آخر قطرة من دماء الأمة
أشرقت شمس الديمقراطية على إيران ذات يوم في ديسمبر من عام ١٨٩١ عندما تركت زوجات الشاه غلايينهن وأقسمن ألا يدخنَّ مرة أخرى. ولم تكن تلك التضحية بسيطة. فقد كان التبغ أحد المتع الكبرى في حياة الحريم، وتقضي الجواري الفاتنات الساعات في تدخينه وهن يتكئن على الأرائك الوثيرة. وكان تنازلهن عنه يعني تحدِّيهن الشاه ونظام الحكم الملكي الاستبدادي والنظام الإمبراطوري الذي كانت معظم أنحاء العالم تسير وفقًا له.
عندما اتخذت الحريم تلك الخطوة المصيرية كان زوجهن ناصر الدين شاه جالسًا على عرش الطاووس منذ أكثر من أربعين عامًا. وعلى غرار الحكام القاجاريين الآخرين عُرف بإسرافه الشديد. فكان جناح الحريم الذي يقضي فيه معظم وقته يضم ألفًا وستمائة من الزوجات والمحظيات والخصيان. وأنجب المئات من الأمراء الذين تمتعوا بصلاحية السحب من خزانة الدولة بلا قيود، وكانت قصوره مزينة بعناقيد من المجوهرات المتلألئة. وعندما يعتريه الملل من الملذات المتاحة في بلاده يذهب في رحلة إلى أوروبا ترافقه حاشية ضخمة. وطلب من الآخرين ألا يطلقوا عليه ملك الملوك فحسب، بل أيضًا ملاذ الكون وقاهر الطقس والحكم بين أفراد الشعب وراعي القطيع وفاتح الأراضي وظل الله على الأرض. أما أولئك الذين يرفضون إجلاله فجزاؤهم الجلد بالسياط أو القذف من المدافع أو الدفن أحياء أو الحرق في الميادين العامة.
وكي يرضي ناصر الدين شاه ميوله الإسرافية باع الوظائف الحكومية وفرض ضرائب غاشمة وصادر ثروات التجار الأغنياء. وعندما لم يتبقَّ ما يستولي عليه توصل إلى فكرة جمع الأموال عن طريق بيع الأوقاف الإيرانية إلى الشركات والحكومات الأجنبية. كان البريطانيون أول عملائه. فقد شعر المسئولون البريطانيون بالقلق حيال الثورات المحلية في الهند واحتاجوا إلى خط تلغراف يربطهم بمقرات القيادة هناك. وعام ١٨٥٧ حصلوا على امتياز لإنشاء خط تلغراف في إيران. وحصل الفرنسيون والألمان والنمساويون على امتيازات عديدة أخرى. وحصل البارون يوليوس دي رويتر، وهو أحد الرعايا البريطانيين ذوي الأصول الألمانية، وتنسب إليه وكالة الأنباء المعروفة، على أعظم تلك الامتيازات على الإطلاق. فعام ١٨٧٢ حصل على الحق الحصري في إدارة صناعات الدولة وري مزارعها واستغلال مواردها المعدنية وتطوير السكك الحديدية والشوارع بها وإنشاء البنك الوطني وطباعة العملة. كل ذلك لقاء مبلغ زهيد ووعد بالحصول على العوائد في المستقبل، وقد وصف اللورد كيرزون تلك العملية بأنها «أكبر عملية تنازل تامة غير عادية في التاريخ عن كل الموارد الصناعية للمملكة إلى أيدٍ أجنبية لم تكن تحلم بها فضلًا عن أن تحصل عليها».
غضب الكثيرون من المحاباة الشديدة التي تميزت بها صفقة رويتر. وبطبيعة الحال غضب الإيرانيون الوطنيون الذين كان عددهم كبيرًا. هذا بالإضافة إلى التجار ورجال الأعمال الذين وجدوا الفرص تُنتزع منهم فجأة، وخاف رجال الدين على مكانتهم في دولة تهيمن عليها المصالح الأجنبية بشكل تام. وشعرت روسيا، وهي أقوى جيران إيران في المنطقة، بالخطر وهي ترى النفوذ البريطاني يتسع عبر حدودها الجنوبية. بل إن الحكومة البريطانية التي لم يستشرها رويتر قبل الإقدام على تلك الخطوة شككت في حكمتها. وفي نهاية المطاف أدرك ناصر الدين شاه أنه تخطى حدود المعقول، فألغى الامتياز بعد أقل من عام من منحه.
ولكن طمع الشاه لم يدعه يتنازل عن فكرة بيع الامتيازات. فعلى مدار الأعوام الثلاثة التالية منح ثلاثة امتيازات إلى جمعيات بريطانية. اشترت إحدى الجمعيات حق التنقيب عن المعادن الذي امتلكه رويتر لفترة وجيزة، واشترت جمعية أخرى الحق الحصري في إنشاء البنوك، واشترت جمعية ثالثة الحق الحصري في الاتجار عبر نهر كارون، وهو النهر الوحيد الذي يصلح للملاحة في إيران. واحتجت روسيا على ذلك، ولكن الشاه تمكن من استرضائها عن طريق إعطاء بعض التجار الروسيين الحق الحصري في استخدام مصايد الكافيار التابعة له. وعن طريق تلك الامتيازات وغيرها انتقل التحكم في موارد الدولة القيمة من يد الإيرانيين إلى يد الأجانب. وقد تكفلت الأموال التي تدفقت على خزانة الدولة الإيرانية من تلك الامتيازات بنفقات بلاط الشاه المسرف لفترة. ولكن ما لبثت الأموال أن نفدت. فلجأ إلى الاقتراض من البنوك البريطانية والروسية.
وحيث كانت إيران تزداد تورطًا في مستنقع الفقر والاعتمادية أصبح الشعب متعطشًا للتغيير. وأصبحت الأسواق في المدن الكبرى مرتعًا للاحتجاج. وأخذ المصلحون الدينيون والماسونيون والاشتراكيون ينشرون أفكارًا ثورية جديدة. وأثارت أخبار النضال من أجل إيجاد الحكم الدستوري في أوروبا والإمبراطورية العثمانية الطبقات المثقفة. فبدأت المقالات والكتب والمنشورات التحريضية تتداولها الأيدي.
