جون داليس راضٍ تمامًا
بعد بضعة أيام من استسلام مصدق للنظام الجديد ظهرت فصيلة من الجنود في جناحه بنادي الضباط. فقد أمر رئيس الوزراء الجديد فضل الله زاهدي بنقله إلى السجن الحربي الذي قضى فيه عشرة أسابيع ريثما تعد لائحة الاتهام. وعندما أصبحت جاهزة أحيل مصدق إلى محكمة عسكرية بتهمة الخيانة، وذلك لمقاومته أمر الشاه بالإقالة «وتحريض الناس على العصيان المسلح». ولكنه دافع عن نفسه بقوة، مؤكدًا أن ذلك الفرمان كان جزءًا من محاولة انقلاب تمت بليل ويعتبر غير قانوني على أي حال، وذلك لأن رئيس الوزراء في إيران لا يمكن إقالته إلا بتصويت على سحب الثقة منه في المجلس.
قال مصدق للقضاة: «إن جريمتي الوحيدة هي تأميم صناعة النفط الإيرانية وتخليص هذه الأرض من شبكة الاستعمار والنفوذ السياسي والاقتصادي لكبرى إمبراطوريات الأرض في تلك البلاد.»
كان الحكم بالإدانة أمرًا مفروغًا منه، وعوقب بقضاء ثلاثة أعوام في السجن تعقبها إقامة جبرية مدى الحياة. قضى مصدق فترة العقوبة كاملةً. وبعد الإفراج عنه في صيف عام ١٩٥٦ اقتيد إلى منزله في أحمد آباد. وذات صباح عقب وصوله إلى منزله أجرى البوليس السري الجديد الذي يطلق عليه السافاك محاولة ساذجة لإشعاره بذل الحبس. حضرت مجموعة من الرعاع أمام منزل مصدق وأخذوا يرددون شعارات عنيفة معادية له. كان يتقدمهم زعيم العصابة شعبان الأبله الذي أصبح أحد أدوات تطبيق النظام. ولبرهة بدا أن الجماهير على استعداد لاقتحام المنزل. ولكنها انسحبت بعد أن أطلق أحد أحفاد مصدق العديد من الرصاصات في الهواء من الداخل. وبعد بضع دقائق وصل ضابطان من السافاك وطلبا رؤية مصدق. وكانا يحملان خطابًا طلبا منه توقيعه، وهو طلب تعيين عملاء السافاك لحمايته. ووقع مصدق الذي كان يدرك حقائق السلطة ذلك الطلب دون أن يعترض. وخلال ساعة كان عملاء السافاك قد اتخذوا مواقعهم داخل المجمع المحاط بالأسوار وخارجه. وكانت التعليمات التي تلقوها — والتي لم تتغير قط طوال فترة حياة مصدق — تقضي بعدم السماح لأي أحد بزيارته سوى الأقارب والقليل من الأصدقاء المقربين.
وفي الأسابيع التي تلت الانقلاب قُبِضَ على معظم الوزراء في حكومة مصدق وأهم مؤيديه، وأفرج عن بعضهم فيما بعد دون توجيه تهم إليهم، وقضى آخرون فترات في السجن بعد إدانتهم بالعديد من الجرائم. وقُبِضَ أيضًا على ستمائة من ضباط الجيش المخلصين لمصدق، وأعدم نحو ستين منهم رميًا بالرصاص. ولاقى العديد من زعماء الطلاب في جامعة طهران المصير نفسه، وأصبح حزب تودة والجبهة الوطنية من الجماعات المحظورة، وواجه أهم أنصارهما عقوبة السجن أو الإعدام.
كان حسين فاطمي الذي شغل منصب وزير الخارجية في حكومة مصدق أهم الأشخاص الذين اختيروا كي تكون عقوبتهم عبرة للآخرين. كان فاطمي يحمل العداء الشديد للنظام الملكي، وأثناء أحداث العنف التي وقعت في أغسطس من عام ١٩٥٣ ظل يوجه الهجوم للشاه الذي أطلق عليه «هارب بغداد» بحقد شديد. وأكد فاطمي ذات مرة أن إيران غرقت في المعاناة لأنه «في السنوات العشر الأخيرة كان البلاط الملكي الحقير الكريه المخزي خادمًا للسفارة البريطانية». وفي إحدى خطبه وجه حديثه إلى العاهل الغائب قائلًا: «أيها الشاه الغائب، أيها الوقح، لقد أتممت التاريخ الإجرامي لسلالة بهلوي! والناس يرغبون في الانتقام منك. إنهم يرغبون في سحبك من كرسي مكتبك إلى حبل المشنقة.» ولكنهما الآن تبادلا الأدوار، وحصل الشاه على فرصته ولم يضيعها. فكما وعد كيرمت روزفلت أجرى ترتيبات لإقامة محاكمة عاجلة لفاطمي واتهامه بالخيانة وإعدامه.
كان فاطمي قد شبه الشاه ذات يوم بالثعبان «الذي يلدغ على نحو قاتل عندما تحين الفرصة». ولكنه في نهاية الأمر أصبح ممن طالتهم اللدغة القاتلة. ونظرًا إلى المصير الذي لاقاه، بالإضافة إلى كونه الشخص الوحيد المقرب من مصدق الذي ينحدر من نسل الرسول، فإن الناس تعظم ذكراه في إيران اليوم. وقد أطلق اسمه على أحد الشوارع الرئيسة بطهران، وهو شارع د. حسين فاطمي.
في الأعوام التي تلت الإطاحة بمصدق حوله محمد رضا شاه إلى شخص لا وجود له ولا يصح الحديث عنه. لم يكن ينشر عنه سوى القليل، ولم يكن ما ينشر عنه يتضمن أي كلمة إيجابية. وفي عام ١٩٦٢، وبعد أن تمكن الشاه من توطيد أركان نظامه المتزايد في القمع، سمح للجبهة الوطنية أن تعقد اجتماعًا بشرط ألا يذكر كل متحدث اسم مصدق سوى مرة واحدة. وحضر مائة ألف شخص هذا الاجتماع. علموا جميعًا بالشرط الذي وضعه الشاه للمتحدثين، وعندما كان كلٌّ منهم يذكر اسم مصدق في المرة المخصصة له كانوا يطلقون هتافًا مدوِّيًا. وكانت تلك المرة الأخيرة التي يسمح الشاه فيها للجبهة الوطنية بالتجمع علانية.
توفيت زوجة مصدق في عام ١٩٦٥، ومع أنها ظلت في طهران خلال السنوات التي قضاها في أحمد آباد، فقد ظلا قريبين وتأثر بشدة لوفاتها. وفي خطاب أرسله لأحد الأصدقاء كتب يقول: «أشعر بالألم الشديد لتلك المأساة … وأدعو الله أن يقبض روحي قريبًا كي أستريح من تلك الحياة البائسة.» وبعد ذلك بعدة أشهر أصيب بسرطان الحنجرة. وأرسل إليه الشاه رسالة يقترح عليه فيها أن يسافر للعلاج بالخارج، ولكنه رفض واختار أن يعالجه فريق طبي إيراني. فسافر إلى طهران تحت حراسة من الشرطة وقضى عدة أشهر هناك يتلقى العلاج. ونجح الأطباء في استئصال الورم، ولكنه خضع بعد ذلك لجرعات مكثفة من الكوبالت. مما أضره أكثر مما أفاده. واستمرت صحته تتدهور. وتوفي في الخامس من مارس عام ١٩٦٧ عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. ولم تسمح الدولة بإقامة جنازة شعبية أو إعلان أي مظهر آخر من مظاهر الحداد.
