الفصل السادس

أعداء غير مرئيين في كل مكان

في صباح السادس والعشرين من يونيو عام ١٩٥٠ التف الملايين من الإيرانيين والأمريكيين حول أجهزة الراديو في توجس. كانوا جميعًا يدركون أنهم على وشك سماع أنباء قد تغير مجرى حياتهم للأبد. وكان معظمهم يشعر بالخوف ويخيم عليه الصمت. لكن الأزمة التي على وشك الوقوع في إيران لم يكن لها علاقة بالأزمة التي أصابت الولايات المتحدة على حين غرة.

وفي ذلك اليوم أعلن شاه إيران عن ترشيحه للجنرال علي رازمارا القائد العسكري المشئوم في منصب رئيس الوزراء. واحتشد الناس في المحلات والمصانع والمقاهي في كل أنحاء إيران يتساءلون عما قد يعنيه ذلك. وهل سيتمكن رازمارا من عقد صفقة مع البريطانيين في اللحظة الأخيرة؟ وإذا لم يتمكن من ذلك، فما الذي سوف يحدث؟ هل تغزو القوات البريطانية إيران؟ هل ستندلع ثورة؟ أتتجه الأمة نحو الخلاص أم نحو كارثة؟

أما الأمريكيون فقد كانوا مشغولين بأنباء أخرى. فقد تدفق الجنود الشيوعيون بأعداد كبيرة عبر خط عرض ٣٨ في كوريا وأخذوا يتقدمون جنوبًا. وعقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة جلسة طارئة حذر فيها الغزاة من أنه في حالة عدم انسحابهم فسوف تندلع الحرب. ولما كانت كلتا القوتين العظميين في العالم تمتلك ترسانة أسلحة نووية، خشي العديد من الأمريكيين من وقوع أرماجيدون.

عكست الفجوة الكبيرة بين ما شغل بال الإيرانيين وما شغل بال الأمريكيين في ذلك اليوم من شهر يونيو الهواجس التي أصابت دولتيهما مع بدء النصف الثاني من القرن العشرين. فالإيرانيون يتقدمون نحو مواجهة حاسمة — لكنها في الوقت ذاته مخيفة — مع بريطانيا العظمى وشركة النفط البريطانية الإيرانية. والأمريكيون في مواجهة احتمال لا يقل خطورة. فالحرب في كوريا دليل نهائي على أن بلادهم قد علقت في صراع عالمي ضد عدو مخيف.

وبطريقة غير مفهومة لكلتا الدولتين أصبحت هاتان الأزمتان في نهاية الأمر أزمة واحدة. لما كانت الولايات المتحدة تواجه المد الشيوعي الذي لا يرحم، فقد توقفت تدريجيًّا عن اعتبار إيران دولة ذات تاريخ خاص تواجه تحديًا سياسيًّا فريدًا من نوعه. بل إن صراعها مع بريطانيا اتخذ شكل الصراع بين الشرق والغرب.

ساهم شعور قوي بالخوف — وخاصة الخوف من الحصار — في تشكيل الوعي الأمريكي في تلك المرحلة. وتعاهد قادة الحلفاء الذين التقوا في مدينة بوتسدام بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بشهرين على التعاون على أساس ديمقراطي سلمي، ولكن كان خلف وعودهم البراقة شعور قوي بالشك وسوء الظن. فالقوات السوفييتية تمكنت بالفعل من إخضاع لاتفيا وليتوانيا وإستونيا. وفُرضت الحكومات الشيوعية على بلغاريا ورومانيا عام ١٩٤٦ والمجر وبولندا عام ١٩٤٧ وتشيكوسلوفاكيا عام ١٩٤٨. وتحوَّلت ألبانيا ويوغوسلافيا أيضًا إلى الشيوعية. وسعى الشيوعيون اليونانيون سعيًا عنيفًا إلى السلطة. وأغلق الجنود السوفييت المعابر البرية إلى برلين ستة عشر شهرًا. وعام ١٩٤٩ نجح الاتحاد السوفييتي في اختبار أول سلاح نووي. وفي نفس العام خسرت القوات المؤيدة للغرب في الصين الحرب الأهلية ضد الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونج. وفي واشنطن بدا الأمر كما لو أن الأعداء يتحركون صوبها من كل اتجاه.

وفي استجابة من الرئيس ترومان لذلك المناخ الدولي المتغير صدق على إنشاء المخابرات المركزية الأمريكية عام ١٩٤٧. ومهمتها الأصلية الغامضة تتمثل في تنفيذ «الأعمال والمهام المتعلقة بالاستخبارات التي تؤثر على الأمن القومي»، وبعد عام امتدت تلك المهمة كي تشمل «التخريب ومناهضة التخريب والتدمير وإجراءات الإخلاء … وإسقاط نظم الحكم ومساعدة حركات المقاومة السرية وحروب العصابات وحركات تحرير اللاجئين ودعم العناصر الأهلية المناهضة للشيوعية في دول العالم الحر المهددة.» وفي يناير عام ١٩٥٠ أصدر مجلس الأمن القومي وثيقة في غاية الأهمية عرفت باسم NCS-68 أكدت حاجة الولايات المتحدة لمواجهة الحركات الشيوعية، ليس في المناطق الأمنية المهمة فحسب بل أينما ظهرت.

وتوصلت الوثيقة إلى أن «الهجوم على المؤسسات الحرة أصبح الآن عالمي النطاق، وفي سياق الاستقطاب الحالي للقوى تعتبر هزيمة المؤسسات الحرة في أي مكان هزيمة للكل».

دفعت الحرب الباردة الولايات المتحدة إلى ألا تدرك قوة أعدائها فحسب، بل أيضًا أهمية أصدقائها. فعام ١٩٤٩ جمعت أحد عشر من أصدقائها في تحالف عسكري قوي أطلق عليه منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو). والتضامن بين الولايات المتحدة وبريطانيا هو حجر الأساس في هذا التحالف الجديد. ولا يسمح للخلافات بشأن كيفية التعامل مع دولة مثل إيران أن تضعفه.

كان الرئيس ترومان مقتنعًا بأن السوفييت يرغبون في استقطاب إيران نحوهم. وفي اليوم التالي لغزو كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية أخبر أحد مساعديه بأن كوريا ليست الدولة الوحيدة التي تثير قلقه. وتوجه إلى الكرة الأرضية الموضوعة على مكتبه بالمكتب البيضاوي وأشار بإصبعه إلى إيران قائلًا: «سوف تبدأ المشكلات من هنا إن لم نكن حذرين.»

•••

ظلت بريطانيا وروسيا تعتديان على سيادة إيران طوال ما يزيد عن قرن، وبطبيعة الحال كان العديد من الإيرانيين يكنون لهما الكراهية. ولكن اختلف الوضع فيما يتعلق بالولايات المتحدة، فمعظم الإيرانيين يشعرون نحوها بالإعجاب. فالأمريكيون القلائل الذين تعرفوا عليهم يتميزون بالكرم والإيثار، ولم يهتموا بالثروة أو بالسلطة بل بمساعدة إيران.

