الفصل الخامس

أوامر سيده

في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، عندما كانت إيران تمزقها الثورات الانفصالية وتستنزفها شركة النفط البريطانية الإيرانية، كان محمد رضا شاه مهتمًّا بالسيارات الرياضية وسباق الخيل والنساء. بل إنه أصبح ضيفًا ثابتًا على الحفلات الدولية، حيث كان يفضل ملاهي لندن الليلية وأقام سلسلة من العلاقات مع بعض ممثلات الدرجة الثانية من أمثال إيفون دي كارلو وجين تيرني وسيلفانا مانجانو. وقد حاول أكثر من مرة أن يعمل على توطيد مركزه المتزعزع في بلاده عن طريق القمع والتلاعب بالأصوات، لكنه لم ينجح إلا في أن يجعل من نفسه أضحوكة. أطلقت عليه الصحف خادم بريطانيا المطيع. وعقدت اللقاءات الجماهيرية من أجل التنديد به. وكان غافلًا عن الاحتقار الذي يكنه له العديد من الإيرانيين، ولم يكن يتخيل أن هناك أي خطر على حياته عندما زار جامعة طهران كي يحضر احتفالًا بإحدى المناسبات.

كان الثلج يتساقط في ذلك اليوم الموافق الرابع من فبراير عام ١٩٤٩. خرج الشاه من السيارة واقترب من السلم فأخرج شاب متنكر في هيئة مصور فوتوغرافي مسدسه وبدأ يطلق الرصاص عليه. كانت المسافة التي فصلت بين الرجلين ست أقدام فحسب، لكن الرجل أثبت أنه لا يجيد التصويب بأي حال من الأحوال. فقد انطلقت الرصاصات الثلاث الأولى لتصيب القبعة العسكرية التي يرتديها الشاه. وفي رد فعل عكسي تحوَّل الشاه باتجاهه، فأصابته طلقة رابعة في خده الأيمن. أسرع الحرس واللواءات وضباط الشرطة يختبئون لحماية أنفسهم، ولم يهتم أحد بإنقاذ حياة الشاه، بل تركوا الرجلين في مواجهة للحظة. وانحنى الشاه بينما كانت الرصاصة الخامسة تدوي وتصيب كتفه. ولم يتبقَّ سوى رصاصة واحدة، فصوب الرجل مسدسه إلى صدر الشاه مباشرة وجذب الزناد. ولكن لم يصدر سوى صوت خافت. لقد تعطل المسدس فجأة.

عندما زال الخطر انطلق مسئولو الأمن يكيلون الضربات للقاتل وأطلقوا الرصاص عليه. واستغرق الأمر بضع دقائق من محمد رضا شاه — الذي كان في ذلك الوقت يبلغ من العمر تسعة وعشرين عامًا — كي يتمالك أعصابه. وأعلن — وهو لا يزال يلهث — أن العناية الإلهية قد أنقذته. وربما يكون قد صدق ذلك بالفعل. وفي اليوم التالي أرسل زيه الملطخ بالدماء إلى نادي الضباط وأمر بوضعه في نافذة للعرض. وسرعان ما قرر أنه قد حان الوقت ليفرض إرادته على إيران كما فعل والده من قبل.

كانت إيران قد بدأت عهدًا جديدًا عندما تنازل رضا شاه عن العرش عام ١٩٤١. وشعر العديد من رعاياه بالابتهاج لرحيله، ومنهم الآلاف من العائلات القبلية التي هجرت في الحال المستوطنات البائسة التي جمعهم فيها كالقطيع وعادوا إلى حياتهم البدوية في الجبال. بينما شعر آخرون، ومنهم من اكتوَوا بنيران حكمه القاسية، بأنهم قد خسروا الحصن الوحيد للبلاد من الفوضى وحكم الأجانب. وشعر معظم الناس بمزيج من الارتياح والتوجس يشبه ما يشعر به الطلاب المشاكسون عندما يصاب معلمهم الصارم بالمرض ويتغيب عن المدرسة. وانتعشت الصحف والأحزاب السياسية والاتحادات العمالية والمنظمات الاجتماعية، ولكن صاحَب ذلك ازدهار العصابات الإجرامية أيضًا. وشيئًا فشيئًا ذاب الخوف من السلطة الذي غرسه رضا شاه في نفوس الناس. فعندما وبخت إحدى سيدات الطبقة العليا سائقها الخاص لسيره عكس الاتجاه أجاب: «أوه! لا يهم، لقد رحل رضا شاه.»

وبعد إجبار ذلك الزعيم المهيب على التنازل عن العرش، فكر البريطانيون أولًا في إعادة السلالة القاجارية السيئة السمعة إلى الحكم. ولكن بعد أن أدركوا أن المُطالب بالعرش الذي يعيش في لندن لا يتحدث الفارسية قرروا السماح لمحمد رضا بالجلوس على العرش. وعقب تتويجه مباشرة طالبوه بتعيين محمد علي فروغي، وهو سياسي مؤيد لبريطانيا، في منصب رئيس الوزراء. وهكذا حكموا إيران فعليًّا عن طريقه. وكي يثبِّتوا سلطانهم هناك عملوا على إحياء الطراز القديم الذي قُسمت البلاد بموجبه إلى ثلاثة قطاعات. كانت القوات السوفييتية تسيطر على الشمال والبريطانية تسيطر على المقاطعات الجنوبية التي تضم حقول النفط ومصفاة التكرير في عبدان والطريق البري إلى الهند. واستمر الإيرانيون في فرض سيطرتهم على طهران وبقية وسط البلاد، ولكن تحت مراقبة المستعمر.

استفاد الحلفاء من إيران أثناء الحرب، ليس عن طريق استخراج كميات ضخمة من النفط فحسب، بل أيضًا عن طريق بناء قواعد إمداد عديدة استخدموها في بدء العمليات العسكرية عبر أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكن المواطنين الإيرانيين العاديين وجدوا أن مستوى المعيشة ينخفض بسرعة شديدة. فمعظم الغذاء يذهب إلى العسكريين بدلًا من المدنيين. واستخدمت الشاحنات والسكك الحديدية في الأغراض العسكرية. وارتفعت الأسعار مع انتعاش البورصة، وأدت قلة المحاصيل إلى تضور كثيرين جوعًا. وأقيل فروغي عندما أصبح هدفًا لسخط الجماهير، ولكن من خلفوه في المنصب لم يحققوا أي نجاح يذكر.

طوال فترة الحرب ووقوع إيران في قبضة الاحتلال العسكري صمتت المعارضة تمامًا. ولكن الحياة السياسية بدأت تُستأنف شيئًا فشيئًا. أدرك الجميع أن الحرب والاحتلال ظروف مؤقتة فقط. وفور أن تنتهي ستوجد أمة جديدة عليهم بناؤها.

لم يتمكن محمد رضا شاه أو رؤساء الوزارة الكثيرون الذين تعاقبوا على إيران من الاستحواذ على اهتمام الجماهير خلال فترة الأربعينيات من القرن العشرين. وكان الشخص الوحيد الذي تمكن من ذلك هو الجندي الأمريكي اللافت للأنظار إتش نورمان شوارتسكوف الذي دخل البلاد عام ١٩٤٢ قائدًا لمهمة عسكرية. كان شوارتسكوف قد تخرَّج في الكلية العسكرية الأمريكية (ويست بوينت) وأصبح رئيسًا لشرطة ولاية نيوجيرسي. وأصبح شخصية معروفة أثناء إدارته التحقيق في قضية اختطاف ليندبرج، وقضى أعوامًا عديدة يؤدي دورًا في الدراما الإذاعية «مروضو العصابات» (جانج باسترز). وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية التحق بالجيش مرة أخرى وأُرسل إلى إيران. كلفه قادة الحلفاء بتحويل قوات الشرطة الريفية البسيطة إلى وحدة على أعلى مستوى، وقد أدى تلك المهمة باستمتاع شديد. وطوال ستة أعوام تخللتها فترات عصيبة من مظاهرات الخبز والاحتجاجات الأخرى، ظهر هو ورجال الشرطة الملكية الإيرانية أينما حدثت مشكلة. وفي الوقت ذاته كان يتولى الإشراف على تدريب فرقة أمنية سرية أصبحت فيما بعد الأداة التي يُعاقب بها اليساريون والمنشقون. وقد أصيب العديد من الإيرانيين بالذعر من ذلك الشخص الجبار، ذلك المنتقم المخيف الذي حمل سلطة الشاه معه في كل شبر من البلاد. وفي مصادفة تاريخية غريبة عاد ابنه الجنرال إتش نورمان شوارتسكوف أيضًا إلى المنطقة قائدًا لعملية عاصفة الصحراء عام ١٩٩٠-١٩٩١، وترك بصمة باقية في تاريخ المنطقة.

