ملعون ذلك المصير
تشهد أطلال مدينة برسيبوليس على عظمة بلاد فارس، حيث تطل شامخة مهيبة على صحراء جنوبي إيران، وتضيف الجبال المتباعدة المزيد إلى جلال ذلك المشهد. كانت تلك هي العاصمة الرسمية والروحية للإمبراطورية الشاسعة التي بناها قورش وداريوس وخشايار شاه، وهم الملوك العظام الذين لا تزال أصداء أسمائهم تتردد في التاريخ. وكانت التماثيل العملاقة للثيران المجنحة تحرس بوابة كل الأمم التي يمر أمراء الدول التابعة بها مرة كل عام كي يقدموا فروض الطاعة والولاء لسادتهم الفرس. وكان طول القاعة الكبرى ذات بهو الأعمدة — حيث كان الأمراء يمثلون أمام «سيدهم» بكل ما تحمله الكلمة من معنى — يماثل ثلاثة ملاعب كرة قدم. وكان سقفها مرفوعًا بواسطة ستة وثلاثين عمودًا شاهقًا لا يزال بعضها قائمًا حتى الآن. وهناك أيضًا سلَّمان أثريان يقودان إلى قاعة مزينة بنقوش بالغة الدقة تصور الطقوس السنوية للطاعة والولاء التي تؤدى يوم الاعتدال الربيعي. واليوم تعطينا تلك النقوش صورة واضحة عن مدى هيمنة أباطرة الفرس ذات يوم على أكثر بلاد الأرض ثراء.
وتعرض النقوش حكام الدول التابعة وهم يسيرون في صف طويل أمام قائدهم الأعلى حاملين الهدايا التي تعبر عن ثراء بلادهم. وقد تمكن علماء الآثار من تحديد معظمهم، وذكر أسمائهم فقط يستدعي إلى الأذهان عظمة العصور القديمة. ها هم العيلاميون المولعون بالحرب الذين عاشوا شرق نهر دجلة يقدمون أسدًا يرمز إلى شراستهم. ويقدم الأراكوسيون ساكنو وسط آسيا الجمال والفراء، ويقدم الأرمينيون فرسًا ومزهرية متقنة الصنع، ويقدم الحبشيون زرافة وناب فيل، ويقدم الصوماليون جلد ظبي مدبوغًا ومركبة حربية. ويقدم التراقيون الدروع والرماح، ويقدم الأيونيون ثيابًا من القماش وأطباقًا من الخزف. ويدخل العرب قائدين جملًا والآشوريون ثورًا والهنود حمارًا محملًا بالسلال المنسوجة. تقدَّم تلك الإتاوات إلى ملك الملوك، وهو العاهل الذي ساهم حكمه في بسط رقعة النفوذ الفارسي إلى أقصى أنحاء العالم.
تعتبر العديد من دول الشرق الأوسط كيانات مصطنعة. رسم المستعمرون الأوروبيون حدود تلك الكيانات في القرن التاسع عشر أو العشرين، فلم يراعوا التاريخ أو التقاليد المحلية، وكان لزامًا على قادتها أن يختلقوا الأساطير الخيالية كي يعطوا مواطنيهم شعورًا بالسيادة القومية. ولكن العكس هو الصحيح في حالة إيران. فهي إحدى أعرق الأمم في العالم، وهي تمتلك إرثًا من التاريخ يمتد إلى آلاف السنين عندما كان الفاتحون العظام يبسطون رقعة نفوذهم عبر القارات، الشعراء والفنانون يبدعون أعمالًا رائعة، وازدهرت هناك إحدى أعجب الحضارات الدينية في العالم. وحتى في العصر الحديث الذي تميز بفترات طويلة من الفوضى السياسية والقمع والمعاناة، لا يزال الإيرانيون مرتبطين عاطفيًّا بتراثهم.
يحفل التاريخ الإيراني بموضوعات مهمة عديدة لا تزال تساهم في تشكيل إيران حتى اليوم. ومنها المحاولات المضنية للتوفيق بين الإسلام — الذي فرضه على البلاد العرب الفاتحون — وبين التراث الخصب الخاص بفترة ما قبل الإسلام. ومن الموضوعات الأخرى التي يغذيها المذهب الشيعي الذي يعتنقه معظم الإيرانيين حتى الآن التعطش للقيادة العادلة التي لم ينعموا بها إلا قليلًا. ومن الموضوعات الأخرى أيضًا التي صقلتها المعتقدات الشيعية النظرة المأساوية إلى الحياة التي تعتمد على مبدأ الاستشهاد والألم الجماعي. كانت إيران منذ عصور سحيقة هدفًا للغزاة الأجانب وضحية لموقعها الجغرافي الذي وضعها في مفترق أهم الطرق التجارية في العالم وفوق بحر من النفط، وقد ظلت تكافح كي تصل إلى طريقة للتعايش مع الدخلاء الأقوياء. وتضافرت كل تلك الضغوط في منتصف القرن العشرين كي تؤدي إلى ظهور شخص عظيم مثل مصدق ثم تدمره.
