موجة من النفط
كانت سنوات من الحياة في صحارى إيران الصخرية — حيث ينتشر الجدري ويحكم قطَّاع الطرق والعصابات ويندر وجود المياه وترتفع الحرارة إلى ما يزيد عن ١٢٠ درجة فهرنهايت — كفيلة بأن تدفع رجالًا أقل شأنًا من جورج رينولدز إلى حافة الجنون أو ما هو أسوأ. ولكن رينولدز كان من الشخصيات الأسطورية التي غيرت تاريخ العالم بفضل إصرارها وشجاعتها. كان رينولدز جيولوجيًّا علَّم نفسه بنفسه ومهندس بترول، يرجع إليه الفضل في القيام برحلات استكشافية عديدة في غابة سومطرة. وفي العقد الأول من القرن العشرين عندما كان في الخمسينيات من العمر اجتاز أراضي إيران القاحلة جيئة وذهابًا بحثًا عن النفط. وكان معه طاقم عجيب يساعده في جر حمولته من المعدات وحفر الآبار، وتضم مجموعة من عمال الحفر البولنديين والكنديين، وطبيبًا هنديًّا أخرق، بالإضافة إلى العديد من سكان القبائل الذين لم يعرفوا ما النفط أصلًا. وقد كتب في خطاب بعثه إلى الوطن: «لم أرَ في حياتي من قبلُ فريق عمل بائسًا كهذا.»
كان موطن رينولدز الأصلي لندن، حيث كان راعيه المليونير الشهير ويليام نوكس دارسي ينتظر بفارغ الصبر أخبارًا مفرحة. كان دارسي قد كوَّن ثروة من التنقيب عن الذهب في أستراليا، لكن ذلك لم يشبع طموحه. شعر أن النفط قد يصبح أكثر قيمة من الذهب، وكان يعلم أن إيران «بلا ريب أرض بترولية»، وذلك طبقًا لكلام أحد علماء الجيولوجيا الذين أجروا مسحًا لأراضيها. وعام ١٩٠١ وقَّع دارسي اتفاقية مع مظفر الدين شاه إيران حصل بموجبها حصريًّا على حق التنقيب عن النفط في رقعة شاسعة من الأراضي الإيرانية تفوق مساحتها مساحة تكساس وكاليفورنيا معًا. وكي يعمل دارسي على تأمين تلك الاتفاقية أعطى الشاه الذي وصفه الوزير البريطاني في طهران بأنه «ليس إلا طفلًا كبيرًا» مبلغ عشرين ألف جنيه إسترليني ونصيبًا مساويًا في أسهم الشركة ووعدًا بالحصول على ١٦٪ من الأرباح المستقبلية.
ولما كان دارسي رجلًا مشهورًا بالأناقة في مجتمع لندن معروفًا بالبذخ الشديد حتى إنه استقدم مغني الأوبرا الإيطالي إنريكو كاروزو كي يغني في حفلاته الخاصة التي يقيمها في قصره بميدان جروسفينور، لم يفكر في الذهاب إلى إيران بنفسه قط. بل استخدم رينولدز كي يؤدي تلك المهمة بدلًا منه. وظل شهرًا تلو الآخر وعامًا تلو الآخر يحرر الشيكات لتمويل ذلك المشروع. وحلقت روحه طربًا في يناير ١٩٠٤ عندما اكتشف رينولدز النفط أخيرًا، لكنه صُدم بعد عدة أشهر عندما جفت البئر. وأخذت ثروته تتبدد شيئًا فشيئًا، حتى اضطر في نهاية المطاف إلى بيع معظم حقوقه إلى شركة بورما للنفط الكائن مقرها في جلاسجو، التي كان ثراؤها يفوق ثراءه.
أدرك الممولون الاسكتلنديون الذين تولوا مهمة التنقيب عن النفط في إيران أن هناك تغيرًا شديد الأهمية على وشك أن يعيد تشكيل بريطانيا والعالم بأكمله. فسرعان ما سوف تحدث محركات الاحتراق الداخلي انقلابًا في كل جوانب الحياة الإنسانية، فيصبح التحكم في النفط اللازم لتشغيلها مفتاح القوة العالمية. وكان النفط قد اكتشف حول بحر قزوين وفي الهند الشرقية الهولندية والولايات المتحدة، ولكنه لم يكتشف في بريطانيا أو أي من مستعمراتها. وإذا لم يتمكن البريطانيون من العثور على النفط في مكان ما، فلن يصبحوا قادرين على السيطرة على البحار أو على أي شيء آخر.
وبحلول عام ١٩٠٨ كان دارسي وشركاؤه الاسكتلنديون قد استثمروا ما يزيد عن نصف مليون دولار أمريكي في مشروعهم الإيراني ولم يتوصلوا إلى أي شيء. وفي نهاية الأمر قرروا التوقف عن البحث في هذا المكان واستكشاف مكان آخر. وفي بداية شهر مايو أرسلوا برقية إلى رينولدز يخبرونه فيها بإفلاسهم ويطلبون منه «التوقف عن العمل وطرد الفريق وفك أي شيء ذي قيمة للنقل لإعادة شحنه والعودة إلى الديار».
كانت تلك اللحظة شديدة الصعوبة لرينولدز الذي قضى أعوامًا طويلة في أصعب ظروف يمكن تخيلها يبحث عن كنز يعلم أنه سوف يغير العالم. وفي محاولة يائسة منه لكسب بعض الوقت أخبر رجاله بأنه في مثل تلك المناطق النائية لا يمكن الاعتماد على البرقيات، وأن عليهم الاستمرار في العمل حتى يتأكدوا من صحة الرسالة عن طريق البريد.
