إنك لا تعلم كم هم أشرار
لم تكن الساعات الأولى لهاريمان في طهران مبشرة بالنجاح. فقد اضطر سائق سيارته الليموزين إلى سلوك طريق ملتوٍ من المطار كي يتجنب الجماهير الغاضبة. ووصل بسلام إلى قصر الضيافة المعد لاستقباله ولكنه تناول عشاءه وأصوات إطلاق النيران تدوي حوله. كان رجال الشرطة والجنود في السيارات المصفحة يطلقون النيران على المتظاهرين. وبحلول منتصف الليل كانت المدينة قد غرقت في بحر من الدماء والغازات المسيلة للدموع. ولقي أكثر من عشرين شخصًا مصرعهم وأصيب مائتان.
لماذا انتهت المظاهرات بتلك المذبحة الرهيبة؟ ألقت الصحف في اليوم التالي اللوم على محمد رضا شاه واللواء فضل الله زاهدي وزير الداخلية المتعنت اللذين قيل إنهما حرضا على العنف متعمدين كي يعطيا هاريمان انطباعًا بأن إيران تمر بحالة من الفوضى. فاستشاط مصدق غضبًا وأقال زاهدي من منصبه قبل نهاية ذلك اليوم.
وفي ذلك المساء توجه هاريمان بزيارته الأولى لمصدق. وكان ذلك الاجتماع مختلفًا عن أي اجتماع آخر في مسيرة هاريمان الدبلوماسية الطويلة. لقد اقتيد إلى غرفة نوم في الطابق العلوي في منزل مصدق المتواضع فوجده مستلقيًا في الفراش يرتدي عباءة من وبر الجمل. ورحب مصدق بضيفه بفتور وأخبره بأنه يأمل أن يكتشف خلال المباحثات هل الولايات المتحدة بالفعل نصير للمظلومين أم أنها ليست إلا ألعوبة في يد البريطانيين الأشرار. وأجاب هاريمان بأنه قد عاش فترة في لندن بين البريطانيين ويعلم جيدًا أن منهم الصالحين والطالحين. ولكن مصدق غمغم معترضًا «إنك لا تعلمهم جيدًا. إنك لا تعلمهم جيدًا.»
لم يكن مصدق يرى أي تناقض بين احترامه الشديد للنظام الدستوري البريطاني وبين احتقاره لحكومة بريطانيا وتاريخها الاستعماري. فقد ذكر خلال أحد اجتماعاته مع هاريمان أحد أحفاده المفضلين. وتساءل هاريمان عن المكان الذي يدرس فيه هذا الحفيد. فأجاب مصدق قائلًا: «في إنجلترا بالطبع. في أي مكان غيرها تتوقع أن يدرس إذن؟!»
لما كان [مصدق] مخدوعًا طوال الوقت، كان يستجيب بإطلاق ضحكات طفولية غير مريحة أو اعترافات تمزق نياط القلب تتبعها إعادة للأسلوب المراوغ نفسه مع بعض التغيير الذي لا يجيد إخفاءه. كان ذلك الرجل يجسد قلة الحيلة، ورغم أنه كان مفتونًا بالقوميين المتعصبين بقدر ما كان زعيمًا لهم، لم يكن هناك ما يجعله يلين. وعندما يتعرض للضغوط يخلد إلى فراشه، ويبدو أحيانًا كما لو كان يمتلك سيطرة ضعيفة على الحياة ذاتها وهو يرقد مرتديًا منامته الوردية ويداه معقودتان على صدره وعيناه تطرفان وأنفاسه متقطعة.
ولكن في اللحظة المناسبة يخرج من قوقعة الرجل الضعيف العاجز ويتحوَّل إلى خصم قوي مخادع. فقد كان يذهب إلى مدخل قصر الضيافة الذي استقبل هاريمان وهو يجر قدميه ببطء ويتوكأ على عصاه، ولكن ما إن يدخل حتى يلوح بالعصا بعيدًا وأحيانًا ينسى أين وضعها. وعندما تعرف على ماري هاريمان تناول يدها كي يقبلها من باب اللياقة، ولكنه لم يتوقف عن تقبيلها حتى وصل إلى منتصف ذراعها. وشوهد لاحقًا وهو يختلس النظرات إليها بصورة كانت أحيانًا ما تقطع حبل أفكاره تمامًا.