أخذ المهاجرون من وسط آسيا وشبه القارة الهندية يتوافدون على إيران منذ أربعة آلاف عام تقريبًا، مدفوعين بنقص الموارد وإغارة القبائل عليهم من الشمال والشرق. وكان من بينهم الآريون الذين استمدت منهم إيران اسمها الحالي. والإمبراطور الذي يرجع إليه الفضل في توحيد تلك الجماعات المهاجرة لأول مرة هو قورش، وهو أحد الشخصيات التاريخية ذات البصيرة الثاقبة وأول من تخيل قيام إمبراطورية في تلك المنطقة عرفت باسم فارس.
بعد وصوله إلى السلطة عام ٥٥٩ ق.م. أطلق قورش حملة عبقرية تهدف إلى إخضاع القادة الآخرين على الصعيد الإيراني لنفوذه. وتمكن من هزيمة بعضهم، واستمال البعض الآخر عن طريق الحيلة والإقناع. واليوم لا يذكره التاريخ بفضل غزواته فحسب، بل أيضًا بفضل المعاملة الحسنة التي كان يعامل بها رعاياه. فقد أدرك أن تلك الطريقة أكثر نجاحًا في بناء إمبراطورية قوية مقارنة باستخدام الوسائل الشائعة مثل الظلم والإرهاب وارتكاب المذابح.
عام ٥٤٧ قبل الميلاد، زحف قورش بجيوشه نحو آسيا الصغرى واستولى على سارديس عاصمة ليديا العظيمة. وبعد ذلك بسبعة أعوام تمكن من إخضاع القوة الإقليمية الأخرى، ألا وهي بابل. وخلال العقود التالية حقق هو وخلفاؤه مزيدًا من الانتصارات الكبرى، حيث استولى جيش مكون من مائة وثمانين ألف رجل بقيادة خشايار شاه على مقدونيا وترموبيل وأثينا، وكان ذلك هو الجيش الأضخم في أوروبا في ذلك الوقت. وقد بنت تلك السلالة المعروفة باسم الأخمينيين أعظم إمبراطورية في ذلك الزمان، وبحلول عام ٥٠٠ قبل الميلاد، كان الأخمينيون قد طوقوا شرق البحر المتوسط من ناحية اليونان مارِّين بتركيا ولبنان وإسرائيل ومصر وليبيا، وامتدت تلك الإمبراطورية شرقًا عبر القوقاز إلى ضفاف نهر السند. وأطلق عليها قورش اسم بلاد فارس لأنها برزت للوجود من القاعدة التي اتخذها في فارس.
كان التوجه السمح المتفهِّم الذي تميز به الأباطرة الأخمينيون يرجع جزئيًّا إلى ارتباطهم بالديانة الزرادشتية التي تؤمن بأن المسئولية المقدسة لكل إنسان تتمثل في العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية على الأرض. ويؤمن الزرادشتيون بأن الإنسانية كُتِبَ عليها الصراع الأبدي بين الخير والشر. ويقال إن الزرادشتية هي أول ديانة منزلة تبشر بالحساب بعد الموت وبخلود كل نفس في الجنة أو في الجحيم. وطبقًا لمعتقدات تلك الديانة يقرر الله مصير كل شخص وفقًا للفضائل التي كان يتمتع بها في حياته بناء على أفكاره وأقواله وأفعاله. وقد عاش النبي زرادشت في زمن ما بين القرن العاشر والسابع قبل الميلاد فيما يعرف الآن بشمالي شرق إيران، وبدأ ممارسة الدعوة لعقيدته بعد سلسلة من الرؤى الإلهية. وقد أثرت الديانة الزرادشتية تأثيرًا عميقًا في التاريخ الفارسي، ولا يرجع ذلك إلى استخدام قورش لها في حملته الجريئة الناجحة لبناء إمبراطورية فحسب، بل أيضًا بسبب إيمان الكثيرين بها على مدار قرون عديدة.