حاولت شركة النفط البريطانية الإيرانية التي غيرت اسمها فيما بعد إلى بريتيش بيتروليام استعادة وضعها القديم في إيران، ولكن الرأي العام كان معارضًا لها حتى إن الحكومة الجديدة لم تتمكن من السماح لها بذلك. وبالإضافة إلى ذلك كان منطق القوة يقضي بأنه ما دامت الولايات المتحدة قد أنجزت الجزء الأصعب من مهمة الإطاحة بمصدق، يجب أن تحصل على نصيبها من الغنيمة. وفي نهاية الأمر أنشئ اتحاد عالمي كي يتولى مسئولية ذلك الامتياز الضخم. فقد امتلكت الشركة البريطانية الإيرانية ٤٠٪ من الأسهم، وامتلكت خمس شركات أمريكية مجتمعة ٤٠٪ أخرى، ووزعت الأسهم الباقية على كلٍّ من رويال داتش/شيل وشركة النفط الفرنسية، ودفعت الشركات غير البريطانية للشركة البريطانية الإيرانية مليار دولار أمريكي في مقابل نصيبها من الامتياز البالغ ٦٠٪. ومع أن ذلك الاتحاد كان يدار بواسطة الأجانب فقد احتفظ بالاسم الذي أعطاه إياهه مصدق، وهو شركة النفط الوطنية الإيرانية، من أجل الحفاظ على مظهر التأميم. ووافقت الشركة على مناصفة الأرباح مع إيران، ولكن دون أن تسمح بفتح دفاتر حساباتها لمراقبي الحسابات الإيرانيين أو بانضمام الإيرانيين إلى مجلس الإدارة.
وفي الأعوام التالية ازداد محمد رضا شاه انعزالًا ودكتاتورية. وكان يقضي على المعارضة بأي وسيلة كانت، فأنفق مبالغ ضخمة من المال على التسليح، حيث بلغ إجمالي ما اشتراه من الولايات المتحدة وحدها عشرة مليارات دولار أمريكي خلال الفترة ما بين عامي ١٩٧٢ و١٩٧٦. وكان يمتلك تلك الكمية الهائلة من النقد بسبب الزيادة الكبرى في أسعار النفط خلال تلك الأعوام. وزيدت المليارات الأربعة التي حصلت عليها إيران من الاتحاد عام ١٩٧٣ إلى تسعة عشر مليارًا خلال عامين فقط.
في الأوقات القليلة التي كان الشاه يذكر مصدق فيها، كان يشير إليه محتقرًا «رهابه الصبياني من الأجانب» و«قوميته العنيفة». وقال لأحد أصدقائه: «كانت أسوأ أعوام حكمي، بل أسوأ أعوام حياتي بأكملها، هي تلك الأعوام التي كان مصدق فيها رئيسًا للوزراء. فقد كان ذلك الوغد متعطشًا للدماء، وكنت أستيقظ كل صباح شاعرًا بأن اليوم قد يكون آخر أيامي على العرش.»
عندما بدأ غضب الإيرانيين يتصاعد في أواخر سبعينيات القرن العشرين، اكتشف الشاه أنه لا يوجد أحد كي يتفاوض معه بشأن التسوية. والسبب في ذلك أنه قضى على كل الأحزاب السياسية الشرعية وفئات المعارضة الأخرى. وعندما وصل إلى مرحلة اليأس عيَّن رئيس وزراء يدعى شابور بختيار كان يتولى منصب نائب وزير العمل في حكومة مصدق. ومن المؤكد أن الشاه شعر بأنفاس التاريخ تلفحه عندما زار بختيار قبر مصدق في أحمد آباد بعد توليه منصبه مباشرة، وألقى خطبة هناك تعهد فيها بالإخلاص «لمبادئ مصدق»، وشكل حكومة معظم أفرادها من مؤيدي الجبهة الوطنية، ووضع صورة لمصدق خلفه وهو يخاطب الصحفيين. ولكن في تلك المرحلة كان الهلاك وشيكًا حتى إن الشاه لم يكن يملك خيارًا سوى قبول تلك الوقاحة.
ظهر آية الله روح الله الخميني الذي عارض مصدق بشدة عندما كان أحد الملالي الشبان بوصفه أقوى أعداء محمد رضا شاه في أواخر السبعينيات. كان الشاه قد أرسله إلى المنفى في عام ١٩٦٤، ولكنه استمر يدعو إلى مبادئه الأصولية من مقره في تركيا ثم العراق وأخيرًا باريس. وعندما تولى بختيار رئاسة الوزارة أعلن الخميني احتقاره واستنكاره إياه، وتساءل في إحدى خطبه الإذاعية: «لماذا تتحدث عن الشاه ومصدق والمال؟ لقد انقضى كل ذلك. والإسلام هو الشيء الوحيد الباقي.»
وفي واحد من أكثر الانهيارات السياسية مفاجأة في القرن العشرين، أُجبر الشاه على الفرار من وطنه في يناير من عام ١٩٧٩. وفي تلك المرة لم تتمكن المخابرات المركزية الأمريكية من إعادته إلى العرش، وفي العام التالي توفي في مصر ملعونًا من الجميع، وحل محله آية الله الخميني مقررًا لمصير إيران.
كانت الحكومة الأولى التي شكلها الخميني تتكون من الأشخاص المؤمنين بمصدق ومبادئه. فقد كان رئيس الوزراء مهدي بازاركان الذي أرسله مصدق إلى عبدان في عام ١٩٥١ كي يدير معمل التكرير بعد رحيل البريطانيين، وأصبح إبراهيم يازدي — الذي كان رئيس حزب سياسي صغير يهدف إلى الحفاظ على تراث مصدق — نائبًا لرئيس الوزراء ثم وزيرًا للخارجية. وفي أول انتخابات عقدت بعد الثورة سمح الخميني لواحد آخر من المعجبين بمصدق وهو أبو الحسن بني صدر بترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية والفوز.
ولفترة وجيزة بعد الثورة بدا أن مصدق نهض من قبره وعاد للسلطة. فقد أطلق اسمه على المدرسة الثانوية بأحمد آباد. وكذلك كان الشارع الرئيس بطهران الذي كان يسمى سابقًا شارع بهلوي. وصدر طابع تذكاري تخليدًا لذكراه. وفي الخامس من مارس عام ١٩٧٩ في الذكرى السنوية الثانية عشرة لوفاته، تدفق حشد ضخم من الجماهير على أحمد آباد. وكان ذلك أحد أكبر التجمعات في التاريخ الإيراني الحديث. فقد اضطر بعض الناس إلى إيقاف سياراتهم على بعد عدة أميال وقطع بقية المسافة سيرًا على الأقدام. وتزعم الرئيس بني صدر حملات الثناء على مصدق، وأعلن عن خططه لنقل جثمانه إلى ضريح بطهران. ولكن عائلة مصدق اعترضت، وكانت تمتلك وجهة نظر حكيمة في ذلك، حيث اعتقدت أنه إذا تغير التيار السياسي قد ينبش ذلك الضريح.
كان ذلك الثناء على مصدق محاولة من الإيرانيين لإعطائه حقه من التقدير الذي لم يسمح لهم بإعطائه عندما كان الشاه في السلطة. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان رسالة موجهة إلى آية الله الخميني والملالي الآخرين. فعن طريق الإشادة بمصدق كان الإيرانيون يعبرون عن رغبتهم في نظام كهذا، نظام بني على القومية والديمقراطية وسلطة القانون، ولكن سرعان ما اتضح أن الخميني لا يملك أدنى استعداد لإنشاء مثل هذا النظام. فقد عمل على توسيع قاعدة شعبيته الجماهيرية عن طريق ضم مؤيدين من الجبهة الوطنية، ولكنه فور أن تمكن من تعزيز سلطته استبعدهم. وبعد قليل بدأ يقبض عليهم. وكان من ضمن من غادروا البلاد هاربين إنقاذًا لأرواحهم هدايت الله متين دفتري، وهو الوحيد من أحفاد مصدق الذي تجرأ وانخرط في عالم السياسة.
وهكذا أغلق المتنفس الذي كان قد فتح لمؤيدي مصدق. فتغير اسم الشارع الرئيس في طهران مرة أخرى كي يطلق عليه اسم الإمام الثاني عشر. وأصبحت علمانية مصدق مكروهة من النظام الجديد كما كانت رؤيته الديمقراطية مكروهة من النظام القديم. وأدرك الملالي كما أدرك محمد رضا شاه من قبلهم أن السماح للإيرانيين بالاحتفاء بمصدق سوف يؤدي حتمًا إلى المطالبة بتشكيل حكومة تعتنق نفس مبادئه. ولم يكونوا ليسمحوا بذلك أبدًا، وهكذا فعلوا كل ما بوسعهم كي يطمسوا ذكراه.