كان ناصر الدين شاه معزولًا في عالمه الخاص في البلاط القاجاري غافلًا عن ذلك السخط المتزايد. وعام ١٨٩١ باع شركة التبغ الإيرانية بمبلغ ١٥٠٠٠ جنيه إسترليني. وبموجب شروط ذلك الامتياز تعين على كل فلاح يزرع التبغ أن يبيعه إلى شركة التبغ الملكية البريطانية، وتعين أيضًا على كل مدخن للتبغ أن يشتريه من متجر تابع لشبكة التجزئة الخاصة بالشركة الملكية البريطانية.
كانت إيران في ذلك الوقت — ولا تزال — دولة زراعية حافلة بالمدخنين. كان الآلاف من الفلاحين الفقراء في البلاد يزرعون التبغ على رقعة أرض صغيرة، وعملت طبقة كاملة من الوسطاء بحصاد التبغ وتجفيفه وتعبئته وتوزيعه، واعتاد عدد لا يحصى من الإيرانيين على تدخينه. فكان انتزاع ذلك المنتج المحلي من الأشخاص الذين اعتادوا إنتاجه وتحويله إلى أداة ربح حصرية للأجانب إهانة أكبر من أن تحتمَل. ونشأ تحالف من المفكرين والفلاحين والتجار ورجال الدين عاقدًا العزم على المقاومة بشكل لم يُرَ له مثيل في تاريخ إيران من قبل. وأقر الشيخ الشيرازي أكبر رجال الدين في إيران ذلك الاحتجاج. وفي واقعة تمرد ساحقة أصدر الشيرازي فتوى تفيد بأن التدخين يعتبر تحديًا للإمام الثاني عشر «عجل الله ظهوره» ما دام الأجانب يتحكمون في صناعة التبغ، وانتشرت تلك الفتوى بسرعة البرق خلال البلاد عن طريق خطوط التلغراف التي أنشأها البريطانيون منذ عدة عقود. والتزم بالفتوى كل من سمع بها تقريبًا، مما أذهل ناصر الدين شاه وأشعره بالخوف ثم الارتباك من ذلك الإجماع. وعندما توقفت زوجاته عن التدخين أدرك أنه لا يملك خيارًا سوى إلغاء الامتياز. ومما زاد الأمر سوءًا أنه اضطر إلى اقتراض نصف مليون جنيه من أحد البنوك البريطانية كي يعوض الشركة الملكية البريطانية عن خسارتها.
يتغير مسار التاريخ عندما يدرك الناس أن لديهم خيارًا آخر غير الطاعة العمياء. هذا مثلما حدث في تحدي مارتن لوثر للمؤسسة المسيحية واقتحام سجن الباستيل أثناء الثورة الفرنسية وحفل شاي بوسطن. أما إيران فكانت بداية النهاية للاستبداد هي ثورة التبغ، وكانت تلك بداية عهد سياسي جديد. فلن يظل الإيرانيون سلبيين في حين يمارس القاجاريون سياسة القمع عليهم ويبيعون أوقاف بلادهم للأجانب.
•••
وبعد مرور عدة أعوام ابتعد فيها ناصر الدين شاه أكثر وأكثر عن واجباته الملكية وانفصل عن الواقع ذاته، أردي قتيلًا عام ١٨٩٦ أثناء زيارته لمسجد بالقرب من طهران. ولم يحزن عليه أحد. فقد خلف دولة يسيطر عليها الأجانب وتعاني انتشار البطالة والتضخم الذي يشل حركة الحياة والعجز الشديد في الموارد الغذائية. وتجاهل ابنه مظفر الذي خلفه على عرش الطاووس العوز والفاقة التي يقاسيها الشعب وانغمس في نفس الرذائل التي أدت إلى كراهية الإيرانيين للقاجاريين. وعقب توليه العرش ذهب في جولة أوروبية اتسمت بالبذخ الشديد بأموال مقترضة من أحد البنوك الروسية. وعند عودته أخذ قرضًا آخر من بعض الأثرياء البريطانيين وأعطاهم في المقابل نصيبًا من عائدات الجمارك. فبدأ الإيرانيون الكارهون له ينددون به وبأفعاله على الملأ. وردًّا على ذلك قبض على بعض المحرضين، فانفجرت الاحتجاجات ضد الحكومة في طهران ومدن أخرى عديدة.
وبدلًا من أن يحاول مظفر الدين شاه استمالة الإيرانيين إلى صفه اتخذ خطوة ألهبت غضبهم. فباع عام ١٩٠١ إلى ويليام نوكس دارسي — وهو أحد أثرياء لندن — «الحق الحصري في الحصول على الغاز الطبيعي والنفط واستغلالهما وتطويرهما وجعلهما صالحين للتجارة ونقلهما وبيعهما … لمدة ستين عامًا». ومع أن عقدًا من الزمان على الأقل كان سوف يمر قبل أن يكتشف دارسي النفط، بل ويتطلب الأمر فترة أطول من ذلك كي يتحوَّل ذلك الامتياز إلى أداة فعالة في سياسة الشركة الملكية البريطانية. ساهم قيام مظفر الدين شاه بتلك الخطوة في تشكيل تاريخ إيران اللاحق.
في العقد الذي تلا ثورة التبغ ازداد الوعي السياسي للإيرانيين بصورة هائلة. أدى اعتقادهم بأن الله يريد للحكام أن يحكموا بالعدل — وهو معتقد رئيس في المذهب الشيعي — إلى اعتناق الكثيرين للتصورات المثالية عن الحكم التي كانت تنتشر في المجتمع. وبحلول القرن العشرين بدأ البعض يشككون في جدوى النظام الملكي ذاته. وتكونت الجمعيات السرية التي تهدف إلى التخريب في مدن عديدة. وانتشرت الكتب التي تتناول الثورة الفرنسية انتشار النار في الهشيم، ومنها ما كان يمدح دانتون وروبسبيير. ونما شعور بالقوة المتزايدة بين الناس عندما وصلت أنباء تفيد بأن بريطانيا التي كانت تعتبر لا تقهر على وشك الانهزام أمام البوير المحدثين في جنوب أفريقيا. وعزز من ذلك الشعور الاضطراب الذي وقع في روسيا عام ١٩٠٥، حيث أدت الهزيمة العسكرية على يد اليابانيين إلى نشوب ثورة أجبرت القيصر نيقولا الثاني على الموافقة على إنشاء برلمان. كان المسرح مهيأ للثورة في إيران. وكل ما كان يحتاجه الأمر شرارة صغيرة كي تتأجج الأمة بنيران الغضب.