تعلم الإيرانيون من الديانة الزرادشتية أن المواطنين يتمتعون بحق غير قابل للتنازل في وجود حاكم مستنير، وأن دور الرعايا لا يقتصر على طاعة الملوك الحكماء، بل يتعداه إلى الوقوف في وجه الطالحين منهم. ومع أن الحكام يعتبرون ممثلي الله على الأرض، فإنهم لا يستحقون الطاعة إلا إذا حصلوا على نوع من البركات الإلهية التي تكتسب بفضل السلوك الأخلاقي. وكي يحصلوا على تلك البركة ظل أجيال من قادة الفرس يزورون المعابد الزرادشتية حيث تشتعل النار المقدسة على الدوام مما يرمز إلى أهمية الاحتراز من المظالم.
ربط قورش وسلسلة الملوك الذين خلفوه بين أطراف الإمبراطورية الشاسعة باستخدام الطرق والكباري والعملة الموحدة ووضع نظام فعال للضرائب وإنشاء أول نظام خدمات بريدية بعيد المدى. ولكن في نهاية الأمر كان من المحتم أن ينقلب التاريخ عليهم، فقد بدأت الإمبراطورية تهتز بعد أن خسر داريوس معركة ماراثون الفاصلة عام ٤٩٠ قبل الميلاد. وجاءت الضربة القاضية من الإسكندر الذي زحف بجيوشه نحو بلاد فارس فاتحًا عام ٣٣٤ قبل الميلاد، مثيرًا عاصفة من الخراب، حيث أمر بنهب مدينة برسيبوليس وحرقها.
وعلى مدار القرون العشرة التالية، وخلال حكم ثلاث سلالات، حافظ الفرس على مشاعر قوية من الكبرياء والنبل. ومما تسبب في ازدهارهم قدرتهم على استيعاب تأثيرات عديدة من الدول المحيطة بهم، خاصة اليونان ومصر والهند، وإعادة تشكيلها في إطار العقيدة الزرادشتية. وفي القرن الثالث الميلادي بدءوا يعودون إلى قمة الهرم العالمي للقوة بمقياس أعاد للأذهان مجد الأباطرة الأوائل، حيث استولوا على أنطاكية وبيت المقدس والإسكندرية وأخذوا يناضلون للوصول إلى أسوار القسطنطينية. وقد مُنيت جيوش الفرس بهزيمة على يد البيزنطيين عام ٦٢٦م، ولكن الهزيمة الأفدح لم تأتِ بعد. فبعد بضعة أعوام تحرك جيش من شبه الجزيرة العربية القاحلة متجهًا نحو بلاد فارس. ولم يكن هؤلاء العرب مدججين بأسلحة الحرب التقليدية فحسب، بل كانوا أيضًا حاملين دينًا جديدًا، ألا وهو الإسلام.
كان الغزو على يد العرب — الذين كان الفرس المتحضرون يعتبرونهم همجًا — نقطة تحوُّل فاصلة في تاريخ الأمة الفارسية. وقد تشابه مصير بلاد فارس مع إمبراطوريات عظمى عديدة. حيث أنهكت جيشها الغزوات الطويلة، وهوى قادتها مما أَطلق عليه الكهنة الزرادشتيون عالم النور إلى عالم الظلام، وانفصل رجال الدين أنفسهم عن العامة. وعانى الناس الفقر المدقع حيث فرض البلاط الملكي عليهم ضرائب متزايدة بجشع شديد. وقضى الاستبداد على العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم الذي يعتبر في العقيدة الزرادشتية أساس الحياة المنظمة. ووفقًا للمعايير السياسية والدينية فقدَ الساسانيون — آخر الأسر التي حكمت قبل الإسلام في بلاد فارس — الحق في الحكم. وفرض قانون التاريخ الذي لا يرحم أن تهزم تلك البلاد على يد شعب نفوذه آخذ في الازدياد تقوده عاطفته المشبوبة نحو قادته والقضية التي يدافع عنها والمعتقد الذي يؤمن به.
ارتكزت قوة الساسانيين في مدينة قطسيفون — العاصمة الرائعة لبلاد ما بين النهرين. ولم تكن تلك المدينة تتميز بالأعمدة الفخمة مثل برسيبوليس، ولكنها كانت مدينة غارقة في الإسراف والتبذير. فقد ضم القصر الملكي مجموعات رائعة من المجوهرات، وكان يحرس القصر مجموعة تماثيل مجسمة من الذهب والفضة. وأهم ما يميزه قاعة الملك التي تشبه الكهف وتضم سجادة من الحرير تبلغ مساحتها تسعين قدمًا مربعًا مزينة بنقوش تمثل حديقة مزهرة وترمز بشكل مجازي إلى ثروة الإمبراطور وقوته. وخيطت في تلك السجادة أحجار كريمة مثل الياقوت واللؤلؤ والماس بخيوط من ذهب. وعندما دخل العرب مدينة قطسيفون فاتحين عام ٦٣٨م، نهبوا القصر الملكي وأرسلوا تلك السجادة الرائعة إلى مكة حيث أمر الحكام المسلمون بتمزيقها كي يظهروا احتقارهم للثروات الدنيوية. كما دمروا كنوزًا لا حصر لها وفيها المكتبة الملكية بأكملها. ويروي الفردوسي — وهو شاعر فارسي عاش في القرن العاشر الميلادي — عن ذلك الغزو قائلًا إن أحد القادة تحسر قائلًا: «ملعون ذلك العالم، ملعون ذلك الزمان، ملعون ذلك المصير/ حيث أجبرني العرب الهمجيون على اعتناق الإسلام.»