•••
وسرعان ما تفرقت السبل بمنظمي انقلاب ١٩٥٣ ومنفذيه. فقد أرضى الجنرال زاهدي رئيس الوزراء الجديد الشاه بالحملة القمعية التي شنها على القوميين واليساريين. ولكن سرعان ما دب بينهما الخلاف. فقد كان زاهدي على غرار مصدق يتمتع بشخصية قوية ويؤمن بأن رئيس الوزراء يجب أن يكون حرًّا في إدارة حكومته. ولكن الشاه الطموح لم يتحمل ذلك. فبعد عامين من الانقلاب أقال زاهدي من منصبه وأرسله للخارج كي يصبح سفيرًا لمكتب الأمم المتحدة بجنيف. توفي في عام ١٩٦٣.
أما أرديشير ابن الجنرال زاهدي الذي جعله ذكاؤه الحاد وإجادته التامة للغة الإنجليزية أحد مصادر القوة المهمة لمخططي الانقلاب، فقد واصل مشواره المهني الناجح لفترة طويلة. ومع أنه لم يكن يتجاوز منتصف العشرينيات من العمر عندما أصبح والده رئيسًا للوزراء، فسرعان ما أصبح شخصًا مؤثرًا واسع النفوذ، حيث عمل في آنٍ واحد المستشار الشخصي لوالده وحاجب الشاه. ولم ينتهِ نفوذه بعد خروج والده من السلطة، وفي عام ١٩٥٧ تزوج ابنة الشاه الكبرى الأميرة شاهناز. وعندما شعر الشاه بالقلق من نفوذه المتزايد، أرسله إلى منفاه الذهبي كي يصبح سفيرًا لبريطانيا العظمى حيث استقبله أولئك الذين كانوا يعلمون دوره في الانقلاب بالترحاب. ثم عاد إلى طهران كي يتولى منصب وزير الخارجية، ثم أصبح سفيرًا للولايات المتحدة. وفي ذلك المنصب ظل يدافع عن الشاه حتى الرمق الأخير. وبعد نشوب الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩ انتقل إلى فيلَّا بسويسرا. ولم يعترف بالدور الذي لعبه في الانقلاب قط، بل إنه كتب مقالًا غير مترابط يؤكد فيه عدم تورط المخابرات المركزية الأمريكية أيضًا في ذلك الأمر.
فقد كتب يقول: «لم يكن سقوط مصدق نتيجة لأي حيل قذرة لعبتها المخابرات المركزية الأمريكية. ولم يقابل والدي أيًّا من عملائها.»
أما أسد الله راشيديان الذي كانت شبكته التخريبية من الصحفيين والسياسيين والملالي وزعماء العصابات عنصرًا أساسيًّا في نجاح عملية أياكس، فقد حالفه النجاح الساحق في الأعوام التالية. فقد ظل هو وإخوته في طهران، وازدهرت مشروعاته التجارية برعاية الشاه. وأصبح منزله ملتقًى يقضي فيه السياسيون وكبار الشخصيات العديد من الأمسيات يناقشون مستقبل الأمة. واستخدمه الشاه مرات عديدة مبعوثًا سريًّا إلى الحكومات الأجنبية. ولكن في منتصف الستينيات أصبح الشاه منزعجًا من وجود مثل هذا الشخص الواسع العلاقات في طهران، وخاصة أنه يعلم الكثير من الأسرار. وشعر راشيديان بذلك، فانتقل إلى إنجلترا الدولة المفضلة لديه حيث قضى بقية أيامه في هدوء.
لم يكن كل من اشتركوا في تنظيم الانقلاب محظوظين بما يكفي كي يقضوا أيامهم الأخيرة متقاعدين. وكان أحد هؤلاء الذين أنكر الشاه جميلهم الجنرال نصيري الذي قاد الانقلاب الأول الفاشل ضد مصدق ولعب دورًا في غاية الأهمية في الانقلاب الذي تلاه. ولأعوام عديدة بعد هزيمة مصدق ظل نصيري يشغل منصب قائد الحرس الملكي بإخلاص. وكان ينفذ أوامر الشاه طواعية وبدقة حتى إنه في عام ١٩٦٥ عُيِّن مسئولًا عن جهاز السافاك المسئول عن أعمال القمع الوحشية. وفي هذا المنصب أخذ يؤدي أقذر الأعمال للشاه دون أن يشكو لما يزيد عن عقد كامل من الزمان. واتهمه أعداء الشاه بارتكاب جرائم رهيبة. وعندما بدءوا زحفهم النهائي نحو السلطة في أواخر السبعينيات، حاول الشاه استرضاءهم عن طريق إقالة نصيري من منصبه. وادعى فيما بعد صدمته من التقارير التي تفيد بأن السافاك كانوا يستخدمون أساليب التعذيب، فأودع صديقه القديم السجن. وعقب ثورة ١٩٧٩ أرسل الملالي نصيري إلى فرقة مكلفة بتنفيذ حكم الإعدام فيه رميًا بالرصاص. ونشرت صحف طهران صورة جثته ملطخة بالدماء.
أما رئيس الأركان المخلص لمصدق الجنرال رياحي فقد قضى عامًا في السجن بعد الانقلاب ثم عاد يمارس مهنته الأصلية، ألا وهي الهندسة. وبعد نشوب ثورة ١٩٧٩ أصبح وزيرًا للدفاع. وعمل بهذا المنصب لعدة أشهر حتى غمر المد المتطرف حكومة مهدي بازاركان، ثم عاد إلى حياته الخاصة حتى توفي بعد ذلك بعدة أعوام في طهران.
أهدى الشاه شعبان الأبله — وهو أشهر زعيم للجماهير التي اندفعت ثائرة في أنحاء طهران خلال الأيام المصيرية من أغسطس عام ١٩٥٣ — سيارة صفراء من طراز كاديلاك ذات غطاء قابل للطي. وأصبح شخصية معروفة في شوارع طهران، حيث كان يقود السيارة ببطء في أرجاء المدينة وهو يحمل مسدسًا في كل جانب مستعدًّا للانقضاض على أي شخص تبدو عليه أمارات التأييد لمصدق أو العداء للشاه. وكان عملاء السافاك يتصلون به من حين إلى آخر كلما أرادوا ضرب أحد الأشخاص أو ترويعه بأي وسيلة أخرى. وبعد الثورة الإسلامية انتقل شعبان إلى لوس أنجلوس حيث نشر مذكراته التي ينكر فيها قيامه بمعظم الأشياء التي اتهمه بها الإيرانيون.
أصبحت الأميرة أشرف توءم الشاه ذات الشخصية القوية شخصية شهيرة على المستوى العالمي في الأعوام التي تلت عودة شقيقها للجلوس على العرش. ولفترة شغلت منصب رئيس لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، حيث دافعت عن نظام الشاه ضد ما أطلقت عليه «المزاعم الواهية لجرائم التعذيب والقتل الكثيرة التي ارتكبها السافاك». وطبقًا لروايتها الخاصة فقد كانت حياتها تعيسة، حيث خاضت ثلاث زيجات فاشلة وصُدمت لمقتل ابنها في باريس على يد مجموعة من القتلة أرسلتهم طهران. وبعد نشوب الثورة انتقلت للإقامة في نيويورك بعد أن حصلت على نصيبها من الأموال التي اكتنزتها عائلتها على مدار سنوات عديدة والتي تبلغ مليارات الدولارات الأمريكية. وفي مذكراتها اعترفت بوجود ما أطلق عليه عملية أياكس، بل إنها زعمت أن تكلفتها قد بلغت مليون دولار أمريكي، ولكنها أنكرت ما رواه الشركاء الآخرون عن دورها فيها.
أما مونتي وودهاوس — العميل البريطاني الذي مهدت مهمته السرية في واشنطن في يناير عام ١٩٥٢ الطريق لما أطلق عليه عندئذٍ عملية بوت — فقد عاد إلى واشنطن بعد نجاح العملية وتبادل حديثًا وديًّا مع ألان داليس. فقد قال له داليس: «كانت بذرة صالحة تلك التي ألقيتها عندما كنت هنا من قبل.» وانضم وودهاوس فيما بعد إلى طبقة النبلاء. وأصبح يعرف باللورد تيرينجتون. ثم أصبح أحد أعضاء البرلمان المحافظين ورئيس تحرير دار بينجوين للنشر. وكانت هوايته المفضلة في أواخر أيامه قراءة تاريخ اليونان وبيزنطة اللتين كتب عنهما باستفاضة. وكتب أيضًا مذكراته التي تحدث فيها بصراحة عن دوره في الانقلاب والنتائج المترتبة عليه.