وقد اندلعت تلك الشرارة ذات يوم من شهر ديسمبر عام ١٩٠٥، عندما قبض على مجموعة من التجار في طهران أثناء شجار حول أسعار السكر. وحُكم عليهم بالضرب بالفلقة، وهو العقاب القاجاري المفضل الذي يتمثل في تقييد حركة الضحية من الرسغين وجلده على باطن القدمين. وهب الناس محتجين في الأسواق. في بادئ الأمر طالب المتظاهرون بطرد الحاكم المحلي الذي أمر بتوقيع ذلك العقاب. وعندما شعروا بأنهم في موقف قوة بدءوا يطالبون بتخفيض الضرائب. وفي نهاية الأمر، وفي أحد اجتماعاتهم الحاسمة أضافوا طلبًا جديدًا مذهلًا يتمثل فيما يأتي «من أجل القيام بالإصلاحات المنشودة في كل المجالات يجب إنشاء … جمعية استشارية قومية لضمان تطبيق القانون بالعدل في كل أنحاء إيران، بحيث لا يصبح هناك فرق بين الأغنياء والفقراء ويتمكن الجميع من الحصول على التعويض المناسب لمظالمهم.»
وسرعان ما فاق هذا المطلب كل المطالب الأخرى أهمية. ولما كان الشعب على وشك الانفجار لم يكن لدى مظفر الدين شاه خيار سوى الموافقة على فكرة إنشاء البرلمان الإيراني. ولكن بعد أن وافق على الفكرة أخذ يماطل، ومضت شهور لم يقم خلالها بأي شيء كي يطبق الفكرة على أرض الواقع. وهكذا اندلعت المظاهرات من جديد. ولعب رجال الدين الإسلامي فيها دورًا بارزًا. توسل بعضهم بالإمام الشهيد الحسين، وأقسموا على الدفاع عن الفقراء والمستضعفين حتى وإن كان ذلك يعني تعريض أنفسهم للخطر كما فعل الحسين. وانطلقت الجماهير إلى الشوارع في حماس شديد لذلك الخطاب الحماسي، وذلك في صيف عام ١٩٠٦. ووصلت المشاعر إلى ذروة الاهتياج، وقرر المئات من المتطرفين اتخاذ مأوى في أرض تملكها بعثة دبلوماسية، في محاولة منهم لتنظيم أنفسهم في مكان لا يمكن للقوات مهاجمتهم فيه. فاختاروا المفوضية البريطانية، وهي مجمع مبانٍ ممتد تغطي أراضيه مساحة ستة عشر مربعًا سكنيًّا. وكان معظم أعضاء المفوضية في إجازة صيفية، وأخبر الموظف المحتجين بأنه يتمنى لو تمكنوا من العثور على ملجأ آخر، إلا أنه «لن يلجأ إلى استخدام القوة أو يتسبب في استخدامها لطردهم إذا حضروا، وذلك في ضوء التقاليد المتعارف عليها في إيران وحق اللجوء الموغل في القدم». وخلال فترة وجيزة أصبح هناك أربعة عشر ألف مواطن إيراني داخل المجمع. وأقاموا في خيم مقسمة حسب طوائفهم وكانوا يطهون الطعام في قدور كبيرة في مطبخ مشترك.
وسرعان ما تحوَّل هذا التجمع إلى مدرسة تكونت فيها المبادئ الأساسية للديمقراطية. فكانت مقالات الصحف الإصلاحية تقرأ بصوت عالٍ للجماهير كل يوم، وأخذ المحرضون يلقون خطبًا عن التقدم الاجتماعي، وأخذ المثقفون الذين تلقوا تعليمًا أجنبيًّا يترجمون أعمال الفلاسفة الأوروبيين. وارتبك الشاه لكنه ظل غير مدرك قوة الحركة، فاقترح تعيين مجلس يمكنه المساعدة في إدارة وزارة العدل. ولم يكن ذلك مرضيًا للمحتجين على الإطلاق. فهم يرغبون في مجلس أو برلمان يمتلك سلطة حقيقية، وليس مجرد مجلس استشاري.
وبناء على ذلك أعلنوا في أحد البيانات: «يجب أن يكون القانون ما يقرره المجلس، ويجب ألا يتدخل أحد في قوانين المجلس.»
وافق الشاه في نهاية الأمر، ولكن دون حماس ومع اشتراط أن تتطلب القوانين التي يقرها المجلس موافقته قبل أن تصبح سارية. وكانت تلك اللحظة الحاسمة مشابهة للحظة توقيع الماجنا كارتا في إنجلترا منذ سبعة قرون. وبعث أحد الدبلوماسيين البريطانيين برقية إلى لندن يعرب فيها عن دهشته قائلًا: «من الخصائص المميزة لتلك الثورة — فهي بالفعل تستحق أن نطلق عليها ثورة — أن رجال الدين انحازوا إلى جانب التقدم والحرية. وهذا لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم. فإن تحققت الإصلاحات التي سعى الناس إليها بمساعدتهم فسوف تذهب كل سلطتهم أدراج الرياح.»
وبعد أن وافق الشاه على مضض غادر المحتجون مأواهم وهم في غاية الابتهاج وشرعوا يعملون من أجل وضع قواعد لدولة إيران الجديدة. وتوصلوا إلى مسودة دستور مستمد من الدستور البلجيكي، وهو أكثر الدساتير الأوروبية تقدمًا في ذلك الوقت، ودعوا إلى إجراء انتخابات قومية للمجلس الذي يضم مائتي عضو. وقد انتخب بعض الأعضاء بشكل مباشر واختير البعض الآخر من النقابات المهنية، حيث اختاروا واحدًا من كل طائفة مثل البقالين والحدادين وعمال المطابع والجزارين وصانعي الساعات والأطباء والخياطين إلخ. وعقدوا اجتماعهم التاريخي الأول في السابع من أكتوبر عام ١٩٠٦.
واجهت مجموعة كبيرة من المشكلات المجلس الجديد. فقد أدت العجلة في وضع النظام الجديد وقلة خبرة أولئك الذين حاولوا المساعدة في حكم إيران إلى وقوع الشقاق. وكان العديد من النواب غير متعلمين، ولم تكن هناك أحزاب سياسية تعمل على تشكيلهم في جبهات مستقلة. وتعثرت المفاوضات حول الدستور المقترح، وذلك لأنه لم يكن هناك أحد واثق من الطريقة المثلى لتقسيم السلطات الحكومية. ومما زاد الأمر سوءًا الاضطرار إلى صياغة الدستور في عجالة، وذلك لأن مظفر الدين شاه كان يحتضر، وكان ولي عهده الأمير محمد علي كارهًا لفكرة الديمقراطية. وأقر الدستور أخيرًا في الثلاثين من ديسمبر عام ١٩٠٦، وبذلك خطت إيران أول خطوة في سلم التقدم غير المتساوي نحو الديمقراطية لمدة قرن تالٍ. وبعدها بأسبوع توفي مظفر الدين شاه.
