة للسياسيين والملالي وأي شخص آخر يمكنه حشد الجماهير في اللحظات الحاسمة. وفي هذين اليومين سوف يطلق الجماهير في الشوارع كي يحدثوا الفوضى باسم مصدق. وفي يوم الأربعاء سوف يسحب الجماهير من الشوارع ويستخدم الوحدات العسكرية وقوات الشرطة لاقتحام المباني الحكومية، وتأتي الضربة الأخيرة بالقبض على مصدق.
اعتمد روزفلت في تنفيذ كل ذلك على حفنة من العملاء الإيرانيين. وقد ثبتت كفاءتهم وأهمهم الإخوة راشيديان. كان روزفلت على معرفة وثيقة بهم منذ عدة سنوات واتخذ الترتيبات اللازمة لهم كي يسافروا إلى واشنطن ليخضعوا لما أطلق عليه «اختبارات دقيقة لصدقهم»، وكان شديد الإعجاب بمهارتهم في الجاسوسية. وبالإضافة إلى الإخوة راشيديان الذين كانوا مصدر قوة لبريطانيا، استخدم روزفلت أيضًا العديد من الإيرانيين الذين تلقوا تدريبات في المخابرات المركزية الأمريكية. وكان أفضلهم علي جليلي وفاروق كيفاني اللذين بدآ العمل لحساب المخابرات المركزية الأمريكية في عام ١٩٥١ بصفتهما منظمي شبكة الدعاية والتخريب التي عرفت باسم بيدامن. وتوليا تنظيم أعمال الشغب والعديد من المهام السرية الأخرى الناجحة حتى إن المخابرات المركزية الأمريكية اعتبرتهما «عملاء رئيسيين شديدي الأهمية لمقر طهران». وعلى غرار الإخوة راشيديان، أحضرا إلى واشنطن واستجوبا بالتفصيل بواسطة كيرمت روزفلت وبعض العملاء السريين الآخرين التابعين للمخابرات المركزية الأمريكية، وأعطوهما أسماء حركية (أحيانًا كان يطلق عليهما «نوسي» و«كافرون»، وأحيانًا أخرى «نيري» و«سيلي»)، واختيرا عميلين رئيسيَّين في المؤامرة التي تحاك ضد مصدق. ولكنهما لم يلتقيا بالإخوة راشيديان قط. فقد حرص روزفلت على إخفاء هوية أهم العملاء الإيرانيين حتى بعضهم عن بعض.
وفي حين كان روزفلت يستعد لمحاولته الثانية ضد مصدق، طالب هؤلاء العملاء وغيرهم بالترويج لرواية كاذبة عن المحاولة الأولى. كانت الرواية التي طلب منهم نشرها تفيد بأن مصدق حاول الاستيلاء على عرش الشاه ولكن الضباط الوطنيين أحبطوا محاولته. وسارع رؤساء تحرير الصحف الفاسدون إلى جعل تلك الكذبة تتصدر عناوين صحفهم. ولم ينشر الحقيقة سوى قليل منهم، وهي أن مصدق كان ضحية الانقلاب وليس المدبر له.
ولكن مصدق ومساعديه لم يلقوا بالًا لما تنشره الصحف. فقد اعتقدوا أن الشاه هو مدبر الثورة التي وقعت يوم السبت. وإذا كان ذلك صحيحًا فإن هروبه يعني أنه لن تكون هناك محاولات أخرى لما أطلق عليه وزير الخارجية فاطمي «السرقة الملكية لحقوق الشعب». ولم يتخيلوا قط أن المتآمرين الذين خططوا للانقلاب الذي وقع يوم السبت سرعان ما سيعيدون الكرة.
عندما توجه أحد الصحفيين إلى فاطمي بالسؤال عن كيفية تعامل الحكومة مع المتآمرين الذين قبضوا عليهم، رد بارتجال أن المسئولين لا يزالون «يفكرون في الأمر» و«لم يقرروا أي شيء بعد». وتخلى بقية الوزراء وفيهم مصدق نفسه عن الحذر. فسحبوا القوات الموالية للدولة من الشوارع وقضوا ساعات مصيرية يتساءلون عن أمور أثارها هرب الشاه. هل تنازل عن العرش؟ هل يجب عليهم تعيين مجلس وصاية على العرش؟ أتكون هناك سلالة حاكمة جديدة؟ هل يجب إلغاء الملكية؟
وفي الوقت الذي كان المسئولون الحكوميون يناقشون فيه مصير بلادهم على المدى الطويل بسطحية، كان كيرمت روزفلت يعمل بجد من أجل محاولة إعادة تشكيل البلاد في الأيام القليلة القادمة. وكان يعلم أنه سوف يحتاج إلى وحدات عسكرية للمساعدة في تنفيذ الانقلاب، فطلب من الملحق العسكري في السفارة الأمريكية الجنرال روبرت ماكلور أن يزوده ببعضها. وقرر ماكلور الذي كان على معرفة وثيقة بالضباط الإيرانيين أن يبدأ بالرتب الكبرى، فاختار رئيس الأركان الجنرال رياحي.
لم يكن ممكنًا أن يشعر ماكلور بأمل كبير، وذلك لأن رياحي كان معروفًا بولائه الشديد. ولكنه كان يأمل في أن يظل على الحياد حتى ولو لم يغير موقفه وينضم إلى المتآمرين. وتمثلت مناورته الأولى في اقتراحه أن يغادر رياحي المدينة. عرض عليه أن يتوجها إلى الريف لبضعة أيام كي يمارسا الصيد. ولكن رياحي رفض ذلك العرض ببرود، وهنا تغيرت لهجة ماكلور الذي لم تُعرف عنه الكياسة قط على نحو مفاجئ. وأخبر رياحي أن مهمته العسكرية قد كلفه بها الشاه، ولذلك فسوف يقر بشرعيته على الدوام. وأضاف بغلظة أن القادة الإيرانيين عليهم أن يفعلوا نفس الشيء. وهنا اشتد سخط رياحي وطرده من منزله.
وفيما بعد في نفس اليوم واجه ماكلور الإخفاق مرة أخرى. فقد أرسله روزفلت بالطائرة إلى أصفهان وأعطاه تعليمات بأن يحاول تجنيد قائد الحامية العسكرية هناك، ولكن أسلوبه المتغطرس أضره مرة أخرى. فقد لوَّح بنسخة من الفرمان في وجه القائد وأخبره بغلظة أن عليه إرسال قوات لمحاربة مصدق. ولكن القائد أجاب بأنه يتلقى الأوامر من الإيرانيين فحسب وليس من الأمريكيين. وفقد ماكلور أعصابه عندما تلقى الرفض مرتين خلال بضع ساعات. فالتفت إلى القائد وهو يغادر حامية أصفهان وأقسم غاضبًا: «سوف أعزل مصدق من منصبه.»
وعندما هبطت طائرة ماكلور مرة أخرى في طهران كانت ثائرته قد هدأت وقرر الخطوة التالية. فاصطحب اثنين من مساعديه في جولة للقواعد العسكرية الصغيرة في العاصمة نفسها. وفي كل موقع كان يغري قائده بالأموال ووعد بالترقية في حالة نجاح الانقلاب. وفي تلك المرة حالفه الحظ. قبل العديد من الضباط المزايا التي عرضها عليهم وفيهم اثنان من قادة أفواج المشاة وقائد كتيبة الدبابات. ووعدوا بأن يكونوا مستعدين عند الطلب.
أصبح لدى روزفلت الآن وحدات عسكرية مستعدة للقضاء على الاضطرابات والقلاقل في الشوارع. وكانت مهمته التالية إحداث تلك الاضطرابات، فاتصل بالعميلين النشطين ذوي العلاقات المتعددة جليلي وكيفاني. وأخبرهما أولًا بأنه يريد جماهير غاضبة تندفع هائجة في الشوارع تهتف بولائها للشيوعية ولمصدق. كانوا في طريقهم إلى تحطيم النوافذ وضرب المتفرجين الذين لا ذنب لهم وإطلاق الرصاص على المساجد وإثارة غضب المواطنين بصورة عامة. ثم تظهر الجماهير «الوطنية» التي تقمع هؤلاء المشاكسين، ويفضل أن يكون ذلك بمساعدة ضباط الشرطة المؤيدين.
شعر جليلي وكيفاني بالقلق. فمع أنها لم تكن أول مرة يقدمان فيها مثل تلك الخدمات، فإن ما اعتزم عليه روزفلت في تلك المرة أكبر العمليات التي اضطلعا بها على الإطلاق. وكانت تمثل خطورة عليهما وخاصة إذا فشلت العملية. حتى إنهما اقترحا الانسحاب من المؤامرة بأكملها. ولكن روزفلت أقنعهما بالبقاء عن طريق عرض خيارين في غاية البساطة. فإذا وافقا على البقاء فسوف يحصلان على ٥٠ ألف دولار أمريكي لنفسيهما وللأشخاص الذين يستأجرانهم. وإذا رفضا فسوف يقتلهما. ففضلا الحصول على المال، وأعطاهما روزفلت إياه في الحال.
بدأ ذلك اليوم بهزيمة نكراء. ولكن بحلول المساء شعر روزفلت بأن الثقة تعود إليه، وقبل أن يخلد إلى النوم أرسل برقية إلى واشنطن يذكر فيها أنه ربما لا يزال يوجد «احتمال ضئيل للنجاح».