فقد اعترف بقوله: «من السهل اعتبار عملية بوت الخطوة الأولى في الكارثة التي وقعت في إيران عام ١٩٧٩. وما لم نتمكن من التنبؤ به أن الشاه سوف يكتسب قوة يستخدمها بتلك الطريقة الاستبدادية، وأن كلًّا من حكومة الولايات المتحدة ووزارة الخارجية الأمريكية سوف تواجهان ذلك الإخفاق المروع في جعله يسلك مسلكًا معتدلًا. ولكن في ذلك الوقت كنا شديدي الارتياح لأن أحد الأخطار على المصالح البريطانية قد أزيل من طريقنا.»
أما هربرت موريسون وزير الخارجية البريطاني الذي دفعت شراسته ببلاده في مسار تصادم مع إيران، فقد اعتزل السياسة عام ١٩٥٩ عن عمر يناهز الحادية والسبعين، وأُعطي لقب النبيل مدى الحياة. وفي سنواته الأخيرة بدا أنه نسي القوة التي كان يهاجم بها مصدق ويدافع عن شركة النفط البريطانية الإيرانية. وتتضمن سيرته الذاتية تفاصيل دقيقة عن دوره في إنشاء وحدة المطافئ وإصدار قانون المرور لعام ١٩٣٠، ولكنه خصص لإيران أقل من صفحة. وأكد أنه كان يفضل اتخاذ «إجراءات صارمة عنيفة» ضد مصدق، ولكن رئيس الوزراء أتلي رفض الموافقة على فكرة الغزو لأنها «سوف تستغرق الكثير من الوقت وقد يواجهها الفشل.»
كتب أتلي في مذكراته أن تعيين موريسون في منصب وزير الخارجية كان «أسوأ اختيار قمت به على الإطلاق»، ولم يندم قط على رفضه شن الحرب على إيران. فقد أكد أن «مثل ذلك الإجراء كان جائزًا بلا شك في الماضي، ولكنه في العصر الحديث سوف يؤدي إلى إثارة غضب الرأي العام في الداخل والخارج. وأرى أن تلك الأيام — عندما كانت المشروعات التجارية في الدول الصناعية التي تحصل على امتياز تستمر في عملها دون اعتبار لمشاعر مواطني تلك الدول — قد ولت … وقد أظهرت شركة النفط البريطانية الإيرانية انعدامًا في الإحساس بعدم إدراكها ذلك».
لم يلقِ كُتَّاب سيرة وينستون تشرشل بالًا لدوره الحيوي في الانقلاب الذي أطاح بمصدق. بل إن معظم الكتب التي تتحدث عنه لا تذكر ذلك الأمر قط. وقد ذكر تشرشل ذات مرة سرًّا أنه يعد ذلك الانقلاب «أروع العمليات على الإطلاق منذ نهاية الحرب»، ولكنه لم يره قط سوى حدث عابر في مشواره المهني.
أما البطل أو الشرير في تلك المسرحية وهو كيرمت روزفلت فقد انخرط في مشوار مهني عادي على نحو لم يتوقعه أحد. وفي طريقه للعودة من طهران بعد نجاح الانقلاب توقف في لندن كي يعطي تشرشل ملخصًا للأحداث بصورة شخصية. وعندما انتهى من حديثه بادره تشرشل قائلًا: «أيها الشاب، لو كنتُ أصغر من ذلك ببضع سنوات فقط، لما كان شيء أحب إليَّ من العمل تحت قيادتك في تلك المغامرة الكبرى.» وبعد مرور بضعة أيام أعاد روزفلت هذا الملخص في البيت الأبيض على مسامع الرئيس أيزنهاور وجون فوستر داليس وألان داليس وعدد محدود من كبار المسئولين. وعقب ذلك قلده أيزنهاور نوط الأمن القومي في احتفال سري.
اختتم روزفلت الملخص الذي قدمه إلى البيت الأبيض بالتحذير من أن المخابرات المركزية الأمريكية يجب ألا تتخذ ذلك النجاح في إيران دليلًا على أن بوسعها الآن إسقاط الحكومات وقتما تشاء. ولكن هذا بالضبط ما كان يفكر فيه الأخوان داليس. كانا يخططان بالفعل لإسقاط النظام ذي الميول اليسارية في جواتيمالا وطلبا من روزفلت أن يقود ذلك الانقلاب. ولكنه رفض. وفي عام ١٩٥٨ استقال من المخابرات المركزية الأمريكية. وبعد أن قضى ستة أعوام في شركة جالف أويل بدأ سلسلة من المشروعات الاستشارية الناجحة. وحتى وفاته في عام ٢٠٠٠ ظل يعتبر أغسطس عام ١٩٥٣ النقطة المضيئة في حياته، وظل يؤمن إيمانًا تامًّا بأن الانقلاب الذي خطط له كان عادلًا وضروريًّا.
•••
أكان كذلك بالفعل؟ لا يمكننا بالطبع إيجاد إجابة حاسمة لمثل هذا السؤال الحرج. فمجموعة كبيرة من العوامل تؤثر في مجرى التاريخ، ويعتبر التوصل إلى استنتاجات حول الأسباب والنتائج في غاية الخطورة. ومع ذلك لا ينكر أحد أن انقلاب ١٩٥٣ أدى إلى سلسلة من العواقب غير المحسوبة. فقد كانت نتيجته المباشرة إعطاء محمد رضا شاه الفرصة كي يصبح طاغية. وبدأ يحصل على مبالغ ضخمة من الولايات المتحدة، حيث بلغت المعونات التي حصل عليها أكثر من مليار دولار أمريكي في العقد الذي تلا الانقلاب، ولكن حكمه الاستبدادي ساهم في استجلاب عداء الإيرانيين له. وفي عام ١٩٧٩ انفجر ذلك الغضب على هيئة ثورة مدمرة بقيادة الأصوليين الإسلاميين.
وعقب الإطاحة بالشاه سمح له الرئيس جيمي كارتر بدخول الولايات المتحدة. مما دفع بالمتطرفين الإيرانيين إلى نوبة من الغضب. فاقتحموا السفارة الأمريكية بطهران بموافقة زعمائهم الجدد، واحتجزوا اثنين وخمسين دبلوماسيًّا أمريكيًّا رهائن لما يزيد عن أربعة عشر شهرًا. واعتبر الغربيون — وخاصة الأمريكيين — تلك الجريمة وحشية وغير مبررة. ذلك لأنه لم يكن أحدهم يعلم دور الولايات المتحدة في فرض النظام الملكي الذي أصبح الإيرانيون يبغضونه بشدة. كان محتجزو الرهائن يتذكرون أنه عندما فر الشاه هاربًا إلى المنفى في عام ١٩٥٣ أعاده عملاء المخابرات المركزية الأمريكية الذين كانوا يعملون بالسفارة إلى عرشه. ولذلك فقد خشي الإيرانيون أن يعيد التاريخ نفسه.
قال أحد محتجزي الرهائن بعد أعوام عديدة موضحًا: «كان الشك يخامرنا في أن منح الشاه حق اللجوء إلى الولايات المتحدة يعني أن العد التنازلي لانقلاب آخر قد بدأ. واعتقدنا أننا سوف نواجه نفس المصير مرة أخرى، وفي تلك الحالة لن نتمكن من إلغائه. وهكذا كان علينا أن نقلب الأوضاع.»
غيرت واقعة الرهائن من مسار التاريخ السياسي للولايات المتحدة وأدت إلى تسمم العلاقات بينها وبين إيران. فقد دفعت بالولايات المتحدة إلى دعم العراق في حربها الطويلة الرهيبة مع إيران في محاولة لتعزيز النظام الدكتاتوري الخاص بالرئيس العراقي صدام حسين. وفي إيران زادت من قوة العناصر المقاتلة في التحالف الثوري. وبرر أحد مستشاري آية الله الخميني المقربين الذي خلفه فيما بعد في منصب المرشد الأعلى تطرف النظام قائلًا: «لسنا نعتنق الليبرالية مثل أليندي ومصدق بحيث تتمكن المخابرات المركزية الأمريكية من القضاء علينا.»