كان المواطن الأمريكي الأشهر للإيرانيين معلمًا شابًّا جادًّا يدعى هوارد باسكرفيل قتل عام ١٩٠٩ وهو يقاتل جنبًا إلى جنب مع أصدقائه الإيرانيين في الثورة الدستورية. فاعتبروه شهيدًا وأطلقوا عليه لقب «لافاييت الأمريكي». واتخذ البعض من تضحيته دليلًا على لطف الشعب الأمريكي أكثر من الشعوب الأجنبية الأخرى.

عندما لقي باسكرفيل مصرعه على يد جنود الشاه، بدأ خبير تربوي أمريكي ذو رؤية يدعى صامويل جوردان إقامته في طهران التي استمرت ثلاثة وأربعين عامًا. وكانت مدرسة البرز التي أنشأها من أوائل المدارس الثانوية الحديثة في البلاد، وتخرج فيها الآلاف الذين انطلقوا يعيدون تشكيل الحياة الإيرانية. وكانت الإرسالية البروتستانتية التي يعمل بها جوردان تدير مستشفى وإحدى مدارس الفتيات المعدودة بالبلاد.

كتب أحد الخريجين فيما بعد: «كانت النظرة العالمية للأمريكيين تنطوي على الإعجاب والتقدير. فقد فاقت المساهمات الأمريكية في تحسين أوضاع بلادنا الفقيرة التي أنهكها الصراع وإعادة الكرامة لها أعدادهم الصغيرة … ودون أن يحاولوا فرض أسلوب معيشتهم أو ديانتهم على الشعب تعلموا اللغة الفارسية وأنشئوا المدارس والمستشفيات والمستوصفات الطبية في كل أنحاء إيران.»

لم يكن تفاني هؤلاء الرجال والسيدات الذي يُحتذى به السبب الوحيد الذي جعل العديد من الإيرانيين معجبين بالولايات المتحدة. فقد دافع المسئولون الأمريكيون مرارًا عن حقوق الإيرانيين. وانتقدت الولايات المتحدة بشدة الاتفاقية البريطانية الإيرانية لعام ١٩١٩ التي اكتسبت بريطانيا بموجبها نفوذًا استعماريًّا في إيران. وفي نفس العام في فرساي، كان الرئيس وودرو ويلسون هو الزعيم الوحيد في العالم الذي دعم مطالبة إيران بتعويضات مالية من بريطانيا وروسيا عن احتلالهما إيران أثناء الحرب العالمية الأولى، تلك المطالبة التي لم تسفر عن شيء. وفي منتصف العشرينيات من القرن العشرين أعلن مبعوث أمريكي في طهران أن «الإيرانيين من كل الطبقات لا يزالون يمتلكون ثقة مطلقة في الولايات المتحدة».

حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية لم تكن الولايات المتحدة تنتهج سياسة ناشطة نحو إيران. ولكن بعد الحرب بدأ النفوذ الأمريكي يمتد إلى كل مكان في العالم. وأدى الدور الحيوي الذي لعبه النفط في انتصار الحلفاء إلى تركيز صناع السياسات في واشنطن على الشرق الأوسط. وازداد اهتمامهم مع اشتداد الحرب الباردة.

كان دين أتشيسون شخصية عظيمة الأهمية في التاريخ الدبلوماسي الأمريكي، وأدار سياسة الولايات المتحدة نحو إيران في تلك الفترة. وتعاطف مع الحركات القومية في العالم الثالث. كان أتشيسون بجسده النحيل وحلله الرسمية وقبعته وشاربه المهذب شخصًا أرستقراطيًّا بكل ما تحمله الكلمة من معنى رغم أنه لم يولد ثريًّا. كان في شبابه جمهوريًّا متحمسًا معجبًا بثيودور روزفلت، ثم أصبح بعدُ مؤيدًا للديمقراطية وعمل في إدارة فرانكلين روزفلت. واستشعر ترومان تقاربهما الشديد في التفكير، فبعد فوزه في انتخابات ١٩٤٨ عيَّنه في منصب وزير الخارجية. وصمم الرجلان على أن يثبتا للدول الفقيرة أن الولايات المتحدة وليس الاتحاد السوفييتي هي صديقهم الحقيقي.

وفور أن تولى أتشيسون منصبه عيَّن جورج ماكجي، وهو أحد مواطني تكساس النشطين ذوي العقول المنفتحة، في منصب مساعد الوزير لشئون الشرق الأدنى وجنوب آسيا وأفريقيا. بلغ ماكجي ثمانية وثلاثين عامًا عندما تولى هذا المنصب الحيوي. درس الجيولوجيا في جامعة أوكلاهوما وحصل على منحة رودز في أوكسفورد. وعندما أنهى دراسته عرضت عليه شركة النفط البريطانية الإيرانية منصبًا في إيران، لكنه رفض وعاد إلى الولايات المتحدة كي ينشئ شركة النفط الخاصة به. وزاد نجاحها من ثرائه بصورة جعلته يعمل لحساب وزارة الخارجية بلا مقابل. ولكن خلفيته في صناعة النفط جعلت بعض مسئولي وزارة الخارجية البريطانية لا يثقون به. فقد اتهموه بمحاولة إضعاف شركة النفط البريطانية الإيرانية بحيث تتمكن بعض شركات النفط الأمريكية، ومنها ما كان يملك مصالح خفية فيها، من احتلال مكانها في إيران.

حضر ماكجي اجتماعات عديدة عقدها محمد رضا شاه مع المسئولين الأمريكيين أثناء زيارته لواشنطن في أواخر عام ١٩٤٩، وأُحبط من الطموحات العسكرية «المبالغ فيها وغير الواقعية» للعاهل الشاب. وسرعان ما دعا مسئولي شركة النفط البريطانية الإيرانية إلى اجتماع. وأخبرهم بأنه قد قرأ أحدث التقارير السنوية الخاصة بشركتهم وأعجب بالأرباح التي يحققونها. وأعلن أنه قد حان الوقت كي تبدأ الشركة مشاطرة أرباحها مع إيران بطريقة أكثر عدلًا. لكن ضيوفه أبدَوا سخريتهم من تلك الفكرة. حتى إن أحدهم أعلن قائلًا إنه لو بدأت شركة النفط البريطانية الإيرانية في الاستسلام لمطالب إيران، «فلن يتبقَّى لها شيء في الخزينة».

احتدم هذا الجدال على مدار الأشهر التالية. وكرر ماكجي تحذيره لمديري شركة النفط البريطانية الإيرانية قائلًا إن عليهم تقديم تنازلات إذا كانوا يرغبون في إنقاذ رازمارا وإقناع المجلس بالموافقة على الاتفاقية التكميلية. وذات مرة عندما غضب من إصرار الشركة على عدم استطاعتها منح المزيد لإيران، طلب من ريتشارد فانكهاوزر خبير النفط بوزارة الخارجية إعداد تقرير حول عمليات الشركة. توصل التقرير إلى أن شركة النفط البريطانية الإيرانية شركة مربحة على نحو استثنائي وأنها تبيع النفط بتكلفة تبلغ عشرة أضعاف تكلفة استخراجه إلى ثلاثين ضعفًا، وأن تكبرها الشديد جعلها «مكروهة بشدة في إيران».