•••

كان الإيرانيون في منتصف القرن العشرين يبحثون عن حلول جديدة لمشكلاتهم المزمنة من الفقر والتخلف، وعلى غرار ما حدث في الدول الأخرى اعتنق بعضهم المذهب الشيوعي الناشئ. وفي ثلاثينيات القرن العشرين أمر رضا شاه بحبس العشرات من الأساتذة والمنظمين السياسيين ذوي الميول اليسارية، وقد قضوا وقتًا طويلًا يتناقشون في السياسة وهم خلف القضبان. وعند إطلاق سراحهم بعد تنازل رضا شاه عن العرش أنشئوا مجموعة أطلقوا عليها مجموعة الثلاثة والخمسين وشرعوا في البحث عن برنامج سياسي جديد. فانضم بعضهم إلى مجموعة مفككة من الليبراليين والمصلحين والنشطاء الاجتماعيين كي ينشئوا أول حزب سياسي حقيقي في إيران وهو حزب تودة (أي حزب الجماهير). وفي المؤتمر التأسيسي الذي عقد عام ١٩٤٢ تبنى الحزب برنامجًا تقدميًّا يعتمد على مبدأ التزام الحكومة بحماية المواطنين البسطاء من استغلال الأغنياء. وأيد الحزب الإصلاح الشامل رغم أنه لم يكن ثورة أو حزبًا شموليًّا. ولما كان الحزب وطنيًّا مثاليًّا يتمتع بروح الشباب بدا أنه حركة واعدة. وقد سمح له البريطانيون بالعمل، ودعمه المسئولون الحكوميون السوفييت نظرًا إلى وجود الشيوعيين بين صفوفه.

ولفترة من الزمن ازدهر حزب تودة بوصفه حزبًا عصريًّا على الطراز الأوروبي. لكن المجموعة المؤيدة للسوفييت به ازدادت قوة حتى تمكنت من السيطرة على الحزب عام ١٩٤٤. وهنا تحوَّل حزب تودة نحو الماركسية وأطلق حملة منظمة بين فقراء المدن. وحققت تلك الحملة نجاحًا باهرًا حتى إنها تمكنت في يوم مهرجان الربيع في عام ١٩٤٦ من ملء شوارع طهران وعبدان بعشرات الآلاف من المتظاهرين المتحمسين. وفاز العديد من قادتها في انتخابات المجلس في ذلك العام، واستمروا في محاولاتهم لإصدار قوانين للحد من عمالة الأطفال وتحديد عدد ساعات العمل بثمانٍ وأربعين ساعة في الأسبوع وضمان حق الأمهات في إجازة رعاية الطفل ووضع حد أدنى للأجور.

أغرت قوة حزب تودة المتزايدة الاتحاد السوفييتي بتوجيه ضربة جريئة إلى إيران. فأثناء الحرب العالمية الثانية اتفقت ثلاث من قوى الحلفاء على سحب قوات الاحتلال التابعة لها من إيران بعد انقضاء ستة أشهر على انتهاء الحرب، ولكن عندما جاء ذلك الموعد أوائل عام ١٩٤٦ تجاهله ستالين. وقد ذكر تهديدات غامضة موجهة إلى الأمن السوفييتي. وبناء عليه صرح بأن الجيش الأحمر سيظل في مقاطعة أذربيجان شمالي إيران. وعندما أعلن نشطاء حزب تودة قيام جمهورية أذربيجان الشعبية أمر ستالين قواته بمنع الجنود الإيرانيين من دخول المقاطعة لإعادة توطيد سلطتهم هناك، وسرعان ما تكون جيش محلي مجهز بأسلحة من موسكو. ولفترة من الزمن بدا أن أذربيجان قد تنفصل تمامًا وتنضم إلى الاتحاد السوفييتي أو تصبح نقطة انطلاق لحركة سوفييتية مضادة لتركيا. لكن الآذريين كانوا يتذكرون رضا شاه جيدًا، ولم يتحملوا فكرة السقوط في براثن دكتاتور آخر. وسافر رئيس الوزراء أحمد قوام السياسي المحنك إلى موسكو وتمكن من إقناع ستالين بالامتناع عن المواجهة. فأمر بسحب قواته بينما كانت قوات الجنرال شوارتسكوف تزحف إلى العاصمة الإقليمية تبريز. وهكذا طوى التاريخ جمهورية أذربيجان الشعبية بين صفحاته. واحتفل الشعب الآذري بإعدام كل زعماء تودة الذين طالتهم أيديهم على الفور.

كان محمد رضا شاه محقًّا في خشيته من حزب تودة المعادي للملكية، ولكن لعدة أعوام بعد حادث أذربيجان لم يتمكن من العثور على طريقة للوقوف ضده. وبعد محاولة الاغتيال التي وقعت عام ١٩٤٩ عثر على ضالته المنشودة. كانت جميع الأدلة تشير إلى أن منفذ محاولة الاغتيال شخص متعصب دينيًّا، لكن الشاه تجاهلها واتهم حزب تودة بتنظيم تلك المحاولة. وأمر بحظر الحزب وإيداع العشرات من زعمائه السجن.

انتهز الشاه فرصة التعاطف الشعبي الذي خلفته حادثة الاغتيال كي يتخذ مزيدًا من الخطوات لزيادة قوته. فأمر بإنشاء مجلس تشريعي آخر وهو مجلس الشيوخ الذي صُرح بإنشائه بموجب دستور عام ١٩٠٦ ولم يدخل حيز التنفيذ قط، حيث كان معجبًا بمادة الدستور التي تمنحه الحق في تعيين نصف أعضاء مجلس الشيوخ. ثم أقنع المجلس بالموافقة على مشروع قانون يمنحه الحق في حل المجلسين والدعوة إلى عقد انتخابات جديدة حسب مشيئته. وفي نهاية الأمر تمكن من حمل المجلس على تغيير الطريقة التي يعين بها رؤساء الوزارة. فبموجب الدستور يختارهم المجلس ويعطي الشاه موافقته، ولكن منذ ذلك الحين فصاعدًا كان الأمر سيدار بالعكس؛ إذ يختار الشاه المرشح ويصوت المجلس عليه بالموافقة أو الرفض.

اتخذ محمد رضا شاه تلك الخطوات بدعم سري من البريطانيين. ولأعوام عديدة ظل البريطانيون يعتبرون أنه من المنطقي أنهم ما داموا يملكون مصالح تجارية حيوية في إيران، فعليهم الحفاظ عليها في حالة استقرار. فلم يكن محمد رضا شاه قادرًا على الجلوس على العرش دون موافقتهم، وأدرك هو تمامًا الجميل الذي يطوقون عنقه به. وعندما بدأت الاحتجاجات العنيفة في مصفاة التكرير عام ١٩٤٦ جاءوا كي يستردوا ذلك الجميل.

أدت أعمال الشغب التي وقعت في عبدان إلى انضمام العديد من الإيرانيين إلى قضية العمال، ليس بدافع التعاطف الغريزي فحسب، بل أيضًا بسبب الشروط الظالمة الخاصة بشركة النفط البريطانية الإيرانية. ففي عام ١٩٤٧ على سبيل المثال حققت الشركة أرباحًا صافية بلغت قيمتها ٤٠ مليون جنيه إسترليني، أو ما يوازي ١١٢ مليون دولار أمريكي، وكان نصيب إيران منها سبعة ملايين جنيه إسترليني فقط. ومما زاد الأمر سوءًا أنها لم تفِ بالتزاماتها بموجب اتفاقية عام ١٩٣٣ مع رضا شاه برفع أجور العمال وإتاحة المزيد من الفرص للترقي، ولم تنشئ أيضًا المدارس والمستشفيات والطرق وشبكة الهواتف التي وعدت بإنشائها. وقد صدم مانوشير فرمان فرمائيان الذي أصبح مديرًا للمعهد الإيراني للنفط عام ١٩٤٩ بما وجده في عبدان:

لم تكن الأجور تتجاوز خمسين سنتًا في اليوم. كان ذلك بلا إجازات مدفوعة الأجر ولا إجازات مرضية ولا تعويضات عن الإعاقة. وكان العمال يعيشون في مدينة حقيرة تدعى كاغاز آباد أي مدينة الورق، ولم تكن بتلك المدينة مياه جارية أو كهرباء، فضلًا عن عوامل الرفاهية مثل الثلاجات والمراوح. في الشتاء تغرق الأرض وتصبح بحيرة كبيرة تنضح بالمياه. ويغوص الناس في الوحل ويستخدمون القوارب في الانتقال عبر الطرق. وعندما تهدأ حدة الأمطار تظهر أسراب من الذباب الصغير من المياه الراكدة لتنتشر في الجو وتتجمع في أكوام سوداء حول حواف قدور الطهي وتتسبب في انسداد المراوح الخاصة بمصفاة التكرير بمادة زلقة.