في السادس والعشرين من مايو عام ١٩٠٨ كان رينولدز نائمًا في خيمته بالقرب من قاعدة تدعى مسجد سليمان في غربي إيران عندما استيقظ في الرابعة صباحًا على ضوضاء مزعجة وصياح مرتفع. فاندفع مسرعًا إلى أن رأى النفط يتدفق عاليًا فوق إحدى الروافع. ففي واحدة من آخر محاولاته عثر على أكبر آبار النفط التي اكتُشفت حتى ذلك الحين.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا كي يدرك القادة البريطانيون مدى هذا الاكتشاف وتداعياته. ففي خريف ١٩٠٨ خططوا لإنشاء مؤسسة جديدة بواسطة مجموعة من المستثمرين، وهي شركة النفط البريطانية الفارسية، كي تستوعب الامتياز الممنوح لدارسي وتتولى السيطرة على اكتشاف النفط واستخدامه في إيران. وبعد خمس سنوات، وتحت إلحاح وينستون تشرشل أمير البحار الذي رأى شبح الحرب العالمية يلوح في الأفق وأدرك أنه سوف يحتاج إلى النفط في تزويد السفن بالوقود من أجل الانتصار في الحرب، أنفقت الحكومة البريطانية مليوني جنيه إسترليني لشراء ٥١٪ من أسهم الشركة. ومنذ تلك اللحظة أصبحت مصالح بريطانيا وشركة النفط البريطانية الفارسية واحدة غير قابلة للفصل. أكد تشرشل قائلًا: «كانت السيطرة هي جائزة تلك المغامرة.»
خلال سنواتها الأولى حفرت الشركة البريطانية الفارسية آبارًا عديدة ومدت ما يزيد عن مائة ميل من خطوط الأنابيب واستخرجت ملايين البراميل من النفط. وأنشأت أيضًا شبكة من محطات التعبئة في المملكة المتحدة وأخذت تبيع النفط إلى دول أوروبا، بل إلى أستراليا. وأكثر ما يثير الإعجاب أنها بدأت إنشاء أكبر معمل لتكرير النفط في جزيرة عبدان الصحراوية في الخليج العربي، وهو المعمل الذي ظل الأكبر في العالم طوال خمسين عامًا.
ظهرت عبدان إلى الوجود تدريجيًّا على مدار ألف عام، حيث تكونت من الطمي الذي يسيل من الأنهار التي تكون مجرى شط العرب. وقد بعث آر آر ديفيدسون وهو أول مهندس بعثت به الشركة البريطانية الفارسية إلى هناك عندما كان يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا خطابًا إلى عائلته عام ١٩٠٩ يخبرهم فيه بأنها «أرض مشمسة بها الكثير من الوحل والذباب»، مسطحة لا يوجد بها حصاة أكبر من قبضة اليد. كانت من أشد الأماكن قيظًا على سطح الأرض. ومع كل ذلك ففي عامين كان ديفيدسون قد استخدم أكثر من ألف من سكان القبائل في بناء الجسور ومراكب نقل البضائع والمباني القرميدية. وسرعان ما كانت عبدان تفخر بامتلاك محطة لتوليد الطاقة والعديد من المخازن والورش ومصنعًا لتنقية المياه وسكة حديدية صغيرة. وعام ١٩١١ انتهى العمل في أول خط أنابيب قادم من الحقول، وفي العام التالي بدأ النفط يتدفق.
وسرعان ما أصبحت عبدان مدينة صاخبة يقطن بها ما يزيد عن مائة ألف نسمة معظمهم من العمال الإيرانيين. ومن النادي الفارسي الخاص حيث يوجد طاقم أنيق من القائمين على خدمة المدراء البريطانيين إلى الأحياء الضيقة التي يسكنها العمال الإيرانيون والفسقيات التي كتب عليها «ممنوع للإيرانيين»، كانت عبدان مقاطعة استعمارية تقليدية. وكان معظم الفنيين والإداريين من البريطانيين، وحصل العديد منهم على منازل فخمة تحتوي على شرفات وحدائق مقلمة الأشجار، ومن وجهة نظرهم كانت عبدان مكانًا شاعريًّا لهم ولعائلاتهم.
أما عشرات الآلاف من العمال الإيرانيين فقد اختلفت حياتهم عن ذلك تمامًا. فقد عاشوا في أحياء عشوائية وغرف مشتركة بها نظام صحي بدائي. وكانت المحلات ودور السينما والحافلات والمزايا الأخرى محظورة عليهم. ولكنهم شاركوا أصحاب العمل البريطانيين الحياة وسط شبكات من الأنابيب العملاقة وتحت صهاريج التخزين الضخمة وفي ظلال المداخن الشاهقة التي تتراقص فيها ألسنة اللهب ليل نهار. كان الهواء مشبعًا بأدخنة الكبريت، وهو ما يعتبر تذكيرًا مستمرًّا بالثروات الهائلة التي تتدفق من الأراضي الإيرانية إلى خزائن الشركة البريطانية الفارسية.
تبددت أي شكوك حول قيمة هذا المورد الجديد بعد خوض تجربة الحرب العالمية الأولى التي وصف اللورد كيرزون انتصار الحلفاء فيها بأنهم «عبروا إلى النصر على موجة من النفط». وخلال الأعوام التالية زاد تدفق النفط من عبدان بانتظام من أقل من ثلاثة آلاف طن عام ١٩١٤ إلى خمسة أضعاف هذا المقدار عام ١٩٢٠. وكانت الشركة البريطانية الفارسية تعطي الأولوية للبحرية البريطانية التي تشتري النفط منها بأسعار مخفضة بشدة. أما ما تبقى فيباع إلى العملاء الصناعيين والسائقين في بريطانيا، ثم عندما زادت الإمدادات أخذوا يبيعونها إلى الآخرين في كل أنحاء العالم.