•••
لم يشارك أحد في واشنطن روزفلت في تفاؤله. ففور أن استيقظ من نومه صباح يوم الاثنين تسلَّم برقية من القيادة تحثه على مغادرة إيران بأسرع وقت ممكن. وكانت تلك المرة الثانية خلال ست وثلاثين ساعة التي ينصحه فيها رؤساؤه بالفرار. وفي تلك المرة أعد خطة للفرار تتضمن رحيله هو وزاهدي ومجموعة من الأشخاص الآخرين على متن طائرة تابعة للملحق الجوي الأمريكي، لكنه لم يمنحها مزيدًا من التفكير.
وفي منتصف النهار بدأت الأنباء تتدفق. وكانت جميعها أخبارًا جيدة. كانت مجموعة من رجال العصابات الذين تظاهروا بالتعاطف مع مصدق يشقون طريقهم من الأحياء العشوائية بجنوب طهران إلى وسط المدينة. وانضم إليهم بعض الوطنيين والشيوعيين بحسن نية. وعندما وصلوا إلى ميدان البرلمان الذي يتوسطه تمثال شاهق لرضا شاه يمتطي جوادًا، كان عددهم قد بلغ عشرات الآلاف. ولا أحد يعلم على وجه التحديد كم منهم كانوا مقاتلين حقيقيين وكم كانوا عملاء محرضين، ولكن من المؤكد أنه كان هناك الكثير منهما كليهما.
تصاعدت الهتافات عندما شرع العديد من الرجال في تسلق التمثال. وحمل أحدهم سلسلة ثقيلة حول عنقه. فلف أحد طرفيها حول عنق الجواد النحاسي وقذف الطرف الآخر إلى الأرض كي يعلق في دعامة سيارة أطلق عليها كينيت لوف «سيارة تبدو عسكرية الطراز». ثم أخذ الرجل ينشر قاعدة الحصان ويدق عليها بالإزميل. وفي نهاية الأمر سقط التمثال على الأرض محدثًا دويًّا هائلًا. وكان هذا انتصارًا آخر في حملة روزفلت لتحويل إيران إلى أقطاب متنافرة.
كتب روزفلت فيما بعد: «كان ذلك تحقيقًا لأقصى آمالنا. فكلما هتفوا ضد الشاه تأكد الشعب والجيش أنهم أعداء. وحيث إنهم يكرهون الشاه فإن الشعب والجيش يكرهانهم. وكلما زادوا في نهب المدينة وإتلافها أثاروا غضب أغلبية سكانها. ولم يكن هناك شيء يجسد الصراع أكثر أو أسرع من ذلك. ففي يوم الأحد وقعت بعض أعمال الشغب والسلب والنهب، ووصلت الأحداث إلى ذروتها يوم الاثنين.»
كان مصدق قد أمر قوات الشرطة بحسن نية ألا تتدخل في حق الناس في التظاهر، وهكذا تمكن الجماهير من الثورة وقتما شاءوا. وكانت تلك هدية رائعة لروزفلت، حيث إن أي أعمال شغب حتى تلك التي كانت خارجة عن نطاق سيطرته تصلح لإقناع الإيرانيين بأن بلادهم تسقط في هاوية الفوضى وتحتاج إلى منقذ. ولكن روزفلت ظل يخشى أن يغير مصدق رأيه ويأمر الشرطة بالتدخل. وقد تبدي قوات الشرطة شجاعة كافية لقتال الجنود المتمردين عند وصول الانقلاب إلى ذروته. وظل روزفلت يبحث عن طريقة للحد من قوتهم.
ووجد ضالته عندما وصل السفير لوي هندرسون على حين غرة في ذلك المساء. فبعد أن حضر اجتماعًا في واشنطن أعطيت فيه الموافقة النهائية على الانقلاب، توصل هندرسون إلى أنه من الحكمة ألا يعود إلى منصبه حتى يُطاح بمصدق. فذهب إلى منتجع في جبال الألب بالنمسا منتظرًا ورود أنباء. وفي الرابع عشر من أغسطس لم يصبح قادرًا على الانتظار أكثر من ذلك بعيدًا عن الأحداث، فطار متوجهًا إلى بيروت. وعندما استمع إلى تقارير إذاعية تفيد بأن الانقلاب قد فشل استقل طائرة تابعة للأسطول البحري من السفارة الأمريكية المحلية متوجهًا إلى طهران. وعندما وصل إلى السفارة توجه مباشرة إلى روزفلت الذي أطلعه على تفاصيل الموقف الحالي.
اعترف روزفلت مهوِّنًا من الأمر بأنه قد «واجه بعض الصعوبات البسيطة». وتساءل هندرسون هل توجد أي مساعدة يمكنه تقديمها. وبعد لحظات من التفكير توصل روزفلت إلى فكرة مبتكرة. فسوف يستخدم هندرسون في محاولة لإثارة أعصاب مصدق.
كان روزفلت يعلم أن مصدق رجل مرهف الحس يمكن لمحنة أرملة أو طفل يتيم استدرار دموعه. ولم يكن مصدق متآمرًا بطبيعته، ولذلك فقد كان لديه إيمان ساذج بصدق الآخرين. هذا بالإضافة إلى كونه رجلًا مهذبًا يتمتع بالشهامة ويحترم التقاليد والطقوس والشكليات الدبلوماسية. ورغم المشكلات التي وقعت في الشهور الأخيرة كان الأمريكيون لا يزالون يمثلون نقطة ضعف عنده. وإذا تمكن روزفلت من استغلال تلك الصفات في شخصية خصمه، فقد يفقد ذلك «العجوز التافه» توازنه ويجبره على القيام بحركة خاطئة. كان ذلك أحد التحديات التقليدية في الحرب النفسية، وسوف ينتج عنه أكثر المعارك غرابة في عملية أياكس.
تساءل هندرسون عندما اقترح روزفلت إرساله إلى مصدق: «ماذا أفعل بحق السماء؟»
أجاب روزفلت: «أقترح أن تشكو له من المضايقات التي يتعرض لها الأمريكيون هنا، مثل المكالمات الهاتفية من مجهولين يقولون «أيها الأمريكيون فلتعودوا إلى بلادكم!» أو يوجهون لهم شتائم بذيئة. وحتى إذا كان من يرد على الهاتف طفلًا، لا يسلم من الكلمات النابية التي يوجهها له المتحدث.»
وافق هندرسون على أن ينفذ ما يريده روزفلت. وأضاف أنه إذا سأله مصدق عن الدور الأمريكي في الدمار الذي حل بإيران فسوف «يوضح أننا لا ننتوي التدخل في الشئون الداخلية لدولة صديقة». واعتبرها روزفلت عاطفة نبيلة ولكنه لم يعلق على ذلك.
كان مساء الاثنين أشد الأوقات صعوبة في المقر طبقًا لتحليل المخابرات المركزية الأمريكية للأحداث. وقضى روزفلت أربع ساعات في جلسة تخطيط مكثفة مع عملائه الرئيسيين ومنهم الإخوة راشيديان والجنرال زاهدي وابنه أرديشير والجنرال هداية الله جويلانشاه، وهو قائد سابق للقوات الجوية تعهد بالمشاركة في المؤامرة. وكانوا جميعًا يتسللون داخل مجمع السفارة وخارجه مختبئين تحت الأغطية الثقيلة أو في حقائب السيارات.
أصبح روزفلت الآن يعمل على مسئوليته الخاصة. فلم تكن هناك خطة بديلة في حالة فشل الانقلاب الأول، وهكذا فقد أخذ يرتجل الخطة. وكان مشغولًا بصفة مستمرة، فلم يكن لديه الوقت أو الرغبة في أن يوضح قراراته لرؤسائه. وحتى لو كان يرغب في ذلك، فقد كانت تقنيات الاتصالات بطيئة ولا يعتمد عليها. وهكذا ففي تلك الأيام لم يكن أحد في واشنطن أو لندن يمتلك أي فكرة عما يفعله روزفلت.
أدرك روزفلت منذ بادئ الأمر أن مصير حكومة مصدق سوف تحدده الجماهير في نهاية الأمر. وكان لدى عملائه الإيرانيين القدرة على حشد الجماهير على الفور. فوضع خطة تعتمد على استخدام المظاهرات المؤيدة والمعارضة للحكومة، ولكن في نهاية الأمر لم تكن طبيعة مطالب الجماهير مهمة. بالطبع كان رائعًا أن تهتف الجماهير مطالبين بطرد مصدق، ولكن المظاهرات المؤيدة له كانت أيضًا مفيدة لأنها تساعد على انقسام الآراء وربما تحرض جنود الشاه على اتخاذ إجراءات قمعية. ولكن كل ما كان يهم بالفعل هو إثارة حالة من الارتباك والبلبلة في إيران.
•••
ازدادت يوم الثلاثاء حدة المظاهرات التي هزت أرجاء طهران يوم الاثنين. فقد اندفع آلاف من المتظاهرين في الشوارع ينهبون المتاجر ويحطمون صور الشاه ويجتاحون مكاتب الجماعات الموالية للشاه غير مدركين وقوعهم تحت تأثير المخابرات المركزية الأمريكية. وانضم الوطنيون والشيوعيون المتحمسون إلى تلك الفوضى. كانت الشرطة لا تزال تنفذ أوامر مصدق بعدم التدخل. أتاح هذا الفرصة أمام المتظاهرين كي ينفذوا مهمتهم وهي إعطاء الانطباع بأن إيران تنزلق في هاوية الفوضى السياسية. ولمح روزفلت المتظاهرين لمحة عابرة أثناء رحلاته السرية في أنحاء المدينة، وقال: «لقد أثاروا خوفي بشدة.»