وكان الصيف أسوأ حالًا. يبدأ فجأة دون أي بادرة من بوادر الربيع. وكانت الحرارة قاتلة والرطوبة خانقة تزهق الأنفاس، والرياح وعواصف الصحراء تلفح الأرض بعنف. وتحوَّلت مساكن كاغاز آباد المصنوعة بطريقة بدائية من صفائح النفط الصدئة إلى أفران خانقة … وفي كل ركن تفوح رائحة النفط المحترق الكبريتية الخانقة، وهو ما يعد تذكيرًا يوميًّا مؤلمًا بأن عشرين ألف برميل من النفط، أو ما يوازي مليون طن سنويًّا، تُستهلك في تشغيل مصفاة التكرير، ولكن شركة النفط لم تدفع مليمًا للحكومة في المقابل.

كان طاقم إدارة شركة النفط في قمصانهم الفاتحة المكوية ومكاتبهم المكيفة يعتبرون العمال عالة عليهم … ففي القسم البريطاني من عبدان مروج وأحواض للزهور وملاعب للتنس وحمامات للسباحة ونوادٍ، أما في كاغاز آباد فلم يكن هناك شيء على الإطلاق، لا مقاهي ولا حمامات ولا أشجار. بل إن حمام السباحة المكسو بالبلاط العاكس للضوء والميدان الرئيس المظلل اللذين كانا علامة مميزة في كل المدن الإيرانية مهما كانت فقيرة أو مجدبة لم يكونا موجودين. والممرات غير المرصوفة تملؤها الفئران. يبيع البقال بضاعته وهو جالس في برميل من الماء كي يلطف من حدة الجو. لم يكن هناك باعث على الأمل سوى المسجد المتهالك المبني بالطوب اللبن في الحي القديم، وهو رمز الخلاص الإلهي.

تحت قيادة السير ويليام فريزر، وهو رجل اسكتلندي عُرف عنه العناد وكراهية المساومة، رفضت شركة النفط كل المطالب بالإصلاح. ولم يكن الموقف العدواني لفريزر والحكومة البريطانية مستغربًا. فقد تربعت بريطانيا على عرش القوة العالمية بسبب نجاحها في استغلال الموارد الطبيعية للدول التابعة لها. وكان أكثر من نصف أرباح شركة النفط يصب مباشرة في جيوب الحكومة البريطانية التي كانت تمتلك ٥١٪ من الأسهم. وكانت الشركة تدفع الملايين من الجنيهات سنويًّا على هيئة ضرائب، بالإضافة إلى إمدادها القوات البحرية البريطانية بالنفط الذي تحتاجه في مقابل جزء بسيط من أسعار السوق. ولم يكن وزير الخارجية إرنست بيفين يبالغ عندما علق قائلًا إنه لولا النفط الإيراني «لما كان هناك أمل في تحقيق مستوى المعيشة الذي نحلم به في بريطانيا العظمى».

بالطبع كان من الصعب أن يتعاطف الإيرانيون مع البريطانيين. فبدأ أعضاء المجلس يطالبون شركة النفط بتقديم عرض أفضل لإيران، وعام ١٩٤٩ تقدم عشرة من الأعضاء بمشروع قانون لإلغاء الامتياز الممنوح للشركة. وأصبح الضغط الذي يمارسونه والخطر الواضح لاستمرار العنف في عبدان أشد من أن يتجاهله البريطانيون. فكانوا في حاجة إلى إطار جديد لإعادة إضفاء ثوب من الشرعية على وضعهم في إيران.

بعد ثلاثة أشهر من محاولة اغتيال الشاه وصل فريزر إلى طهران كي يقدم عرضه. وعرف العقد الذي تقدم به باسم الاتفاقية التكميلية، وذلك لأنها كانت تكمل الاتفاقية التي وقعها رضا شاه عام ١٩٣٣. وضمت تلك الاتفاقية امتيازات عديدة لإيران، مثل ضمان ألا تقل الأرباح السنوية للشركة عن أربعة ملايين جنيه إسترليني وتقليل المساحة المسموح فيها للشركة بالحفر ووعد بتدريب المزيد من الإيرانيين على تولي الوظائف الإدارية. ولكنها لم تمنح الإيرانيين المزيد من الحقوق في إدارة الشركة أو مراقبة دفاتر حساباتها. وقد اعتبر رئيس الوزراء الإيراني هذا العرض أساسًا للمناقشة ودعا فريزر إلى التفاوض. ولكن فريزر طرده وأعلن أن ذلك العرض نهائي لا يقبل المناقشة وغادر البلاد متجهًا إلى لندن على متن طائرته الخاصة.

وبعد خروج فريزر غاضبًا من طهران قال وزير المالية عباس أوغلي جولشايان متحسرًا: «إن البريطانيين يريدون الاستيلاء على العالم بأكمله.» ولكن محمد رضا شاه الذي كان يدرك جيدًا أن عليه تنفيذ رغبات البريطانيين أمر مجلس الوزراء بالموافقة على الاتفاقية التكميلية، وبالفعل أصدر مجلس الوزراء موافقته عليها في السابع عشر من يوليو عام ١٩٤٩. ولكن كي تدخل حيز التنفيذ كان يتحتم أن تحصل على موافقة المجلس، وهو ما كان خارج نطاق سلطة الشاه.

استنكر العديد من أعضاء المجلس تلك الاتفاقية علانيةً، وذلك حتى قبل أن يصدر مجلس الوزراء موافقته عليها. وانقلب البعض الآخر ضدها عندما قدم جولشايان وزير المالية — الذي من المفترض أن يجعله منصبه خادمًا مطيعًا للبريطانيين — تقريرًا من خمسين صفحة كُلِّفَ بكتابته جيلبرت جيدل أستاذ القانون الدولي المعروف بجامعة باريس يثبت فيه الخدع المحاسبية التي كانت شركة النفط بموجبها تحرم إيران من حقها في الحصول على مبالغ مالية ضخمة. وألقى عباس إسكندري أحد النواب الغاضبين خطبة نارية يشجب فيها الاتفاقية، وأنهى خطبته بتحذير بعيد المدى لم يكن هو شخصيًّا يتخيل تداعياته. طالب إسكندري شركة النفط بتوزيع الأرباح مناصفة مع إيران كما تفعل شركات النفط الأمريكية في دول عديدة. وحذر أنه في حال رفضها، سوف «تؤمم إيران صناعة النفط وتستخرج النفط الخام بنفسها.»

كانت دورة المجلس قد أوشكت على الانتهاء والانتخابات على الأبواب. والعديد من النواب لا يريدون إثارة غضب الشاه عن طريق معارضة الاتفاقية، ولكن نظرًا إلى هياج الرأي العام لم يتمكنوا من الموافقة عليها. فاختاروا المماطلة. وطوال أربعة أيام ترددت في المجلس أصوات الاحتجاجات ما بين معارض للاتفاقية ومستنكر للخيانة العظمى في حق بريطانيا. وفي نهاية الأمر انتهى الوقت. وتركت الاتفاقية للمجلس التالي كي يقرر مصيرها.

لم يكن محمد رضا شاه راضيًا عن مجرى الأحداث، وقرر أن يبذل كل ما في وسعه كي يضمن أن يأخذ المجلس التالي رأيه في الاعتبار. وباستخدام مجموعة من الوسائل التي تتراوح بين اختيار المرشحين المؤيدين للشاه إلى الرشوة والتزوير الانتخابي الفاضح، تمكن الشاه من ضمان انتخاب العديد من النواب القابلين للإذعان. ولكن ثبت خطأ افتراضه بأنه قد يتمكن من خداع الناخبين كما فعل والده من قبل. فقد كان الإيرانيون متعطشين للديمقراطية ولم يعد ترويعهم لإجبارهم على الصمت ممكنًا. وهكذا اندلعت الاحتجاجات في مدن كثيرة. وأصبح الغضب على أشده في طهران حيث خسر المرشحون القوميون بقيادة البطل الشعبي محمد مصدق في الانتخابات.