لم يفرض رجال الدين الأصوليون الذين عززوا قواهم في إيران في أوائل الثمانينيات نوعًا من الفاشية الدينية على بلادهم فحسب، بل إنهم أيضًا حولوا بلادهم إلى مركز لنشر الإرهاب بالخارج. وكان دعمهم لمحتجزي الرهائن من الدبلوماسيين الأمريكيين في طهران ليس إلا بداية لحملتهم العنيفة المعادية للغرب. فسرعان ما أخذوا يمولون حماس وحزب الله وبعض الفصائل الأخرى في الشرق الأوسط المعروفة بتورطها في عمليات الاختطاف والاغتيال السياسي. وأرسلوا عملاءهم في كل أنحاء العالم لاغتيال عشرات الإيرانيين المنشقين والعديد من الأعداء الآخرين، ومنهم رئيس الوزراء السابق شابور بختيار. وزعم المحققون الأمريكيون تورطهم في العملية الانتحارية التي وقعت عام ١٩٨٣ وتسببت في مقتل ٢١٤ جنديًّا بحريًّا أمريكيًّا في بيروت، وهجوم ١٩٩٦ الذي نتج عنه مقتل تسعة عشر آخرين من الجنود البحريين في المملكة العربية السعودية. وأكد وكلاء النيابة في الأرجنتين أنهم أمروا بتنفيذ أبشع الجرائم المعادية للسامية في عصر ما بعد الهولوكوست، وهو تفجير المركز الاجتماعي اليهودي في بوينوس أيريس عام ١٩٩٤، وهو الحدث الذي خلف ثلاثة وتسعين قتيلًا.
ونظرًا إلى انتمائهم للإسلام الأصولي واستعدادهم لارتكاب أفظع أشكال العنف، أصبح زعماء إيران الثوريون أبطالًا في نظر المتعصبين في العديد من دول العالم. ومن ضمن من تأثروا بهذا النموذج الأفغان الذين أسسوا جماعة طالبان ودفعوا بها إلى السلطة في كابول وأعطوا أسامة بن لادن القاعدة التي شن منها هجماته الإرهابية المدمرة. ولن يعد نوعًا من المبالغة إذا رسمنا خطًّا من عملية أياكس يمر بنظام الشاه القمعي والثورة الإسلامية وينتهي بالطائرات التي دمرت مركز التجارة العالمي بنيويورك.
لقد دفع العالم ثمنًا غاليًا لغياب الديمقراطية في معظم أنحاء الشرق الأوسط. فقد علَّمت عملية أياكس الطغاة والطامحين أن يصبحوا من الطغاة أن أقوى الحكومات في العالم مستعدة للتساهل مع الظلم بلا حدود ما دامت النظم القمعية مؤيدة للغرب ولشركات النفط الغربية. وهذا ساعد في انحراف الميزان السياسي في منطقة كبيرة بعيدًا عن الحرية ونحو الدكتاتورية.
يمكننا القول إنه لولا الانقلاب لأصبحت إيران دولة ديمقراطية ناضجة. وكانت الآثار التي خلفها الانقلاب صادمة حتى إنه عند رحيل الشاه عام ١٩٧٩ خشي العديد من الإيرانيين تكرار ما حدث في عام ١٩٥٣، وهو ما كان أحد دوافع استيلاء الطلاب على سفارة الولايات المتحدة. وعجلت أزمة الرهائن بدورها من الغزو العراقي لإيران، في حين لعبت الثورة [الإسلامية] ذاتها دورًا في اتخاذ القرار السوفييتي بغزو أفغانستان. وباختصار فإن الكثير من أحداث التاريخ قد نتجت عن أحداث أسبوع واحد في طهران …
كان انقلاب عام ١٩٥٣ والنتائج المترتبة عليه نقطة البداية للتحالفات السياسية في الشرق الأوسط الحديث وآسيا الوسطى. والآن بعد ذلك الإدراك المتأخر هل يمكننا القول إن الثورة الإسلامية التي نشبت عام ١٩٧٩ كانت حتمية؟ أم أنها أصبحت كذلك بعد القضاء على طموحات الشعب الإيراني مؤقتًا عام ١٩٥٣؟
من وجهة نظر تاريخية يسهل رؤية النتائج المأساوية لعملية أياكس. وستظل مصدر بلاء في العالم لسنوات عديدة قادمة. ولكن ماذا لو لم ينفذ هذا الانقلاب؟ كان الرئيس ترومان مصرًّا حتى اليوم الأخير له في منصبه على عدم تدخل الولايات المتحدة في إيران. فماذا لو شاركه الرئيس أيزنهاور هذا الاعتقاد؟
يؤكد المدافعون عن الانقلاب أن الاتحاد السوفييتي كان يتحين الفرصة للهجوم على إيران. كما يؤكدون أن تنفيذ الانقلاب كخطوة وقائية كان ضروريًّا لأن التخلص من الاحتلال السوفييتي أمر صعب، بل ربما يكون مستحيلًا. ومن وجهة نظرهم كانت المراهنة على عدم تحرك السوفييت أو إمكانية هزيمتهم في غاية الخطورة.
بعد مضي عدة عقود قال جون والر أحد مقاتلي عملية أياكس الذين عمروا بعدها طويلًا مؤكدًا على هذا: «كانت المسألة أكبر من إيران بكثير. كانت تخص ما فعله السوفييت وما نعلمه عن خططهم المستقبلية. ومن المثير للاهتمام أن نرى ما وضعته روسيا على قائمة أولوياتها، وما أرادته. وكانت إيران في أوائل تلك الأولويات. ولا أعتقد أنه كان هناك أي شخص لا يخيفه الخطر السوفييتي. فقد كان خطرًا حقيقيًّا.»
وكان يؤمن بالاعتقاد نفسه سام فال الذي رافق مونتي وودهاوس في مهمته إلى واشنطن عندما كان دبلوماسيًّا بريطانيًّا شابًّا وأُرسِل فيما بعد إلى طهران. فقد كتب في مذكراته أن الانقلاب كان «بالطبع أمرًا غير أخلاقي» لأنه يمثل تدخلًا في الشئون الداخلية لدولة أجنبية. ولكنه أضاف: «كان عام ١٩٥٢ فترة زمنية في غاية الخطورة. فقد كانت الحرب الباردة مشتعلة في كوريا. وحاول الاتحاد السوفييتي الاستيلاء على برلين عام ١٩٤٨. وكان ستالين لا يزال حيًّا. ولم تكن القوى الغربية على استعداد بأي حال لتحمل مجازفة الاحتلال السوفييتي لإيران، وهو الحدث الذي كان سيؤدي بالتأكيد إلى اندلاع الحرب العالمية الثالثة.»
ولكن التاريخ يلقي بظلال الشكوك حول تلك المخاوف. فقد حاول ستالين في أواخر الأربعينيات إحداث اضطرابات في إيران عن طريق مجموعة من الوسائل العسكرية والسياسية، ولفترة ظل جنوده يتحكمون بالفعل في قطاع كبير من شمال إيران. ولكن الضغط الدبلوماسي من واشنطن وطهران أجبره على التراجع. وهذا يوحي بأن السوفييت كانوا عازفين عن المحاولة مرة أخرى.
وعقب وفاة ستالين في بداية عام ١٩٥٣ بدأ النظام في الكرملين يتبنى سياسة خارجية أقل عدوانية. ولكن ذلك لم يكن واضحًا في حينه. فقد كان من الممكن أن يتولى شخص متوحش أرعن مثل بريا السلطة بدلًا من خروشوف المعتدل ويقوم بالعديد من التوسعات الاستفزازية. وكان ذلك خطرًا لا يمكن تجاهله من وجهة نظر المخابرات المركزية الأمريكية.