ولكن الحدث الأهم في ذلك اليوم لم يحدث في الشارع بل خلف الأبواب المغلقة. ففي منتصف المساء توجه السفير هندرسون لزيارة مصدق. فوجد الرجل العجوز في حالة مزرية. لم يكن مصدق يتخيل أن العملاء السريين في السفارة الأمريكية يعملون ليل نهار من أجل الإطاحة بحكومته. وحيث إنه لم يكن يدرك وجود شخص مثل كيرمت روزفلت، لم يتخيل أن روزفلت يستغل هندرسون كي ينصب له فخًّا. ومع ذلك فقد كان يعلم أن بعض القوى الخارجية تدخلت في محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت يوم السبت. ولذلك كان عليه أن يأخذ حذره.
استقبل مصدق السفير بالملابس الرسمية في إشارة لأهمية ذلك الاجتماع. وكان شديد الهدوء ولكن هندرسون لاحظ «الغضب الكامن» واضحًا تحت ستار مجاملاته. كان الموقف الرسمي الأمريكي يفيد بأن الشاه لا يزال زعيم إيران، واعترض مصدق على ذلك الدعم الأمريكي «لرجل لم يعد الآن سوى مجرد متمرد». وأجاب هندرسون أنه إذا كان الشاه قد هرب، فقد هاجر النبي محمد أيضًا من مكة، ومنذ ذلك الحين أخذ نفوذه يزداد. أدهشت تلك الملاحظة مصدق، وتوقف قليلًا كي يفكر فيها. وهنا قرر هندرسون أنه قد حان الوقت كي يلقي الخطبة التي أعدها له روزفلت. وأخذ يتحدث عابسًا ونبرة صوته تتصاعد في غضب مصطنع.
قال: «يتعين عليَّ أن أخبرك بأن مواطنيَّ يتعرضون للمضايقات الشديدة. فهم يتلقون مكالمات تهديدية غالبًا ما يرد عليها الأطفال الذين يسمعونهم كلمات بذيئة لا يفترض بالأطفال أن يسمعوها، وليس ذلك فحسب، بل إنهم أيضًا يتعرضون لإهانات في الشوارع وهم ذاهبون إلى أعمالهم في سلام. وبالإضافة إلى كل أشكال الاعتداء اللفظي التي يتعرضون لها، تتعرض سياراتهم أيضًا للتحطيم كلما تركت مكشوفة. فتسرق قطع الغيار وتهشم المصابيح الأمامية وتفرغ الإطارات من الهواء، وإذا تركت السيارات دون إغلاق القفل يمزق فرشها. وما لم يوقف هذا النوع من المضايقات يا معالي رئيس الوزراء، فسأطالب حكومتي بسحب كل الرعايا وكل الأشخاص الذين لا تتطلب مصالحنا الوطنية وجودهم هنا.»
كان حريًّا بمصدق أن يضحك من ذلك المشهد التمثيلي الكاذب. فقد خطط الأمريكيون للثورة في إيران، ولكن هندرسون يصورهم ضحايا تلك الثورة. وقص روايات شديدة المبالغة عن تلك الاعتداءات المزعومة دليلًا على كلامه. ولكن يا للعجب بدا مصدق متألمًا بشدة من تلك القصص الوهمية، وفزع من احتمال مغادرة الأمريكيين لإيران. وروى هندرسون أنه «اهتز بشدة» وسرعان ما «ارتبك وأخذ في الاعتذار».
تمكن روزفلت من تحليل نفسية خصمه ببراعة شديدة. ولما كان مصدق قد تربى في بيئة غرست فيه اللطف وحسن الضيافة، كان صادمًا له أن تساء معاملة ضيوف إيران هكذا. وتغلبت تلك الصدمة على حسن تقديره للأمور، فقبل أن يغادر هندرسون المكان رفع سماعة الهاتف واتصل برئيس الشرطة. أخبره بأن الاضطرابات في الشوارع قد أصبحت لا تطاق وأنه قد حان الوقت كي تضع الشرطة حدًّا لها.
وهكذا أرسل مصدق الشرطة كي تهاجم مجموعة من الجماهير تتضمن العديد من أشد مؤيديه حماسًا. وكي يضمن ألا يخرج أنصاره في الشوارع مرة أخرى في اليوم التالي، أصدر قرارًا بمنع المظاهرات الجماهيرية. بل إنه خاطب زعماء الأحزاب الموالية للحكومة وطالبهم بإبقاء الناس في المنازل. وهكذا جرد نفسه من السلاح وأصبح أعزل. وكان ذلك «خطأه القاتل» طبقًا للرواية التي نشرتها مجلة «تايم» بعد ذلك بأسبوع.
على مدار الساعات التالية ارتكب مصدق العديد من الأخطاء الأخرى. كان مصرًّا على إثبات جديته في قمع مظاهرات الشوارع، ولذلك فقد حشد الجنود بقيادة الجنرال محمد دفتري، وهو ضابط معروف بحماسه الشديد في قمع النضال المدني. ولكن دفتري الذي كان رئيسًا لشرطة طهران في حكومة رازمارا منذ عدة سنوات كان أيضًا مؤيدًا صريحًا للملكية ومقربًا إلى زاهدي. وكان كل شيء يدعو إلى اليقين من أنه إذا أُمِرَ بالتحرك فسيوجه رجاله مباشرة إلى جانب المتآمرين. وهو ما حدث بالضبط. وفي اليوم التالي لم يدافعوا عن الحكومة بل انضموا إلى محاولات الإطاحة بها.
وفور أن أصدر مصدق أوامره المصيرية بدأت حملة لفرض النظام. وكتب كينيت لوف في جريدة «نيويورك تايمز»: «بدأ رجال الشرطة والجنود الليلة الماضية في اتخاذ إجراءات ضد المتظاهرين والمواطنين المتطرفين من أنصار حزب تودة (الحزب الشيوعي). وبدت القوات كما لو كانت قد أصيبت بالجنون وهي تصطدم بالمتظاهرين مستخدمة الهراوات والبنادق والعصي المضيئة وتقذفهم بقنابل الغازات المسيلة للدموع.»
كان محمد رضا شاه من ضمن أولئك الذين لم يكن لديهم فكرة عن الأحداث الجارية في طهران. وبعد أن وصل إلى بغداد أصر على أنه لم يكن متورطًا في محاولة انقلاب ولكنه أقال مصدق بسبب «انتهاكه الصارخ للدستور». وعلى غرار كل من اشتركوا في المؤامرة افترض الشاه أن إخفاق يوم السبت يعني نهاية عملية أياكس. وفي صباح الثلاثاء استقل هو والإمبراطورة ثريا طائرة نفاثة تابعة لشركة الخطوط الجوية البريطانية متجهين إلى روما. وذكرت جريدة «لندن تايمز» أن «كليهما بدا عليه الإرهاق والكآبة والقلق وهما يغادران الطائرة».
بدا أن الشاه قد استسلم لفكرة الغياب الطويل عن إيران. فعندما سأله أحد الصحفيين الأمريكيين هل يتوقع العودة، أجاب: «من المحتمل، ولكن ليس في المستقبل القريب.» وتنبأ أحد المراسلين الصحفيين البريطانيين بأنه «ربما ينضم إلى الجالية الصغيرة من الملوك المنفيين الذين يعيشون في روما».
ولكن بينما كان الشاه ينزل في فندق إكسلسيور بروما، كان روزفلت يبذل جهودًا كبرى لإعادته إلى بلاده. وكان اليوم التالي هو اللحظة الفاصلة. فإذا سار كل شيء كما هو مخطط له فستمتلئ الشوارع بالمظاهرات الصاخبة المؤيدة للشاه بحلول منتصف النهار. وسوف يراهم المواطنون أشخاصًا مهذبين لم يعودوا قادرين على تحمل الفوضى التي وقعت في الأيام الأخيرة، ولن تتدخل قوات الشرطة المتعاطفة معهم.
تمكن روزفلت من تنظيم حشد عجيب من الجماهير بمساعدة عملائه الإيرانيين فائقي الأهمية. فبالإضافة إلى رجال عصابات الشوارع وبعض المجرمين الآخرين، تضمن هؤلاء الجماهير العديد من أعضاء الجمعيات الرياضية بطهران. لم يكن هؤلاء الرياضيون يتفاخرون بقوتهم فحسب، بل أيضًا بالمهارات التي اكتسبوها مثل الشعوذة والحيل البهلوانية، وكانوا ينضمون للاستعراضات أو يقدمون عروضًا خاصة بهم في المناسبات الاحتفالية. لم يكن هؤلاء الناس موسرين. وكان بعضهم يكسب عيشه من الدخول في مشروعات مثل الاتجار بالخضروات في السوق السوداء. وكانوا يتوقعون من قادتهم أن يعينوهم على كسب عيشهم. فعندما أتت المخابرات المركزية الأمريكية تبحث عن متظاهرين كانوا مستعدين ومتحمسين لتلك المهمة.
قال جون والر مدير مكتب إيران بالمخابرات المركزية الأمريكية متأملًا: «في إيران يمكنك جمع حشد مخيف. أو يمكنك جمع حشد ودود. أو جمع حشد متوسط بينهما. أو يمكنك تحويل أحدهما إلى الآخر.»