وفي نفس الملحمة المسماة «الشاهنامة» — التي يبلغ طولها أربعة أضعاف الإلياذة — والتي استغرقت خمسة وثلاثين عامًا في تأليفها، يصف الفردوسي القائد الفارسي المنهزم رستم وهو يبكي المصاب الذي يراه قادمًا:
عند الفتح العربي لبلاد فارس كان الفرس قد اكتسبوا خبرة طويلة في استيعاب الثقافات الأجنبية، حيث كانوا يشكلون تلك الثقافات حسب هواهم أو يأخذون منها ما يرتضونه ويرفضون ما لا يناسبهم. وهكذا كان الأمر حين فرض عليهم الإسلام. فلم يكن لديهم خيار سوى قبول كون محمد رسول الله والقرآن كلام الله، ولكن على مدار قرون عديدة توصلوا إلى تفسير للإسلام يختلف عن ذلك الذي آمن به العرب الذين غزوا بلادهم. وقد بني هذا التفسير الذي يطلق عليه التشيع على قراءة مختلفة للتاريخ الإسلامي، ودل على طريقتهم البارعة في استخدام الإسلام لتعزيز المعتقدات الإيرانية القديمة.
يعتنق نحو ٩٠٪ من المسلمين الذين يبلغ عددهم مليار شخص في العالم اليوم المذهب السني. أما البقية فأغلبهم يعتنقون المذهب الشيعي، ويوجد أكبر عدد منهم في إيران. ويرجع الاختلاف بين هاتين الجماعتين إلى التفسيرات المختلفة لاستحقاق خلافة الرسول بعد وفاته عام ٦٣٢م. حيث يعتقد الشيعة أن الخليفة الشرعي هو علي ابن عمه الذي رباه منذ طفولته وزوَّجه إحدى بناته. وعلي أحد من أملى عليهم الرسول الوحي أو القرآن، بالإضافة إلى كونه عرَّض حياته للخطر ذات مرة بنومه في فراش الرسول كي يُحبط خطةً لاغتياله. ولكن بعد وفاة الرسول اختير شخص آخر لمنصب الخليفة، وهكذا وجد علي نفسه في موقف المنشق. وانتقد المؤسسة الدينية لسعيها إلى امتلاك القوة الدنيوية وإضعاف ميراثها الروحي. وقد انضم الكثيرون إلى صفه سخطًا على الأوضاع الاقتصادية السيئة، وفي النهاية اتخذ الصراع شكلًا عنيفًا.
جرى تجاهل علي مرتين أخريين في الخلافة، فكرس نفسه للدعوة إلى التقوى والعدالة الاجتماعية، مما اجتذب إليه أتباعًا كثيرين خاصة بين الطبقات الدنيا. وفي نهاية الأمر تقلد منصب الخليفة عام ٦٥٦م، ولكن الصراع ازداد حدة، وبعد أقل من خمسة أعوام اغتيل وهو يصلي في مسجد بالكوفة، وهي حامية عراقية كانت موطنًا للصراع الديني. ووفقًا للروايات، كان علي يعلم أنه سوف يقتل في ذلك اليوم، ولكنه رفض الهرب لأنه «لا يمكن منع القدر المحتوم». وعندما طُعن صاح: «يا إلهي! كم أنا سعيد الحظ!»
انتقلت راية المقاومة إلى الحسين بن علي الذي قتل أيضًا وهو يقود اثنين وسبعين رجلًا في مواجهة جيش مكون من ألوف في ثورة انتحارية وقعت في كربلاء عام ٦٨٠م. وإصرارًا من السلطات على محو أثر الحسين أمرت بقتل معظم أفراد عائلته. ثم مُرغ جسده في الطين وبُتر رأسه وأُرسل إلى دمشق، حيث يعتقد الشيعة أنه ظل يرتل القرآن والخليفة يضربه بالعصا. ويعتبر تناقل تلك الروايات وغيرها عن الحسين الملقب ﺑ «سيد الشهداء» هو ما يثير نوبات الانفعال لدى الشيعة في مدينة قم وغيرها من المدن الإيرانية المقدسة كل عام في ذكرى وفاته.