كان العاهل الجديد محمد علي شاه يحتقر المجلس ويتجاهله. وطالب العديد من النواب بخلعه إذا ظل على موقفه هذا. وشن المناصرون للملكية هجومًا مضادًّا، وهكذا اهتزت العاصمة الإيرانية للجدال العنيف الذي ترددت أصداؤه في النزاعات التي دارت في الشوارع. وبدأت الفصائل الإقليمية والقبلية تنظم احتجاجات أضعفت من الحركة الدستورية. كانوا مدفوعين في ذلك بالرشوة والمنظمات الفاسدة. وبدأ عامة الشعب يربطون بين كلمة الدستور وبين الاضطرابات والصراعات.
ومما زاد الأمر سوءًا أن التحالف الهش بين رجال الدين والمصلحين الدنيويين بدأت تنفصم عراه، فقد شعر الملالي الذين دعموا الحركة الإصلاحية بالخطر من مطالب المتطرفين الذين، على حد زعمهم، «تجاهلوا شريعة الرسول ووضعوا قوانينهم الخاصة بدلًا منها». وقد استغل البلاط القاجاري مخاوفهم تلك ببراعة متناهية، وتمكن من إقناع العديد منهم بأن مصالحهم الحقيقية مع النظام الملكي.
أعلن أحد رجال الحاشية في خطبة أمام المجلس «لا يحبذ أن تكون حكومة إيران دستورية، ففي الحكومات الدستورية يخضع كل شيء للحرية الشخصية ومن ضمنها حرية اختيار الديانة، وسوف يتمسك بعض الناس بحرية اختيار الديانة، وهو ما يتعارض مع الإسلام.»
وكان رجال دين عديدون يمتلكون نفس المخاوف، فعندما ناقش المجلس مشروع قانون لترخيص المدارس العلمانية، تساءل أحدهم «ألن يؤدي الالتحاق بتلك المدارس إلى القضاء على الإسلام؟ ألن تؤدي دروس اللغات الأجنبية والكيمياء والطبيعة إلى إضعاف معتقدات الطلاب الدينية؟» وناقش آخرون منطق الحركة الإصلاحية ذاته قائلين: «باستخدام كلمتين جذابتين وهما العدالة والشورى، استدرج الباحثون عن الحرية إخواننا إلى قضية مشتركة مع الملحدين … لقد حكم الإسلام العظيم العالم بالعدل والشورى. فماذا حدث كي نستورد قوانين العدالة من باريس وخطة الشورى من لندن؟»
ترددت أصداء ذلك الصراع بين رجال الدين والمصلحين الدنيويين في تاريخ إيران الحديث. كان ذلك على غرار صراع آخر نشأ في نفس الفترة، وهو الانقسام الذي شهدته البلاد بين رجال الدين أنفسهم، حيث رأى بعض رجال الدين أن الدين المنزل من عند الله قابل للتوافق مع الفكر الحديث، ولكن البعض الآخر رأى تعارضًا بينهما وتجاهل حركة الإصلاح، وقد عكست تلك الاختلافات الصراعات القديمة منذ الأزل في إيران: الأصالة ضد المعاصرة، والدين ضد العلمانية، والإيمان ضد إعمال المنطق. وطبقًا لأحد المؤرخين، أيقظ ذلك الصراع «الطبيعة الفارسية المنفتحة وساعد على الوقوف ضد الطبيعة الإسلامية التي تتميز بالتقوقع والتقليدية».
كان محمد علي شاه واثقًا من تأييد معظم الزعماء الدينيين له، فبدأ حملة من الإرهاب والعنف ضد المجلس. وفي يونيو عام ١٩٠٨ جمع رجال الشاه مجموعة من رجال العصابات الذين انطلقوا في شوارع طهران ثائرين صائحين «نريد القرآن لا الدستور!» ثم أمر لواء القوزاق بقصف المبنى الذي يقيم فيه المجلس اجتماعاته ونهبه. واندفع الإيرانيون محتجين في مدن عديدة، وقتل كثير منهم في مشاجرات الشوارع. ولفترة من الزمن بدا أن حربًا أهلية عنيفة على وشك الاندلاع، لدرجة أن الشاه نفسه اختبأ لاجئًا في المفوضية الروسية.
أدركت كلتا القوتين الملكيتين اللتين حاولتا السيطرة على إيران — بريطانيا وروسيا — أن الحركة الإصلاحية باتت تهدد مكانتهما في البلاد، وشجعا الشاه على الاستمرار في مقاومتها. ولكن المجلس ظل يتقدم بخطوات سريعة. وكان من أهم القرارات الحاسمة التي اتخذها التصويت على تعيين مورجان شوستر، وهو أحد المصرفيين الأمريكيين، في منصب الأمين العام لخزانة الدولة. وبدأ شوستر عمله بحماس شديد، حيث شرع في إلغاء نظم الإعفاء من الضرائب المعقدة والصفقات السرية التي عملت النقابات البريطانية والروسية من خلالها على نهب إيران. وهذا دفع حكومة كلتا الدولتين إلى المطالبة بإقالته من منصبه، وفي خريف عام ١٩١١ أرسلت روسيا قوات إلى إيران لفرض إرادتها. وعندما رفض المجلس بتحدٍّ سافر إقالته، قرر البلاط الملكي إغلاق المجلس وإلقاء القبض على العديد من أعضائه، وذلك لشعوره بالحماية في وجود القوات الأجنبية. وهكذا انتهت الثورة الدستورية العنيفة في إيران التي استمرت خمس سنوات، والتي كانت أول محاولة نظامية للتوفيق بين التقاليد الإيرانية والديمقراطية الحديثة.