ومن الأمور التي لا يوجد لها جواب قاطع حتى الآن قوة حزب تودة المؤيد للسوفييت في أوائل الخمسينيات. فقد زعم الأخوان داليس أن حزب تودة قد كون شبكة ضخمة مستعدة للاستيلاء على السلطة فور سقوط مصدق أو استبعاده من منصبه. ولكن الباحثين الذين درسوا تاريخ حزب تودة والمنظمات الحليفة له يشكُّون في ذلك. فقد كان حزب تودة منقسمًا بين المثقفين الذين يعارضون مصدق لأنهم يرونه عقبة في طريق الشيوعية وبين قاعدة جماهيرية تتكون من معجبيه. وكان الحزب يمتلك خلايا في الجيش والخدمة العامة، ولكنها لم تكن كبيرة أو مؤثرة بالقدر الذي كانت تبدو به. وبعد مرور فترة طويلة على حدوث الانقلاب، أجرى أحد الباحثين حوارًا مع الدبلوماسي الأمريكي الذي تولى مراقبة حزب تودة في أوائل الخمسينيات، بالإضافة إلى اثنين من عملاء المخابرات المركزية الأمريكية الذين أُرسلوا معه إلى سفارة الولايات المتحدة بطهران. اعترف هؤلاء بأن «حزب تودة لم يكن بالغ القوة، وأن مسئولي الولايات المتحدة رفيعي المستوى دأبوا على المبالغة في قوته وفي اعتماد مصدق عليه».
أما السؤال الحرج: هل كان الانقلاب الأمريكي ضروريًّا لمنع السوفييت من تنظيم انقلاب خاص بهم؟ فلا نملك له جوابًا شافيًا. فلا أحد يعلم كيف كان سيتصرف السوفييت، وهل كان سيحالفهم النجاح. لا شك أن الانقلاب كانت له عواقب وخيمة. ويعلم الله وحده ما كانت ستئُول إليه الأحداث لو لم يقع ذلك الانقلاب.
•••
كيف وصلت إيران إلى مفترق الطرق المأساوي في أغسطس عام ١٩٥٣؟ تقع المسئولية الأساسية على عاتق غباء الاستعمار الحديث الذي كان يوجه شركة النفط البريطانية الإيرانية، واستعداد الحكومة البريطانية لقبوله. ولو كانت الشركة قد أبدت ولو شيئًا من الوعي لكان بإمكانها التوصل إلى تسوية مع السلطات الإيرانية. ولو كانت الشركة قد تعاونت مع رئيس الوزراء رازمارا الذي كان يرغب في بقاء البريطانيين في إيران، لكان من الممكن ألا يتولى مصدق السلطة قط. ولكن إدارة الشركة والمسئولين الحكوميين الذين كانوا يدللونها قد توقف بهم الزمن عند العقلية الاستعمارية، وكانوا يحتقرون الإيرانيين وطموحاتهم. وكان دين أتشيسون محقًّا عندما كتب: «لم يحدث من قبل أن خسرت مجموعة صغيرة كهذه الكثيرَ بتلك الحماقة والسرعة.»
ولكن أتشيسون ألقى باللوم أيضًا على مصدق الذي وصفه بأنه «تحركه دوافع الكراهية العمياء تجاه البريطانيين والرغبة في طردهم نهائيًّا من البلاد مهما كان الثمن». وبالطبع كان مصدق معارضًا للتسوية بقدر ما كان البريطانيون يعارضونها. ففي عدة مرات كان يمكنه إعلان النصر وعقد صفقة معهم. ففي صيف عام ١٩٥٢ على سبيل المثال تحوَّل إلى بطل قومي لا يقهر. فقد أعيد إلى السلطة عن طريق انتفاضة شعبية غير مخططة، وحقق انتصارًا ساحقًا على البريطانيين في محكمة العدل الدولية. وكان الرئيس ترومان في صفه. وكان أي قائد أكثر براجماتية منه سينتهز تلك الفرصة. ولكن مصدق لم يكن براجماتيًّا على الإطلاق، بل كان مثاليًّا حالمًا متفائلًا. وقد جعلت نظرته الأحادية التي شن بها حملته ضد شركة النفط البريطانية الإيرانية من المستحيل له التوصل إلى تسوية عندما كان عليه وبإمكانه فعل ذلك.
ومن أوجه القصور الأخرى في حكم مصدق على الأمور عجزه أو رفضه إدراك نظرة الزعماء الغربيين للعالم. فقد كانوا في حالة ذعر من انتشار النفوذ الشيوعي. ولكن مصدق كان يعتقد أن صراعه مع شركة النفط البريطانية الإيرانية لا علاقة له بالمواجهة العالمية بين الشرق والغرب. ولكن هذا التفكير لم يكن واقعيًّا على الإطلاق. فقد كان صناع القرارات في واشنطن وموسكو يرون كل أحداث العالم جزءًا من الحرب الدائرة بينهما من أجل التحكم في مصير العالم. وكانت حماقة من مصدق أن يظن أن بإمكانه الفصل بين قضية إيران رغم عدالتها وبين هذا الصراع الشامل.
كان مصدق أيضًا ساذجًا في تقييمه للشيوعيين الذين يسيطرون على حزب تودة ويعملون بدأب من أجل اختراق حكومة إيران وجيشها ومجتمعها المدني. فقد كان يبغض الاستبداد ويؤمن بأن الإيرانيين يجب أن يكونوا أحرارًا فيما يقولونه ويفعلونه. ولم يبدُ أن فكرة استغلال الشيوعيين للنظم الديمقراطية في أوروبا الشرقية من أجل الاستيلاء على السلطة والقضاء على الديمقراطية تزعجه. وقد وضعه رفضه اتخاذ إجراءات صارمة ضد الحركات الشيوعية في إيران على القائمة السوداء في واشنطن. وقد يكون ذلك نوعًا من الظلم، ولكنه كان الواقع القاسي لذلك العصر. وبعدم إدراكه ذلك الواقع قوى مصدق من شوكة أعدائه.
خلال الأشهر الستة والعشرين التي مكثها مصدق في السلطة لم يحاول قط تحويل الجبهة الوطنية إلى حركة سياسية متماسكة. بل ظلت تحالفًا هشًّا بلا قيادة مركزية أو قاعدة سياسية منظمة. وفي انتخابات المجلس لعام ١٩٥٢ لم يبذل مصدق مجهودًا كي يجمع قائمة مرشحين للانتخابات ملتزمين ببرنامج الحكومة. وقد جعلها هذا عرضة للهجوم من الدخلاء الذين سعوا إلى كسر شوكتها وأعاقها عن تكوين مجموعة أنصار كان بإمكانهم الاحتشاد للدفاع عنها في الأوقات العصيبة.
ورغم أخطاء مصدق التاريخية لا يمكن القول إنه كان رئيس وزراء فاشلًا. كانت إنجازاته شديدة الأهمية، بل مذهلة أحيانًا. فقد قاد شعبه في رحلة طويلة وشاقة نحو الديمقراطية والاكتفاء الذاتي، ولم يغير ذلك من تاريخهم فحسب، بل أيضًا من رؤيتهم لأنفسهم وللعالم من حولهم. ووجه ضربة قاتلة للنظام الاستعماري، وعجل بانهياره التام. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان مصدر إلهام للناس في كل أنحاء العالم الذين يؤمنون بأن الأمم عليها وبإمكانها الكفاح من أجل تحقيق الحكم الذاتي. وهو يتصدر التاريخ الإيراني وتاريخ الشرق الأوسط وتاريخ مقاومة الاستعمار. ولا تكتمل أي رواية لأحداث القرن العشرين دون أن يأتي ذكره فيها.
جلب مصدق وشركة النفط البريطانية الإيرانية كلٌّ منهما المصائب لنفسيهما عن طريق رفضهما المحاولات المتكررة للتسوية. ولكن التصادم الأخير بينهما ما كان ليحدث لو لم يتعاون الناخبون البريطانيون والأمريكيون معًا. وهذا ما فعلوه بطريقة تنم عن الجهل الشديد. فقد كانت إيران قضية ظاهرة ولكنها لا تحتل مساحة كبرى في الحملة السياسية التي أعادت وينستون تشرشل إلى كرسي الحكم في لندن. ولم يكن ذلك الموضوع مطروحًا على الإطلاق في حملة دوايت أيزنهاور الانتخابية، مع أن الخوف من المد الشيوعي العالمي ساهم بالطبع في تشكيل مفاهيم العديد من الناخبين. وقد حددت نتائج الانتخابات في البلدين الرغبة في التغيير، وفي إيران البعيدة أدت تلك النتائج إلى تغيير مستقبلها للأبد. فلو لم يفز تشرشل وأيزنهاور في الانتخابات ما كانت عملية أياكس لتتم.