ولما كان ماكجي قلقًا بشأن الكارثة التي يلوح شبحها في الأفق، قرر السفر إلى لندن لعرض قضيته بنفسه. ولكنه عندما وصل إلى هناك في سبتمبر من عام ١٩٥٠ قوبل بفتور بالغ. ورفض كبار مسئولي الحكومة البريطانية وشركة النفط البريطانية الإيرانية تمامًا مطالباته بالتسوية. وأخبروه بأن الشركة لن تتولَّى تدريب المزيد من الإيرانيين على الوظائف الإشرافية ولن تسمح بفتح دفاتر حساباتها لمراقبي الحسابات الإيرانيين ولن تدفع لإيران المزيد في مقابل النفط. وأعلن السير ويليام فريزر رئيس مجلس إدارة الشركة قائلًا: «إذا دفعنا بنسًا آخر لإيران فسوف تعلن الشركة إفلاسها.» وعندما سمع ماكجي تلك الكذبة المذهلة أدرك أنه لا جدوى من المباحثات. فتوقف عن محاولاته ورحل متجهًا إلى الديار.

ولما كانت بريطانيا غارقة حتى النخاع في أعرق التقاليد الاستعمارية في العالم، احتار المسئولون البريطانيون لرفض إدارة ترومان الاعتراف بأن بريطانيا يجب أن تجني الأرباح من عملها في الدول الأخرى. فما بدا للأمريكيين — وأكثر منهم الإيرانيون — نزعة استعمارية وحشية بدا طبيعيًّا للبريطانيين. فقد أصروا على أنهم يؤدون خدمة جليلة للعالم بعملهم في إيران على حد زعم السير دونالد فيرجسون وكيل الوزارة الحالي بوزارة النفط والطاقة في مذكراته:

كانت الجرأة والمهارات والجهود البريطانية هي التي أدت إلى اكتشاف النفط في الأراضي الإيرانية واستخراجه وإلى بناء مصفاة التكرير وإلى تسويق النفط الإيراني في ثلاثين أو أربعين دولة عن طريق أرصفة الميناء وصهاريج التخزين والمضخات والصهاريج البرية والسكك الحديدية ووسائل التوزيع الأخرى، بالإضافة إلى أسطول ضخم من الصهاريج. وقد فُعل كل ذلك عندما لم يكن من السهل تسويق النفط الإيراني نظرًا للمنافسة الشديدة مع صناعة النفط الأمريكية الأضخم. ولم تكن الحكومة الإيرانية أو الشعب الإيراني قادرين على تأدية أي عمل من تلك الأعمال.

تجسدت الهوة السحيقة بين التصور الأمريكي والبريطاني للأزمة الوشيكة في إيران في السفيرين اللذين أرسلتهما هاتان الدولتان إلى طهران عام ١٩٥٠. كان هنري جريدي السفير الأمريكي خبيرًا اقتصاديًّا ذا خبرة مباشرة باليونان والهند، وهما دولتان ساهمت الحركات القومية في تشكيل الوضع السياسي بهما. واعتقد جريدي أنه لو لم تؤيد الولايات المتحدة القوى الوطنية في الدول النامية، فسوف تتجه تلك القوى نحو الماركسية والاتحاد السوفييتي. لقد كان معاديًا للشيوعية ولكنه أيضًا معادٍ للاستعمار بنفس القدر.

مثل جريدي النقيض من نظيره البريطاني في طهران — السير فرانسيس شيبرد شديد العنف — من حيث الطباع والتوجه السياسي. وكانت التقارير التي أرسلها السفيران إلى بلديهما مختلفة وكأنها لا تتحدث عن نفس الدولة. فجريدي رأى دولة فقيرة استغلها البريطانيون الذين امتصوا دماءها وعاملوا الشاه المثير للشفقة كما لو كان خادمًا لهم. أما شيبرد فاعتبر شركة النفط البريطانية الإيرانية شركة عاقلة حكيمة لم تجلب لإيران سوى الخير. ولم يكن يرحب بالإيرانيين ناكري الجميل أو الدبلوماسيين الأمريكيين المتطفلين الذين يعتقدون عكس ذلك.

وفي فبراير عام ١٩٥١ دعا جورج ماكجي كل السفراء الأمريكيين في الشرق الأوسط إلى اجتماع في إسطنبول. وكان أحد أهم بنود جدول الأعمال هو الخلاف الذي حدث بين الولايات المتحدة وبريطانيا بشأن إيران. وتوصل الدبلوماسيون المجتمعون إلى أن شراسة شركة النفط البريطانية الإيرانية هي «من أكبر العوائق السياسية التي تؤثر على المصالح المشتركة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الشرق الأوسط». وأكدوا في مذكرة سرية أن «السياسات الرجعية العتيقة» التي تتبعها الشركة لا تؤدي إلى موقف شديد الخطورة فحسب، بل إنها أيضًا «تحُول دون السيطرة على الشيوعية في إيران». وكان هذا الإجماع موجِّهًا للسياسة الأمريكية من خلال إدارة ترومان.

اشتدت الأزمة الإيرانية على مدار الأسابيع التالية. فقد اغتيل رئيس الوزراء رازمارا في السابع من مارس، وفي الخامس عشر من مارس أجري التصويت التاريخي في المجلس على «قبول مبدأ تأميم النفط في إيران». وقد يكون بعض النواب قد ظنوا أن البريطانيين سوف يجدون طريقة للتعايش مع هذا القرار، وذلك لأن البرلمان الإنجليزي نفسه قد بدأ في تأميم الصناعات البريطانية الرئيسة. ولذلك فقد تساءل وزير الخارجية إرنست بيفين: «ما الحجة التي يمكنني تقديمها لأي مطالب بالحق في تأميم موارد بلاده؟ إننا نفعل نفس الشيء هنا في بلادنا بمصادر قوتنا مثل الفحم والكهرباء والسكك الحديدية والمواصلات والصلب.» ولكن بيفين لم يكن في السلطة عندما اندلعت الأزمة في إيران، واتفق خلفاؤه في السلطة بالإجماع على أنه رغم كون التأميم مسلكًا حكيمًا في الديار، فإنه لا يمكن اتباعه في الدول الأخرى.

وفور تصويت المجلس على تأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية توجه ماكجي إلى طهران. وعندما وصل إلى هناك في السابع عشر من مارس وجد السفير شيبرد في حالة نفسية سيئة. فقد ألقى باللوم على الأمريكيين، وخاصة شركة أرامكو (شركة النفط العربية الأمريكية). لقد شكا من أن إعلان أرامكو اعتزامها مناصفة الأرباح مع السعوديين قد أضعف موقف بريطانيا في المفاوضات. وأجاب ماكجي بأنه أنذر شركة النفط البريطانية الإيرانية منذ أشهر عديدة بدنو اضطرارهم إلى مناصفة الأرباح. وأخبر شيبرد بأن الشركة قد جلبت المتاعب لنفسها «بتعنتها وبطئها في إدراك الموقف الجديد في إيران الذي يتطلب توجهًا جديدًا».