أصدر مصدق بيانًا يدعو فيه كل من يؤمن بالانتخابات النزيهة إلى التجمع أمام منزله في الثالث عشر من أكتوبر. وبالفعل تجمع الآلاف من الناس أمام منزله وقادهم إلى القصر الملكي. وعندما وصلوا إلى بوابة القصر استدار كي يواجههم وألقى عليهم خطبة نارية، ثم أعلن أنه لن يتحرك من مكانه إلا إذا وافق الشاه على إقامة انتخابات جديدة نزيهة. وبالفعل أوفى بوعده. وطوال ثلاثة أيام وليالٍ ظل هو والعشرات من الديمقراطيين جالسين في حديقة القصر. وفي نهاية الأمر استسلم الشاه، حيث كان على وشك أن يبدأ جولة في الولايات المتحدة، ولم يكن يرغب في الشعور بالإحراج أمام العالم.

•••

باتخاذه قرارًا بالسفر إلى الولايات المتحدة، كان الشاه يدرك ظهور قوة عالمية جديدة سوف تساهم في تشكيل التاريخ الإيراني أكثر مما يتخيل أحد. وكان الرئيس ترومان يأمل في استغلال الزيارة التي امتدت لعدة أسابيع في شهري نوفمبر وديسمبر في إقناع العاهل الشاب بتكريس جهوده لتحسين الظروف المعيشية لشعبه. فقد كان مقتنعًا بأن الإصلاح الاجتماعي وليس القوة العسكرية هو ما يحمي إيران من خطر الشيوعية.

أرسل ترومان طائرته الخاصة إنديبندنس كي تقل الشاه إلى واشنطن لاستضافته في بلير هاوس. ثم ذهب الشاه إلى نيويورك حيث كُرِّم في متحف الفن بالعاصمة، وانطلق بعد ذلك إلى مجموعة من الأماكن التي لا توجد غالبًا في مسار الرحلات الخاص بالشخصيات الأجنبية المهمة، ومنها إيداهو وكنتاكي وأريزونا وأوهيو. وأقامت كبريات الشركات مثل لوكهيد وجنرال موتورز ولائم عشاء ضخمة احتفالًا به. وأقامت وزارة الخارجية ترتيبات لتكريمه في برينستون وجامعة ميشيجان. وشاهد مباراة في كرة القدم بين جورج تاون وجورج واشنطن، وقبل بدء المباراة تقلد منصب المدرب الشرفي لفريق جورج واشنطن. وفي كلٍّ من ويست بوينت وأنابوليس حيَّوه بإحدى وعشرين طلقة.

ولكن خلف الكواليس لم تسِر زيارة الشاه على ما يرام. ففي اجتماعاته مع ترومان ووزير الخارجية دين أتشيسون والجنرال عمر برادلي رئيس مجلس الأركان أصر على أن إيران بحاجة إلى جيش أكبر ومزيد من الأسلحة. فطالب بالمزيد من الدبابات والأسلحة المضادة للدبابات والشاحنات ومستودعات ضخمة من الذخائر، بالإضافة إلى الأموال اللازمة لتجنيد عشرات الآلاف من الجنود وإعطاء دورات تدريبية متقدمة لمزيد من فرق الضباط. وكانت عقليته الأحادية مفهومة. فبموجب الدستور الإيراني يتحكم الشاه في الجيش فحسب، ولذلك كان وجود جيش قوي مفتاحًا لقوته. وعندما حاول مضيفوه إدارة عجلة الحديث إلى قضية الاحتياجات الاجتماعية لإيران، أصبح غير مبالٍ بالأمر. ولفت أتشيسون نظره إلى أهمية الانتباه إلى ما حدث في الصين، فالزعيم القومي شيانج كاي شيك تمتع بالتفوق العسكري ولكنه خسر في مواجهة مجموعة من الشيوعيين الغوغاء، وذلك بسبب اعتماده على «القوة العسكرية فحسب». ولم يتمكن الجانبان من التوصل لاتفاق. وفي نهاية الأمر أرسل ترومان ضيفه عائدًا إلى الديار دون المساعدات العسكرية التي طلبها. وأعلن في البيان المشترك الذي صدر عند رحيل الشاه أن الولايات المتحدة سوف «تفكر» في مطالبه من المساعدات العسكرية.

وبعد إخفاقه في إقناع الأمريكيين بتمويل القاعدة العسكرية التي كانت مطلبه المنشود، عاد الشاه إلى إيران كي يجد خصومه أكثر تنظيمًا لصفوفهم من ذي قبل. كشفت موافقته على إلغاء نتائج الانتخابات المزورة عن قوته المحدودة. وكان لها أيضًا تأثير آخر أبعد مدى، فبعد أن غادر المعتصمون القصر عقب نجاح اعتصامهم اجتمع عشرون منهم في منزل مصدق، واتخذوا قرارًا في غاية الأهمية. تمثل القرار في استثمار النجاح الذي حققوه عن طريق تشكيل تحالف جديد من الأحزاب السياسية والاتحادات العمالية والمجموعات المدنية والمنظمات الأخرى يهدف إلى تعزيز الديمقراطية والحد من النفوذ الأجنبي في إيران. وأطلقوا على ذلك التحالف اسم الجبهة الوطنية، واختير مصدق بالإجماع قائدًا لها. وبوقوف منظمة رسمية إلى جواره لأول مرة وتعاطف الرأي العام معه، كان مؤسس الجماعة البالغ من العمر سبعة وستين عامًا يمتلك كل الأدوات اللازمة لتحدي النظام السياسي على نحو سافر.

فاز مصدق وستة آخرون من أعضاء الجبهة الوطنية في انتخابات المجلس التي أجبروا الشاه على إعادتها. وكان فوزهم بداية مرحلة جديدة في السياسة الإيرانية، وهي جبهة معارضة منظمة متطورة تتمتع بالحماس القومي والثقة في الدعم الجماهيري الشامل. ومثل ظهورها عقبة كبرى في طريق تحقيق هدف الشاه العاجل، وهو الحصول على الموافقة على الاتفاقية التكميلية، ومشروعه طويل الأجل الخاص بإعادة توطيد النفوذ الملكي. وهكذا تعارضت صورتان متضادتان لمستقبل إيران أكثر من أي وقت مضى.

كان الشاه يفضل أن يكون رئيس الوزراء ضعيفًا متخاذلًا كي يتمكن من إخضاعه لإرادته، ولكن في بداية عام ١٩٥٠ احتاج الشاه والبريطانيون إلى رئيس وزراء قوي يمكنه إرغام المجلس على الموافقة على الاتفاقية التكميلية. وكان اختياره الأول محمد سعيد غير متحمس للاتفاقية، بل إنه رفض طرحها للتصويت. وبعد شهرين استبدل به الشاه رجلًا أكثر موالاة لبريطانيا وهو علي منصور، ولكنه لم يبدِ أيضًا استعدادًا للدفاع عن الاتفاقية. وهنا نفد صبر البريطانيين. وفي أبريل أرسلوا سفيرًا جديدًا إلى طهران وهو السير فرانسيس شيبرد الذي كانت كل خبرته في السلك الدبلوماسي في دول يحكمها الطغاة أو القوى الأجنبية مثل السلفادور وهاييتي وبيرو والكونغو البلجيكية والهند الشرقية الهولندية. وفي إحدى أولى البرقيات التي أرسلها إلى مكتب وزارة الخارجية، قال شيبرد إنه بالرغم من أن الشاه قد أمر منصور «بضمان إقرار اتفاقية النفط التكميلية في أسرع وقت ممكن، فيبدو أن منصور لا ينوي طاعة أوامر سيده».

لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا كي تدرك وزارة الخارجية وشركة النفط أن منصور ليس رجلهما المنشود. فقد كانوا يحتاجون إلى رئيس وزراء أكثر حزمًا. ولم يكن مرشحهم مدنيًّا كما هو متعارف عليه في إيران، ولكنه الجنرال علي رازمارا وهو من أكثر الضباط الثقات في جيش الجنرال شوارتسكوف وأصبح فيما بعد رئيس أركان الجيش. اعتقدوا أن مثل ذلك الرجل بحزمه الشديد يعتبر قويًّا بما فيه الكفاية كي يواجه مصدق والجبهة الوطنية.