كان من الممكن أن يمد النفط الملوك القاجاريين بالثراء والقوة. كانوا لا يملكون الموارد اللازمة لاكتشاف النفط أو استخدامه دون مساعدة أجنبية، ولكن بمزيد من البصيرة كان يمكنهم عقد اتفاق أفضل مع شركائهم البريطانيين. ولكنهم بدلًا من ذلك باعوا حقهم لقاء مقابل زهيد. بلغت عائدات إيران لعام ١٩٢٠ طبقًا لاتفاقية الامتياز التي تقضي بحصولهم على ١٦٪ من صافي أرباح الشركة ٤٧٠٠٠ جنيه إسترليني. لكن أحمد شاه اعتبر ذلك المبلغ نعمة لا يحلم بمثلها، مع أنه كان مبلغًا ضئيلًا بالمقارنة بما يصب في خزائن شركة النفط.
شهد العام التالي سقوط القاجاريين وصعود نجم رضا خان. وبينما كان رضا يعمل على توطيد حكمه لإيران ظل ينظر بازدراء إلى الشركة البريطانية الفارسية وامتياز دارسي الذي كان يعتبر أهم أصولها. كانت الشركة تحقق أرباحًا فلكية، وفي الوقت ذاته الطريقة التي تحسب بها نسبة إيران من العائد البالغة ١٦٪ موضع شبهة، والفجوة بين الظروف المعيشية للموظفين الإيرانيين والبريطانيين آخذة في الاتساع بانتظام. عام ١٩٢٨ أعطى رضا شاه أوامره للوزراء كي يحاولوا عقد اتفاق جديد أكثر عدلًا مع الشركة. لكن البريطانيين لم يأخذوا ذلك الأمر على محمل الجد. وطوال أربعة أعوام نحَّوا مطالبه جانبًا بمزيج من الرفض والمماطلة. وبينما كان القلق يعصف به انتشر الكساد العالمي وبدأت العوائد التي تدفعها الشركة البريطانية الفارسية إلى إيران في الانخفاض. وكان من المحتم في نهاية الأمر أن ينفجر رضا شاه غضبًا. ففي اجتماع وزاري عقد في السادس والعشرين من نوفمبر عام ١٩٣٢ وجه السباب إلى الوزراء لإخفاقهم ثم طالبهم بإظهار الملف الخاص بالمباحثات التي أجريت على مدار أربعة أعوام. وعندما أحضروا له الملف وجه إليهم المزيد من السباب ثم ألقى به في موقد مشتعل. وفي اليوم التالي أعلن للشركة البريطانية الفارسية قراره بإلغاء امتياز دارسي.
لو أتيح لذلك القرار الصمود كان سيعني نهاية عمل الشركة البريطانية الفارسية في إيران ومن ثم انهيار الشركة. شعر المسئولون البريطانيون بالصدمة والغضب واليأس حيال هذا القرار. فتقدموا بشكوى إلى عصبة الأمم، ولكنهم قوبلوا بهجوم مضاد عنيف من المسئولين الإيرانيين الذين اتهموا الشركة البريطانية الفارسية بتزوير حساباتها كي تحرم إيران من حقها في العوائد. وأدرك السير جون كادمان رئيس مجلس إدارة الشركة البريطانية الفارسية أن عليه التفاوض مباشرة مع رضا شاه الذي كان قد حضر حفل تتويجه قبل ثمانية أعوام. وسافر كادمان إلى طهران، ولم يستغرق الأمر سوى بضعة أيام كي يتوصل الصديقان إلى تسوية. اتفقا بموجبها على تخفيض ثلاثة أرباع المساحة التي يغطيها امتياز دارسي، وضمان حق إيران في الحصول على مبلغ ٩٧٥٠٠٠ جنيه إسترليني سنويًّا على الأقل، وتحسين ظروف العمل في عبدان. وفي المقابل وافق رضا شاه على مد فترة الامتياز الذي كان مقررًا له أن ينتهي عام ١٩٦١ لمدة اثنين وثلاثين عامًا أخرى. واتفقا أيضًا على تغيير اسم الشركة إلى شركة النفط البريطانية الإيرانية، حيث إن الشاه لا يحب اسم فارس.
بعث كادمان برقية إلى بلاده يقول فيها: «إنني راضٍ كل الرضا عن الامتياز الجديد، فسوف يكون بداية عهد جديد من العلاقات مع إيران بكل المقاييس.»
ساهمت اتفاقية ١٩٣٣ في استقرار أوضاع شركة النفط حتى نهاية حكم رضا شاه. ولكن عندما أجبره القادة البريطانيون على التنازل عن العرش بعد ذلك بثمانية أعوام، أطاحوا بالقائد الوحيد الذي كان قويًّا بما يمكنه من فرض حكمه بالأمر على دولة متزايدة الاضطرابات والقلاقل. وأثناء الحرب العالمية الثانية ازداد السخط والاستياء من الامتيازات الهائلة التي تتمتع بها الشركة، حيث زادت كمية النفط التي تستخرجها من ٦,٥ مليون طن عام ١٩٤١ إلى ١٦,٥ مليون طن عام ١٩٤٥.