ساهمت التجربة التي خاضتها إيران في تلك السنوات في إعادة تشكيل النفسية الجماعية للإيرانيين بعمق. فلم تكن تلك التجربة مثل ثورة التبغ التي هدفت إلى إبطال أحد القوانين الغاشمة فحسب، بل إن الثورة الدستورية هدفت إلى إنشاء نظام اجتماعي وسياسي جديد. وقد باءت تلك التجربة بالفشل بمساعدة قوى أجنبية، ولكن بعد أن تمكنت من إرساء أسس النظام الديمقراطي في إيران. فقد صيغ الدستور وأقره المجلس، وبموجب مواد هذا الدستور سوف تقام الانتخابات بصفة دورية، مما يعني القيام بحملات سياسية ومناظرات عامة حتى وإن كانت صورية. وفي السنوات التالية تجاهل الحكام الإيرانيون الرأي العام وفرضوا نفوذهم عليه، ولكنهم لم يتمكنوا من إطفاء جذوة إيمان الشعب بحقوقه التي لا تستطيع أي حكومة سلبه إياها. وقد ساهمت الدروس المستفادة من ذلك الانفجار الإصلاحي في تشكيل الثورة السلمية التي قادها محمد مصدق بعد ذلك بنصف قرن.
•••
احتشد الإيرانيون تحت لواء الديمقراطية لأنهم اعتقدوا أن تطبيق حكم القانون في البلاد سوف ينتشلهم من هوة الفقر. كانوا مدفوعين في ذلك بغضب متزايد موجه إلى هدفين. هذان الهدفان هما البلاط القاجاري الذي تمثل في محمد علي شاه البغيض ومن بعده ابنه أحمد الذي تولى السلطة عام ١٩٠٩ وهو في سن الثانية عشرة وكان يتميز بالسمنة المفرطة. أما الهدف الثاني فكان الدور الخانق الذي لعبته القوى الأجنبية في إيران، خاصة بريطانيا وروسيا.
أثناء الثورة الدستورية حاول المصلحون مرارًا انتشال إيران من سيطرة القوى الأجنبية. رفض المجلس قرضًا مقدمًا من بعض البنوك الروسية. وسرعان ما أُجري تصويت على إنشاء بنك قومي يديره الإيرانيون. ولكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح. فقد سقطت إيران في هاوية الاستعباد حيث ظل القاجاريون يبيعون أصول الدولة.
وعام ١٩٠٧ وقَّعت كلٌّ من بريطانيا وروسيا معاهدة قُسمت بموجبها إيران بينهما. حيث تولت بريطانيا السيطرة على المقاطعات الجنوبية واستولت روسيا على المقاطعات الشمالية. وأُعلن شريط بين المنطقتين على الحياد؛ أي إن الإيرانيين يمكنهم ممارسة سيطرتهم هناك دون أن يضروا بمصالح ضيفيهما العظيمين. ولم تُستشَر إيران في تلك المعاهدة، بل إنها أُخبرت بها بعد توقيعها في مدينة سانت بطرسبرج. وهكذا تحوَّل التحكم الأجنبي غير الرسمي في إيران إلى تقسيم صريح لها يدعمه وجود القوات الروسية والبريطانية. وعندما عُرضت تلك المعاهدة على البرلمان البريطاني من أجل التصديق عليها وإعطائها صفة رسمية، أبدى أحد المعارضين أسفه الشديد لأن تلك المعاهدة تركت إيران «بين الحياة والموت، مفككة، مغلوبة على أمرها، وحيدة، مستسلمة.»
كانت روسيا مستنزفة القوى في الحرب الأهلية والثورة، وهكذا فقد بدأ تأثيرها في إيران يضعف. وبعد استيلاء البلاشفة على السلطة عام ١٩١٧ تخلوا عن معظم حقوقهم في إيران وتنازلوا عن الديون التي كانت تدين بها إيران لروسيا القيصرية. وهكذا انتقلت بريطانيا سريعًا لتملأ هذا الفراغ، حيث كانت في ذلك الوقت تتربع على عرش القوة الاستعمارية. والنفط هو هدفها المنشود في تلك المرة. فقد بدأت شركة النفط الإيرانية الإنجليزية التي نتجت عن الامتياز الذي مُنح لدارسي في استخراج كميات هائلة من النفط من الأراضي الإيرانية. وأطلق عليها وينستون تشرشل «غنيمة من أرض الأحلام تفوق ما حلمنا به».
إذا سئلنا لماذا يتعين علينا القيام بتلك المهمة، ولماذا لا تترك إيران وشأنها حتى تسقط في هاوية الفساد والانحلال، فإننا نجيب بأن موقعها الجغرافي وحجم مصالحنا فيها والأمان المستقبلي لإمبراطوريتنا في الشرق يجعل من المستحيل علينا الآن — كما كان مستحيلًا طوال الخمسين عامًا الماضية — أن نعزل أنفسنا عما يحدث في إيران. وبالإضافة إلى ذلك، فإننا على وشك تولي الانتداب في العراق، وهو ما يجعلنا نشترك مع الحدود الغربية لآسيا، ولذلك لا يمكننا السماح بوجود مرتع للفوضى ومكائد الأعداء والارتباك المالي والاضطراب السياسي بين حدود الإمبراطورية الهندية وبلوتشستان وبين محميتنا الجديدة. وإذا تركنا إيران وحدها، فإننا نخشى عليها من اجتياح البلاشفة لها من الشمال. وفي نهاية الأمر، فإننا نمتلك في الجزء الجنوبي الغربي من إيران أصولًا هائلة من حقول النفط، التي ينتفع بها الأسطول البريطاني وتعطينا نفوذًا مسيطرًا في ذلك الجزء من العالم.
قضت الاتفاقية الإيرانية الإنجليزية على ما تبقى من سيادة إيران، ولكنها في الوقت ذاته بثت روحًا جديدة في الحركة القومية. فقد تأثر الوطنيون الإيرانيون بظهور الحركات المضادة للاستعمار في دول أخرى، ومنها دول خاضعة للحكم البريطاني. وأنشأ المتطرفون في المقاطعات الشمالية حزبًا شيوعيًّا، وبعد نزول القوات السوفييتية على ساحل بحر قزوين وإعلان قيام «الجمهورية الاشتراكية الإيرانية السوفييتية» في المنطقة المحيطة، بدا متوقعًا أن تشن أكبر قوتين في العالم الحرب على الأراضي الإيرانية. وفي معظم أنحاء البلاد كان الملايين من الناس يعيشون في أشد الظروف سوءًا، واكتسبت الحركات الانفصالية قوة في مقاطعات عديدة. كانت إيران على وشك الاندثار، وكانت الظروف مهيأة لظهور قائد يتمتع بالكاريزما. وفي عام ١٩٢١، ظهر ذلك القائد فجأة للأمة، كان رجلًا صعب المراس يمتطي صهوة جواد، وكان يدعى رضا.