في العشرين من يونيو صوت المجلس على إنشاء لجنة مكونة من ثمانية عشر عضوًا لدراسة الاتفاقية التكميلية. هذا ما اعتبره البريطانيون تحديًا لهم، فأوعزوا إلى الشاه بالرد على تلك الخطوة عن طريق طرد منصور وتعيين الجنرال رازمارا بدلًا منه. ولم يكن بوسعه تجاهل تلك النصيحة.

كانت قامة رازمارا النحيلة وابتسامته اللطيفة تخفي حيويته وذكاءه وطموحه الذي لا يهدأ. وكان ذلك الرجل العسكري البالغ من العمر سبعة وأربعين عامًا معروفًا بالقسوة الشديدة وغلظة القلب. وعلى غرار معظم الضباط الإيرانيين فقد انتهز فرص فساد عديدة، ولكنه كان أيضًا صاحب موهبة لا تخطئها العين. وكان مثله الأعلى رضا شاه الذي شاركه الاعتقاد بأن إيران لن تنهض إلا تحت حكم طاغية قاسٍ لا يرحم. ولكن على النقيض من رضا شاه فهو مثقف متحرر من الأحقاد القومية، حيث تلقى تعليمه في الكلية العسكرية الفرنسية وعلى دراية تامة بأهمية استرضاء الزعماء الإيرانيين للقوى الأجنبية. فقد وصل إلى السلطة عن طريق مساندتهم له. وهكذا وعد البريطانيين بسرعة إقرار الاتفاقية التكميلية، ووعد الروسيين بإطلاق سراح زعماء تودة الذين أودعهم محمد رضا شاه السجن عقب محاولة اغتياله، أما الأمريكيون الذين تزايد اهتمامهم بالشرق الأوسط فقد وعدهم بأن يجدوا أذنًا متعاطفة معهم ومساندة في حملتهم ضد الشيوعية.

اجتمع المجلس في نهاية شهر يونيو كي يناقش ترشيح رازمارا لمنصب رئيس الوزراء. ولم يفاجأ أحد عندما ألقى مصدق خطبة ثورية يصف فيها رازمارا بأنه عميل للقوى الأجنبية ومشروع دكتاتور. ولكن بعد الانتهاء من الخطب لم يفاجأ أحد أيضًا بالموافقة على رازمارا بفارق أصوات كبير. فقد استخدم نفوذه في مساندة الحملات الانتخابية لأكثر من نصف أعضاء المجلس، وكانوا يسددون الدين الذي يطوق عنقهم به.

تولى رازمارا منصبه وهو يعتقد أن القدر قد اختاره كي يقود إيران نحو العظمة. وقد صدق مصدق الشيء نفسه عن ذاته. وكذلك فعل الشاه. ولكن أحدهم فقط سوف ينتصر في المواجهة القادمة.

•••

كانت الأيام الأولى لرازمارا في منصبه في صيف عام ١٩٥٠ كفيلة بأن تثبط عزيمة من هم أقل منه شأنًا. أدى وصول السفير الأمريكي الجديد هنري جريدي إلى اندلاع عاصفة من الاحتجاجات قُتِلَ فيها كثيرون. لم يكن أحد يملك ثأرًا شخصيًّا مع جريدي، ولكن الإيرانيين الذين انخرطوا في عالم السياسة أصبحوا يغضبون بشدة من جراء التدخل الأجنبي في شئونهم الداخلية حتى إن ظهور حاكم استعماري جديد فقط كافٍ لخروج الآلاف في مظاهرات في الشوارع. وتعين على رازمارا أن يأخذ تلك القومية الصاعدة بعين الاعتبار وهو يضع الاستراتيجية السياسية للبلاد. فأخبر رعاته البريطانيين أن بوسعه الحصول على الموافقة على الاتفاقية التكميلية، ولكن بشرط أن تراجع وتعدل. اقترح أن تحسن شركة النفط من عرضها عن طريق فتح دفاتر حساباتها للمراقبين الإيرانيين وتدريب الإيرانيين على تولي الوظائف الإدارية وسداد بعض العوائد مقدمًا كدليل على دعمها للتنمية القومية.

كان ذلك العرض دالًّا على الذكاء. ولو قبلته شركة النفط فستضعف من شوكة الجبهة الوطنية وتؤدي إلى استقرار وضع الشركة لفترة طويلة. ولكن البريطانيين رفضوا هذا العرض نهائيًّا دون تفكير مما أثار إحباط رازمارا. وأخبره السفير شيبرد بأن عرض الشركة نهائي وأن التحسين الوحيد الذي يمكنهم قبوله هو «تقديم علاج مجاني لبعض النواب المصابين بالهستيريا الذين ما زالوا يرفضون الاتفاقية التكميلية». لم يدرك البريطانيون أن عصر الاستعمار كان موشكًا على الانتهاء، وأن بوسعهم الحفاظ على نفوذهم العالمي عن طريق التعاون مع القوى الوطنية الصاعدة، وهكذا فقد خسروا فرصة تاريخية في غاية الأهمية.

لم يكن لدى رازمارا خيار سوى الانصياع لإرادة الشاه ووزارة الخارجية وشركة النفط. فأمر بتعيين وزير للمالية معروف بموالاته للبريطانيين واستأنف حملته للتصديق على الاتفاقية التكميلية. وكان أحد أهم حلفائه نجم إذاعي مشهور يدعى باهرام شاروغ الذي عُرف باعتباره أحد دعاة النازية. وفي أوائل الأربعينيات من القرن العشرين رأس شاروغ الإذاعة الإيرانية في راديو برلين، وكان صوته المتحمس يحمل للإيرانيين جرعتهم اليومية من الأخبار عن انتصارات دول المحور والمستقبل المشرق للعلاقات الألمانية الإيرانية. وكانت برامجه حافلة بالنقد اللاذع للبريطانيين، وتغذي كراهية الاستعمار البريطاني التي انتشرت في إيران. ولكن عندما تغير مسار الحرب ترك وظيفته في ظروف غامضة، حيث اتهمه بعض ضباط الأمن النازيين بأنه عميل بريطاني. وبعد فترة وجيزة دهش مستمعوه عندما ظهر فجأة في راديو طهران وبدأ يذيع تعليقات مؤيدة للبريطانيين بشدة. وعيَّنه رازمارا في منصب مدير الإذاعة والدعاية، وأخذ يدافع عن شركة النفط بحماس يماثل ذلك الذي أبداه للنازية منذ عقد مضى. وبالإضافة إلى إذاعة العديد من التقارير الحماسية بنفسه، ساعد شركة النفط على انتقاء كتاب الأعمدة ومحرري الصحف القابلين للرشوة وتقديم الرشوة لهم.

وفي ذلك الوقت كان المجلس قد اختار أعضاء لجنة النفط، ومصدق بالطبع أحدهم. وفي الاجتماع الأول للجنة انتُخب رئيسًا لها. كانت اللجنة تنعقد مرتين أسبوعيًّا. ولم يكن العديد من أعضائها مهتمين ولا شركة النفط مهتمة بالتوصل إلى تسوية. وقد حضر مانوشير فارمان مدير المعهد الإيراني للنفط العديد من جلساتهم وكتب عنهم فيما بعد:

في ظاهر الأمر أنشئت اللجنة كي تدرس الاتفاقية التكميلية وتسعى إلى التوصل لتسوية، ولكن الجوانب الفنية والاقتصادية كانت نادرًا ما تطرح للمناقشة. فلم يكن النواب على دراية كافية بالنفط، ولم يكونوا مهتمين به إلا من الجانب السياسي. وبدلًا من ذلك اهتموا بالتكلفة البشرية … كان مصدق يسيطر على الاجتماعات. وكان ينتقد كل شيء بسخرية لاذعة، وهو أسلوب برع فيه على مدار خمسة وعشرين عامًا لم يفعل فيها شيئًا سوى الشكوى بلا داعٍ وإلقاء اللوم على الآخرين … لم يكن مصدق يهتم بالنقود أو بعدد البراميل التي تستخرج يوميًّا. ولكن الموضوع الأهم عنده السيادة القومية. فقد كانت سيادة إيران تتعرض للخطر على يد شركة تضحي بأرواح الإيرانيين من أجل تحقيق المصالح البريطانية. وهو ما أغضبه بشأن استعداد الحكومة للبحث عن تسوية، وهو أيضًا ما جعله يقرر أن شركة النفط يجب أن ترحل بلا رجعة.