ساهم استشهاد الحسين دفاعًا عن قضية مقدسة في تشكيل النفسية الجماعية للإيرانيين. فإذا زرت مدينة قم أثناء مراسم الحداد التي تقام في ذكرى استشهاده، فسوف تجد نفسك محاطًا بفيض من المشاعر الحادة التي يصعب على الغرباء فهمها. تتحرك مواكب من الرجال والفتيان المتشحين بالسواد ببطء شديد كما لو كانوا فاقدي الوعي نحو بوابة الضريح الرئيس. وفي تلك الأثناء، ينشدون مقاطع شعرية ترثي مصير الحسين، ويجلدون أنفسهم بالسياط حتى يسيل الدم من ظهورهم وأكتافهم. وفي المساجد يقص رجال الدين تلك الأحداث الأليمة بانفعال شديد لدرجة أن الجماهير تخر ساقطة وتنفجر في نوبات بكاء شديدة كما لو كانت تلك المأساة قد أصابتهم للتو. ويدل الصدق الشديد الذي يتميز به ذلك المشهد على نجاح الشيعة الإيرانيين في صياغة مجموعة من المعتقدات الدينية التي تندرج تحت الإسلام ولكنها في الوقت ذاته تحمل الطابع المحلي.
لا يعطي السنيون أهمية كبرى لمصرع علي والحسين بتلك الطريقة العنيفة، ولكن في رأي الشيعة الذين استمدوا اسمهم من تعبير «شيعة علي» أي «أتباع علي» يُعتبر هذان الحادثان كارثة كبرى. ويمثل علي والحسين لهم الروحانية الخاصة بالإسلام الصحيح وحياة التضحية بالذات التي يجب أن يحياها المسلم الحقيقي. ومن هذا المنطلق الذي ساهمت المعتقدات الزرادشتية في تشكيله، تمرد البطلان على مؤسسة أصبحت فاسدة وبالتالي فقدت عدالتها. وهكذا فقد ضحَّيا بنفسيهما على مذبح الشر كما يجب على المؤمنين الصادقين أن يفعلوا. ووضعا نموذجًا لا يزال يشكل الوعي الإيراني حتى اليوم. فقد تركا للشيعة تراثًا من الحماسة الدينية واستعدادًا وتلهفًا لنيل الشهادة على يد أعداء الله. ولا يزال علي يُعتبر الشخص الأمثل والقائد الأعظم في التاريخ بعد الرسول، ولا يزال الشيعة يتدبرون خطبه ويحفظون عن ظهر قلب آلاف الحكم والأقوال المأثورة التي تفوَّه بها. ويجسد الحسين التضحية بالذات التي تعتبر القدر المحتوم لكل من يحب الإسلام والإنسانية بصدق. ويكتسب استشهاده أهمية عالمية أكثر من استشهاد والده، وذلك لأنه — أي الحسين — قُتل على يد جنود الحاكم وليس على يد متطرف منفرد. ويعتبر إدراك عمق تلك العاطفة ضروريًّا لفهم مفاتيح إيران الحديثة.
يعتبر الشيعة الإيرانيون عليًّا أول الأئمة الاثني عشر، وهم الخلفاء الشرعيون للرسول. وكان الإمام الثاني عشر شابًّا عندما دخل في حالة غامضة، حيث انفصل عن العالم لكنه لا يزال يدرك المعاناة التي يمر بها. ويؤمن الإيرانيون بأنه لا يزال حيًّا. ويشيرون إليه باسم الإمام الثاني عشر أو الإمام المنتظر أو إمام الزمان، ويدعو الكثيرون الله كل يوم أن يعيده إلى الأرض. وعندما يعود سوف يصبح المهدي المنتظر أو المخلص الذي يعمل على تصحيح الأوضاع الخاطئة ويبدأ عهدًا جديدًا من العدالة المطلقة. وحتى يحين ذلك الوقت يجب على الحكام الدنيويين أن يعملوا على محاكاة حكمته وصلاحه. وعندما يخفقون في ذلك فهم لا يتعدون على حقوق الإنسان فحسب، بل أيضًا على إرادة الله ذاتها.
كتب العلامة الطباطبائي المفكر الشيعي الكبير بالقرن العشرين: «إن الإمام يرعى الناس روحيًّا، وهو على صلة بأرواحهم وإن كان مختفيًا عن أعينهم. ويعتبر وجوده ضروريًّا على الدوام، حتى ولو لم يكن الوقت قد حان لظهوره المادي وللإصلاح العالمي الذي سوف يقوم به.»