وفي ذلك المساء توجه ماكجي لزيارة الشاه. وكان اجتماعهما محبطًا للغاية حيث كتب ماكجي عنه بعد ذلك:

كنت قد قابلت الشاه منذ عام ونصف أثناء زيارته الرسمية المشهورة لواشنطن. وكان حينئذٍ رجلًا متكبرًا متصلب الرأي مصرًّا على أخذ مطالبه بجدية. ولكن عندما رأيته في قاعة المقابلات الرسمية المظلمة التي استقبلني فيها متكئًا على أريكة شاهدت رجلًا مكتئبًا محطمًا. وشعرت بأنه يخشى أن يغتال هو أيضًا … هل كان يظن أنه بمساعدتنا يمكن أن يتجنب موضوع التأميم؟

أخبرني الشاه بأنه لا يمكنه فعل ذلك. ورجانا ألا نطلب منه ذلك. لم يكن بإمكانه حتى تشكيل حكومة. كان الجميع خائفين. وهناك أعداء غير مرئيين في كل مكان … بدا الشاه يائسًا كما لو كان يعتقد أن الأمر برمته مستحيل. فتركته وحيدًا في قاعته المظلمة. ولكنني لن أنسى أبدًا النظرة الحزينة المكتئبة التي أطلت من عينيه … كان شبح الموت والفوضى الوشيكة يخيم على طهران كسحابة سوداء. وكنت حزينًا عندما ألقيت عليه تحية الوداع.

وفي طريقه للعودة إلى الديار توقف ماكجي في لندن وقابل السير ويليام فريزر رئيس مجلس إدارة شركة النفط البريطانية الإيرانية وموريسون وزير الخارجية. وكانت تلك الاجتماعات عاصفة حتى إن موريسون قرر إرسال وفد إلى واشنطن كي يعرض قضية بريطانيا. واختار السير أوليفر فرانكس السفير البريطاني في واشنطن — الذي كان مدرس علم الأخلاق لماكجي في جامعة أوكسفورد — رئيسًا لذلك الوفد.

استمرت تلك الاجتماعات تسعة أيام. وحاول المبعوثون البريطانيون أن يبرهنوا أن السماح لإيران بتأميم النفط «سوف يعتبر إلى حد بعيد انتصارًا للروسيين»، بالإضافة إلى أنه سوف «يؤدي إلى عجز قدره مائة مليون جنيه سنويًّا في ميزان مدفوعات المملكة المتحدة، مما يؤثر بشدة على برنامج إعادة التسليح ومستوى المعيشة في بلادنا». وأصر فرانكس على أن إيران «لا تملك شكوى حقيقية» من بريطانيا أو شركة النفط، في حين تشعر بريطانيا بالقلق الشديد بشأن فقدان «أحد احتياجاتها الاستراتيجية الأساسية». ووصف شركة النفط البريطانية الإيرانية بأنها أحد الأصول المهمة للغرب، «ليس من أجل أهميتها في ميزان المدفوعات فحسب … بل أيضًا بسبب القدرة التي أعطتها لنا على التحكم في انتقال المواد الخام». حيث يعتبر النفط الإيراني حيويًّا «من أجل الدفاع المشترك»، وتعني خسارته لنا تعطيل «قدرتنا على إعادة التسليح».

على مدار عدة أيام ظل ماكجي يستمع في إحباط صامت. وعندما تحدث في نهاية الأمر حذر البريطانيين مرة أخرى من ضرورة التوصل إلى تسوية مع إيران أو مواجهة الكوارث. وحثهم على بدء مناصفة الأرباح مع إيران، «وهو ما يحمل شعورًا بالعدل إلى رجل الشارع». ولكن البريطانيين لم يقتنعوا. وكتب عن ذلك الأمر فيما بعد: «في نهاية الأمر كان عليَّ للأسف أن أخطر فرانكس في اجتماعنا الأخير الذي عقد في الثامن عشر من أبريل بأن عروضهم لا تفي بمتطلبات النجاح من وجهة نظرنا في حالة الاستقرار على خيار التأميم.»

وفور انتهاء المباحثات في واشنطن شرعت إيران في مسلكها الشجاع الجديد. ففي الأول من مايو عام ١٩٥١ وقَّع محمد رضا شاه القانون الخطير الخاص بإلغاء امتياز شركة النفط البريطانية الإيرانية وتأسيس شركة النفط الإيرانية القومية بدلًا منها. وفي اليوم التالي طالبت بريطانيا بإيقاف العمل بهذا القانون. وفي السادس من مايو عرض مصدق وزارته على المجلس. وحصل على الموافقة عليها في الحال، وفي نفس اليوم تولى مصدق منصب رئيس الوزراء.

بقدر ما كان وصول مصدق للسلطة لحظة تاريخية للإيرانيين، كان صدمة للبريطانيين. فقد كانوا معتادين على التلاعب برؤساء الوزارات الإيرانيين كما لو كانوا قطعًا من الشطرنج، وفجأة وجدوا أنفسهم في مواجهة رئيس وزراء يكن لهم الكراهية. وأعلنت إذاعة طهران التابعة للحكومة في برنامج أذيع عقب تولي مصدق السلطة «أن كل أشكال البؤس والتعاسة والفوضى والفساد التي مرت بها إيران خلال الخمسين عامًا الأخيرة ترجع إلى النفط وإلى الابتزاز الذي مارسته شركة النفط».

ولفترة وجيزة بدا أن رئيس الوزراء أتلي مستعد للتسوية. وكان أتلي اشتراكيًّا ساهم في وضع خطط لتأميم بعض الصناعات الأساسية في بريطانيا. وفي أحد الاجتماعات الوزارية اقترح أن تصدر بريطانيا بيانًا عامًّا تعلن فيه قبول تأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية، مما يعطي مصدق «فرصة لحفظ ماء وجهه»، ثم تسعى لعقد صفقة ملتوية تحتفظ الشركة بموجبها بمعظم امتيازاتها. ولكن هربرت موريسون اعترض بشدة. وحذر أتلي قائلًا إن أي تنازلات لإيران ستصبح سابقة غير مسموح بها وتشجع الحركات القومية في كل مكان. وانخدع أتلي بذلك التحذير وأرسل برقية إلى السفير فرانكس في واشنطن. كان يأمره فيها بأن يخبر أتشيسون بأن «النفط الإيراني شديد الأهمية لاقتصادنا وأننا سوف نبذل كل ما بوسعنا كي نمنع الإيرانيين من الإفلات بجريمة خرق التزاماتهم التعاقدية».

ولكن أتشيسون كان يعتقد أن مصدق يمثل «ثورة عميقة قومية الطابع لن تكتسح إيران فحسب بل الشرق الأوسط بأكمله». واستمر هو وآخرون في إدارة ترومان يحثون نظراءهم البريطانيين على تجنب سياسة المواجهة وعرض تسوية قانونية على مصدق. فعلوا ذلك رغم إدراكهم أن مصدق ليس شخصية من السهل التعامل معها كما أوضحت اللمحة التالية عن حياته في جريدة «نيويورك تايمز»:

ألقت الموجة العاتية من الحماس القومي التي اجتاحت شركة النفط البريطانية الإيرانية خلال بضعة أسابيع بأحد أعظم الزعماء الشعبيين في إيران — وهو محمد مصدق — إلى قمة السلطة. ومن وجهة نظر الجماهير يمثل رئيس الوزراء الجديد عدالة القصاص التي حركت البرلمان سريع التأثر وقادته إلى النصر على التنين أو شركة النفط البريطانية الإيرانية التي ظلت من وجهة نظر الكثيرين تقتات على الموارد الأساسية للبلاد طوال سنوات عديدة …

طلب أحد الدبلوماسيين الأجانب الذين قابلوا د. مصدق مؤخرًا منه بأن يوضح كيف ينوي نزع ملكية شركة النفط البريطانية الإيرانية. وعلى مدار نصف ساعة أخذ مصدق يوضح الجرائم التي ارتكبها الاستعمار البريطاني طوال المائة عام الماضية. وعندما فرغ من حديثه أعاد عليه الدبلوماسي سؤاله. ومرة أخرى ندد رئيس الوزراء بالإمبريالية البريطانية. وانتهى الحوار عند هذا الحد.