عندما هدأت حدة القيظ في إيران في ذلك الخريف ارتفعت درجة حرارة الرأي العام بشدة. فقد تسبب البريطانيون برفضهم التسوية في توحيد قطاع عريض من الشعب الناشط سياسيًّا ضدهم. بل إنهم تسببوا في انضمام الجماعات الدينية الملتزمة بالشريعة الإسلامية إلى تحالف مع مصدق والعديد من العلمانيين الليبراليين الآخرين. ورفض بعض الملالي، ومنهم الملا الشاب روح الله الخميني — الذي سيصبح بعد ثلاثين عامًا زعيمًا للبلاد — الانضمام لهذا التحالف، لأنهم كانوا يعتقدون أن مصدق وحلفاءه قد تخلوا عن الإسلام. ولكن معظم الملالي ذوي الأهمية انضموا في تحالف تكتيكي مع الجبهة الوطنية، وكان أهمهم الملا المتحمس آية الله أبو القاسم كاشاني الذي لم يكن عالمًا دينيًّا كبيرًا ولكنه أصبح شخصًا محوريًّا في الحركة الإيرانية المناهضة للاستعمار. قتل والد كاشاني وهو يحارب البريطانيين في العراق أثناء الحرب العالمية الأولى، وأُسِر هو شخصيًّا في معسكر اعتقال بريطاني أثناء الاحتلال المشترك لإيران في الحرب العالمية الثانية. وبعد إطلاق سراحه سرعان ما أصبح زعيمًا شعبيًّا مثيرًا للتحريض. وحاول محمد رضا شاه أن يحمله على الصمت عن طريق إرساله إلى المنفى عقب محاولة الاغتيال التي وقعت عام ١٩٤٩، ولكنه من مقره في بيروت ترشح لعضوية المجلس وفاز بها. وأدى الضغط الشعبي إلى إجبار الشاه على السماح له بالعودة، وخرج مئات الآلاف من الجماهير في استقباله. وفي خطابه الذي ألقاه أمام الجماهير، وجه التحية إلى مصدق وأعضاء الجبهة الوطنية بوصفهم أكثر الوطنيين إخلاصًا في إيران.

كان كاشاني معاديًا للغرب بشدة، ويكره الأفكار الليبرالية ويؤمن بأن المسلمين عليهم ألا يتبعوا القوانين العلمانية إلا إذا توافقت مع الشريعة الإسلامية. ولم يكن مؤمنًا بالقومية إلا بالمعنى المحدود، فقد كان يرغب في إدارة الإيرانيين لشئونهم الداخلية، ولكنه يعتقد أيضًا أنه بمجرد التخلص من الكفار سوف تصبح إيران جزءًا من اتحاد إسلامي شامل يتحدى الكتلتين الغربية والشيوعية. وعلى غرار الملالي الذين ساندوا الثورة الدستورية منذ نصف قرن اعتبر الحملة المناهضة لبريطانيا واجبًا مقدسًا. واضطلاعًا منه بذلك الواجب انخرط في عالم السياسة، حيث أنشأ حزبه الخاص في المجلس وعمل بجهد من أجل تعبئة الجماهير في صف مصدق. وقد أعلن في أحد التجمعات متوعدًا: «إن الإسلام يحذر أتباعه من الاستسلام لسياط القهر الأجنبية!»

ومع إشعال رجل الدين الملتحي كاشاني والأرستقراطي الذي تلقى تعليمًا سويسريًّا مصدق فتيل الغضب ضد بريطانيا، انقلب رأي المجلس ضد الاتفاقية التكميلية أكثر من ذي قبل. وحاول رازمارا أن يلقي خطبة في المجلس في شهر أكتوبر يطالب فيها بإقرار الاتفاقية، ولكن صوته ضاع وسط عاصفة من النقد والاتهامات. وبعد أن أنهى خطبته رد العشرات من النواب عليه. فوصفوا شركة النفط بالوحش الكاسر ورازمارا بخادمها المطيع. وكان مصدق صاحب أكثر الخطب انفعالًا. وصف الاتفاقية التكميلية بأنها أداة عبودية، وفي مقطع ختامي رائع توجه إلى رازمارا قائلًا: «إذا صدقت على هذه الاتفاقية فسوف تحمل عارًا لن تتمكن الأيام من محوه.»

في الخامس والعشرين من نوفمبر طرح مصدق الاتفاقية التكميلية للتصويت أمام اللجنة البرلمانية التي يرأسها. واجتمعت اللجنة كالعادة في إحدى غرف الانتظار بالمجلس. وأشرقت الشمس على الأرض المكسوة بطبقة رقيقة من الثلج بالخارج. واقترح مصدق وأعضاء اللجنة الأربعة الآخرون الحل الجذري المتمثل في تأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية، ولكن بقية الأعضاء لم يكونوا مستعدين لمثل تلك الخطوة الجريئة. أما الموضوع المطروح للمناقشة فلم يكن عليه خلاف. وصوتت اللجنة بالإجماع على رفض الاتفاقية.

وهنا بدأت الأحداث تتخذ زخمًا كبيرًا. فقد كانت السياسة الإيرانية تخطو نحو منطقة مجهولة، ولم تكن هناك يد ثابتة تقود الدولة. وكانت المناصب تشهد كل يوم المزيد من الانقسام. ولم تكن أي جماعة مقتنعة بالنية الحسنة للجماعات الأخرى. وأصبحت لغة الخطاب هي الإهانة والتوبيخ.

وفي نهاية شهر ديسمبر وصلت أنباء إلى طهران تفيد بأن شركة النفط العربية الأمريكية المعروفة باسم أرامكو قد عقدت اتفاقًا جديدًا مع المملكة العربية السعودية اتفقت بموجبه على مناصفة الأرباح مع السعوديين. وفي الحال بعث السفير شيبرد برقية إلى لندن يحث فيها شركة النفط البريطانية الإيرانية على اتخاذ نفس الموقف مع إيران. ولكن وزارة الخارجية وشركة النفط رفضتا الفكرة. وهكذا خسرا فرصة أخرى لحل الأزمة التي يلوح شبحها في الأفق قبل أن تتحوَّل إلى كارثة. ونصح إي جي دي نورثكروفت مدير شركة النفط في طهران وزارة الخارجية بألا «تعطي اهتمامًا» للحركة القومية.

كان الموقف البريطاني منفصلًا عن الواقع بشدة حتى إن مصطفى فاتح مساعد نورثروب وأعلى الموظفين الإيرانيين منصبًا في الشركة — الذي ظل لعدة عقود يخدمها بإخلاص — شعر بأن عليه الاحتجاج. فكتب خطابًا حماسيًّا مكونًا من ثلاث وعشرين صفحة إلى إدوارد إلكينجتون عضو مجلس إدارة شركة النفط الذي تعرف عليه عندما كان يعمل في إيران. كان الخطاب تحذيرًا بليغًا للشركة بأن عليها إدراك «الحركة القومية الصاعدة والوعي السياسي للشعوب الآسيوية» وإظهار «سعة الأفق وتقبل وجهة نظر الآخر والتفكير بمنطقية كي تتجنب وقوع الكوارث». ووصف في ذلك الخطاب تحالف شركة النفط مع «الطبقات الحاكمة الفاسدة» و«النظم البيروقراطية التي تمتص دماء الشعوب» بأنه «كارثي، عتيق الطراز، وغير عملي». وقال فاتح إنه لا يزال هناك دعم كافٍ في المجلس يمكِّن الاتفاقية التكميلية من الظهور للنور، وذلك بشرط أن تعمل الشركة على مراجعتها وتعديلها على أن تضم بندًا خاصًّا بمناصفة الأرباح وتقلل من مدة الاتفاقية، وإلا فإن تلك الاتفاقية محكوم عليها بالفشل، حيث إن سياسات الشركة قد «عزلت الطبقات الليبرالية التقدمية عن بريطانيا». ولكن توسلاته البليغة ذهبت أدراج الرياح. أعلن أحد الدبلوماسيين البريطانيين باستياء عندما أطلعه إلكينجتون على ذلك الخطاب أن فاتح «ليس أهلًا للثقة بدرجة كبيرة».