في مارس عام ١٩٤٦، وبعد أقل من عام من نهاية الحرب العالمية الثانية، أعلن العمال في عبدان الإضراب عن العمل. وهو ما لم يكونوا يجرءون على التفكير فيه أثناء حكم رضا شاه، وانطلقوا في الشوارع المزدحمة حاملين اللافتات ومرددين الشعارات التي يطالبون فيها بالحصول على مساكن أفضل ورعاية صحية لائقة والتزام أصحاب العمل بقوانين العمل الإيرانية. ولما كانت بريطانيا قد اكتسبت خبرة كبيرة في التعامل مع تحديات غضب المواطنين، لم ترفض التفاوض فحسب بل أيضًا اختارت طريق المقاومة الإيجابية. أنشأت اتحادًا وهميًّا من المجموعات العرقية العربية وسكان القبائل المنشقين من المناطق المجاورة وأرسلتهم كي يواجهوا المضربين. ووقعت أعمال شغب دموية خلفت العشرات من القتلى والمئات من المصابين. ولم تنتهِ إلا عندما وافق مديرو الشركة البريطانية الإيرانية على مضض على الالتزام بقانون العمل الإيراني. ولكنهم لم يفعلوا، وتذكيرًا للإيرانيين بقوتهم أرسلوا سفينتين حربيتين بريطانيتين كي تقوما بمناورات تهديدية على مرأى من عبدان. وبذلك الاستعراض لقوتهم تخيلوا أن الأزمة قد انتهت. ولكنهم في حقيقة الأمر أشعلوا فتيل الرأي العام ضدهم وخطوا خطوة أخرى نحو الهاوية.
لم تكن الحركة العمالية الإيرانية هي المؤسسة الخاملة الوحيدة التي بعثت فيها الحياة من جديد بعد رحيل رضا شاه. بل كان المجلس أيضًا كذلك. فالمجلس لم يغلق أبوابه قط، لكن رضا شاه لم يسمح له بأن يؤدي مهامه بحرية. وفي تلك الآونة بدأ المجلس يعيد إثبات نفسه. أشعلت أعمال الشغب التي وقعت في عبدان غضبه، مثله في ذلك مثل بقية أنحاء إيران. وعام ١٩٤٧ أصدر المجلس قرارًا جريئًا بمنع منح أي امتيازات أخرى للشركات الأجنبية وتوجيه الحكومة إلى إعادة التفاوض بشأن الامتياز الحالي الممنوح للشركة البريطانية الإيرانية.
كان ذلك القانون الضربة الأولى في معركة طويلة. تسبب في وضع إيران في سلسلة من المواجهات الكارثية مع بريطانيا. كان النائب الذي كتب مسودة هذا القرار وعرضها على المجلس قوميًّا ناشطًا في الأعوام الأولى من القرن العشرين، ولكن رضا شاه أبعده بالقوة عن مجال السياسة فغاب عن الساحة عشرين عامًا. ثم عاد مدافعًا عن المصالح الإيرانية بنفس الحماس السابق. كان هذا الرجل هو محمد مصدق.
ساهم معتقدان رئيسان في تشكيل وعي مصدق السياسي. أولهما: إيمان عميق بسلطة القانون جعله عدوًّا للاستبداد والحكم المطلق، وخاصة حكم رضا شاه. وثانيهما: قناعة بأن الإيرانيين يجب أن يحكموا أنفسهم وألا يستسلموا لإرادة الأجانب. هذا الأمر جعل منه مصدر عذاب وغريمًا وخصمًا عنيدًا لشركة النفط البريطانية الإيرانية. وفي منتصف القرن العشرين حدثت مواجهة بطولية بينه وبين الشركة. وقد جمعهما القدر. فلا يمكننا ذكر قصة أحدهما دون أن نذكر قصة الآخر.
•••
لا يضاهيه أحد من الرجال المشهود لهم بالذكاء والعلم في لباقته وكياسته، فهو يتحدث ويتصرف ويستقبل الناس بمزيج من الاحترام والتواضع والمجاملة دون أن يقلل ذلك من مكانته الرفيعة. وربما يكون في بعض الأوقات قد عامل زملاءه من كبار المسئولين ووزراء المالية بنوع من الاحتقار، ولكن تعامله مع الآخرين أظهر فيضًا من المشاعر الإنسانية واللطف والتواضع. ومثل هذا الشاب المثير للإعجاب يجب أن يصبح من العظماء.
بلغ مصدق سن الرشد في فترة حرجة من التاريخ الإيراني. وكان عمره ثمانية أعوام عندما اندلعت ثورة التبغ، ونظرًا إلى نضجه المبكر وانخراط والديه في الحياة العامة يمكننا أن نفترض أنه تابع مسارها باهتمام. وقد لعب العديد من أقاربه ومنهم عمه الأمير العظيم فارمان فارما أدوارًا مهمة في الثورة الدستورية. وعندما عقدت الدعوة لإجراء أول انتخابات للمجلس عام ١٩٠٦ ترشح مصدق وفاز بمقعد عن دائرة أصفهان. ومع أنه لم يتمكن من تولي هذا المنصب لأنه لم يكن قد بلغ السن القانونية بعد، وهي ثلاثين عامًا، فإن مستقبله السياسي كان يتخذ مجراه.