ما الخطوة التالية ﻟ د. مصدق؟ سوف يظل هذا السؤال معلقًا ومفتوحًا لتخيلات الجميع.

لم تنجح الرسائل المتبادلة بين واشنطن ولندن في منتصف عام ١٩٥١ في تقريب وجهات النظر بين الحليفين بشأن كيفية التعامل مع مصدق. وفي الثامن عشر من مايو أصدرت وزارة الخارجية بيانًا عامًّا تعلن فيه أن الأمريكيين «يدركون تمامًا حق السيادة الذي تتمتع به إيران ويتعاطفون مع رغبة إيران في زيادة الأرباح المستحقة لها من الاستثمار في البترول». قرأ موريسون هذا البيان بضيق شديد، ثم أرسل برقية إلى السفير فرانكس في ذلك المساء يخبره فيها بأنه «مستاء بشدة من اللامبالاة الأمريكية للموقف الذي قد يصبح خطيرًا علينا جميعًا».

وسرعان ما أرسل موريسون رسالة إلى أتشيسون حاول فيها توضيح موقف بريطانيا. فقد ذكر أن المشكلة التي تواجهها بريطانيا في إيران «تخص أهم الأصول التي نملكها من المواد الخام، ويعتبر التحكم في هذا الأصل في غاية الأهمية … فلن يقبل البرلمان والرأي العام في إنجلترا عن طيب نفس التنازل عن التحكم الفعلي في ذلك الأصل عظيم الأهمية».

ولكن الأمريكيين لم يتأثروا بذلك، وفي الحادي والثلاثين من مايو أرسل ترومان مذكرة إلى أتلي يحثه فيها على «بدء المفاوضات على الفور» كي يمنع تفاقم «الموقف الخطير» في إيران. وأجاب أتلي بأن السماح لإيران بأن تفلت بجريمة التأميم سوف يكون له «تداعيات شديدة الخطورة على العالم الحر بأكمله». ولكنه أدرك أنه نظرًا إلى إصرار ترومان سوف يضطر البريطانيون إلى التظاهر على الأقل بالتواصل البناء مع مصدق.

وبناء على اقتراح أتلي أرسلت شركة النفط البريطانية الإيرانية وفدًا من مسئوليها بقيادة بيزل جاكسون نائب رئيس مجلس إدارة الشركة إلى طهران للتفاوض. ورحب بهم مصدق على طريقته عن طريق تولية ضابطي شرطة إيرانيين السلطة في مقر شركة النفط في مدينة كرمانشاه غربي إيران في يوم وصولهم. وكما لو كان ذلك غير كافٍ لزيادة التوتر في الأجواء، أعاد السفير جريدي تأكيد الموقف الأمريكي في حوار أجراه مع جريدة «وول ستريت».

فأكد قائلًا: «بما أن التأميم قد أصبح حقيقة واقعة، فالحكمة تتطلب من البريطانيين أن يتخذوا موقفًا يميل نحو المصالحة. ويعد حزب الجبهة الوطنية الذي يرأسه مصدق أقرب ما يكون إلى عنصر سياسي معتدل متوازن في البرلمان الوطني.»

أعلن الإيرانيون على مائدة المفاوضات استعدادهم للحوار، ولكن بعد أن يعلن الضيوف القادمين من لندن قبولهم لتأميم «الشركة المذكورة» بوصفه أمرًا واقعًا. ولكن جاكسون رفض وأصر على أن إيران ملزمة بتنفيذ اتفاقية ١٩٣٣ ولا يمكنها التنصل منها قبل انتهاء مدتها البالغة ستين عامًا. وقدم لهم عرضًا مختلفًا. تمثل هذا العرض في تسديد شركة النفط عشرة ملايين جنيه إسترليني لإيران وثلاثة ملايين جنيه إسترليني شهريًّا أثناء المفاوضات، بالإضافة إلى استعدادها لتحويل أصولها إلى شركة النفط الإيرانية القومية الجديدة ولكن بشرط إنشاء شركة جديدة تمتلك «الحق الحصري في استخدام تلك الأصول». وكان ذلك إعلانًا شبه صريح بأن بريطانيا ما زالت ترفض الاعتراف بالتأميم. وأكد ذلك التصريح الموقف الثابت لوزارة الخارجية المتمثل في أن البريطانيين «يمكنهم التحلي بالمرونة في مسألة الأرباح أو الإدارة أو الشراكة، ولكن ليس في مسألة السيطرة والتحكم». ولم يفاجأ أحد برفض المتفاوضين الإيرانيين لذلك العرض.

في العشرين من يونيو أمر مصدق بتعيين مهدي بازارجان، وهو مهندس تلقى تعليمه في فرنسا، في منصب العضو المنتدب لشركة النفط الإيرانية القومية، وانطلق بازارجان في الحال إلى عبدان حيث لا يزال المديرون البريطانيون يديرون مصفاة التكرير وقدم لهم نفسه بصفته رئيسهم الجديد. وأول أمر أصدره قباطنة ناقلات النفط هو وجوب تقديم إيصالات قبل الإبحار مذكور فيها كمية النفط المنقولة حتى يمكنه تتبع كمية النفط المصدَّر بدقة.

ولكن البريطانيين لم يتقبلوا ذلك الأمر. فقد كانوا يعتقدون — كما أكد سفيرهم لدى الأمم المتحدة — أن النفط «حق قانوني لشركة النفط البريطانية الإيرانية». وعندما رفض قباطنة ناقلات النفط تقديم تلك الإيصالات هددهم بازارجان بالقبض على إريك دريك المدير العام لشركة النفط البريطانية الإيرانية بتهمة التخريب. ولما كانت تلك التهمة تؤدي إلى عقوبة الإعدام بموجب مشروع قانون ما زال مطروحًا في المجلس، نصح السفير شيبرد دريك بأن يغادر إيران، ولكن ذلك القانون لم يصدق عليه. وبالفعل غادر دريك البلاد وأخذ يدير الشركة من مكتب يقع مقره في البصرة على ضفاف نهر شط العرب في العراق. ومن موقعه هناك استمر في رفض المطالبة بالإيصالات. وعندما أصر الإيرانيون أصدر السير ويليام فريزر أمرًا من موقعه في لندن لقباطنة ناقلات النفط بإعادة ضخ كل النفط في المخازن وترك عبدان خالية من النفط تمامًا.

حتى تلك اللحظة كانت إيران رابع أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم. كانت تغطي ٩٠٪ من احتياجات أوروبا للنفط. والآن حيث إنها لم تعد تملك أي ناقلة نفط لم يعد بإمكانها تصدير قطرة نفط واحدة. ولم يكن ذلك الأمر يمثل مشكلة لفريزر الذي ما زال يعتقد أن بإمكانه إجبار الإيرانيين على الخضوع لإرادته. فقد توقع أن الإيرانيين «عندما يحتاجون للمال سوف يأتون زاحفين على بطونهم».