إن السيطرة العميقة لذلك المعتقد على نفوس الشيعة الإيرانيين تجعل من مذهبهم أكثر من مجرد عقيدة دينية، بل ترفعه إلى مصاف ما أطلق عليه مايكل إم جيه فيشر المتخصص في علوم الإنسان «مأساة عقائدية». وهم يوقرون الرسول، لكن مشاعرهم ترتبط ارتباطًا أعمق بالحسين وعلي، وهو ما يطلق عليه فيشر «قصة يمكنها أن تشمل التاريخ وعلم الكون ومشكلات الحياة» تعززها «مأساة شعائرية أو مادية تجسد القصة وتحافظ على مستويات مرتفعة من الاستغلال العاطفي». فقد جسد علي والحسين نموذجًا يخبرهم كيف يجب أن يحيا المؤمن الخلوق، بل أيضًا كيف يموت.
بعد أن لقي علي والحسين مصرعهما في القرن السابع الميلادي، وصلت الإمبراطورية العربية إلى ذروة مجدها ثم أخذت في الانحدار. وانصهر العرب الذين حكموا إيران تدريجيًّا في سكانها المختلطين. وحيث تراجعت قوة العرب ازداد الشيعة قوة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن تحذيراتهم من فساد السلالات الحاكمة أكدتها الفظائع التي ارتكبها السلاجقة الأتراك الذين فتحوا البلاد ووحشية قبائل المغول بقيادة جنكيز خان الذين دمروا إيران بعد غزوها عام ١٢٢٠م. وعندما بدأ المغول يفقدون سطوتهم انتقلت السلطة إلى سلالة الصفويين الثورية التي تأثرت بالمذهب الشيعي. وكان إسماعيل قائد الصفويين شيعيًّا مناضلًا أرسل المقاتلين إلى أرض المعركة يهتفون: «نحن رجال الحسين، وهذا زماننا! نحن أتباع الإمام المخلصين! الحماس اسمنا والشهادة عنواننا!»
وعقب سلسلة من الانتصارات بمساعدة الشيعة الذين احتشدوا إلى جواره من دول أخرى، أعلن إسماعيل تنصيب نفسه ملكًا عام ١٥٠١م. وأول قرار اتخذه بعد الجلوس على العرش إعلان الشيعية المذهب الرسمي للدولة. وهناك لوحة مصغرة شهيرة تصور ذلك المشهد وتحمل التعليق التالي: «في يوم الجمعة ذهب جلالة الملك إلى مسجد تبريز وطلب من خطيب المسجد الذي كان أحد أعيان الشيعة أن يصعد المنبر. وتقدم الملك نفسه إلى المنبر واستل سيف سيد الأزمان من غمده ووقف كالشمس المشرقة.»
لم تكن تلك مجرد خطوة دينية بسيطة، ولكنها أهم خطوة في إنشاء الأمة الإيرانية. فقد استخدم إسماعيل المذهب الشيعي لمساعدته في بناء إمبراطورية امتدت خلال عشرة أعوام من تتويجه خارج حدود إيران الحالية كي تشمل المنطقة من وسط آسيا إلى بغداد ومن جبال القوقاز المكسوة بالثلج إلى شواطئ الخليج العربي. وأثناء حكم إسماعيل ظهرت ملامح إيران الحالية السياسية والروحية. فالإيرانيون تجمعهم بالفعل روابط الجغرافيا المتغيرة واللغة والذاكرة الجمعية للمجد التليد، ولكن أيًّا من تلك الروابط لم يثر التوهج الذي أثاره التشيع. فباعتناق الإيرانيين تلك العقيدة تقبلوا الإسلام ولكن ليس بنفس الطريقة التي أرادها العرب الفاتحون الذين كانوا يعتنقون المذهب السني. وهكذا تمردوا وهم يظهرون الاستسلام.
ولعل أهم ما في الأمر أن الإيرانيين وجدوا أخيرًا نظامًا يمنحهم التحرر من سلطة الدولة، على الأقل من الجانب الروحي. وقد تخيل إسماعيل والقادة الصفويون الذين تلوه أن باستطاعتهم التحكم في التشيع، وبالفعل تمكنوا من ذلك على مدار القرنين التاليين. ولكن الاعتقاد بأن الحكام لا يستحقون السلطة إلا عندما يقيمون العدل جزء لا يتجزأ من المعتقدات الشيعية كما هو جزء من المعتقدات الزرادشتية. وفي نهاية الأمر أعطى هذا المعتقد الجماهير الشيعية القوة السياسية والوجدانية اللازمة للقضاء على الأنظمة الدنيوية، وبالتالي فقد اكتسب الزعماء الدينيون تلك القوة.