وفي تلك الأعوام المبكرة كوَّن مصدق أكثر من مجرد وجهة نظر سياسية. وظهرت عليه أيضًا طبائع انفعالية غير اعتيادية. وكانت ثقته اللامتناهية بنفسه تدفعه إلى القتال بشراسة دفاعًا عن مبادئه، ولكنه عندما لا يجد استجابة من الآخرين يغرق في فترات طويلة من الصمت والاكتئاب. وهذا ما حدث عام ١٩٠٩ عندما شن محمد علي شاه هجومه الدموي على المجلس. فبدلًا من أن يبقى كي يواصل الكفاح مع رفاقه المناصرين للديمقراطية، توصل إلى أن إيران لا تزال غير مستعدة للتنوير وغادر البلاد متجهًا إلى باريس التي اعتبرها قلب العالم المتحضر. مثله في ذلك مثل العديد من الإيرانيين الذين ينتمون إلى طبقته، كي يواصل دراسته في مدرسة العلوم السياسية.
وأثناء إقامته في فرنسا أصيب مصدق بأمراض لازمته طوال حياته. ولم يتمكن أحد من تشخيصها. كانت تلك الأمراض جسدية، وكانت تهاجمه على نحو دوري مسببة القرح والنزيف وإفرازات المعدة وأعراضًا أخرى. ولكن لها أيضًا أعراض عصبية تؤدي إلى حدوث نوبات وانهيارات، لم تكن تلك الأعراض جسمانية ولا نفسية بالكامل، لكنها عكست شخصية مصدق وأصبحت جزءًا منها. كان مصدق أكثر السياسيين الذين عرفتهم إيران درامية. ففي بعض الأحيان يبلغ ذروة انفعاله أثناء إلقاء الخطب أن يذرف الدموع. وأحيانًا أخرى يسقط مغشيًّا عليه، سواء بسبب الانفعال أم الحالة الصحية. وعندما أصبح شخصًا معروفًا على مستوى العالم استغل أعداؤه في العواصم الأجنبية هذا الجانب من شخصيته كي يسخروا منه ويقللوا من شأنه. ولكن في إيران حيث ساهمت قرون طويلة من الإيمان بالمذهب الشيعي في إثارة عواطف الجماهير إثارة لا يتخيلها الغرب لم يكن هذا الأمر مقبولًا فحسب، بل كان موضع احتفاء. بدا أنه أثبت مدى شعوره بمعاناة الشعب ومشاطرته أحزانه.
اضطر مصدق بعد إصابته بالمرض وظهور أعراضه عليه أن يترك دراسته في فرنسا ويعود إلى إيران بعد عام واحد. وهناك شعر بالارتياح قليلًا لأن الحاكم الذي كان يبغضه من أعماق قلبه محمد علي شاه كان قد طُرد من منصبه. وبعد شفائه عاد إلى أوروبا، وتحديدًا إلى مدينة نيوشاتل السويسرية، بصحبة زوجته وأطفاله الثلاثة ووالدته الحبيبة. والتحق بالجامعة هناك حتى حصل على دكتوراة في القانون عام ١٩١٤، وهو أول إيراني يحصل على تلك الشهادة من جامعة أوروبية، ثم قرر أن يقدم طلبًا للحصول على الجنسية السويسرية. ولكن كان عليه العودة للوطن أولًا كي يستكمل تأليف كتاب حول الشريعة الإسلامية.
عاد مصدق إلى دولة تتأجج فيها نيران الصراع. فقد منحت الثورة الدستورية الإيرانيين مذاق فاكهة الديمقراطية المحرمة فتلهفوا على المزيد منها. وكانت السلالة القاجارية تتهاوى. وأهم ما في الأمر أن اندلاع الحرب العالمية الأولى قد قضى على كل الحقائق السياسية الأكيدة وفتح المجال لكل الاحتمالات. ولما قسمت بريطانيا وروسيا إيران بينهما عام ١٩٠٧، كانتا لا تزالان تمسكان بزمام الأمور هناك، ولكن الاستياء حيال ذلك جعل العديد من الإيرانيين يتعاطفون مع ألمانيا القيصرية. وأنشأت مجموعة من المثقفين بقيادة حسن تقي زادة الذي كان أحد الأشخاص المحوريين في الثورة الدستورية «لجنة تحرير» في برلين، وأصدرت تلك اللجنة جريدة متطرفة، تهدف إلى الاستيلاء على السلطة في طهران. تحمس مصدق لتلك الحركات، وبدلًا من العودة إلى سويسرا التحق بكلية الحقوق والعلوم السياسية بطهران التي كانت في طريقها لتصبح أول جامعة حديثة في إيران. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «إيران واتفاقيات الامتيازات الأجنبية» قال إن إيران يمكنها امتلاك نظم سياسية وقانونية حديثة على الطراز الأوروبي إذا اتخذت خطوة مهمة واحدة. وهي تطبيق القانون بالعدل على الجميع وفيهم الأجانب وعدم منح امتيازات خاصة لأحد.
وبعد عودة مصدق إلى الوطن بأقل من عام طلب منه عمه فارمان فارما الذي أصبح رئيسًا للوزراء أن يتولى منصب وزير المالية. ولكن مصدق رفض لأنه لم يرغب في أن يقال إنه وصل إلى السلطة عن طريق الصلات العائلية. وعام ١٩١٧ أصيب بالتهاب الزائدة الدودية وأجرى عملية لاستئصالها في باكو، وبينما كان يتماثل للشفاء تلقى عرضًا آخر بأن يصبح نائب وزير المالية. في ذلك الوقت كان عمه قد ترك رئاسة الوزارة، وتحت إلحاح من والدته قبل المنصب. ولكنه أحبط زملاءه الجدد باكتشافه سلسلة من المخططات الإفسادية وإصراره على معاقبة المجرمين، وبعد أقل من عامين أقيل من منصبه. ومرة أخرى رأى أن إيران لا تستحق خدماته وعاد إلى نيوشاتل. وهكذا أثبت كونه صاحب رؤية وليس رجلًا نفعيًّا، وهو المبدأ الذي ظل ثابتًا عليه طوال حياته، حيث فضل الهزيمة في سبيل قضية عظمى على القبول بما اعتبره تسوية مذلة.