إن فكرة تأميم إيران لصناعة النفط بدت سخيفة ومستحيلة لفريزر وزملائه في شركة النفط البريطانية الإيرانية، بالإضافة إلى مسئولي الحكومة البريطانية، مع أنها كانت تحدث بالفعل. ولم يتمكنوا من أخذ الأمر على محمل الجد. فمن وجهة نظرهم ليست الحملة بأكملها إلا خدعة هائلة أو حيلة لابتزاز المزيد من المال من بريطانيا، أو غضبة عنيفة سوف تنتهي عندما تتضح عواقبها.

تذكر إريك دريك تلك الأيام فيما بعد قائلًا: «لم يكن أحد يتخيل قبل عام ١٩٥١ أننا لن نظل في إيران للأبد. فقد كنا هناك بموجب اتفاقية دولية بين حكومة إيران وشركة النفط البريطانية الإيرانية، ولا يوجد سبب يدعو تلك الاتفاقية للانتهاء حسبما نرى.»

ركبت الصحافة البريطانية موجة الهجوم على مصدق بحماس شديد. فقد ألقت جريدة «تايمز» التي تصدر في لندن اللوم على «السياسيين الإيرانيين المستهترين» في إثارة هياج العامة غير المتعلمين. وأعلنت مجلة «ذي إيكونوميست» أن شركة النفط البريطانية الإيرانية قد أصبحت «كبش فداء ضخم» وأكدت قائلة: «لا يصدق أي إيراني لديه القدرة على التمييز أن شركة النفط البريطانية الإيرانية مسئولة عن الفقر المدقع الذي تعيش فيه الجماهير.» ووصفت جريدة «ذي أوبزرفر» مصدق بأنه «متعصب من طراز روبسبيير» و«وحش بائس مهووس بفكرة واحدة تتعلق بكراهية الأجانب».

وفي الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي اختلفت النغمة تمامًا. فقد أكدت جريدة «واشنطن بوست» أن معظم الإيرانيين يعتبرون شركة النفط «دولة مزدهرة داخل دولة مصابة بالابتلاء ورمزًا للفقر الذي يرزحون تحت وطأته». وأعلنت جريدة «نيويورك تايمز» أن العديد من المختصين في شئون الشرق الأوسط يعتبرون مصدق منقذًا على شاكلة توماس جيفرسون أو توماس بين. وأعلنت جريدة «شيكاجو ديلي نيوز» أن العديد من البريطانيين يشعرون بالاستياء حيال الطريقة التي تتعامل بها حكومتهم مع الأمر. فقد كتب مراسلها في لندن: «لا يعتقد منتقدو بريطانيا أن ماكجي مسئول بالفعل عن الأزمة الإيرانية. ولكنهم أجمعوا على أن شركة النفط البريطانية الإيرانية تناولت المسألة برمتها بطريقة سيئة، وذلك بالتواطؤ مع وزارة الخارجية كالعادة.»

كان هناك بالفعل معارضة في بريطانيا. فقد كتب المستشار العمالي لشركة النفط البريطانية الإيرانية السير فريدريك ليجيت رسالة إلى صديق له في وزارة الخارجية يخبره فيها بأن الشركة قد أصبحت في ذلك «الموقف المؤسف» بسبب «عدم قدرتها على إدراك الطموحات القومية الإيرانية». واشتكى وزير الدولة كينيث يونجر في مذكرة بعث بها إلى موريسون من «قصر نظر شركة النفط البريطانية الإيرانية وقلة الوعي السياسي الذي أبدته»، وأكد قائلًا إن الشركة «لم تحاول بجدية قط تقدير الموقف تقديرًا صحيحًا». وأخبر الإيرل ماونتباتن رؤساءه في إمارة البحر بأنه بدلًا من الاستماع لنصيحة هيربرت موريسون «المعروف بالعدوانية» عن كيفية «ترويع أولئك الأهالي الوقحين»، يجب على بريطانيا أن تدرك أن «التهديدات الاقتصادية والعسكرية سوف تزيد الأمر سوءًا».

بل إن بعض الدبلوماسيين البريطانيين كانوا يرسلون تقارير معارضة لوزارة الخارجية. فقد أرسل الملحق العمالي في طهران برقية تصف الأوضاع في عبدان بأنها يرثى لها، قائلًا إن العمال هناك يعيشون في «أكواخ مصنوعة من الطوب اللبن بلا كهرباء أو موارد مائية أو استعدادات صحية … أي إنهم يعيشون في أحياء عشوائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى». وأرسل الوزير البريطاني من تل أبيب تقريرًا نشر في جريدة «جيروزليم بوست» مؤكدًا أن هذا التقرير قد أقنعه بأن شركة النفط البريطانية الإيرانية «تستحق ما حدث لها». وكان ذلك التقرير قد كتبه إسرائيلي قضى أعوامًا عديدة يعمل في عبدان مع الإيرانيين الذين وصفهم بأنهم «أكثر الكائنات بؤسًا على سطح الأرض».

كانوا يعيشون طوال أشهر الصيف السبعة تحت ظلال الأشجار … وفي الشتاء تنتقل تلك الجماهير إلى قاعات كبيرة بنتها الشركة كي تأوي عددًا كبيرًا من الناس يتراوح بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف شخص دون حوائط أو جدران داخلية تفصل بينهم. وكانت كل عائلة تحتل مساحة لا تزيد عن بطانية واحدة. ولا توجد مراحيض … وحاولنا مرارًا من خلال الجدال مع الزملاء البريطانيين أن نوضح لهم الخطأ الذي يرتكبونه بمعاملة الإيرانيين على هذا النحو. ولكن إجابتهم كانت دائمًا بأن «البريطانيين لديهم مئات من الأعوام من الخبرة في معاملة الأهالي. إن الاشتراكية لا بأس بها في إنجلترا، ولكن هنا عليك أن تكون السيد».

في الثامن والعشرين من يونيو توجه مصدق بمناشدة إلى الفنيين والمديرين البريطانيين في عبدان. أخبرهم فيها بأن إيران ترغب في «الاستفادة من خبراتهم» ووعدهم بأنهم إذا مكثوا في وظائفهم فإن «بلادنا سوف ترحب بكم بشدة». ولما كان فريزر مصممًا على ألا يسمح لإيران بأن تتمكن من إدارة مصفاة التكرير بنفسها، فقد استجاب لتلك المناشدة بإصدار أوامره للموظفين البريطانيين بالرحيل.