عندما تقلد إسماعيل مقاليد الحكم كان الإيرانيون قد وصلوا بالفعل إلى قمم ثقافية عظيمة. ومنذ القرن التاسع الميلادي والمفكرون الإيرانيون يجوبون العالم الإسلامي بحثًا عن أعظم الفلاسفة والعلماء، وشرعوا في ترجمة أعمال أفلاطون وأرسطو وأرشميدس وإقليدس وبطليموس والعديد من المفكرين الإغريق ودراستها. وقد حقق الصناع المهرة طفرات هائلة في العمارة وفنون الخزف. وأنشأ رسامو المنمنمات الفارسيون أساليب مقلدة ولكن لم تضاهها أعمال الخبراء من القسطنطينية إلى صحراوات آسيا الوسطى. وعكف الشعراء الموهوبون على تأليف أشعار عامرة بالوجد والعاطفة، ولا تزال تلك الأشعار تُقرأ في جميع أنحاء العالم. ويرفض العديد منهم — مثل جلال الدين الرومي الشاعر الصوفي الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي — المعتقدات التقليدية من أي نوع، حيث يقول:
كانت تلك الإنجازات الثقافية مؤشرًا على قدرة الإيرانيين على دخول العصر الحديث واثقين بقوتهم الإبداعية والعسكرية والروحية عندما تمكنوا في نهاية المطاف من تحقيق الوحدة السياسية. ولا يزال عباس شاه الملك الصفوي الذي أعطاهم الإلهام لأعظم إنجازاتهم بطلًا في إيران. وقد جلس على العرش لفترة تزيد عن أربعين عامًا، من عام ١٥٨٨ إلى عام ١٦٢٩. وكان نجاحه في توحيد شعبه وإعطائه شعورًا بالمصير المشترك على نفس مستوى نجاح معاصريه الملكة إليزابيث الأولى في بريطانيا والملك فيليب الثاني في إسبانيا. وقد شق الطرق التي اجتذبت التجار الأوروبيين إلى المدن الإيرانية، وأنشأ مصانع لإنتاج الحرير والفخار والمنتجات الأخرى التي كان التجار يرغبون في شرائها. وتولت الدواوين الحكومية جمع الضرائب وتطبيق العدالة وتنظيم الحياة كما لم تنظم منذ عهد قورش وداريوس الذي انقضى منذ ألفَي عام.
كان عباس نموذجًا تقليديًّا ملائمًا للحكام الإيرانيين، ليس من أجل تفانيه في جلب أفضل ما في العالم إلى مملكته فحسب. كان نموذجًا تقليديًّا أيضًا لأنه فرض الاستبداد ولم يتحمل أي نقد موجه للطغيان الذي مارسه. وكان التعذيب والإعدام شيئًا عاديًّا أثناء فترة حكمه. ولمدة أعوام عديدة حبس أبناءه في القصر الملكي حيث أتاح لهم التمتع بالمحظيات، ولكنه حرمهم من التعليم والتدريب الذي يؤهلهم للقيادة في المستقبل، كان عباس يخشى الثورة ضد حكمه. وقد أمر بقتل ابنه البكر وسمل عينَي ابنيه الآخرين وشقيقيه ووالده.
كان أعظم تراث مادي تركه عباس للأجيال القادمة العاصمة المتألقة أصفهان التي جعل منها إحدى أعظم المدن في العالم. ولا تزال قبابها الشامخة وقصورها الملكية المصممة تصميمًا معقدًا وقاعات الصلاة المكسوة بالقرميد تثير الهيبة في نفوس الزائرين وتبرر اعتقاد الإيرانيين لأجيال عديدة بأن أصفهان هي نصف العالم. وقد أمر عباس بإحضار صناع أرمينيين يساعدون في بناء المدينة، وتجار هولنديين يساهمون في بسط رقعة السوق الكبير، ودبلوماسيين من كل أنحاء العالم كي يعطوا المدينة طابعًا عالميًّا. وكان تعداد أصفهان يبلغ نصف مليون نسمة، ولم تكن تضاهيها أي مدينة في العالم في عظمتها. ولكنها لا تمثل تألق إيران فحسب، بل أيضًا الجوانب المظلمة لحكم عباس شاه.
كتب أحد المؤلفين المعاصرين: «لم تكن كل أشكال الفنون تهدف إلى الإمتاع فحسب، بل كانت تعززها قوة الملك وسلطانه، من الزخرفة الخزفية للمساجد إلى البحيرات وأحواض الزهور حول الأجنحة الملكية. وهكذا يمكننا تفهُّم المزيج الغريب من القسوة والليبرالية، من الهمجية والرقي، من العظمة والدونية الذي ساهم في تشكيل الحضارة الفارسية.»