ولد رضا في جبال البرز النائية بالقرب من حدود روسيا، وغادر المنزل في مرحلة المراهقة كي يلتحق بالخدمة العسكرية كعادة أفراد عائلته. وبدلًا من أن يلتحق بالجيش الخاص بقائد محلي، فضل أن ينضم إلى لواء القوزاق، وهي الفرقة الوحيدة الحديثة والمنظمة في البلاد. وقد تأسست تلك الفرقة على يد الضباط الروس الذين أرسلهم القيصر، وكانت مهمتها الأساسية توفير حراسة خاصة لمصالح الأجانب والملوك القاجاريين. التحق رضا بوظيفة عامل في الإسطبل، ولكنه سرعان ما تسلم زيًّا رسميًّا وأخذ يرتقي في المناصب حتى أصبح يلقب ﺑ «رضا خان». كان رضا عملاقًا يقترب طوله من ست أقدام، وكان مقاتلًا شرسًا سواء وهو يحمل سيفه المعقوف أم مدفعه الرشاش، كما كان محط إعجاب الجميع لشجاعته الفائقة. ولأنه كان فظًّا حاد الطباع، وكان وجهه مشوهًا من أثر مرض الجدري الذي أصيب به في طفولته، كانت هيئته مخيفة.
خلال الأعوام التي قضاها رضا جنديًّا أتيحت له فرصة السفر والتجول في كل أنحاء إيران وقد رأى البؤس الذي يعيش فيه معظم الناس. وشارك في عمليات عديدة ضد القبائل والعصابات وقطاع الطرق الذين تحكموا في معظم أنحاء الريف. وأعلن أحد الدبلوماسيين البريطانيين أنه «كلما أرسلت حملة إلى أي جهة في البلاد للقبض على قطاع الطرق أو لإخماد أي اضطرابات، اشترك رضا فيها».
وسرعان ما انضم رضا إلى الشعب في كراهية الحكام القاجاريين. هذا جعله أداة مناسبة في أيدي البريطانيين الذين ضاقوا ذرعًا بالتعامل مع زعماء القبائل الماكرين ورغبوا في وجود حكومة مركزية قوية. وهكذا رأوا في القوزاق الوسيلة المناسبة لفرضها. وكي يتولوا السيطرة على الفرقة ويطردوا الضباط الروس منها قرروا تنظيم انقلاب وتعيين رئيس وزراء آخر للشاه من اختيارهم. وكان مرشحهم هو الصحفي السابق المتحمس سيد زيا طباطبائي. وكي يزودوا طباطبائي بالقوة العسكرية التي يحتاجها لجئوا إلى رضا الذي أبدى استعدادًا للتعاون. وفي مساء العشرين من فبراير عام ١٩٢١ قاد رضا ومجموعة من الضباط ألفَي رجل إلى ضواحي طهران. وقد أثار حماسهم بخطبة عصماء قال فيها: «أيها الجنود! لقد قدمتم كل تضحية ممكنة دفاعًا عن أرض الآباء والأجداد … لكن علينا جميعًا أن نعترف أن ولاءنا لم يكن يخدم سوى مصالح مجموعة من الخائنين في العاصمة … وأولئك الحقراء هم نفس العناصر الخائنة التي مصت آخر قطرة من دماء الأمة.»
اشتعلت جذوة الحماس في المعسكر، ولم يكن رضا رجلًا صبورًا، فتمسك بتلك الفرصة. وقبل بزوغ فجر اليوم التالي، كان الجنود قد دخلوا طهران وقبضوا على رئيس الوزراء وكل أعضاء مجلس الوزراء. وتقدم رضا إلى أحمد شاه بمطلبين: أن يعين سيد زيا رئيسًا للوزراء وأن يصبح هو شخصيًّا قائدًا للواء القوزاق. ولم يكن لدى الشاه الفاسد الإرادة أو الوسيلة اللازمة للمقاومة. وهكذا نجح الانقلاب خلال بضع ساعات دون أي مقاومة تذكر. وأثبت ذلك قوة البريطانيين والوهن الذي أصاب سلالة القاجاريين والجرأة والثقة بالنفس اللذين يتمتع بهما رضا خان.
شرعت كتائب القوزاق في الحال في تهدئة الأوضاع في البلاد وسحق الجيوش القبلية. وتدفقت القوة إلى يد رضا. طرد سيد زيا بعد ثلاثة أشهر من الانقلاب وأجبره على مغادرة البلاد. وبعد فترة وجيزة أقنع الشاه نفسه بالرحيل بزعم الذهاب في رحلة علاجية مؤقتة. وسرعان ما أصبح هذا الجندي الطموح رئيسًا للوزراء وقائدًا للجيش وزعيمًا مؤثرًا للدولة الإيرانية التي كانت تبعث من جديد.
نادى رضا بالقومية، ولكنه أدرك أيضًا قوة مناصريه البريطانيين والجميل الذي يطوقون عنقه به. وقد توصلت إحدى الدراسات عن الانقلاب إلى أنه «لا يوجد شك في تورط ضباط الجيش البريطانيين فيه … ففي اليوم السابق للتحرك إلى طهران دفع سيد زيا ألفَي تومان إلى رضا خان ووزع عشرين ألفًا على رجاله الذين بلغ عددهم ألفَي رجل. ولم يكن بمقدور أي إيراني أن يمتلك مثل ذلك المبلغ الضخم خلال فترة وجيزة».
وفور أن انتهى رضا من سعيه نحو السلطة أصبح عليه اختيار إطار سياسي يحكم من خلاله. كان شديد الإعجاب بالمصلح التركي كمال أتاتورك، ففكر في اتباع نموذجه وإعلان إيران جمهورية وتنصيب نفسه رئيسًا. لكن تلك الفكرة أفزعت رجال الدين الذين صُدموا بالقرارات التي اتخذها أتاتورك لإلغاء السلطنة والخلافة الإسلامية. وأصروا على أن يحتفظ رضا بالملكية، وفي نهاية الأمر تمكنوا من كسبه إلى صفهم.