كان هاريمان قد أحضر معه خبيرًا في البترول يدعى والتر جيه ليفي اصطحبه معه في اجتماعات عديدة مع مصدق. وذكر ليفي مرارًا وتكرارًا العقبات التي سوف تواجهها حكومة مصدق إذا حاولت إدارة مصفاة التكرير في عبدان بنفسها. فلا يوجد أي إيراني تقريبًا مؤهل لتولي الوظائف الإدارية والفنية الكبرى، وحتى إذا تمكنوا بمعجزة من المحافظة على تدفق النفط فإن إيران لا تمتلك ناقلات للنفط كي تنقله إلى الأسواق. وسوف تؤدي خسارة عوائد شركة النفط البريطانية الإيرانية التي بلغت عام ١٩٥٠ نحو عشرة ملايين جنيه إسترليني إلى تقويض استقرار إيران، مما قد يؤدي إلى الإطاحة بمصدق وتعيين حكومة يديرها حزب تودة من موسكو. وهو ما قد يؤدي بدوره إلى التدخل العسكري للدول الغربية في إيران.
ولكن أيًّا من تلك الحجج لم تهتز لها شعرة في رأس مصدق. فقد أصر على أن التدخل الأجنبي هو أصل كل المشكلات في إيران وأنه «بدأ في عهد الإسكندر الأكبر» الذي أمر بحرق مدينة برسيبوليس منذ أربعة وعشرين قرنًا. وكلما توقف ليفي بعدما يوضح نقطة فاصلة في معاناة إيران في حالة إخفاقها في التوصل لاتفاق مع البريطانيين، أدار مصدق عينيه في ملل ورد: «إن ذلك مضر للغاية.»
ولما كان هاريمان ومساعدوه معتادين على الأخذ والعطاء المتبادل في الإجراءات الدبلوماسية التقليدية، فقد ذهلوا من طريقة مصدق في التفاوض التي أثارت جنونهم. وكتب المترجم الفوري الأمريكي فيرنون والترز عن ذلك الأمر: «لقد تعلم د. مصدق أن يتخذ خطوة للأمام كي يتراجع بعدها خطوتين للخلف. فبعد يوم كامل من المباحثات يتمكن السيد هاريمان من إقناع مصدق بوجهة نظر معينة. ولكن في اليوم التالي لم يكن مصدق يغير موقفه عن اليوم السابق فحسب، بل يغير موقفه عن اليوم الذي قبله أيضًا. وربما كان يعود إلى موقف عبَّر عنه منذ يومين.»
كان والترز في ذلك الوقت ضابطًا برتبة مقدم في الجيش الأمريكي. وقد جذبت مهاراته اللغوية انتباه رؤسائه إليه وساعدته على أن يشق طريقه في مجال مهني ممتاز أدى به إلى حضوره مقابلات مثل لقاء نائب مدير المخابرات المركزية الأمريكية وسفير الولايات المتحدة في ألمانيا. وكان يمتلك قدرة على السخرية غير المهذبة، حيث أبدى ملاحظته ذات مرة بأن أنف مصدق «تجعل من جيمي ديورانت يبدو كما لو كان مقطوع الأنف». وأهم من ذلك أنه كان يعلم متى يترجم حرفيًّا ومتى يعيد صياغة التعليقات التي تفتقر إلى اللباقة. فذات مرة على سبيل المثال وجهت زوجة السفير جريدي التحية إلى مصدق قائلة «د. مصدق، إنك تملك وجهًا معبرًا للغاية. ففي كل مرة تكون فيها تفكر في اللاشيء يمكنني أن أدرك ذلك من خلال النظرة الخاوية على وجهك.» ولكن والترز ترجم ذلك التعليق إلى الفرنسية كالتالي «د. مصدق، إنك تملك وجهًا معبرًا للغاية. ففي كل مرة تستغرق فيها في التفكير العميق يمكنني أن أدرك ذلك من خلال نظرة التركيز التي تبدو على وجهك.»