صارت المواجهة تبدو حتمية. وقد أثارت تلك الفكرة حماس القوميين الإيرانيين الذين اعتقدوا أن التاريخ أخيرًا يمنحهم فرصة كي ينتشلوا بلادهم من حكم المستعمرين البريطانيين. وفي يناير من عام ١٩٥١ دعوا إلى اجتماع حاشد لإطلاق حملة جماهيرية تهدف إلى تأميم شركة النفط. وبالفعل اجتمع حشد هائل من الناس. وكان أول المتحدثين من الجبهة الوطنية وقوبلوا بهتاف حماسي عند طرح قضيتهم. وكانت تلك البداية فقط. فبعد أن فرغ السياسيون من إلقاء خطبهم تقدم مجموعة من الملالي إلى المنبر كي يؤكدوا أن كل مسلم صالح عليه واجب مقدس في مساندة التأميم. وأطلق آخرهم فتوى تفيد بأن الرسول محمدًا نفسه من موقعه في الجنة يدين حكومة رازمارا لبيعها حق إيران إلى الأجانب الكفار. ولم يكن علمانيو الجبهة الوطنية أو الأصوليون الدينيون الذين يتبعون آية الله كاشاني راضين عن تحالفهما معًا لكنهم نحَّوا خلافاتهم العميقة دفاعًا عن القضية الكبرى.

أصبح رازمارا المسكين الآن في موقف لا يحسد عليه. فقد قررت الجماهير منذ وقت طويل أنه على أفضل الفروض أداة في يد البريطانيين وعلى أسوئها خائن. وأجاب هو مرارًا وتكرارًا بأن المحتجين سواء داخل المجلس أم خارجه يطاردون سرابًا، وأن مصلحة الدولة تتطلب عقد اتفاق مع البريطانيين. ولكن بالرغم من عمله بحماس منقطع النظير كي ينقذ بريطانيا من ذلك الموقف، لم تمد له شركة النفط أو وزارة الخارجية يد المساعدة. بل إن السفير شيبرد أرسل إليه خطابًا ينصحه بأن يتخذ «موقفًا حازمًا» ضد ناكري الجميل الذين لم يقدروا «الخدمات الهائلة التي قدمتها بريطانيا للبشرية مؤخرًا».

أصر رازمارا على موقفه بشجاعة. ففي الثالث من مارس مَثُل أمام لجنة النفط التي يرأسها مصدق وأوضح مرة أخرى معارضته لفكرة التأميم. أكد أنها فكرة غير قانونية سوف تدفع البريطانيين إلى الانتقام بطريقة لا يمكن التنبؤ بها وتؤدي إلى الإضرار بالاقتصاد الإيراني. وفي تلك الليلة بعث السفير شيبرد برقية إلى الوطن قال فيها إنه هو شخصيًّا صاحب مضمون الخطبة التي ألقاها رازمارا.

كان الإيرانيون قد توقعوا ذلك، وكان رد فعلهم عاصفة أخرى من الاحتجاجات. ففي مظاهرة حاشدة يوم السابع من مارس أخذت الجماهير تردد «الموت للبريطانيين!» بدلًا من الدعوة للتأميم. انتهى زمن رازمارا. وأدرك الشاه نفسه ذلك. فأخذ يسأل قطاعات عريضة من السياسيين سرًّا عن اقتراحاتهم لرئيس الوزراء الجديد. وكانت إجابتهم واحدة: مصدق.

أدرك الجميع أن أيام رازمارا باتت معدودة، ولكن أحدًا لم يتخيل أن نهايته سوف تكون عنيفة إلى هذا الحد. ففي نفس اليوم الذي احتشد فيه آلاف المتظاهرين في طهران كي يعبروا عن كراهيتهم لبريطانيا، ذهب رازمارا بمصاحبة أسد الله علم — وهو أحد أصدقاء الشاه — إلى مسجد طهران لحضور جنازة أحد الزعماء الدينيين. فتقدم شاب من بين الجماهير يحمل مسدسًا وأطلق عليه الرصاص. فخر رازمارا صريعًا. وقُبض على الرجل المسلح، وهو نجار يدعى خليل تاهماسيبي كان عضوًا في إحدى الجماعات الدينية المتطرفة وتدعى «فدائيو الإسلام».

وعند التحقيق معه قال للمحققين: «لقد أديت خدمة متواضعة لوجه الله كي أخلص الشعب الإيراني المسلم المسكين من العبودية للأجانب.»

لم تتضح ظروف اغتيال رازمارا قط، حيث ظهرت أدلة تشير إلى أن الطلقة القاتلة لم يطلقها تاهماسيبي ولكن جندي يعمل بأوامر من الشاه أو أحد الأفراد المقربين إليه، وأن أسد الله علم اقتاده إلى ذلك الموعد متعمدًا كي يلاقي حتفه. وبعد أعوام عديدة كتب عقيد إيراني متقاعد في مذكراته أن الطلقة القاتلة انطلقت من مسدس من طراز كولت لا يسمح بحمله إلا للجنود.

وأكد قائلًا: «اختير رقيب عسكري يرتدي ثيابًا مدنية لتلك المهمة. وأعطي تعليمات بأن يبدأ إطلاق الرصاص على رازمارا مستخدمًا مسدسًا من طراز كولت في اللحظة نفسها التي بدأ في تاهماسيبي بإطلاق الرصاص … وأكد من فحصوا الجروح في جثة رازمارا أن تلك الطلقات خرجت من مسدس من طراز كولت وليس مسدس عادي.»

كان رازمارا يمثل الأمل الأخير في التوصل إلى تسوية. وكانت قضيته خاسرة حتى قبل اغتياله، وفي اليوم التالي لإطلاق الرصاص عليه اتخذت لجنة النفط برئاسة مصدق الخطوة المصيرية التي كانت تسعى نحوها. صوت الأعضاء بالإجماع على توصية المجلس بتأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية.

وفي اليوم التالي احتشد آلاف من الناس في احتفال كي يستمعوا إلى آية الله كاشاني وهو يعبر عن موافقته على تصويت اللجنة ويطالب المجلس بسرعة التحرك. ولم تكن أي شخصية عامة لديها القدرة الآن على معارضة التأميم دون إثارة غضب الجماهير أو ما هو أسوأ. بل إن رئيس الوزراء الجديد حسين علاء، وهو دبلوماسي تلقى تعليمه في بريطانيا وكان يدرك المشكلات التي سوف يجلبها التأميم، لم يجرؤ على معارضته.

وفي السفارة البريطانية كان السفير شيبرد لا يزال يعتقد أن لديه فرصة كي يوقف الطوفان. فأطلق حملة كي يقنع أعضاء المجلس بالبقاء في منازلهم يوم التصويت على قرار التأميم، وذلك كي يحول دون اكتمال النصاب القانوني للتصويت. فأرسل رسالة للشاه يحثه فيها على استخدام نفوذه مع النواب المناصرين للملكية والمحافظين. ثم اجتمع مع رئيس الوزراء علاء وأبلغه بشكل فظ بأن «عمليات الشركة لا يمكن إنهاؤها قانونًا عن طريق اتخاذ إجراء مثل التأميم». ولكنه اقترح لأول مرة أن تدرس الشركة جديًّا فكرة مناصفة الأرباح.

أجاب علاء: «إن فكرة مناصفة الأرباح كانت تصلح منذ فترة، لكنها الآن لا تكفي.»

اجتمع المجلس في الخامس عشر من مارس من أجل طرح التصويت التاريخي. وحضر تسعة وستون نائبًا منهم العديد ممن وعدوا الشاه بالتغيب عن ذلك اليوم. وصوت الجميع بالموافقة على التأميم. وبعد مرور خمسة أيام صوت مجلس الشيوخ ذو السلطة الشكلية — الذي أنشئ منذ بضعة سنوات ونصف أعضائه عيَّنهم الشاه — بالإجماع بالموافقة.

•••

أصبح مصدق بطلًا ملحميًّا، ولم يعد من الممكن أن يخرج إلى الشارع دون أن يتجمهر حوله المعجبون. حيث احتفل زعماء القبائل في المناطق النائية بانتصاره، وكرمه آية الله كاشاني بوصفه محررًا للأمة في عظمة قورش وداريوس، بل إن أعضاء حزب تودة الشيوعيين تقبلوه بصدر رحب. وعلى مدار الأسابيع التالية صوت المجلس بالموافقة على كل مشروع قانون قدمه. كان واضحًا أن مصدق قد أصبح رجل الساعة، مما دفع برئيس الوزراء علاء إلى الاستقالة، حيث لم يجد سببًا يحمله على الاستمرار في منصبه، وهكذا قدم استقالته في منتصف أبريل.