كانت الانتخابات في الولايات المتحدة شديدة الأهمية، وذلك لأنها أحضرت جون فوستر داليس وألان داليس إلى السلطة. وكان الأخوان يسعيان نحو هدف محدد ويهتمان بشدة بالخطر الشيوعي العالمي. وقد يكون قرارهما بخوض المعركة الأولى في حملتهما على أرض إيران حكيمًا وقد لا يكون، ولكنهما يستحقان أن نحكم عليهما بقسوة للطريقة التي نفذاه بها. فحتى قبل أن يتوليا منصبيهما رسميًّا ويؤديا القسم أقنع الأخوان نفسيهما بأن مصدق يجب أن يرحل بلا شك. ولم يفكرا للحظة في احتمال أن تكون فكرة الانقلاب خاطئة أو أن يكون لها تداعيات سلبية. وقد ينظر التاريخ إلى صنيعهما بعين التأييد لو كان ذلك القرار نتاج الكثير من التفكير والنقاش الجاد المتفتح. ولكنه نتج عن نفاد صبر شديد ورغبة قوية في عمل أي شيء يبدو انتصارًا على الشيوعية. كانت الأيديولوجية وليس العقل هي ما حركت الأخوين داليس. وكانت إيران المكان الذي اختارا البدء به كي يظهرا للعالم أن الولايات المتحدة لم تعد جزءًا مما أطلق عليه نائب الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون «مدرسة دين أتشيسون في الاحتواء الحذر للشيوعيين».
لم يكن هناك فرق جوهري في الطريقة التي ينظر بها ترومان وأيزنهاور إلى الخطر الشيوعي. فقد كان كلٌّ منهما يعتقد أن موسكو توجه حملة قاسية من التخريب تهدف إلى السيطرة على العالم، وأن إيران أحد الأهداف المحتملة لتلك الحملة، وأن أهم الأولويات القومية للولايات المتحدة مقاومة تلك الحملة والقضاء عليها. ولكنهما اختلفا بشدة في طريقة المقاومة الأمريكية. كان ترومان يرحب بصعود الحركات القومية في الدول النامية. ويعتقد أن الولايات المتحدة بإمكانها أن تظهر للعالم صداقتها المخلصة لآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية عن طريق تأييد الحركات القومية بها. وكان يبغض فكرة إسقاط الحكومات الأجنبية، وذلك لأنه كان يدرك أن عواقبها على المدى الطويل لا يمكن التنبؤ بها وقد تؤدي إلى وقوع الكوارث.
قضى ترومان أوقاتًا طويلة يفكر في إيران ويتحدث عنها، ولكن أيزنهاور كان أقل اهتمامًا. فقد سمح للأخوين داليس بتشكيل سياسة إدارته تجاه العالم الثالث المليء بالاضطرابات. وكانا متلهفين إلى تحقيق نجاح سريع ملموس في حملتهما المضادة للشيوعية، واعتقدا أن العمليات السرية وسيلة مناسبة لتحقيقها. ولم يبدُ لهما أن تنفيذ انقلاب وقائي واتخاذ إجراءات ضد أخطار لم تقع بعدُ خطوة حكيمة فحسب، بل أيضًا ضرورة ملحة. ولم يقلقا بشأن العواقب المستقبلية لهذا الانقلاب، لأنهما كانا يعتقدان أنه إذا لم تدعمه الولايات المتحدة فسوف يتعرض مستقبلها للخطر.
كان لنجاح عملية أياكس تأثير فوري بعيد المدى في واشنطن. فبين عشية وضحاها أصبحت المخابرات المركزية الأمريكية جزءًا رئيسًا في أجهزة السياسة الخارجية الأمريكية، وأصبحت العمليات السرية طريقة فعالة وغير مكلفة لتغيير مسار الأحداث العالمية. وشعر كيرمت روزفلت بذلك الرأي يزداد قوة قبل أن ينتهي من تقديم تقريره عن ملخص الأحداث في البيت الأبيض في الرابع من سبتمبر عام ١٩٥٣.
فقد كتب فيما بعد: «بدا أحد مستمعيَّ شديد الحماس بطريقة مخيفة. واتكأ جون فوستر داليس للخلف في مقعده. ولكنه رغم تلك الجلسة كان أبعد ما يكون عن النعاس. فقد كانت عيناه تلمعان وتبدو عليه علامات الرضا. وبدا واضحًا أنه لا يستمتع بما يسمعه فحسب، بل إن حدسي أخبرني بأنه يخطط لشيء ما.»
كان داليس بالفعل يخطط لشيء ما. ففي العام التالي نظم بالاشتراك مع شقيقه الانقلاب الثاني في تاريخ المخابرات المركزية الأمريكية الذي أطاح بالرئيس جاكوبو أربينز في جواتيمالا وأدى إلى وقوع سلسلة من الأحداث في البلاد أدت بدورها إلى نشوب حرب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف من الأرواح. وشرعت المخابرات المركزية الأمريكية فيما بعد في اغتيال الزعماء الأجانب في كوبا وتشيلي والكونغو وفيتنام، أو الإطاحة بهم. وكان لكلٍّ من تلك العمليات أصداء عميقة لا تزال تتردد حتى يومنا هذا. وأدت بعضها إلى تعاسة ومعاناة شديدة وجعلت بعض مناطق العالم تناصب الولايات المتحدة العداء الشديد.
•••
هناك سؤال أخير يحتاج إلى إجابة، وهو لماذا نجحت عملية أياكس؟ تتعلق الإجابة إلى حد بعيد بالحظ والمصادفة. فلو اتخذ أهم الشركاء قرارات مختلفة في أي من المراحل الكثيرة للعملية لفشل الانقلاب.
كان من الممكن أن يقرر كيرمت روزفلت الاستسلام والعودة لبلاده بعد المحاولة الفاشلة التي جرت في الخامس عشر من أغسطس. وكان الاحتمال الأقوى من ذلك أن يتصرف مصدق ومستشاروه مع المتآمرين بصرامة أكثر. وقال شابور بختيار في حوار أجري معه بعد مرور عدة أعوام مؤكدًا على هذا: «كان يجب على مصدق التحرك على الفور والأمر بإعدامهم جميعًا.» كان يمكن أن ينقذ ذلك الإجراء الموقف، ولكن تلك لم تكن طبيعة مصدق.
كان من الممكن أن يفشل الانقلاب لو أسرع مصدق في توجيه أوامره للشرطة باتخاذ إجراءات عنيفة ضد الحشود المعادية التي أرسلها روزفلت وعملاؤه في الشوارع؛ وكان من الممكن أن يفشل لو كان مصدق عندما أمر أخيرًا بشن حملة لفرض النظام استعان بضابط مخلص كي ينفذها بدلًا من الجنرال دفتري المعروف بانتمائه إلى المحافظين؛ وكان من الممكن أن يفشل لو لم يعترض دفتري سبيل المجموعة المخلصة بقيادة الجنرال كياني القادمة كي تدافع عن الحكومة ويجعلها تعود أدراجها؛ وكان من الممكن أن يفشل لو تمكن رئيس الأركان المخلص الجنرال رياحي من الهروب من الأسر وتعبئة المزيد من الجنود المخلصين؛ وكان من الممكن أن يفشل لو دعا مصدق مؤيديه إلى الخروج في الشوارع بدلًا من إعطائهم أوامر بالمكوث في المنازل في اليوم السابق لتوجيه الضربة الأخيرة؛ وكان من الممكن أن يفشل لو قرر شيوعيو حزب تودة المنظمون التحرك نيابة عن مصدق.