أخذ يخاطب الشخصيات الإيرانية البارزة في أوروبا ويراسلهم، وأخذ يصدر المنشورات ويرسل احتجاجات ضد الاتفاقية إلى عصبة الأمم. بل إنه سافر إلى برن من أجل إحضار ختم مطاطي خاص بلجنة المقاومة الشعبية ختمت به البيانات المناهضة للاتفاقية. ومن المؤكد أن الغضب والإحباط والوحدة كان لها تأثيرها السلبي على أعصابه، فمن المستبعد أنه كان في تلك الفترة مراقبًا من العملاء البريطانيين كما كان يتخيل، وأن أحد هؤلاء العملاء كان متخفيًا في صورة امرأة أنيقة جذابة مليئة بالحيوية تسكن بجواره نادته ذات مرة من الشرفة قائلة: «هل ترغب في التدخين هذا المساء؟» وشعرت بالإحباط عندما رد مصدق: «إنني في غاية الأسف يا سيدتي. إنني مريض. إنني مشغول. إنني متعب، ليس عندي وقت. بعد إذنك سيدتي.»
شعر مصدق بالإحباط الشديد لإخفاق مواطنيه في اتخاذ موقف غاضب من الاتفاقية البريطانية الإيرانية. وخلال بضعة أشهر توصل إلى أن القضية الوطنية الإيرانية قضية خاسرة وأنه لا مكان له في وطنه. وقرر أن يتقدم بطلب للحصول على الجنسية السويسرية ويقضي بقية عمره يمارس المحاماة هناك. ولكن للأسف كانت قوانين الهجرة السويسرية قد زادت صعوبة منذ آخر مرة فكر فيها في هذا الأمر، مما أدى إلى تأخير طلبه. ففكر في إنشاء شركة استيراد وتصدير وقرر السفر إلى إيران كي يقوم ببعض الترتيبات مع التجار هناك. وما إن وطئت قدمه أرض إيران حتى وجد نفسه متورطًا في السياسة مرة أخرى. ففي طريقه إلى طهران مر بمحافظة فارس الجنوبية، وعندما علم أعيان المنطقة بوجوده عرضوا عليه مبلغًا ضخمًا من المال كي يمكث هناك ويتولى منصب المحافظ. فوافق على البقاء ولكنه رفض العرض المالي وأصر على ألا يتقاضى راتبًا.
عند وصول رضا خان إلى السلطة عام ١٩٢١ حاول الاستفادة من مواهب مصدق الواضحة. ولكن شراكتهما كانت قصيرة المدى وحافلة بالأحداث التعيسة. تولى مصدق منصب وزير المالية، وهو المنصب الذي كان مؤهلًا له تمامًا، لكنه عند توليه المنصب شن حملة ضد الفساد شكلت تهديدًا على رضا شاه وأصدقائه، وسرعان ما اضطر إلى الاستقالة من منصبه. وبعد ذلك عُيِّن محافظًا لأذربيجان حيث كان السوفييت يحاولون إشعال ثورة انفصالية، ولكنه استقال عندما رفض رضا شاه أن يعطيه سلطة على القوات المتمركزة هناك. ثم تولى منصب وزير الخارجية لبضعة أشهر. وفي نهاية الأمر توصل إلى أن رضا شاه لا يشاركه طبيعته الديمقراطية ولا معتقداته المناهضة للاستعمار. فاستقال من وزارة الخارجية وترشح في المجلس وفاز في الانتخابات بسهولة. وهكذا نال حريته وسرعان ما أصبح من أشرس المعارضين لرضا شاه.
عندما انضم مصدق إلى المجلس عام ١٩٢٤، كان بالفعل سياسيًّا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أصبح يملك وعيًا عميقًا ببلاده ونظامها السياسي ونقاط ضعفها التي عزا معظمها إلى جشع السادة الأجانب. ولكنه لم يكن جزءًا من أي مؤسسة سياسية أو غير سياسية. وقد اعتبره العديد من الإيرانيين الأثرياء وذوي النفوذ خائنًا لطبقته الاجتماعية، وذلك بسبب إصراره على الحكم عليهم بنصوص القانون وليس بروحه. بل إن بعض مؤيديه كانوا يشعرون بالغضب من ثقته الشديدة بنفسه التي تدفعه إلى وصف منتقديه بأنهم أوغاد أو حمقى.
لم يكن مصدق بعينيه الناعستين اللتين تشبهان عيني كلاب الصيد وجبهته الأرستقراطية يبدو شخصًا يمكنه أن يهز أمة بأسرها … فهو يرى أن البرلمان هو الناطق الوحيد بلسان الشعب الإيراني. ومهما كانت الانتخابات صورية أو كان النواب فاسدين، فالبرلمان هو الجهة الوحيدة التي لا تعتمد في سلطتها على نفوذ خارجي أو على البلاط [الملكي] ولكن على سلطة الدستور. وهكذا أصبح المجلس هو المتنفس الوحيد له. وعندما أعاد أهالي طهران انتخابه مرات عديدة استخدم ذلك في إدانة سوء تصرف البريطانيين والروسيين ولاحقًا الأمريكيين. وعندما صرح قائلًا: «إن الإيراني نفسه أفضل من يدير منزله»، لم تكن تلك مجرد قناعة ولكن سياسة سوف يستمر في اتباعها بعزم لا يلين حتى ظهرت صورته على غلاف مجلة «تايم» وتسبب في هز قواعد مؤسسة النفط العالمية.