كان روزفلت قد ضمن الحصول على مساعدة قوات الشرطة التي كانت واقعة إلى حد بعيد تحت سيطرة الجنرال دفتري، بالإضافة إلى العديد من الوحدات العسكرية. والآن أصبح لديه أيضًا مزايا امتلاك حشد رائع من الجماهير. ولكن أسد الله راشيديان الذي لا يستغنى عنه كان قلقًا من ألا يكون عدد الجماهير كافيًا. فحث روزفلت على زيادة موقفه قوة عن طريق عقد اتفاق في اللحظات الأخيرة مع الزعماء الدينيين المسلمين الذين كان العديد منهم يمتلكون الكثير من الأتباع والمريدين ويمكنهم حشد جماهير غفيرة في وقت قصير. وكان أهمهم آية الله كاشاني الذي انقلب على مصدق بالفعل ومن المؤكد أنه سيتعاطف معهم. فاقترح راشيديان استخدام النقود كي يشجعه على الانضمام لهم. ووافق روزفلت على تلك الفكرة. وفي صباح الأربعاء أرسل عشرة آلاف دولار أمريكي إلى أحمد أراماش كاتم سر كاشاني مع تعليمات بإعطاء ذلك الإمام إياها.
•••
كان يوم الأربعاء يوافق التاسع عشر من أغسطس أو الثامن والعشرين من مورداد بالتقويم الفارسي. وفي ذلك اليوم كان روزفلت يأمل في أن يغير مجرى تاريخ أمة بأسرها. وبعد أن جهز النقود لكاشاني وأرسل رسله بها لم يجد شيئًا آخر يفعله. فقد حان الوقت للآخرين كي يعملوا. وما كان عليه إلا أن ينتظر ويراقب الأحداث.
بدءوا بعمالقة الزورخانة، حاملي الأثقال الذين عملوا على بناء أجسامهم عن طريق مجموعة من التدريبات الرياضية الإيرانية القديمة التي تعتمد على حمل أثقال متدرجة في الوزن. وقد تمكن عمالقة الزورخانة من بناء عضلات أكتاف ضخمة وعضلات ذراع هائلة. وانطلقوا في الشوارع معًا مكونين مشهدًا مخيفًا. وبدأ نحو مائتين من حملة الأثقال يومهم بمسيرات في السوق وهم يهتفون «فليحيَ الشاه!» كانوا يؤدون حركات مثل الدراويش. وكان يقف على جانبَي الحشد رجال يوزعون عملات من فئة عشرة ريالات … وازداد عدد الجماهير حتى أصبح الهتاف «فليحيَ الشاه!» يصم الآذان. وعندما مر الحشد بمقرات الصحف المؤيدة لمصدق حطم الرجال النوافذ ونهبوا المكان.
لم يحاول أحد إيقاف المتمردين أثناء زحفهم نحو وسط المدينة. ففي بادئ الأمر شجعهم ضباط الشرطة، وعندما انقضى المساء بدءوا يقودونهم. ولم تكن هناك مظاهرات مضادة. احترم مؤيدو مصدق رغبته والرسالة التي خلفتها ضربات الأمس وفضلوا البقاء في منازلهم.
كانت المجموعة الأخرى الوحيدة التي بإمكانها حشد قواتها للدفاع عن الحكومة هي حزب تودة، ولكن زعماءه قضوا اليوم في اجتماعات غير قادرين على اتخاذ قرار بالتحرك أم لا. ولم يكن مصدق يثق بهم أو يريد مساعدتهم بأي حال. فقد اتصل به أحد زعماء تودة في اليوم السابق وتطوع بإعطائه قوات الصاعقة التابعة لتودة بشرط أن يتولى هو تسليحهم. ولكن مصدق أقسم قائلًا: «فليقطع ذراعي الأيمن إذا وافقت على تزويد أحد الأحزاب السياسية بالسلاح!»
ولكن العداء لمصدق لم يكن السبب الحقيقي الذي لم يجعل زعماء تودة يستدعون مقاتلي الشوارع التابعين لهم في ذلك اليوم العصيب. فعلى غرار معظم الأحزاب الشيوعية في العالم كان حزب تودة يسيطر عليه الاتحاد السوفييتي، وفي أوقات الأزمات يتلقى أوامره من موسكو. ولكن في ذلك اليوم لم تأتِ أي أوامر. كان ستالين قد توفي منذ بضعة أشهر ويمر الكرملين بحالة من الفوضى. وضباط المخابرات الروسيون الذين ينصب اهتمامهم على إيران في الأحوال العادية منشغلون بتحدٍّ أكثر أهمية وهو البقاء على قيد الحياة. سيظل السؤال التالي أحد ألغاز عملية أياكس: هل فكر أحدهم في محاولة الدفاع عن مصدق؟ وحاول الباحثون الوصول إلى سجلات في موسكو تمكنهم من حل ذلك اللغز، ولكن طلباتهم قوبلت بالرفض.
ومع انقضاء النهار ملأت الحشود المندفعة من الأحياء العشوائية بجنوب طهران الجو بهتافات «الموت لمصدق!» و«يحيا الشاه!»، وانضم إليهم المئات من الجنود بعضهم في الشاحنات أو فوق الدبابات. وانضم إليهم أيضًا بعض رجال القبائل من خارج المدينة الذين حشدهم الزعماء الذين حصلوا على أموال من عملاء روزفلت. وهاجمت مجموعات من المتظاهرين ثمانية مبانٍ حكومية ومقرات ثلاث صحف مؤيدة للحكومة وأضرمت النيران فيها، وفيها صحيفة باختار أمروز التي يمتلكها وزير الخارجية فاطمي. وهاجم آخرون وزارة الخارجية ومقر القيادة العامة ونقطة الشرطة المركزية. وأطلقوا النيران على المباني الثلاثة فقوبلوا بوابل من الرصاصات. وسقط العشرات من القتلى.
ظل عملاء روزفلت يأتون بأنباء سارة. ففي نهاية ذلك الصباح أبلغه أحدهم بأن «الجماهير الغفيرة» قد احتلت كل الميادين الرئيسة في المدينة. وأبلغه آخر بأن قائد الحامية العسكرية في كرمانشاه التي تبعد أربعمائة ميل إلى الغرب قد انضم إليهم وبدأ يقود رجاله نحو العاصمة. كما أبلغه أن مجموعة بقيادة علي جليلي قد استولت على مقر الشرطة العسكرية وأطلقت سراح المتآمرين الذين قُبِضَ عليهم بعد محاولة الانقلاب التي وقعت يوم السبت. وكان من بينهم العقيد نصيري الذي شرع على الفور في تنظيم صفوف الحرس الملكي كي يساعد المتمردين.
كان جزء من عشرات الآلاف الذين سيطروا على الشوارع في ذلك اليوم يعارضون مصدق دومًا لسبب أو لآخر. هذا في حين كان آخرون أنصارًا سابقين انقلبوا عليه أثناء الصراعات السياسية التي حدثت في الشهور الأخيرة. وكان العديد منهم وفقًا لجريدة «نيويورك تايمز» من «عصابات الأسواق والبلطجية» الذين لا يملكون أي قناعات سياسية، ولكنهم اشتركوا في المسيرة لأنهم حصلوا على أجرة عمل يوم كامل في مقابل ذلك.
أكد ريتشارد كوتام الذي كان من ضمن فريق عملية أياكس في واشنطن قائلًا: «كانت تلك الجماهير التي أتت إلى شمال طهران مصرة على قلب نظام الحكم من المرتزقة. لم يكونوا يعتنقون مذهبًا محددًا، وقد حصلوا على أجرتهم بالدولار الأمريكي.»
ولكن الجماهير تحتاج إلى زعيم كي تصبح مؤثرة، ومع أن زعماء العصابات من أمثال شعبان الأبله كانوا يتمتعون بالقوة والضخامة، فإنهم لم يكونوا يتمتعون بالذكاء على الإطلاق. وكان معظم الزعماء الذين ظهروا في ذلك اليوم من الضباط متوسطي الرتب. وعلى غرار نظرائهم من المدنيين كانوا مزيجًا من الملتزمين بالقضية والمحرَّضين عن طريق الرشوة. واقتنع عدد كبير منهم بالانضمام إلى الانقلاب بفضل سلطة الفرمان الذي يقضي بتعيين زاهدي رئيسًا للوزراء. فقد اقتنعوا بأنه إذا كان الشاه قد أمر فعلى الجيش أن يطيع.
أضفى هؤلاء الجنود على الثورة مظهرًا من الشرعية. وأحضروا أيضًا مجموعة كبيرة من الأسلحة وفيها الدبابات والمدفعية، وقادوا الهجوم على العديد من المباني الحكومية. ولولا سلطتهم الروحية ومهاراتهم في القتال لكان من المحتمل أن يفشل ذلك الانقلاب.
كان كل شيء يسير وفقًا للخطة الموضوعة عندما فتح باب مقر القيادة الخاص بروزفلت فجأة قبيل منتصف النهار. فنظر آملًا أن يرى أحد العملاء يحمل تقريرًا من الجبهة الأمامية، ولكنه رأى عامل الهاتف اللاسلكي تبدو عليه أمارات الذهول ويكاد يبكي. وكان يحمل في يده رسالة عاجلة من بيدل سميث في واشنطن. كان سميث قد أرسل تلك الرسالة منذ أربع وعشرين ساعة، ولكنها تعطلت في محطة إعادة البث في قبرص. وكانت الرسالة أمرًا آخر لروزفلت بالفرار في الحال كُتِبَت بلهجة أقوى من الرسالتين السابقتين.