ولا شك أنه ما كان ليحدث انقلاب في أغسطس عام ١٩٥٣ لولا تدخل المخابرات المركزية الأمريكية. فقد خططت المخابرات المركزية الأمريكية لعملية أياكس، ودفعت مبالغ ضخمة من أجل تنفيذها، حيث تقدر التكلفة الإجمالية بمبلغ يتراوح بين مائة ألف دولار أمريكي وعشرين مليون دولار أمريكي، وذلك بناء على أي التكاليف احتسبت، وعينت أحد أكثر عملائها إبداعًا كي يديرها. ولكن كيرمت روزفلت ورفاقه ما كانوا لينجحوا لولا مساعدة الإيرانيين. فقد قدمت لهم مجموعتان من الإيرانيين مساعدات هائلة. كانت أولاهما الإخوة راشيديان وبعض العملاء السريين الآخرين الذين قضوا أعوامًا في بناء الشبكة التخريبية التي وجدها روزفلت بانتظاره عندما وصل. وثانيهما ضباط الجيش الذين أحضروا مجموعة رهيبة من الأسلحة في اليوم الحاسم.
كانت إيران تسقط في هاوية الفوضى في الأسابيع الأخيرة من حكم مصدق. فقد عمل العملاء البريطانيون والأمريكيون بدأب شديد لإحداث انقسام في صفوف الجبهة الوطنية وبقية المجتمع الإيراني، وأثبتت جهودهم مدى ضعف المجتمعات غير المتطورة في مواجهة حملة منظمة من الرشوة وتقويض الاستقرار. ولكن مصدق نفسه كان أحد العوامل التي أدت إلى وصول إيران لطريق مسدود في منتصف عام ١٩٥٣. وقد يكون من المبالغة أن نؤكد ما زعمه البعض من أن مصدق كان في الحقيقة راغبًا في الإطاحة به. غير أنه كان قد استنفد كل الخيارات المتاحة لديه. وشعر الكثير من الإيرانيين بذلك، وكانوا مستعدين لبداية جديدة.
هيأ عملاء المخابرات الأجانب المسرح للانقلاب وأطلقوا القوى التي نفذته من عقالها. ولكن في لحظة معينة اتخذت العملية زخمًا خاصًّا بها. كان الحشد الضخم الذي اندفع في شوارع طهران في الثامن عشر من أغسطس يتكون بعضه من المرتزقة والبعض الآخر كان تعبيرًا صادقًا عن فقدان الثقة بمصدق. ووضعت المخابرات المركزية الأمريكية الأساس لأحداث ذلك اليوم، ولكنها اعترفت في تقريرها للأحداث بأنها «لن تعلم أبدًا إلى أي مدى اعتمدت النتائج على الجهود التي بذلها عملاؤنا».
سرعان ما أدرك الإيرانيون بعد وقوع الانقلاب أن الأجانب لعبوا دورًا جوهريًّا في تنظيمه. ولكن ذلك الإدراك لم ينتشر في الولايات المتحدة إلا في وقت متأخر عندما انفجر الشعور بالكراهية للأمريكيين في إيران بعد نشوب الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩، فعندها فقط أدرك الأمريكيون أن بلادهم مكروهة هناك. وتمكنوا تدريجيًّا من إدراك السبب.
بعد أربعة أشهر من الإطاحة بمصدق، سافر ريتشارد نيكسون إلى إيران وأعلن إعجابه الشديد بكل من رئيس الوزراء زاهدي ومحمد رضا شاه. ولكن الرئيس أيزنهاور كان أكثر حذرًا. فلم يتوجه لزيارة إيران حتى عام ١٩٥٩ ولم يبقَ هناك سوى بضع ساعات. واستقبله الشاه بحفاوة شديدة وأهداه تمثالًا من الفضة لطاووس مرصع بالياقوت الأزرق والأحمر. ولكن وراء الكواليس اختلف الزعيمان معًا بطريقة أنذرت بوقوع المشكلات. فقد وجه أيزنهاور تحذيرًا للشاه بأن القوة العسكرية لا تكفي لتأمين أي دولة، وحثه على الاهتمام «بالاحتياجات الأساسية» لشعبه. ورد الشاه بأن الأمن في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه «إلا عن طريق بناء القوة العسكرية لإيران».
لم يعترف أيزنهاور قط بالدور الأمريكي في عملية أياكس. وقد ذكر في سيرته الذاتية أنه تسلم تقريرًا ملخصًا عنها، ولكنه كان مكتوبًا وليس شفهيًّا، ووصف روزفلت بأنه «أمريكي في إيران لا أعرفه». ولكنه كان أكثر صراحة في يومياته. فقد كتب: «كانت الأعمال التي أقدمنا عليها «سرية»». واعترف أيضًا بما لم يعترف به في سيرته الذاتية، وهو أن روزفلت قد تلا عليه تقريرًا حول الانقلاب. وقال: «استمعت إلى تقريره التفصيلي، وبدا كما لو كان قصة ميلودرامية وليس حقائق تاريخية.»
وبعد مرور سبعة وأربعين عامًا على الانقلاب اعترفت الولايات المتحدة رسميًّا باشتراكها فيه. وصدق الرئيس بيل كلينتون — الذي بدأ محاولة لتحسين العلاقات الأمريكية الإيرانية ثبت أنها فاشلة — على بيان صيغ بعناية يمكن اعتباره نوعًا من الاعتذار. وتلته وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت في خطاب ألقته في واشنطن.
قالت: «في عام ١٩٥٣ لعبت الولايات المتحدة دورًا رئيسًا في تنظيم عملية الإطاحة برئيس الوزراء ذي الشعبية الكبرى مصدق. وكانت إدارة أيزنهاور تعتقد أن خطواتها تبررها دوافع استراتيجية. ولكن الانقلاب كان بالتأكيد نكسة في طريق النمو السياسي لإيران. ومن السهل الآن أن ندرك لمَ يقاوم العديد من الإيرانيين التدخل الأمريكي في شئونهم الداخلية.»
•••
تقترب وجهات النظر تلك من الإجماع. وتؤيد بطريقة غير متوقعة من عارضوا استخدام العنف ضد مصدق. فقد تنبأ الرئيس ترومان بأن سوء إدارة الأزمة الإيرانية سوف يؤدي إلى وقوع «كارثة في العالم الحر». وحذر هنري جريدي السفير الأمريكي لدى طهران من كون الانقلاب «حماقة كبرى» سوف تدفع بإيران إلى «حالة من التفكك بكل ما تحمله الكلمة من معنى». وكان أي شخص يقرأ هذا الكلام في الأعوام الخمسة والعشرين التي تلت ١٩٥٣ يعتقد أن قائليه مخطئون تمامًا. ولكن التاريخ فيما بعد أنصف من تفوهوا بتلك الكلمات. فقد كانت نتائج عملية أياكس مأساوية كما تنبئوا لها بالضبط، مع أن رد الفعل أو «الضربة المرتدة» كما يطلق عليها عملاء المخابرات استغرقت وقتًا أطول مما توقع أي أحد كي تتحقق.
يمكننا القول إن إيران لم تكن مستعدة للديمقراطية في عام ١٩٥٣، وربما كانت ستسقط في هاوية الفوضى لو لم تتدخل الولايات المتحدة، مع أنه لو لم يتدخل ضباط المخابرات البريطانية والأمريكية بتلك الصورة المخزية في سياساتها الداخلية، ربما كانت ستعود إلى حالة من الهدوء النسبي. ولكن من الصعب أن نتخيل نتائج مماثلة في الألم والرعب الذي نشأ على مدار نصف القرن التالي لتلك التي نتجت عن عملية أياكس. ولم يكن هناك أي احتمال أسوأ من ذلك سوى احتلال سوفييتي تعقبه حرب بين القوى العظمى.
تسبب الانقلاب في ثقة الولايات المتحدة والغرب بأكمله في إيران طوال خمسة وعشرين عامًا. وكان ذلك انتصارًا لا شك فيه. ولكن في ضوء الأحداث اللاحقة، وفي ضوء ثقافة العمليات السرية التي سيطرت على السياسة الأمريكية في أعقاب الانقلاب، يبدو أن ذلك الانتصار فقد الكثير من بريقه. فمن شوارع طهران والعواصم الإسلامية الأخرى التي تستشيط غضبًا، إلى مشاهد الهجمات الإرهابية في كل أنحاء العالم، خلفت لنا عملية أياكس تراثًا رهيبًا يعاودنا بين الحين والآخر كالشبح.