ولما كان الإيرانيون قد سيطروا بالفعل على مقر الشركة في كرمانشاه، تمثلت الخطوة التالية لهم في تولي السلطة في مقرات عبدان وطهران. وبالفعل نفذوا ذلك في الأيام الأخيرة من شهر يونيو. كان مدير مكتب عبدان ذكيًّا بما يكفي كي ينقل المستندات المهمة إلى مقر القنصلية البريطانية الذي لم يكن مسموحًا للإيرانيين بدخوله. ولكن ريتشارد سيدون مدير مكتب طهران لم يكن يملك سرعة البديهة نفسها. فعندما ذهب وفد من الإيرانيين كي يفتشوا منزله وجدوا ملفات كثيرة هناك ومنها ما كان يحترق في المدفأة. وصف أحد المسئولين بوزارة الخارجية البريطانية الذين شهدوا تلك الليلة ذلك الموقف قائلًا:

مع أن المستندات الخطيرة كانت على حد زعمهم قد أخفيت، فهناك ما يكفي من المستندات كي يثبت مصدق بسهولة أن شركة النفط البريطانية الإيرانية كانت تتدخل في كل جوانب الحياة السياسية في إيران. فقد كشفت المستندات عن تأثير الشركة على أعضاء مجلس الشيوخ ونواب المجلس والوزراء السابقين، وأن من كانوا يعارضونها يُستبعدون من مناصبهم. وكانت الجرائد تتقاضى أموالًا كي تنشر مقالات تزعم أن العديد من زعماء الجبهة الوطنية في حقيقة الأمر جواسيس لشركة النفط البريطانية الإيرانية …

وكان من ضمن تلك المستندات دليل على أن رئيس الوزراء السابق علي منصور قد توسل إلى شركة النفط كي يسمحوا له بالبقاء في منصبه في مقابل أن يلتزم بتعيين وزير مالية جديد توافق عليه الشركة. وكشفت مجموعة أخرى من الخطابات أن الشركة قد ساعدت باهرام شاروغ على أن يصبح مديرًا لقسم الإذاعة والدعاية بإيران، وأنه قد جُند لخدمة الشركة أثناء رحلته إلى لندن. وكان هناك أيضًا العديد من التقارير حول إعطاء محافظ طهران تعليمات للطوائف ذات النفوذ بالتمرد على مؤيدي الجبهة الوطنية في السوق.

نشرت الحكومة تلك المستندات على الملأ، واتخذها العديد من الإيرانيين دليلًا آخر على الغش الذي تمارسه شركة النفط. وأعلن مصدق أن تلك المستندات تثبت أن شركة النفط البريطانية الإيرانية شاركت في حملة «شريرة ومرفوضة» للقضاء على الديمقراطية في إيران. وازداد نواب المجلس غضبًا من تلك الأفعال الاستعمارية. وكان معلقو الأخبار أيضًا كذلك، حيث كتب أحدهم في إحدى الجرائد الإيرانية: «والآن بما أن الستار قد رفع عن الهوية الحقيقية للخائنين الذين تخفوا في صورة صحفيين ونواب بالمجلس وحكام بل رؤساء وزارات، فيتعين إعدام هؤلاء الخائنين رميًا بالرصاص وترك جثثهم كي تنهشها الكلاب.»

كان الرئيس ترومان في ذلك الوقت لا يزال يأمل في التوصل إلى حل لتلك الأزمة، ولذلك فقد عقد اجتماعًا لمجلس الأمن القومي الأمريكي في أواخر شهر يونيو كانت الحقائق المطروحة أمامه مخيفة. فقد فشلت محاولات جورج ماكجي لتغيير رأي وزارة الخارجية وشركة النفط البريطانية الإيرانية فشلًا ذريعًا. وبدأت شركة النفط في إجلاء موظفيها من عبدان، وبدا من المحتمل أن تغلق مصفاة التكرير أبوابها تمامًا. وظلت السفن الحربية البريطانية تطوف بالشواطئ بطريقة تنذر بسوء. وحذر الخبراء في شئون الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي في تقرير لهم من أنه في حالة تعذر حل مشكلة النفط، فإن «خسارة العالم الحر لإيران احتمال قائم». وأكدوا في تقريرهم أن البريطانيين يفكرون جديًّا في غزو إيران، وحذروا من أن ذلك الغزو «قد يؤدي إلى انقسام العالم الحر ويجعل الحكومة الإيرانية تلجأ إلى الاتحاد السوفييتي طلبًا للمساعدة، بالإضافة إلى إحداث الفوضى في إيران».

وهكذا ازداد ترومان قلقًا عن ذي قبل. وزادت الرسالتان اللتان تلقاهما في الأيام التالية من حدة مخاوفه. أما الرسالة الأولى من مصدق فتوضح أن إيران وبريطانيا لا تزالان في طريق التصادم. واشتكى مصدق من الجهود التي تبذلها بريطانيا لتخريب مشروع التأميم الخاص به وأضاف محذرًا: «ليس هناك أي خطر على الإطلاق على حياة المواطنين البريطانيين في إيران وأملاكهم. ولكن نشر الشائعات الكاذبة من جانب عملاء شركة النفط السابقة كان من شأنه أن يؤدي إلى إشاعة القلق والاضطراب.»

وفي الأول من يوليو وجه السفير جريدي التحذيرات نفسها التي وجهها مصدق مستخدمًا ألفاظًا أكثر غلظة. ففي برقية كئيبة أرسلها إلى ترومان حذره من أن الموقف في إيران «شديد الخطورة» وذكر لأول مرة أن بريطانيا تبحث عن طريقة للإطاحة بمصدق. فقد كتب يقول: «يبدو أن البريطانيين بقيادة السيد موريسون مصممون على اتباع الأسلوب القديم المتمثل في استبعاد الحكومة التي تسبب لها المشكلات. ولكن مصدق كان يتمتع بتأييد من شعب بلاده تبلغ نسبته ٩٥ إلى ٩٨٪. ولذلك فمن الحماقة التخلص منه.»

ولكن ما اعتبره جريدي «حماقة شديدة» هو بالضبط ما خطط له البريطانيون. فقد يئسوا من إقناع مصدق بالموافقة على تفكيرهم ولم يكونوا مستعدين لتقديم التنازلات التي يريدها. وأرسل السفير شيبرد برقية إلى لندن يقول فيها «لقد حانت اللحظة المناسبة لمحاولة التخلص منه» كي يأتي رئيس وزراء إيراني جديد «يتمتع بالحكمة واللطف» بدلًا من ذلك «المتعنت غير العملي».

أدت الأنباء التي وردت في الخامس من يوليو إلى زيادة الأمور تعقيدًا. فقد أصدرت محكمة العدل الدولية بناء على طلب بريطانيا «توصية» لإيران بالسماح لشركة النفط بالعمل كالسابق أثناء سير المفاوضات. ولكن إيران رفضت الاشتراك في تلك القضية. فقد كانت المحكمة تملك صلاحية الفصل القضائي في النزاعات بين الدول فحسب، وأكد المسئولون الإيرانيون أن اتفاق ١٩٣٣ عقد بين إيران وبين شركة خاصة، وهكذا فإن محكمة العدل الدولية لا تملك حق التدخل. ورفض الوزير الإيراني المفوض في لاهاي تلك التوصية باعتبارها «باطلة ولاغية» و«تدخلًا في شئوننا الداخلية.»

ولكن كل ذلك لم يزد موريسون إلا إصرارًا. فذهب إلى مجلس العموم البريطاني واعتلى منصة الخطابة كي يعلن أن الموقف في إيران «أصبح لا يحتمل». وكي يضمن أن مصدق يدرك حدة غضبه أضاف قائلًا إن القوات البحرية البريطانية «قابعة بالقرب من عبدان» وسوف تؤمر بالتحرك «في حالة إخفاق الإيرانيين في القيام بمسئولياتهم.»