ومع أن مصدق كان يدافع عن حق الإيرانيين في تقرير المصير، فلم يكن يثق كثيرًا بزملائه النواب، ولم يسلم من سياط لسانه اللاذعة إلا قليل منهم. اتهمهم بالجبن والافتقار إلى روح المبادرة بل بعدم الوطنية. وكانت الانتقادات التي يوجهها من على المنبر مخيفة وتتميز بالطابع المسرحي. كانت يداه تشيران بحدة وتمتدان لا شعوريًّا كي تمسحا الدموع التي تنسال تلقائيًّا عند شعوره بالتوتر أو الغضب، وينتقد مستمعيه كما يفعل القس الذي يشاطر الضحايا آلامهم حتى وهو يكشف أقنعتهم … ولما كان شخصية بارزة تتميز بالعاطفية الشديدة والأرستقراطية، آمن ببلاده بشدة حتى إن كلماته تصل إلى قلوب الجميع وتؤثر في رجل الشارع. كان مصدق أول زعيم شعبي حقيقي في إيران، وهو يعلم ذلك جيدًا.
لو كانت إيران تواجه مشكلات داخلية فحسب، فسيذكر التاريخ مصدق بوصفه مدافعًا نشطًا عن الإصلاح والتحديث فحسب. ولكن أزمة إيران الكبرى تمثلت في علاقتها بالقوى الخارجية خاصة بريطانيا وعلى وجه التحديد شركة النفط البريطانية الإيرانية. وقد استسلم العديد من الإيرانيين لاستغلال تلك القوى، ولكن مصدق لم يكن أحدهم.
خلال الأشهر الأولى له في المجلس كان مصدق كثيرًا ما يطلب الكلمة. ويتناول موضوعات تتراوح بين الفساد العسكري والاحتياجات الصناعية الجديدة في إيران، لكن الموضوعات الرئيسة التي اهتم بها شملت الديمقراطية والاعتماد على النفس. أكد في إحدى خطبه قائلًا: «لو كان الازدهار يتحقق في أي بلد عن طريق تدخل الدول الأخرى، لاستقدمت كل دولة أجانب إليها. ولو أن الاستعباد مفيد لما سعت أي دولة إلى نيل حريتها عن طريق خوض الحروب الدامية وتكبد الخسائر الثقيلة.»
وفي التاسع والعشرين من أكتوبر عام ١٩٢٥ تلقى المجلس أقوى الاقتراحات في تاريخه على الإطلاق. وكان مقدموه هم مؤيدو رضا، حيث طالبوا بإنهاء حكم السلالة القاجارية وتعيين رضا في منصب الشاه. فزع مصدق لذلك الطلب. وعندما أتى دوره للحديث صمت جميع النواب. استهل مصدق حديثه بأن أتى بنسخة من المصحف وطالب الجميع بالوقوف كي يقسموا عليه على الدفاع عن النظام الدستوري. وبعد أن نفذ الجميع هذا الطلب ألقى مصدق أطول الخطب في ذلك اليوم وأكثرها عاطفية، حيث أشاد بإنجازات رضا، لكنه أكد أن رضا لو كان يرغب في حكم البلاد فعليه أن يتولى منصب رئيس الوزراء وليس الشاه. يعتبر تركيز السلطة الملكية والإدارية في يد رجل واحد نوعًا من «الرجعية والاستبداد»، وهو نظام فاسد لدرجة أنه «لا يوجد حتى في بلاد زنزبار». وبنوع من التشاؤم حذر مصدق من ميول رضا الاستبدادية، وتنبأ بأن جلوسه على العرش سوف يقود البلاد إلى الحكم الدكتاتوري المطلق.
وتساءل مصدق: «هل ضحى الناس بأرواحهم في الثورة الدستورية من أجل تحقيق الدكتاتورية؟ أقسم أنهم لو قطعوا رأسي ومثلوا بجثتي فلن أوافق على مثل هذا القرار.»
لم يكن مصدق يتوهم أن بإمكانه منع رضا من الجلوس على العرش. فقد كان رضا نموذجًا للقوة الصاعدة في دولة على شفا الانقراض، وبعد يومين من خطاب مصدق الناري أدرك المجلس تلك الحقيقة ووافق على تتويجه. في تلك المناسبة وضع رضا التاج المزين بالريش والمرصع بالجواهر على رأسه مثلما فعل نابليون، مما يرمز إلى عقده النية على الحكم حسب مشيئته الخاصة، ولبضعة أشهر حكم بمفرده، وبعد أن وطد دعائم حكمه عيَّن رئيسًا للوزراء وطالبه بتعيين مصدق وزيرًا للخارجية. وكانت حركة ذكية منه. فمصدق يتمتع بشعبية جارفة وأوراق اعتماد للمبادئ القومية لا تشوبها شائبة بإمكانها أن تفيد النظام الجديد. ولكن لم يفاجأ أحد برفض مصدق لذلك العرض. فقد كان مستمتعًا بالعمل الحر، وأدرك بلا ريب أن رفضه للدكتاتورية سوف يضعه قريبًا في صراع مع الشاه الجديد. ولم يكتفِ برفضه عرض الانضمام إلى مجلس الوزراء، بل ندد بهذا المجلس عند تشكيله. وفي خطابه اتهم اثنين من الوزراء القادمين بالخيانة بسبب دورهما في التفاوض بشأن الاتفاقية البريطانية الإيرانية.