وصلت تلك الرسالة في أسوأ وقت ممكن. وانفجر روزفلت — الذي كان يشعر بأن النصر صار في متناول اليد — ضحكًا عندما قرأها. وقال لعامل الهاتف المرتبك: «لا تبالِ يا صديقي. فأنت مختبئ تحت الأرض ولا يمكنك أن تعلم. ولكن كل شيء قد تغير! والأمور تسير الآن بطريقتنا. سينتصر الحق. وسوف يكون كل شيء على ما يرام، وسوف نجمع كل المزايا في آنٍ واحد!»
أرسل روزفلت عامل الهاتف إلى مخبئه محملًا برد للجنرال سميث. وقد جاء في ذلك الرد: «تسلمت رسالتك الخاصة بيوم الثامن عشر من أغسطس. ويسعدني أن أخبرك بأن آر إن زيجلر [الاسم الحركي لزاهدي] قد تقلد منصبه بسلام وأن كيه جي سافوي [الاسم الحركي للشاه] سيعود إلى طهران منتصرًا عن قريب. وأرسل إليك التحيات والقبلات من الفريق بأكمله.»
كان ذلك الكلام بالطبع سابقًا لأوانه، ولكنه عكس الثقة الشديدة التي كان يشعر بها روزفلت في تلك المرحلة. وفي روايته الخاصة كان «يبتسم ابتسامة عريضة». ولم يكن قد تناول وجبة مشبعة منذ عدة أيام فشعر فجأة بالجوع الشديد. وكان أحد معارفه مستشارًا للسفير هندرسون ويمتلك منزلًا في مجمع السفارة، فذهب إليه كي يتناول الغداء ويحتسي مشروبًا.
وبالخارج كانت طهران تمور بالثورة، وترددت أصداء الهتافات في الأجواء تتخللها أصوات إطلاق النيران وانفجارات قذائف الهاون. وظلت فرق الجنود والشرطة تندفع عبر بوابة السفارة كل بضع دقائق. ولكن مضيف روزفلت وزوجته كانا مثالًا للحكمة، فلم يوجها له أي سؤال عما يحدث.
كان المذياع مفتوحًا. ومع أن المذيع كان يعلن أسعار القمح فقد استمع روزفلت باهتمام. لقد أرسل أحد الفرق الإيرانية كي تهاجم محطة الإذاعة. وإذا سارت الأمور على ما يرام فسوف يتغير برنامج الإرسال.
وبينما كان الأمريكيون الثلاثة يتناولون طعامهم في صمت، بدأ المذيع يتحدث ببطء شديد كما لو كان يغلبه النعاس. وبعد فترة توقف عن الحديث تمامًا، وكان واضحًا أن ثمة شيئًا غير عادي يحدث في محطة الإذاعة. وابتسم روزفلت بخبث إلى رفيقَي المائدة اللذين لم يفهما ما حدث. ومرت بضع دقائق من الصمت ارتفعت بعدها أصوات رجال يتشاجرون. وفي نهاية الأمر صاح أحدهم بلهجة آمرة «لا يهم من يقرؤه، ولكن المهم أن يُقرأ!» وبنبرة شديدة العاطفية بدأ يعلن ما أطلق عليه روزفلت «أكاذيب متعمدة أو نصف حقائق».
صاح: «لقد سقطت حكومة مصدق! وتولى رئيس الوزراء الجديد فضل الله زاهدي منصبه. وجلالة الشاه في طريقه للعودة إلى الديار الآن!»
لم يتعرف روزفلت على ذلك الصوت، فقد سبق أحد ضباط الجيش العميل الخاص به إلى الميكروفون، ولكن الرسالة وصلت كما يريدها بالضبط: «كانت حكومة مصدق متمردة، ولذلك فقد سقطت.» وترك روزفلت المائدة وشكر مضيفيه على حسن ضيافتهما وانسحب.
عاد روزفلت إلى مقر القيادة بعد أن تجاوزت الساعة الثانية بقليل. فوجد رفاقه الذين كانوا يستمعون إلى المذياع أيضًا في حالة ابتهاج. وعندما ظهر روزفلت نظروا إليه، ومرت لحظة صمت استمتعوا فيها بإدراك أن اليوم يوم نجاحهم. وبعد لحظات بدءوا يرقصون في الغرفة الضيقة. ويتذكر روزفلت أنهم كانوا بالفعل «يفيضون بالابتهاج».
ما الخطوة التالية؟ افترض أحد العملاء أن الجماهير الآن في قمة حماسها، فاقترح أنه قد حان الوقت لتقديم زاهدي. ولكن روزفلت رفض قائلًا إن الوقت لا يزال مبكرًا لاتخاذ تلك الخطوة.
وأكد بقوله: «ليس هناك ما يدعونا للعجلة. فلننتظر حتى تصل الجماهير إلى منزل مصدق. وسوف تكون تلك لحظة مناسبة كي يظهر فيها بطلنا.»
كانت الوحدات العسكرية بقيادة الضباط المعادين لمصدق قد بدأت بالفعل في التجمع أمام منزله. وبالداخل أخذ الجنود المخلصون يقيمون التحصينات ويستعدون للمعركة. وكانوا مسلحين بالبنادق والمدافع الرشاشة ودبابات شيرمان مثبت عليها مدافع من عيار ٧٥ ملِّيمترًا. وبدأ الهجوم في أواخر ذلك المساء. وتمكن المدافعون من صد هجمة تلو الأخرى، وملأت الجثث الأرصفة. وبعد ساعة من القتال من طرف واحد هلل المهاجمون فرحًا. فقد وصلت وحدات الجيش الصديقة مزودة بالدبابات. وسرعان ما بدأ اشتباك المدفعية. وكانت عملية أياكس تقترب من الذروة.
وفور أن علم روزفلت ببدء الهجوم، قرر أن يحضر الجنرال زاهدي من مخبئه الذي ظل قابعًا فيه لمدة يومين. وقبل أن يرحل استدعى الجنرال جويلانشاه الذي كان جالسًا في أحد المنازل الآمنة التابعة للمخابرات المركزية الأمريكية مثل زاهدي ينتظر التعليمات بفارغ الصبر، وطلب روزفلت من الجنرال أن يحضر دبابة ويقودها إلى مخبأ زاهدي. وكتب له العنوان على قصاصة من الورق ثم ذهب إلى هناك بنفسه.
عندما وصل روزفلت كان زاهدي جالسًا في إحدى حجرات الطابق الأرضي مرتديًا ملابسه الداخلية. واهتز طربًا عندما علم أن لحظة النصر قد حانت. وبينما كان يرتدي زيه العسكري سمع جلبة بالخارج. لقد وصل الجنرال جويلانشاه ومعه دبابتان وحشد من الناس يهتفون مهللين.
بعد ذلك بأعوام عديدة، وربما بفضل سمعة جد روزفلت الذي كان مغامرًا جريئًا، انتشرت إشاعة تفيد بأن روزفلت جلس منتصرًا فوق الدبابة الأمامية وهي تشق طريقها في شوارع طهران متجهة نحو منزل مصدق. ولكن في حقيقة الأمر أدرك روزفلت فور أن سمع الحشد المصاحب للجنرال جويلانشاه أنه يجب ألا يشاهَد في حضرة زاهدي. وبينما كان باب القبو يُفتح بالقوة قفز يختبئ في فجوة صغيرة خلف الموقد. ومن مخبئه رأى الحشد المتهلل يعانق زاهدي ويحمله على الأكتاف إلى الخارج.
وبعد رحيل ذلك الحشد تسلل روزفلت خارجًا من مخبئه وانطلق إلى سيارته وقادها عبر الشوارع الهائجة متجهًا إلى السفارة. لقد شرب هو ومساعدوه نخب النصر الوشيك. وكتب فيما بعد: «في الواقع لم يكن النصر وشيكًا بل كان قد تحقق من كل الجوانب. لم يكن العقيد الآتي من الغرب [من كرمانشاه] ليبلغ طهران قبل المساء، ولكن إشاعة تحركه قد أعطتنا كل ما نحتاجه. وأضاف وصول قواته المزيد من الحماس لمدينة غارقة بالفعل في النصر حتى الثمالة.»
اتجهت الدبابة التي يركبها زاهدي أولًا نحو محطة إذاعة طهران. وشق طريقه وسط المعجبين شديدي الانفعال عبر سلالم المحطة. كان قد تقرر أن تنطلق الموسيقى العسكرية قبل أن يخاطب زاهدي الشعب، وكان أحد عملاء روزفلت قد أحضر معه بعض الأسطوانات المناسبة من مكتبة السفارة. وعندما كان زاهدي يقترب بدأ أحد الفنيين تشغيل الأغنية الأولى. وأحرج الجميع عندما اتضح أن تلك الأغنية هي النشيد الوطني الأمريكي.