وهنا رأى ترومان الخطر القادم أكبر من ذي قبل. وفيما يتعلق به كانت مسألة من يتحكم في النفط الإيراني مسألة ثانوية. ولكنه كان قلقًا بشأن خروج الخلاف بين الولايات المتحدة وبريطانيا حول كيفية التعامل مع مصدق عن السيطرة وانقسام حلف شمال الأطلنطي. وإصرارًا منه على القيام بمحاولة أخيرة للتسوية كتب رسالة إلى مصدق يقترح فيها أن تتوسط الولايات المتحدة بطريقة مباشرة:

إن هذا الأمر محفوف بالمخاطر على بلادكم وبريطانيا العظمى والعالم الحر بأكمله، ولذلك فكرت جديًّا في تلك المشكلات … وقد تابعت بقلق شديد توقف المباحثات وقرب انهيار عمليات النفط وكل الخسائر المصاحبة لذلك لإيران والعالم. وبالطبع تعتبر تلك كارثة يمكن تفاديها بقليل من الحنكة السياسية …

إنني أعلق آمالًا كثيرة على دعوى محكمة العدل [الدولية] … ولذلك فإنني أنصح جديًّا بوضع اقتراحها في الاعتبار. كما أنصح بألا يعتبر حكمها قرارًا ملزمًا أو غير ملزم بناء على الاعتبارات القانونية، ولكن اقتراحًا صادرًا عن جهة موضوعية تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة وسيادة السلام في العالم …

سيدي رئيس الوزراء، إن لديَّ رغبة صادقة في تقديم المساعدة بقدر الإمكان في تلك الظروف، وقد ناقشت ذلك الأمر بالتفصيل مع السيد دابليو أفريل هاريمان الذي يعتبر كما تعلم أحد مستشارينا المقربين وأحد مواطنينا البارزين. وإذا رغبت في استقباله فإنني على استعداد لأن أرسله إلى طهران بصفته مندوبي الشخصي كي يناقش معكم ذلك الموقف العاجل الملح.

كان أفريل هاريمان دبلوماسيًّا بارعًا؛ عمل سفيرًا للولايات المتحدة في بريطانيا والاتحاد السوفييتي، بالإضافة إلى إدارته لمشروع مارشال في أوروبا. ويعرف محمد رضا شاه ويمتلك خبرة في الشئون الإيرانية. وفور أن أخبره ترومان بمهمته الجديدة استقبل هاريمان وفدًا رفيع المستوى في منزله بواشنطن مكونًا من وزير الخارجية أتشيسون ومساعده جورج ماكجي واثنين من المسئولين بوزارة الخارجية والسفير البريطاني السير أوليفر فرانكس. وأجمع الكل على أن الموقف في إيران أصبح شديد الخطورة. فقد كانوا يخشون أن يؤدي وقوع أي حادث بسيط في عبدان إلى التدخل العسكري البريطاني، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى استعانة مصدق بالسوفييت. وحتى لو لم يحدث ذلك فمن المحتم أن يؤدي إغلاق معمل التكرير إلى تفجير عاصفة من الاضطراب الاجتماعي والسياسي.

كانت مهمة هاريمان محفوفة بالتحديات من قبل أن تبدأ. فقد عارض البريطانيون الفكرة في حد ذاتها. وفي رسالة أرسلها موريسون إلى أتشيسون تدل على نفاد الصبر أخبره فيها بأن بريطانيا «تمر بمشكلات خطيرة» ولا تحتاج إلى المزيد من المفاوضات ولكن إلى «دعم صادق» من الولايات المتحدة. كتب: «يتعين عليَّ أن أخبرك بأن إحدى الصعوبات الرئيسة التي تواجهنا في تلك المشكلة العنيدة قد نشأت من اعتقاد العديد من الإيرانيين بوجود خلاف في الرأي بين الأمريكيين والبريطانيين بشأن قضية النفط. وأخشى أن يؤدي تقدم مندوب الرئيس بعرض جديد إلى تشجيع د. مصدق على الاستمرار في هذا الاعتقاد.»

أكدت تلك الرسالة وجهة نظر أتشيسون المتمثلة في أن موريسون «لا يعلم شيئًا عن الشئون الخارجية ولا يشعر بالموقف». ولم يكن أيضًا يحتمل السفير البريطاني المتعصب السير فرانسيس شيبرد الذي كان يعتبره «تلميذًا خائبًا للمدرسة الدبلوماسية المسماة القمع بالقنابل». وكانت الكراهية متبادلة بينهما. ففور أن علم شيبرد بأن أتشيسون يعتزم إرسال مبعوث إلى طهران كي يتدخل فيما يعتبره شئونه الخاصة، عقد مؤتمرًا صحفيًّا للتعبير عن «دهشته وضيقه» من جرأة الشعب الأمريكي ووقاحته.

وتساءل متعجبًا: «لماذا يأتي هاريمان إلى هنا؟! إننا لا نرحب بالتدخل في هذا الأمر.» كانت تلك الثورة غير دبلوماسية على الإطلاق، وبناء على تعليمات من وزارة الخارجية أعلن شيبرد التراجع عن ذلك التصريح في اليوم التالي.

في ذلك المناخ المتوتر توجه السفير جريدي بزيارة لمصدق كي يسلمه خطاب ترومان. وكان يرتدي قميصًا أبيض وقبعة استوائية أنيقة ويبتسم ملوحًا للمصورين عند وصوله. ولكن اجتماعهما لم يكلل بالنجاح. فبناء على طلب مصدق قرأ جريدي الخطاب بصوت مرتفع، وعندما وصل إلى الفقرة التي يحثه فيها ترومان على قبول توصية المحكمة انفجر مصدق في الضحك الهستيري لمدة تزيد عن نصف دقيقة، وعندما توقف عن الضحك استغرقا في الصمت لبرهة. وأخيرًا أخبر مصدق جريدي بأن إيران تعتقد أن محكمة العدل الدولية لا تتمتع بسلطة قضائية في تلك القضية. ثم بدأ فاصلًا عنيفًا من الاتهامات الغاضبة للولايات المتحدة التي وصفها بأنها كانت تتمتع بالقيم الأخلاقية فيما مضى ولكنها الآن تضعف أمام الضغوط البريطانية. وكان تقريعه شديد القسوة حتى إن جريدي لم يرَ فائدة من التعجيل بزيارة هاريمان المحتملة.

غضب أتشيسون غضبًا شديدًا عندما وصلته أخبار تلك المقابلة. وأرسل رسالة عنيفة إلى جريدي يخبره فيها بأن مهمة هاريمان هي:

«العنصر الإيجابي الوحيد في اقتراح الرئيس والخطوة التي نعلق عليها أنا والرئيس أهمية كبرى. إنني لا أصدق أن رد الفعل الأول لمصدق هو رأيه النهائي بعد التفكير. وأعتقد أن اعتبارات اللياقة سوف تدفعه إلى التفكير مليًّا في رسالة الرئيس واستقبال مندوب الرئيس الشخصي الذي يمكنه مشاركة التفكير العميق الذي قام به الرئيس في ذلك الأمر وتلقي أي اقتراحات يدلي بها مصدق. لذلك عليك أن تطلب مقابلة مصدق مرة أخرى بأسرع وقت ممكن وحثه على تلك الاعتبارات بطريقتك اللبقة.»

فعل جريدي ما طلب منه، واتضح أن ثقة أتشيسون في قدراته الإقناعية في محلها. فقد تمكن من إقناع مصدق بأن مهمة هاريمان في مصلحة الجميع. وعندما وصل هاريمان إلى طهران في الخامس عشر من يوليو عام ١٩٥١. استقبلته لجنة من عشرة آلاف إيراني غاضب يصرخون «الموت لهاريمان!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