ومع أن رضا لم يتعلم، بل كان بالكاد يقرأ ويكتب، فقد كان لديه وعي عميق بطبيعة السياسة الإيرانية. ففي خلال عامين من الانقلاب توصل إلى خطة مسرحية تحمله إلى قمة السلطة. وبالفعل حدث ما كان مخططًا له، إذ أوى إلى قرية صغيرة بزعم التفكير والتأمل، واستقال من كل مناصبه الحكومية. وقبل أن يرحل خطط للأمر بحيث يمطره الناس بوابل من المطالبات بالعودة إلى السلطة. واستمر رضا في التظاهر بالمقاومة لفترة، ولكن في ذلك الحين حدث ما كان يأمل في حدوثه، حيث أعلن أحمد شاه البغيض عن نيته في العودة إلى الديار. وفزع المجلس الذي أعيد إنشاؤه بعد هزيمة عام ١٩١١ — ولكنه لم يتمكن بعدها من الحصول على أي سلطة فعلية — من ذلك الاحتمال. واتحد المجلس في ثورته، فأعلن نهاية السلالة القاجارية، وقدم عرش الطاووس إلى رضا. وقد جلس رضا على العرش في الخامس والعشرين من أبريل عام ١٩٢٦ وأطلق على نفسه رضا شاه. وأعلن أيضًا أن السلالة الحاكمة الجديدة سوف تعرف باسم عائلته «بهلوي»، وهو اسم لغة كان الفارسيون يتحدثونها قبل الفتح الإسلامي.
لم يكن رضا شاه يعارض التنديد بالبريطانيين علنًا، لكنه كان يمتلك مصالح حيوية مشتركة معهم. كان هو الزعيم القوي الذي يبحثون عنه، وهو شخص يُعتمد عليه ويمكنهم التفاوض معه وإذا تطلب الأمر خلعوه. وعلق الدبلوماسي البريطاني اللماح هارولد نيكولسون قائلًا: «كانت الأمة الفارسية القديمة هرمًا مفككًا يرتكز على قاعدته. ويعتبر الهرم الفارسي الجديد بالتفكك نفسه، ولكنه يرتكز على قمته، مما يعني أنه أسهل في الإطاحة به.»
كان من المستحيل لرضا شاه أن ينتشل بلاده من سيطرة القوى الأجنبية، خاصة البريطانيين الأقوياء، ولكن بعد تعزيز قواه ودعمها عمل بثبات كي يحد من نفوذهم. فلم يقبل أي قروض من الممولين الأجانب، وحظر بيع الممتلكات إلى غير الإيرانيين، وألغى امتيازًا للبنك الملكي البريطاني في إيران خاصًّا بالحق الحصري في إصدار العملات الإيرانية، بل إنه منع مسئولي وزارة الخارجية من حضور الحفلات في السفارات الأجنبية. وعندما أصرت بريطانيا على تعيين مهندسين أوروبيين لبناء خط السكة الحديدية الذي كان من أهم الأحلام التي يرغب في تحقيقها، وافق بشرط أن يقف هؤلاء المهندسون وعائلاتهم تحت الكباري التي بنوها عند مرور القطار فوقها للمرة الأولى.
كان إخضاع مساحة إيران الشاسعة بالقوة العسكرية يتطلب جيشًا ضخمًا. وعوضًا من ذلك فرض رضا شاه إرادته بالتخويف التحذيري. وقد فزع الناس للروايات التي تناقلوها عن قسوته في بادئ الأمر ثم هدأ روعهم.
في عام ١٩٣٥ دعا الزعماء الدينيون إلى الاحتجاج ضد قرار رضا شاه بحظر الحجاب للنساء وفرض غطاء الرأس على الرجال أثناء الصلاة حتى لا تلمس جباههم الأرض. واحتشد المئات من الناس في مسجد خراسان. وفور أن علم الشاه بتجمعهم أمر جنوده باقتحام المسجد وذبحهم. قتل أكثر من مئة شخص في ذلك اليوم. ولم يجرؤ أحد على الاعتراض مرة أخرى على الإصلاحات الدينية التي يقوم بها رضا شاه.
ومرة تلو الأخرى، أخذ رضا شاه يحل المشكلات بذلك الحسم الوحشي الذي عُرف عنه. فذات مرة أثناء زيارته لمدينة همدان في غربي إيران، اكتشف أن الناس هناك يتضورون جوعًا لأن الخبازين يخزنون القمح كي يرفعوا من الأسعار. فما كان منه إلا أن أمر بإلقاء أول خباز صادفه في الفرن حيًّا. وفي صبيحة اليوم التالي كان كل مخبز في المدينة يبيع الخبز بأسعار منخفضة.
فزع العديد من الإيرانيين لسماع مثل تلك الروايات، ولكن البعض الآخر التزموا الصمت أو أثنوا عليها، وذلك لأنهم يعلمون أن بلادهم لم تتمتع بالمجد إلا عندما كان يحكمها قائد قوي. ولم يستطع أحد إنكار الإنجازات التي حققها رضا شاه. فقد استهل حكمه بتصفية عصابات قطاع الطرق التي نشرت الذعر في العديد من أنحاء إيران. ثم شرع في تطبيق برنامج إصلاحي ضخم يهدف إلى إنشاء شوارع وميادين وطرق سريعة ومصانع وموانئ ومستشفيات ومبانٍ حكومية وخطوط للسكك الحديدية ومدارس جديدة للفتية والفتيات. وأنشأ أيضًا أول نظام للخدمة العامة في البلاد وكون أول جيش قومي عرفته البلاد منذ قرون عديدة. وهو الذي أدخل النظام المتري والتقويم الحديث واستخدام ألقاب العائلة ونظم الزواج المدني والطلاق. وكان دائم الاحتقار للتقاليد، فحظر ارتداء الزي التقليدي ومنع قوافل الجمال من دخول المدن. وعمل على نشر التشريعات القانونية وأنشأ شبكة من المحاكم المدنية لتطبيقها. وفي عام ١٩٣٥ أعلن أنه لن يسمح بعد الآن بالإشارة إلى بلاده باسم فارس، وهو اللفظ الذي يستخدمه الأجانب، وأنه يصر على تسميتها بإيران، وهو الاسم الذي يطلقه عليها مواطنوها. وبإصراره المعهود أمر بإعادة أي خطاب يأتي من الخارج موجهًا لبلاد فارس إلى مرسله دون أن يفتح.
ولكن على الرغم من حب رضا شاه للإصلاح، فإنه لم يتمكن من إحداث تغيير اجتماعي حقيقي. ففي ظل حكمه اشتدت الرقابة على الصحف، ومنعت التنظيمات العمالية، وكان مصير المعارضين إما القتل أو السجن أو الاضطرار إلى الهرب. بل إنه أجبر القبائل البدوية التي كان يعتبرها من مخلفات الماضي التي لا يليق أن توجد في دولة حديثة على الإقامة في مستوطنات قاحلة حيث مات الألوف منهم بعد معاناة شديدة. وتركزت التجارة في يد الدولة وشريحة صغيرة من أصحاب المشروعات الذين أثبتوا ولاءهم للدولة. وتضخمت ثروة الشاه نفسه عن طريق الحصول على الرشاوى من المشروعات الأجنبية وابتزاز الأموال من زعماء القبائل. وصادر الكثير من الأراضي حتى إنه أصبح يمتلك أكبر عدد من الأراضي في البلاد عندما كان في ذروة مجده.