لم تتعثر مباحثات مصدق مع هاريمان بسبب أسلوب مصدق في التفاوض أو إخفاقه في إدراك التفاصيل المعقدة لصناعة النفط. ولكن السبب الحقيقي كان الاختلاف الجوهري في الطريقة التي ينظر بها كلا الرجلين إلى ذلك النزاع. فمن وجهة نظر هاريمان كان الأمر مجموعة من الحقائق العملية والتحديات التقنية التي يمكن حلها عن طريق التحليل المنطقي والمناقشة والتسوية. ولكن مصدق رأى الأمر من منظور مختلف تمامًا. فهو يعتقد أن إيران تمر بلحظة التحرر العظيمة. ولما تأصلت في نفسه المثل الشيعية أصبح مصرًّا على السعي نحو تحقيق العدالة حتى ولو كان الثمن استشهاده. وتفاصيل إدارة مصفاة التكرير أو سعة ناقلات النفط تبدو سخيفة وغير ذات صلة بالموضوع في ذلك الموقف الجليل.
وعندما أصر هاريمان على إيجاد طريقة كي يبني مصدق علاقات جديدة مع البريطانيين، هز الرجل العجوز رأسه نافيًا. وقال: «إنك لا تعلم كم هم ماكرون. إنك لا تعلم كم هم أشرار. إنك لا تعلم كم يلوثون أي شيء تلمسه أيديهم.» كان العديد من الإيرانيين يشاركونه الرأي نفسه، وأدرك والتر ليفي ذلك عندما افتتح حوارًا مع مجموعة من الناس الذين قابلهم في أحد شوارع طهران. وهذا هو الحوار:
ولما تأكد هاريمان أنه لن يتمكن من إقناع مصدق قرر أن يحاول التأثير عليه بطريق غير مباشر. فطلب المساعدة من الشاه أولًا، ولكن الشاه أخبره صراحة بأنه لا يستطيع أن يعارض الرأي العام ويتفوه بكلمة واحدة ضد التأميم. ثم دعا الصحفيين الإيرانيين إلى مؤتمر صحفي وقرأ عليهم بيانًا يدعو فيه إيران إلى مواجهة الأزمة «بمزيج من العقل والحماس». وفور أن أنهى حديثه اندفع أحد الصحفيين قائلًا: «إن الشعب الإيراني كله يؤيد رئيس الوزراء مصدق وتأميم صناعة النفط!» وانطلق الآخرون في الهتاف. وغادروا المكان تاركين هاريمان يهز رأسه في استياء.
وبعد تفكير طويل فيمن يمكنه التأثير على مصدق والجماهير، توصل هاريمان إلى فكرة غريبة تتمثل في الاستعانة بآية الله كاشاني الملا المثير للمشكلات الذي أصبح من أهم الشخصيات العامة في إيران. كان هذان الرجلان شديدَي الاختلاف أحدهما عن الآخر. فهاريمان ينحدر من إحدى أشد العائلات ثراءً في العالم. وهو عضو في جمعية سكال آند بونز السرية في جامعة ييل، ويمارس رياضتَي التزلج على الجليد والبولو. وقضى حياته بين أفراد الطبقة الراقية. أما كاشاني فقد حارب في الصحراء ضد البريطانيين الذين سجنوه فيما بعد ثم أرسل إلى المنفى بناء على أوامر الشاه. ولكاشاني لحية سوداء طويلة ويرتدي عمامة من اللون نفسه. وعالمه يتركز في غرفة صغيرة مكسوة بالسجاد يجلس فيها معظم الوقت كل يوم يتأمل ويصلي ويخطط. ويخرج عدة مرات في الأسبوع لزيارة أحد المساجد أو يندد بعنف بالاستعمار أمام حشود من المؤمنين الذين كادوا يرفعونه إلى مصاف الآلهة.
عندما توجه هاريمان لزيارة كاشاني اقتيد إلى غرفة مظلمة ذات ستائر ثقيلة جلس الرجل فيها ساكنًا. وبعد أن خلع هاريمان حذاءه وجلس على السجاد وعبر عن خالص احترامه، قال إنه يأمل أن يوافقه كاشاني على أن أزمة النفط لا يمكن حلها إلا عن طريق عقد اتفاق بين إيران وبريطانيا. وتجرأ قائلًا إن كاشاني يمكنه تقديم يد العون عن طريق إقناع مصدق بالموافقة على استقبال مبعوث بريطاني. وفور ترجمة تلك الجمل الأولى انفجر كاشاني غاضبًا في عاصفة من النقد مفادها أنه لا يوجد إيراني محترم يوافق على مقابلة «الكلاب» البريطانيين وأن الولايات المتحدة قد تحوَّلت إلى عدو لإيران بذلك الاقتراح. وأما النفط الإيراني فيمكنه أن يظل في الأرض، واختتم حديثه قائلًا: «إذا استسلم مصدق فسوف يهدر دمه مثل رازمارا.»