ونظرًا إلى الوحشية التي تعامل بها عباس شاه مع ورثة عرشه، كان من الطبيعي أن تمر إيران بحالة من الفوضى بعد وفاته. فقد بدأ جيرانها يطمعون فيها، وعام ١٧٢٢ اجتاحتها القبائل الأفغانية التي نهبت مدينة أصفهان نفسها. وفي نهاية الأمر طُرد الأفغانيون على يد نادر شاه، وهو آخر القادة العظام في تاريخ إيران، وكان تركيًّا سنِّيًّا زحف بجيوشه على مدينة دلهي. وكان أحد الكنوز التي نهبها من مدينة دلهي عرش الطاووس المطعم بالمجوهرات الذي أصبح رمزًا للملكية الإيرانية لاحقًا. بعد اغتيال نادر شاه عام ١٧٤٧ بدأت سلسلة من الصراعات على السلطة استمرت ما يقرب من خمسين عامًا وانتهت بوصول القاجاريين إلى الحكم.
تولى القاجاريون — وهم قبيلة تركية تقطن بالقرب من بحر قزوين — حكم إيران منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى عام ١٩٢٥. ويتحمل ملوكها الفاسدون الضيقو الأفق مسئولية الفقر والتخلف في البلاد. وبينما كانت معظم أنحاء العالم تتقدم نحو الحداثة، ظلت إيران راكدة في ظل حكم القاجاريين.
كتب اللورد كيرزون السياسي البريطاني في أواخر فترة حكم القاجاريين: «في دولة كهذه تعاني التخلف الدستوري وتفتقر إلى القوانين والمواثيق وتعتبر محبوسة في قالب تقاليد الشرق العتيقة، فإن العامل الشخصي يكتسب سطوة كبرى كما هو متوقع. وليست حكومة إيران إلا مجموعة من الممارسات التعسفية للسلطة بواسطة مجموعة من الوحدات على نطاق متدرج نزولًا من الملك إلى زعماء القرى الحقيرة.»
لو حكم إيران في القرن التاسع عشر نظام قوي متطور، فربما تمكنت من صد القوى الأجنبية التي طمعت فيها. لكن الضغوط كانت ستشتد عليها على أي حال. فقد تميزت إيران بموقع جغرافي يقع في الطريق بين القوتين العظميين في العالم آنذاك، وهما بريطانيا وروسيا. وقد رأت بريطانيا في إيران أمة تحتل طريقها البري إلى الهند، وهي أهم مستعمراتها وأكثرها ثراء. ورأت روسيا فيها فرصة للتحكم في رقعة كبيرة من الأرض تقع متاخمة لحدودها الجنوبية المكشوفة. وكان ملوك إيران شديدي الضعف والانشغال بأنفسهم، مما جعل الإغراء لا يقاوم بالنسبة إلى كلتا الإمبراطوريتين. فاندفعت كلتاهما في محاولة لملء فراغ القوة الذي خلفه القاجاريون الجهلاء.
لم يبدُ على الملوك القاجاريين الاستياء وهم يرون إيران تنزلق في هاوية العبودية، وعلى فرض أنهم شعروا بالاستياء فقد صمموا على الاستفادة إلى أقصى حد ممكن مما اعتبروه قدرًا محتومًا. لكن تقديرهم للأمور كان خاطئًا، فقد افترضوا أن الشعب الإيراني سوف يتقبل ما يمليه عليه قادته. ولكن نظرًا إلى فسادهم واستعدادهم لترك إيران فريسة لسيطرة القوى الأجنبية، وقع الشقاق بين القاجاريين وبين الشعب، وهكذا فقدوا حقهم في الحكم. ثار الإيرانيون كما لم يثوروا من قبل، حيث كانوا مسلحين بالمبادئ الشيعية التي تمنح المواطن العادي سلطة الإطاحة بالطغيان والاستبداد، بالإضافة إلى قيم العالم الجديد الناشئ. وكانت مطالبهم مثيرة للدهشة بقدر ما كانت ثورتهم ذاتها. كانت مطالبهم تتمثل في إنهاء سيطرة القوى الخارجية على البلاد وإنشاء برلمان للتعبير عن إرادة الشعب. كان ذلك أكثر البرامج التي اعتنقها الإيرانيون ثورية. وهذا البرنامج الذي كان من شأنه أن يؤدي إلى الإطاحة بسلالة القاجاريين وتشكيل تاريخ إيران فيما بعد.