لكن الحكومة البريطانية لم يكن لديها نية الاستسلام. بل إن عزمها قد اشتد عندما استقال بيفين وزير الخارجية لأسباب صحية، الذي كان متعاطفًا بعض الشيء مع القضية الإيرانية، وجاء بدلًا منه هيربيرت موريسون الذي لم يكن مهيأ على الإطلاق لمثل هذا المنصب. كان موريسون قد قضى ثلاثين عامًا يشق طريقه في صفوف حزب العمال، ولم يدَّعِ قط أنه يمتلك خبرة في الشئون الدولية. وأهم إنجازاته التي يفخر بها بناء جسر واترلو جديد وإعادة تنظيم طرق النقل في لندن. وهكذا اعتبر التحدي الخاص بإيران ليس إلا تمردًا من السكان المحليين الجهلاء ضد قوى الحضارة. وفي واحد من أول تصريحاته بعد توليه منصب وزير الخارجية، حث على تحريك القوات البريطانية نحو إيران كي تصبح «مستعدة للتدخل إذا لزم الأمر في حقول النفط الإيرانية».

بناء على إلحاح موريسون اجتمع صناع السياسات على أعلى مستوى في وزارة الخارجية وسلاح البحرية وبنك إنجلترا ووزارة النفط والطاقة كي يكونوا «فريق عمل خاصًّا بإيران». وقد كلفت تلك المجموعة بإجراء دراسات عديدة كي تكوِّن خلفية من المعلومات العامة اللازمة للتعامل مع الأزمة، وكانت إحدى تلك الدراسات تتناول نفسية الشعب الإيراني. أكد مؤلفها — وهو دبلوماسي بريطاني — أن:

الإيراني النموذجي تحركه دوافع الكذب دون أن يطرف له جفن والنظرة القدرية وعدم الاكتراث بالألم … إن المواطن الإيراني العادي مغرور مجرد من المبادئ ومستعد بأن يعد بما لا يملك القدرة على تحقيقه أو ينويه، وهو يتمسك بالتسويف ويفتقر إلى الجلَد والحيوية، ولكنه في الوقت ذاته سهل الانقياد للنظام. وقبل كل شيء فهو يستمرئ الخداع ويلجأ إلى المراوغة والاحتيال كلما لاحت له الفرصة لتحقيق مكاسب شخصية. ورغم براعته في الكذب فإنه لا يتوقع أن يصدقه الآخرون. وهو يكتسب بسرعة معرفة سطحية بالموضوعات التقنية ويوهم نفسه بأنه يمتلك معرفة عميقة.

كان التعامل مع مثل هؤلاء الناس على قدم المساواة أو على أساس من الاحترام ضربًا من المحال بالطبع. ولكن وزارة الخارجية وضعت استراتيجية مكونة من ثلاثة محاور كي تضمن السيطرة عليهم. أولًا: إقناع محمد رضا شاه بحل المجلس. وثانيًا: تعيين سيد ضياء الرجل الهرم الأثير لدى البريطانيين والذي ساعد رضا شاه في الوصول للحكم منذ ثلاثين عامًا في منصب رئيس الوزراء. وثالثًا: حث إدارة ترومان في واشنطن على «ألا تظهر أي معارضة أو اختلاف عن وجهة نظرنا على الأقل». وأثناء صياغة تلك السياسة قررت شركة النفط أن تثبت إصرارها على موقفها عن طريق تخفيض بدل السكن الذي يحصل عليه العمال الإيرانيون. فاستقال الآلاف من وظائفهم محتجين.

وسرعان ما بدأ البريطانيون يرسلون سفنًا حربية إلى المياه بالقرب من عبدان. وبحلول منتصف أبريل كانت ثلاث بوارج وطوافتان تقبع على مرمى البصر من مصفاة التكرير. وهو ما زاد من حدة التوتر. انطلق عمال النفط بأعداد كبيرة في الشوارع في تحدٍّ سافر، وأدت مجموعة من الاشتباكات إلى مصرع ستة من الإيرانيين واثنين من عمال النفط البريطانيين وبحار بريطاني. وتوصل بعض الإيرانيين إلى أن البريطانيين قد بدءوا حملة استفزازية متعمدة كي يقدموا ذريعة للتدخل العسكري.

كان السفير شيبرد مقتنعًا أن بوسعه السيطرة على الموقف في حالة تعيين رئيس وزراء إيراني جديد أكثر موالاة للبريطانيين. فأصر على أن يرشح الشاه سيد ضياء لهذا المنصب، ووافق الشاه مذعنًا. وحدد المجلس موعدًا للتصويت على ترشيحه في الثامن والعشرين من أبريل. وفي صباح ذلك اليوم أصدر شيبرد بيانًا يؤكد فيه أن الحكومة البريطانية لن تجري أي مفاوضات تحت تهديد التأميم. واعتقد أنه بذلك الإظهار للقوة وبرئاسة صديقه سيد ضياء للحكومة سوف تأخذ الأحداث مجرى مختلفًا. ولكن هذا التخيل كان غير واقعي على الإطلاق، وأثبت مرة أخرى أن البريطانيين قد أخطئوا في الحكم على الإيرانيين.

ولكن لم يكن أكثر القوميين حماسًا بوسعه التنبؤ بما حدث عندما اجتمع المجلس كي يناقش ترشيح سيد ضياء. وبالطبع كانت كل الأنظار متطلعة إلى مصدق بطل الساعة. وتوقع الجميع أن يبدأ هو المعارضة بإحدى خطبه العنيفة ضد البريطانيين ورسلهم الخائنين. ولكن عندما تساءل رئيس المجلس عمن يود افتتاح النقاش، ظل مصدق جالسًا صامتًا لا يبدي أي انفعال. وبدلًا منه اعتلى المنصة جمال إمامي الذي كان أحد النواب المحافظين وكان يتلقى راتبًا من بريطانيا. لم يذكر إمامي سيد ضياء في حديثه مطلقًا. بل انصب هجومه على مصدق شخصيًّا، حيث أدانه لإدخاله المجلس في حالة من الجمود وتسببه في حالة من الشلل في البلاد عن طريق شكاواه المستمرة بلا داعٍ. وقال باحتقار إنه إذا كان مصدق راغبًا في خوض تحدٍّ حقيقي، فعليه أن يصبح رئيسًا للوزراء ويرى بنفسه كم هو شاق ذلك المنصب. كان مصدق قد رفض عدة اقتراحات من قبل لتولي رئاسة الحكومة، وكان إمامي يزعم أنه يعلم السبب، حيث إن مصدق كان على حد زعمه مدعيًا غير قادر على تحمل المسئولية يجد متعته في إلقاء الخطب عن أخطاء الآخرين، لكنه لا يقدم أي شيء إيجابي في المقابل.

صمت الجميع في المجلس بعد انتهاء إمامي من حديثه. وظل مصدق صامتًا لبرهة ثم قام واقفًا. وتحدث ببطء قائلًا إن هذا الاقتراح شرف عظيم له وأنه يقبل ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء. وذهل الجميع وأولهم إمامي. وسرعان ما تحوَّلت الصدمة إلى هرج ومرج. وصدر اقتراح رسمي بترشيح مصدق لمنصب رئيس الوزراء ودعا رئيس المجلس إلى تصويت فوري. وكانت نتيجة التصويت تسعة وسبعين صوتًا مؤيدًا واثني عشر صوتًا معارضًا.

ولما استشعر مصدق القوة التي أصبح يمتلكها، أعلن أنه لن يصبح رئيسًا للوزراء إلا إذا صوت المجلس بالموافقة على قانون لتأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية. وبموجب هذا القانون سوف تتولى لجنة برلمانية مراجعة حسابات الشركة ودراسة مطالب الطرفين من أجل التعويض وإرسال الإيرانيين للخارج كي يتعلموا مهارات إدارة صناعة النفط ووضع البنود التأسيسية لشركة النفط الإيرانية القومية. ووافق المجلس بالإجماع على هذا القانون في ذلك المساء.

وهكذا تحقق المحال الذي لا يصدقه عقل. فقد وصل مصدق رمز القومية الإيرانية ومقاومة النفوذ الملكي فجأة إلى قمة السلطة. كانت لحظة ابتهاج، ولكن في الوقت ذاته لم يكن أي شيء مؤكدًا. وأدرك الجميع أن صراع العمالقة على وشك أن يبدأ. ولم يجرؤ أحد على أن يفترض ما قد يعنيه ذلك لإيران والعالم أجمع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