ثم اختيرت مقطوعة أخرى مجهولة بسرعة. وهنا تقدم زاهدي إلى الميكروفون. وقدم نفسه بصفته «رئيس الوزراء الشرعي للبلاد طبقًا لأوامر الشاه»، ووعد بأن النظام الجديد سوف ينفذ الكثير من الإصلاحات، مثل بناء الطرق وتقديم الرعاية الصحية المجانية ورفع الأجور وضمان الحريات والأمن. ولكنه لم يقل أي شيء عن النفط.
كانت الوحدات العسكرية والشرطة التي تدين بالولاء لزاهدي تسيطر على طهران. فاستولت إحداها على مكتب التلغراف وأخذت ترسل الرسائل في كافة أنحاء البلاد تعلن الإطاحة بمصدق. وتولت وحدة أخرى القبض على الجنرال رياحي رئيس أركان الجيش. وانضم العديد منها إلى المعركة التي تدور خارج منزل مصدق.
وفي تلك اللحظة لم يكن محمد رضا شاه المكتئب يدرك وقوع تلك الأحداث، وكان يتناول عشاءه في الفندق الذي يقيم به بروما بصحبة زوجته واثنين من مساعديه. وفجأة اندفع مجموعة من المراسلين الصحفيين إلى المطعم متجهين نحو مائدة الشاه ووضعوا تقارير وكالات الأنباء التي أتت من طهران بين يديه. في البداية، لم يصدق الشاه. واندفع قائلًا دون تفكير: «أيكون ذلك حقيقيًّا؟» وشحب وجهه. وارتعشت يداه بشدة. ثم قفز واقفًا.
وصاح: «كنت أعلم ذلك! كنت أعلم ذلك! إنهم يحبونني!»
أما الإمبراطورة ثريا التي كانت أقل تأثرًا فقد وقفت وأمسكت بذراع زوجها كي تهدئ من روعه. وهمست: «يا له من أمر مثير!»
وبعد أن ذهبت آثار الصدمة استعاد الشاه رباطة جأشه. والتفت إلى المراسلين الصحفيين قائلًا: «ليس هذا عصيانًا مسلحًا. ولدينا الآن حكومة شرعية. فقد عينت الجنرال زاهدي في منصب رئيس الوزراء.» وبعد لحظة صمتٍ أضاف: «تسع وتسعون بالمائة من الشعب يؤيدني. كنت أعلم ذلك طوال الوقت.»
توجه العاهل الشاب نحو بهو الفندق وهو لا يزال في حالة من الذهول حيث كان هناك حشد مجتمع من المراسلين الصحفيين والسائحين الفضوليين. فأخبرهم أن رغبته الأولى تتمثل في العودة إلى بلاده. وقال: «يؤسفني أنني لم أؤدِّ دورًا مهمًّا في كفاح شعبي وجيش بلادي من أجل الحرية، بل على العكس كنت بعيدًا في أمان. ولكنني غادرت البلاد من أجل حرصي على تجنب إراقة الدماء فحسب.»
ومع أن الانقلاب كان الآن على وشك النجاح، فقد ظل مصدق يقاوم. وفي الوقت الذي احتدم فيه القتال حول منزله ظل جالسًا بهدوء ملحوظ في غرفة نومه. كان الحرس قد غطوا معظم أجزاء النافذة بشريحة من الصلب، بحيث يتمكن من سماع ما يحدث بالخارج ولكن دون أن يتمكن من الرؤية. وعندما حثه مساعده علي رضا صاحب على الفرار، هز رأسه رافضًا وقال: «إذا كان ذلك بالفعل انقلابًا فأنا أفضل أن أظل في تلك الغرفة وأموت فيها.»
شعر المهاجمون بالخارج بالقوة في صفوفهم. فقد استمعوا إلى زاهدي في المذياع وهو يعلن انتصاره، وعلموا أن قافلة صديقة من الجنود آتية من كرمانشاه. وحيث أخذ مخزون الذخيرة في المنزل يتضاءل أحكموا الخناق أكثر فأكثر.
لو كان ضباط الجيش المخلصون قد علموا ما يحدث ربما كانوا سيهرعون للدفاع عن مصدق. ولكنهم لم يعلموا غالبًا لأن الجنرال رياحي الذي كان من المفترض أن يستدعيهم كان معتقلًا. ولكن قبل القبض عليه تمكن رياحي من الاتصال بنائبه الجنرال عطاء الله كياني الذي كان يقود ثكنات عشرات آباد فيما كان آنذاك في إحدى المناطق النائية المجاورة لطهران. وأمر كياني في الحال كتيبة من المشاة وأخرى من الدبابات بالتجمع واتباعه حتى وسط المدينة. ولكن قبل أن يذهب بعيدًا اصطدم بطابور من المتمردين بقيادة الجنرال دفتري. وبالمقارنة بينهما كان دفتري الأكثر رقيًّا وإقناعًا.
فبادر كياني بقوله: «إننا زملاء وإخوة، وكلنا مخلصون للشاه، فلا يجب أن نطلق النيران بعضنا على بعض.» وبعد الاستماع إلى المزيد من الكلام المعسول اقتنع كياني، وتعانق الجنرالان ومساعدوهما فيما أطلق عليه الإيرانيون «حفل قبلات». وهكذا عاد رجال كياني الذين كان بإمكانهم إنقاذ مصدق إلى ثكناتهم.
احتدم القتال أمام منزل مصدق لمدة ساعتين. وبعد أن توقف إطلاق النيران من الداخل اقتحمت فصيلة من الجنود المنزل فوجدوه خاليًا. كان مصدق قد هرب في اللحظة الأخيرة، حيث دفعه مساعدوه الهاربون عبر سور الحديقة الخلفي. وأخذ الضباط يفتشون المنزل لمدة ساعة تقريبًا، وحملوا أفضل قطع الأثاث في المنزل في شاحنات كانت بانتظارهم ثم انطلقوا. وهكذا فقد أجبروا الرجل العجوز على الرحيل، ومع أنهم لم يظفروا به فقد علموا أنهم أبلوا بلاء حسنًا.
وحيث اختفى الجنود المنتصرون في جنح الليل، احتشد المتظاهرون الذين كانوا يشجعونهم في منزل مصدق كي يقوموا بأعمال النهب والتخريب، فأخذ بعضهم يشعل الحرائق. وأخذ آخرون ينتزعون الأبواب والنوافذ والأجهزة ويلقون بها على الرصيف كي يبيعوها، وأخذوا يساومون في الأسعار والحرائق تشتعل خلفهم. وبيعت ثلاجة مصدق بستة وثلاثين دولارًا أمريكيًّا.
وفي مجمع السفارة كان مجموعة العملاء السريين الذين خططوا للانقلاب طبقًا لوصف روزفلت في «قمة الابتهاج والمرح، ومن حين إلى آخر كان أحدنا يضرب الآخر على ظهره ضربة مفاجئة تعبيرًا عن الحماس الشديد». وظل الدبلوماسيون في السفارة ينظرون إليهم بفضول. ولكنهم لم يسألوا عن شيء ولم يخبرهم روزفلت بأي شيء.
وفي حين كان منزل مصدق يحترق توقفت سيارة أمام بوابة السفارة الأمريكية. وأطلق قائدها النفير بحدة، فهرع روزفلت كي يرى من يكون. فوجده أرديشير زاهدي. قفز الرجل من السيارة وعانقه بحماس شديد.
وبادره أرديشير قائلًا: «يجب أن تذهب الآن إلى والدي كي تلقي التحية على رئيس الوزراء الجديد.»
رد روزفلت: «فلنتبادل حديثًا قصيرًا مع السفير هندرسون قبل أن نذهب. فأنا أعتقد أنه يستحق أن يُبلغ بالأمر بصفة رسمية، وأنت الشخص المناسب كي يؤدي تلك المهمة.»
تأبط شريكا المؤامرة أحدهما ذراع الآخر، وانطلقا يقفزان في طريقهما إلى مقر إقامة السفير. فوجدا هندرسون جالسًا بجوار حمام السباحة. كان قد وضع زجاجة من الشامبانيا في الثلج، وعندما وصل ضيفاه فتحها. وقصا عليه تلك الأخبار الرائعة، وفيها حقيقة أن رئيس الوزراء الجديد قد عيَّن اثنين من عملاء روزفلت الإيرانيين في الوزارة. فشربوا أولًا نخب الحكومة الجديدة، ثم نخب الشاه، ثم نخب أيزنهاور وتشرشل ثم نخب بعضهم بعضًا. وعندما فرغت الزجاجة أعلن أرديشير أنه قد حان الوقت كي يصطحب روزفلت للقاء زعيم البلاد الجديد. وودع هندرسون بعناق حار.
اتخذ الجنرال زاهدي مقرًّا مؤقتًا له في نادي الضباط بالقرب من وسط المدينة. كان الجو هناك مليئًا بالغبطة، وعندما وصل روزفلت غرق في دوامة من المهنئين. ولم يتعرف على معظمهم، ولكن بدا أن العديد منهم يعرفونه، وكان الجميع حتى من لا يعرفونه يرغبون في معانقته وتقبيله. وفي نهاية الأمر أنقذه زاهدي وطالب الجميع بالتزام النظام، وألقى خطبة قصيرة ثم طلب من روزفلت التقدم.
انطلقت الهتافات الحماسية وروزفلت يتقدم. لم يكن هناك سوى بضعة أشخاص في النادي يعلمون أنه مخطط الانقلاب، ولكنَّ الآخرين بلا شك استنتجوا ذلك. ولم يكن ذلك وقت التفاخر. ولم يقل روزفلت سوى بضع جمل كاذبة، وتولى أرديشير مهمة الترجمة.