وعلى مدار الأشهر التالية عرض رضا شاه على مصدق مناصب عديدة في الحكومة، وفيها قاضي القضاة ورئيس الوزراء، ولكن مصدق رفضها كلها. وبعد إعادة انتخابه في المجلس في نهاية عام ١٩٢٦، رفض أن يؤدي القسم لأنه كان يتضمن تعهدًا باحترام سلطة الشاه. وكان من المفترض أن يمنعه ذلك من تولي منصبه، ولكن نظرًا إلى قوة حضوره وإرادته لم يجرؤ أحد على تحديه.
وعلى غرار المؤسسات الأخرى في إيران، سرعان ما تقلص دور المجلس إلى الموافقة الروتينية فقط على القرارات التي يتخذها رضا شاه. فقد حظر إنشاء أحزاب المعارضة وحرم زعماءها من ممارسة الحياة العامة. وفور أن بدأت تلك الحملة القمعية كان لا بد أن يكون مصدق من قائمة ضحاياها. وعند اقتراب الانتخابات التي أجريت عام ١٩٢٨ أصدر رضا شاه أوامره بإحصاء الأصوات الانتخابية بطريقة تضمن ألا يفوز أي معارض له. فكان مصدق من ضمن الخاسرين. وفي سن الخامسة والأربعين بدا أن مستقبله السياسي قد انتهى.
كانت هناك العديد من المسارات المتاحة أمام السياسي المخلوع. فيمكنه تخفيف حدة معارضته لرضا شاه ومحاولة العمل داخل إطار النظام، ونظرًا إلى قوة مبادئه أصبح هذا الخيار مستحيلًا. ويمكنه تحدي النظام عن طريق إطلاق حملة تخريبية، وهو ما كان من الممكن أن يؤدي إلى اغتياله، حيث إن العديد من حلفاء رضا شاه القدامى لاقوا نفس المصير عندما بدأ يشك في إخلاصهم. أما الخيار الأخير فقد كان الأمثل ليس لتلك المرحلة فحسب، بل أيضًا لشخصية مصدق. فقد اختفى عن الأنظار وعاد إلى ضيعته الريفية في أحمد آباد التي تقع غرب طهران بستين ميلًا، وكرس نفسه للدراسة وإجراء التجارب الزراعية. واختفى اسمه تمامًا من الصحف ومن الخطاب الشعبي. وبينما كانت قوة رضا شاه آخذة في الازدياد، أخذت صورة مصدق تبهت حتى اختفت تقريبًا. وافترض معظم الإيرانيين أن أهميته قد انتهت. وحتى هو شخصيًّا اعتقد ذلك.
وبعد مرور الأعوام الأولى من منفاه الاختياري، وبعد أن أرهقه عناء الوحدة وصدمته أخبار اتفاقية ١٩٣٣ التي أعاد رضا شاه بموجبها تأكيد حق الشركة البريطانية الإيرانية في إدارة صناعة النفط في البلاد، سقط مصدق فريسة للمرض. كان ينزف من فمه بغزارة حتى إنه سافر عام ١٩٣٦ إلى ألمانيا لاستشارة الأطباء المختصين، ولكنهم لم يتمكنوا من تشخيص تلك الحالة. ولكن حتى وهو في تلك الحالة من الضعف، كان رضا شاه يخشاه. وفي يوم من عام ١٩٤٠ اقتحم الجنود منزله في أحمد آباد وفتشوه بدقة بحثًا عن أدلة قد تورطه في عمليات التخريب، ثم قبضوا عليه رغم أنهم لم يجدوا شيئًا. وفي قسم الشرطة احتج مصدق ساخطًا على الضابط مستشهدًا بقانون يجب بموجبه إما توجيه تهمة محددة إلى السجين أو إطلاق سراحه خلال أربع وعشرين ساعة. لكن الضابط رد قائلًا إن القانون الوحيد الذي يعلمه هو إرادة رضا شاه الذي أمر بإيداع مصدق السجن لأجل غير مسمى دون تهمة محددة. مما جعل مصدق يشتعل غضبًا. واضطروا إلى سحبه إلى السيارة التي كانت بانتظاره كي تقله إلى السجن. وفي الطريق إلى السجن تناول جرعة زائدة من المهدئات في محاولة منه للانتحار، ولكنه سقط في غيبوبة فحسب. وفي الزنزانة ظهرت عليه علامات «الهستيريا المزمنة» طبقًا لوصف سجانه، حيث حاول الانتحار بشفرات الحلاقة والإضراب عن الطعام. وبعد عدة أشهر، وبفضل شفاعة إرنست بيرون — وهو صديق سويسري للشاه تلقى علاجًا ذات مرة في إحدى المستشفيات التي تبرعت بإنشائها والدة مصدق — سمح له بالعودة إلى أحمد آباد تحت الإقامة الجبرية في المنزل.
وطوال عشرين عامًا قضى مصدق بعضها في العمل السياسي والبقية في غياهب النسيان، ظل مصدق يعتبر الشاه ونظامه أكبر أعداء إيران. وفجأة رحل رضا شاه. غيَّر هذا كل شيء للأمة ولمصدق نفسه. كانت الانتخابات التي أجريت عام ١٩٤٣ أول انتخابات حرة منذ سنوات عديدة. وخرج مصدق من عزلته ورشح نفسه مرة أخرى في المجلس، وحصل على أصوات أكثر من بقية المرشحين. ومع أن عدوه القديم خُلع عن عرشه، فهناك عدو جديد أشد قوة يقف في طريق أحلامه لإيران. فالبريطانيون وتحديدًا شركة النفط البريطانية الإيرانية تسيطر على البلاد سيطرة غير مسبوقة. وهنا كان على مصدق أن يتفرغ لهم.