وقد علق أحد أعضاء البرلمان البريطاني قائلًا: «لقد قضى رضا شاه على كل اللصوص وقطاع الطرق في إيران، ليدرك الشعب أنه منذ الآن فصاعدًا سوف يصبح هو اللص الوحيد في إيران.»
عام ١٩٣٤ ذهب رضا شاه إلى تركيا كي يقابل أتاتورك. وكان من المعروف عنهما أنهما ينسجمان معًا تمامًا، ولكن بينما كان الشاه يتجول في الريف التركي أصيب بالاكتئاب والإحباط عندما أدرك أن تركيا تتقدم بخطى سريعة نحو الحداثة والعلمانية. وعاد إلى بلاده عازمًا على مضاعفة حملته لتغيير المجتمع الإيراني. وفي فورة حماسه اندفع دون أن يضع أي اعتبار للأنماط الاجتماعية أو المعتقدات الدينية السائدة منذ القدم في البلاد. ولما كان يفتقر إلى الحنكة السياسية التي تمتع بها أتاتورك تسبب في تأليب معظم الشعب ضده.
كان رضا شاه منبهرًا بالحركات الفاشية التي ظهرت في أوروبا خلال فترة الثلاثينيات من القرن العشرين. رأى أن موسوليني وفرانكو وهتلر قد خاضوا نفس المسار الذي اختاره لنفسه الذي يتمثل في تطهير الأمم الضعيفة وتوحيدها. فأطلق حملة جائرة لمحو هوية الأقليات خاصة الأكراد والأذربيجانيين، وأنشأ جمعية للإرشاد العام تهدف إلى تمجيد شخصه وأفكاره. وقاد بالدور فون شيراخ رئيس منظمة شباب هتلر مجموعة من أعيان النازيين في زيارة إلى إيران، وتحدث بحماس شديد عن التحالف الألماني الإيراني الناشئ.
أعلنت إحدى الصحف التابعة للشاه أن «الهدف الرئيس للأمة الألمانية يتمثل في استعادة أمجادها الغابرة عن طريق تعزيز الفخر القومي وبث كراهية الأجانب ومنع اليهود والأجانب من الاختلاس وارتكاب الخيانة، وهكذا تتفق أهدافنا معهم بالضبط».
ونظرًا إلى أن رضا شاه كان يحتاج إلى صديق أجنبي يشاركه العداء المتزايد نحو بريطانيا والاتحاد السوفييتي، فقد تعاطف بشدة مع القضية الألمانية. وعند نشوب الحرب العالمية الثانية أعلن التزامه بسياسة الحياد التي تميل إلى التحيز لألمانيا. وقد سمح أيضًا للمئات من العملاء الألمان بالعمل في إيران. عمل العديد منهم على بناء شبكات دعم تربط بين القادة العسكريين الإقليميين. وخشي قادة الغرب أن يكون النازيون يخططون لاستخدام إيران قاعدة لشن هجوم منها على الحدود الجنوبية للاتحاد السوفييتي، وهو ما سوف يعقد مسار الحرب بشكل كبير. ولمنع حدوث ذلك دخلت القوات البريطانية والسوفييتية إيران في الخامس والعشرين من أغسطس/آب عام ١٩٤١. وأسقطت طائراتهم منشورات على طهران. كتب فيها: «لقد قررنا أن على الألمان أن يرحلوا، وإن لم تطردهم إيران فسوف يتولى الإنجليز والروسيون ذلك الأمر.»
من المؤكد أن بعض الإيرانيين قد شعروا بسخرية المفارقة في ادعاء هاتين الدولتين دور الصديق الذي يرغب في حماية إيران، ولكن لم يكن باستطاعتهم فعل أي شيء. واستسلم الجيش الإيراني في بضعة أيام. وبعد استيلاء قوات الحلفاء على بعض المواقع الاستراتيجية في بعض أنحاء البلاد، طالبوا رضا شاه بقطع العلاقات مع ألمانيا والسماح لقواتهم باستخدام أراضيه بحرية تامة. ولو لم يكن رضا شاه قد عزل نفسه عن كل قطاعات المجتمع الإيراني، ولو كان قد احتفظ بمجموعة من المستشارين الحكماء حوله بدلًا من نفيهم أو قتلهم، ربما تمكن من المقاومة. ولكنه وجد نفسه وحيدًا وقد تحطمت أحلامه على صخرة ضيق أفقه وفساده وغروره الشديد.
لم يكن رضا شاه يرغب في التعاون مع الحلفاء، ولا كانوا هم في حاجة إليه. وهكذا فقد تنازل عن العرش في السادس عشر من سبتمبر عام ١٩٤١. وفي اليوم التالي تولى ابنه البكر محمد الذي كان يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا مقاليد الحكم. ولم يسمع أحد شيئًا عن رضا بعد ذلك حتى توفي في مدينة جوهانسبرج بعد ذلك بثلاثة أعوام.
ومع أن رضا شاه تخيل نفسه صاحب رؤية مستقبلية عصرية، ففي حقيقة الأمر دعم الاستبداد أو الحكم المطلق الذي يمثل جوهر التاريخ الإيراني. واتسمت الإصلاحات التي قام بها بالسطحية، ونظرًا إلى القسوة الشديدة التي أجريت بها تلك الإصلاحات فقد كرهها الشعب ورفضها. ولم يحرز أي تقدم يُذكر نحو الشعور بقيمة العمل المشترك والمسئولية المدنية التي تمثل جوهر المجتمعات الناجحة. والجهود التي بذلها لتخليص إيران من قبضة النفوذ الأجنبي جديرة بالثناء من الناحية النظرية، ولكنها من الناحية العملية جلبت المصائب لإيران. وفي نهاية الأمر تسببت دوافعه الدكتاتورية في سقوطه عن طريق دفعه إلى إجراء تحالف مع القوى الفاشية. وبرحيله أصبحت إيران لقمة سائغة في يد الأجانب يحكمها ملك صغير السن ضعيف مرتبك. وهكذا أخفق النظام الملكي مرة أخرى في التوصل إلى حل لأزمة التنمية والهوية المستمرة. وبنهاية الحرب العالمية الثانية تعطش الإيرانيون لقائد من نوع جديد.