عندما بدأ روزفلت يتحدث هدأت الضوضاء، فانطلق يقول: «أيها الأصدقاء، أيها الإيرانيون، أيها المواطنون، أعيروني انتباهكم. أشكركم على الحماس والحيوية والكرم الذي أبديتموه. ويجب أن ندرك جميعًا شيئًا واحدًا. وهو أنكم لا تدينون لي أو للولايات المتحدة أو لبريطانيا بأي شيء. ولن نطلب منكم أي شيء في المقابل، فيما عدا بعض الشكر إذا رغبتم في ذلك. وإنني أتقبله بكل سرور بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن بلادي وحلفائها بامتنان شديد.»
وهنا بدأ فاصل آخر من العناق والقبلات، ثم انسحب روزفلت بأسرع وقت ممكن. فقد كان يعمل منذ عدة أيام بلا راحة، وكان مصير أمة بأسرها في يديه. والآن بدأ الإرهاق يغلبه، فأخذ سيارة بسائق خاص وانطلق إلى مجمع السفارة ودلف في الظلام إلى المنزل الذي تناول فيه الغداء في ذلك اليوم وقرع الباب. وخلال بضع دقائق كان مستغرقًا في النوم.
لقي نحو ثلاثمائة شخص مصرعهم في معركة يوم الأربعاء، وقتل نصفهم في المعركة النهائية التي وقعت أمام منزل مصدق. ووُجدت بعض العملات من فئة ٥٠٠ ريال في جيوب بعض الضحايا من المدنيين. فقد كان رجال روزفلت قد وزعوا تلك العملات في صباح ذلك اليوم على العشرات من العملاء الفرعيين.
وفي اليوم التالي تصدرت أنباء سقوط مصدق عناوين الصحف في كل أنحاء العالم. وكانت معظم الروايات كما كان متوقعًا لها بالضبط، حيث إن القصة الحقيقية كانت سرًّا مخفيًّا بدقة وظلت كذلك لعدة عقود.
كتب كينيت لوف في جريدة «نيويورك تايمز»: «كان الانقلاب المفاجئ تمردًا من الطبقات الدنيا ضد الضباط المؤيدين لمصدق. ففي الساعة التاسعة صباح يوم الأربعاء بدأت مجموعة من حاملي الأثقال والبهلوانات والمصارعين المسلحين بالقضبان الحديدية والسكاكين في الزحف نحو وسط المدينة وهم يرددون هتافات مؤيدة للشاه. وكان ذلك كل ما تحتاجه القوات. لقد أُعطوا أوامر بفض المظاهرات، فشهروا أسلحتهم في وجه الضباط. وتلقائيًّا تحوَّلت الجماهير من التيار المؤيد لمصدق إلى التيار المؤيد للشاه.»
سجل دون شويند من وكالة أنباء «أسوشييتد بريس» الذي كان على غرار لوف يشاهد أحداث الانقلاب في الشارع تسلسلًا زمنيًّا لأحداث اليوم. فذكر أن الانقلاب «بدأ يتكون» في التاسعة صباحًا عندما أخذت «الجماهير المسلحة بالعصي والحجارة» ومعهم مجموعة من الجنود وضباط الشرطة في الزحف نحو وسط المدينة. واختتم كلامه قائلًا: «بحلول السابعة مساء بالتوقيت المحلي كان آخر أوكار المقاومة في العاصمة، وهو منزل مصدق والمجمع المحيط به، قد سقط في أيدي القوات التابعة لزاهدي. ولم يجد رجال زاهدي الذين اقتحموا حجرة مصدق سوى جثة حارسه الشخصي. ولا يزال مصدق وزملاؤه الوزراء مفقودين.»
طبقًا لتقرير المخابرات المركزية الأمريكية كان ذلك اليوم لروزفلت وشركائه في المؤامرة «يومًا يجب ألا ينتهي، حيث حمل لهم شعورًا بالإثارة والرضا والابتهاج من الصعب أن يتكرر بعد ذلك». واستمرت الاحتفالات في نادي الضباط معظم الليل. وأدرك زاهدي أن عليه اتخاذ خطوات سريعة وحاسمة من أجل تعزيز منصبه الجديد، فتسلل خلسة كي يقوم بجولة سريعة لأقسام الشرطة يرافقه حامد رضا ولي العهد الذي كان يمثل علاقة زاهدي بالعائلة المالكة. وأقنعته تلك الجولة بأن قادة الشرطة مخلصون للنظام الجديد. ولما اطمأن عاد إلى نادي الضباط واستغرق في النوم بضع ساعات.
•••
وفور أن استيقظ زاهدي يوم الخميس استدعى الجنرال نادر باتمانقليش، وهو ضابط محنك قدم لهم مساعدات عسكرية قيمة في الليلة الماضية في مقابل وعد بتعيينه رئيسًا للأركان في حالة نجاح الانقلاب. وعندما وصل باتمانقليش قلده زاهدي منصبه محلفًا إياه اليمين سريعًا. ثم أعطاه أول أوامره بقمع كل المظاهرات وإغلاق الحدود وتطهير الجيش والشرطة من أنصار مصدق.
كان على زاهدي عمل الكثير في ساعاته الأولى في منصب رئيس الوزراء. فدعا أولًا إلى عقد اجتماع عاجل لمجلس الوزراء الجديد. ثم أعد أمرًا باستبدال المحافظين الذين يرتاب في تعاطفهم مع مصدق. وأمر بإطلاق سراح العديد من السجناء، ومنهم عشرون كانوا قد أدينوا في جريمة قتل رئيس الشرطة محمود أفشار طوس في بداية ذلك العام. وكانت الزيارة الوحيدة التي أجراها خارج نادي الضباط إلى محطة إذاعة طهران حيث ألقى خطبة قصيرة يعطي فيها مصدق مهلة أربعًا وعشرين ساعة كي يستسلم.
كان هذا التبادل في الأدوار سريعًا للغاية. فمنذ أربعة أيام فحسب كان زاهدي هو الهارب ومصدق رئيس الوزراء الذي طالبه في بث إذاعي بنفس محطة الإذاعة أن يسلم نفسه خلال أربع وعشرين ساعة. وكان مصدق قد عرض مكافأة قدرها مائة ألف ريال، أو ما يعادل ١٢٠٠ دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عن مقر زاهدي. والآن كان زاهدي يعرض نفس المبلغ لمن يدلي بمعلومات عن مصدق.
وفي منتصف النهار أرسل رئيس الوزراء الجديد برقية إلى محمد رضا شاه يخبره فيها بأن الإيرانيين يحصون الدقائق المتبقية حتى وصوله. ولكن رحيل الشاه من روما واجهته بعض العقبات الصغيرة. فلم تتمكن الإمبراطورة ثريا من الصمود أمام الضغوط التي واجهتها في الشهور الأخيرة، وفي اللحظة الأخيرة تقرر بقاؤها في روما لتلقي العلاج من الضغط العصبي الذي أصابها. ثم اتضح أنه مع أن البريطانيين قد وضعوا طائرة تحت تصرف الشاه، فإن سمعته الوطنية الضعيفة قد تضعف أكثر إذا عاد إلى طهران مستقلًّا طائرة تحمل شارة بريطانية. فتقرر أن ينتظر طائرة أخرى.
لم يكن مصدق يستطيع الاختباء لفترة طويلة حتى إذا كان يرغب في ذلك، ولذلك لم يفاجأ زاهدي عندما اتصل مصدق بنادي الضباط في السادسة مساء ذلك اليوم كي يتفق بشأن تسليم نفسه. وسأله زاهدي أين يختبئ، فأجابه بأنه مختبئ بمنزل خاص بوسط المدينة، وأرسل الجنرال باتمانقليش كي يحضره. وفي تدبير وقائي ضد محاولة اغتيال قد يتعرض لها مصدق على يد أعدائه، أو محاولة إنقاذ ينفذها أصدقاؤه، أمر زاهدي بانطلاق الدبابات في الشوارع وتأهب حاملو المدافع الرشاشة فوق أسطح المنازل بطول الطريق.
وبعد ذلك بساعة توقفت السيارة التي تقل مصدق في ساحة نادي الضباط. وخرج منها السجين الذي بدا منهكًا مرتديًا المنامة ويتوكأ على عصا صفراء اللون. وتوجه له الحرس بالتحية فبادلهم التحية. وساعدوه كي يستقل المصعد حتى مكتب زاهدي بالطابق الثالث.
فقد بادر مصدق الرجل الذي هزمه قائلًا: «السلام عليكم»، فرد زاهدي قائلًا: «وعليكم السلام.»
قضى الرجلان عشرين دقيقة معًا خلف الباب المغلق. وكانت كل الدلائل تشير إلى أنهما تحدثا بلا ضغائن أحدهما تجاه الآخر. وعندما خرجا أمر زاهدي بأن يُصطحب مصدق ومساعدوه الثلاثة الذين استسلموا معه إلى أجنحة وثيرة بالطابق العلوي. ثم أعطى أوامره لإذاعة طهران بأن تتوقف عن إهانتهم وأن تطلق عليهم بدلًا من ذلك «أصحاب السعادة».
ولكن الشاه لم يكن بمثل هذا الكرم. ففي حين كان مصدق يستسلم في طهران كان هو يهبط في بغداد من على متن طائرة هولندية استؤجرت له بمبلغ ١٢ ألف دولار أمريكي. ورافق طائرته ثمانية من مقاتلي القوات الجوية العراقيين حتى المطار، وشرعت فرقة عسكرية في عزف السلام الوطني الإيراني وهو يترجل. وعندما توجه إليه الصحفيون بالسؤال عن خططه تجاه رئيس الوزراء المخلوع تحوَّلت لهجته إلى الجد.
وانطلق قائلًا: «إن الجرائم التي ارتكبها مصدق من أخطر ما يكون. فهو شرير فاسد لا يريد من الحياة سوى السلطة بأي ثمن. ولتحقيق تلك الغاية كان مستعدًّا للتضحية بالشعب الإيراني، وكاد ينجح في ذلك. ولكن حمدًا لله فقد عرفه الشعب أخيرًا على حقيقته.»
يا له من فرق حدث في تلك الأيام الستة! ففي يوم الأحد مر الشاه ببغداد متوجهًا إلى المنفى وهو أشعث رث الثياب. ولكنه الآن في طريقه للعودة ملكًا منتصرًا. وكانت الطائرة التي هرب فيها لا تزال في مهبط الطائرات. وقادها بنفسه عائدًا إلى الوطن.
هبطت طائرة الشاه في الساعة الحادية عشرة وسبع عشرة دقيقة صباح يوم السبت، وتوقفت أمام فريق من جنود الحرس الملكي. وبدا الشاه متألقًا في زي القوات الجوية الذي طلبه من بغداد خاصة لتلك المناسبة. ورئيس الوزراء زاهدي أول من حيَّا الشاه، حيث ركع على ركبتيه وطبع قبلة على يد الشاه الممدودة. وظهر المئات من المعجبين الآخرين، وعندما تراجع زاهدي اندفعوا للأمام. وكان العديد منهم مثل العقيد نصيري والجنرال باتمانقليش وآية الله كاشاني وشعبان الأبله والسفير لوي هندرسون قد قدموا مساعدات في غاية الأهمية لعملية أياكس. وتوجه الشاه لكلٍّ منهم بالتحية، ثم تحوَّل عنهم كي يلقي نظرة على الجماهير الشديدة الحماس. وذكر أحد المراسلين الصحفيين أن «عينيه قد دمعتا وزم شفتيه في محاولة للسيطرة على عواطفه».
وفي خطبة ألقاها في الإذاعة في ذلك المساء وعد الشاه «بإصلاح الضرر الذي حل بالبلاد». ولم يخفِ لومه لمصدق على معظم ذلك الضرر. وأكد ذلك بقوله: «إنني لا أحمل أي ضغينة في قلبي وأفضل الرحمة والتسامح، ولكن عندما يتعلق الأمر بانتهاك الدستور الذي أقسمنا على الوفاء له، وهو القسم الذي نسيه البعض، بالإضافة إلى حل المجلس وفساد الجيش وتبديد أموال الدولة، يجب تنفيذ القانون كما يريد الناس.»
اعتنق رئيس الوزراء زاهدي الذي كان حاضرًا مع الشاه أثناء حديثه ذلك الفكر الصارم. فعندما سأله الصحفيون لماذا يحتجز مصدق المتهم بتلك الجرائم الكبرى في مكان يتسم بالرفاهية بنادي الضباط، أجاب: «لقد عومل ذلك الشرير حتى الآن بطريقة أفضل مما يستحق. وغدًا سوف أرسله إلى سجن المدينة.»
لم يتجرأ زاهدي هكذا بفضل انتصاره فحسب، بل أيضًا بفضل التعبير المادي عن الدعم من الولايات المتحدة، وإن كان سريًّا. فقد كانت المخابرات المركزية الأمريكية قررت مقدمًا أن تمنح حكومته الجديدة خمسة ملايين دولار أمريكي فور توليه السلطة، وتم الأمر كما كان مخططًا له. هذا بالإضافة إلى مليون دولار أمريكي إضافية لزاهدي نفسه.
ولما كان النظام الجديد قد أصبح تحت السيطرة تمامًا، حان الوقت لكيرمت روزفلت أن يغادر إيران في هدوء مثلما دخلها منذ أربعة أسابيع. ولكنه قبل أن يرحل رغب في مقابلة الشاه مرة أخيرة. واقتضى الحذر أن يكون لقاؤهم بنفس السرية التي كانت عليها اللقاءات السابقة، فلم يكن وجود روزفلت في طهران فضلًا عن طبيعة نشاطه معلومًا إلا للقليل من الإيرانيين. فأرسل إليه رسالة تفيد بأنه يرغب في لقائه في نفس موعد الأسابيع الماضية عند منتصف الليل، واقترح مساء الأحد موعدًا للقاء.
لم يكن اللقاء الأخير كسابقيه. فقد كانت السيارة التي أقلت روزفلت عبر بوابات قصر سعد آباد تحمل شارة رسمية للولايات المتحدة. وجلس روزفلت داخلها بدلًا من أن يرقد مختبئًا تحت غطاء ثقيل. أما الحرس الملكي الذين كانوا يشيحون بوجوههم عندما يرونه داخلًا في الزيارات الماضية فقد حيَّوه بطريقة رسمية.
استقبل أحد رجال الحاشية روزفلت ورافقه عبر سلالم القصر العريضة حتى غرفة الجلوس الفخمة. وأشار إليه الشاه بالجلوس. وقدمت لهما الفودكا فتناول كلٌّ منهما كأسًا. ورفع الشاه كأسه قائلًا: «إنني أدين بعرشي لله ولشعبي ولجيش بلادي ولكم!» وتناولا الفودكا في صمت وهما يرتشفان حلاوة الانتصار.
وبعد النخب الأول دار بينهما الحوار التالي الذي بدأه الشاه قائلًا: «جميل أن أقابلك هنا وليس في سيارة مجهولة في الطريق.»
«بالفعل جلالتك.»
«إن رئيس الوزراء الجديد الذي أصبح صديقكم الآن كما تعلم في طريقه إلى هنا. هل هناك أي شيء ترغب في مناقشته قبل أن يصل؟»
بعد لحظات من التردد تجرأ روزفلت وقال: «حسنًا، إنني أتساءل هل توصلت إلى قرار بشأن مصدق ورياحي وبقية المشتركين في المؤامرة ضدك؟»
«لقد فكرت كثيرًا في ذلك الأمر. لقد استسلم مصدق كما تعلم قبيل عودتي. وإذا وافقت المحكمة على اقتراحي فسوف يحكم عليه بقضاء ثلاثة أعوام من الإقامة الجبرية في منزله، وبعدها سوف يصبح حرًّا في التنقل داخل القرية ولكن ليس خارجها. أما رياحي فسوف يقضي ثلاثة أعوام في السجن ثم يطلق سراحه كي يفعل ما يحلو له، بشرط ألا يكون ما يحلو له ممنوعًا. وسوف يواجه بعض المتآمرين الآخرين عقوبات مشابهة. لكن هناك استثناء واحدًا. فلم نتمكن من العثور على حسين فاطمي بعد، لكننا سوف نعثر عليه. فهو أكثرهم إيذاء. فقد شجع عصابات تودة التي هدمت تمثالي وتمثال والدي. ولذلك فعندما نعثر عليه فسوف يواجه عقوبة الإعدام.»
لم يجب روزفلت بشيء. وبعد لحظات ظهر رئيس الوزراء زاهدي الذي انحنى للشاه وابتسم ابتسامة عريضة لروزفلت الذي كرر قوله بأن النظام الجديد لا يدين بشيء للولايات المتحدة، حيث إن «النتيجة هي المكافأة».
ورد زاهدي: «إننا ندرك ذلك. ونشكركم شكرًا جزيلًا وسوف نظل دائمًا ممتنين لكم.»
كان الثلاثة الذين ضمتهم تلك الغرفة في القصر من ضمن القلائل الذين كان لديهم فكرة عن كيفية تخطيط عملية أياكس. ومرت بهم لحظة صمت تقاسموا فيها الشعور بالرضا. وكتب روزفلت فيما بعد: «كانت الابتسامات تملأ وجوهنا في ذلك الوقت. وملأ الود والصداقة جو الغرفة.»
وبعد مرور بضع دقائق نهض الشاه كي يرافق روزفلت حتى سيارته. وفي الطريق أحضر سترته وأخرج منها علبة سجائر من الذهب وقدمها إلى ضيفه «تذكارًا لتلك المغامرة». وعلى حين غرة ظهر ضابط ضخم، كان العقيد نصيري الذي أدى أدوارًا مهمة في انقلاب السبت الفاشل والآخر الناجح الذي حدث بعدها بأربعة أيام.
وهنا قال الشاه: «لقد أمرت بترقية. أقدم لك الآن الجنرال نصيري.»
كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحًا عندما عاد روزفلت لمجمع السفارة. فوجد السفير هندرسون في انتظاره. كان هندرسون قد أجرى ترتيبات لرحيل روزفلت في صباح اليوم التالي على متن طائرة الملحق العسكري البحري إلى البحرين.
لم ينم روزفلت كثيرًا. فبعد الفجر بقليل اقتيد إلى حظيرة طائرات نائية في مطار طهران. وحضر العديد من الرجال الذين شاركوه في تنفيذ الانقلاب كي يودعوه. وكتب روزفلت فيما بعد: «سرت بخطى مضطربة نحو الطائرة والدموع تترقرق في عيني.»