لم يكتفِ كاشاني بذلك التهديد، بل وجه تهديدًا آخر لهاريمان نفسه. سأله هل سمع بشخص يدعى إمبري، ولما أجاب هاريمان بالنفي سرد له كاشاني قصته قائلًا: «إنه رجل أمريكي أتى إلى إيران عام ١٩١١ أو ١٩١٢. وتدخَّل في مسألة النفط التي لا تعنيه في شيء تدخلًا أثار حنق الشعب عليه. وذات يوم وهو يسير في شوارع طهران أُطلق عليه الرصاص في الشارع، لكنه لم يلقَ مصرعه في الحال. واقتادوه إلى المستشفى. ولكن الجماهير الغاضبة تبعته إلى المستشفى واقتحموها وذبحوه على طاولة العمليات الجراحية. هل تفهم؟»
تمكن هاريمان من تمالك أعصابه بصعوبة بالغة. وقال ببرود: «يا فضيلة الشيخ، يجب أن تعلم أنني مررت بمواقف خطيرة كثيرة في حياتي ولذلك لا يمكن إخافتي بسهولة.» ولكن كاشاني هز كتفيه بلا مبالاة وقال: «لم يكن هناك ضرر من المحاولة.»
مع أن البريطانيين يعتبرون النفط الإيراني أهم أصولهم عبر البحار، لم يتجه أي من الوزراء البريطانيين لزيارة إيران من قبل على حد علمي فيما عدا تشرشل وإيدن في مسائل تتعلق بالحروب. ونادرًا ما زارها مديرو شركة النفط أيضًا. ويعتبر الموقف الحالي هنا مثالًا مأساويًّا على الإدارة المتغيبة مع النمو العالمي للحركات القومية في الدول المتخلفة. ولا شك أن الإيرانيين مستعدون للتضحية بإيرادات النفط من أجل التخلص من الممارسات الاستعمارية البريطانية. وهناك مجموعات كبرى من الناس على استعداد لتحمل أي عواقب من أجل تحقيق هذا الهدف. ومن الواضح أن التقارير والتوصيات البريطانية لم تكن واقعية، وكان ضروريًّا أن يكتشف أعضاء الحكومة البريطانية بأنفسهم ما يحدث هنا.
ولبرهة بدا أنه رغم كل العوائق ما زال التوصل لحل ممكنًا. ففي نهاية الأمر تمكن هاريمان من إقناع مصدق بإصدار بيان يعلن فيه أنه على استعداد للتفاوض مع المبعوث البريطاني إذا «أقرت الحكومة البريطانية نيابة عن شركة النفط البريطانية الإيرانية السابقة مبدأ تأميم صناعة النفط في إيران». ولكن ما أثار سخطه الشديد أن وزارة الخارجية رفضت ذلك الاقتراح. فقرر أن يذهب بنفسه إلى لندن من أجل مناشدتهم أن يفعلوا الصواب. وفي لندن التقى بأعضاء مجلس الوزراء البريطاني في اجتماع استغرق ثلاث ساعات. وانقسم أعضاء المجلس إلى فريقين. فرأى بعضهم وجوب الاستمرار في اتباع سياسة التعنت، ورأى البعض الآخر أنه من الحكمة إرسال مبعوث إلى طهران. وقرر رئيس الوزراء أتلي أن يرسل حامل ختم الملك السير ريتشارد ستوكس، وهو أحد أثرياء الطبقة الراقية في بريطانيا ولم يكن يملك أي خبرة في شئون الشرق الأوسط.
كُلف ستوكس بإخبار مصدق بأن شركة النفط على استعداد لقبول مبدأ امتلاك إيران النفط ومناصفة الأرباح معها. ولكن بشرط أن يظل التحكم في عمليات الحفر والتكرير والتصدير في أيدي البريطانيين. كان ذلك العرض في جوهره هو العرض نفسه الذي جاء به بيزل جاكسون إلى طهران منذ ستة أسابيع، ولكن ستوكس أُعطي تعليمات بألا يعترف بذلك. تعين عليه أن يظل داخل حدود عرض جاكسون مع إمكانية «تجميله وعرض بنوده بترتيب مختلف مع تهذيبها وجعلها تبدو أكثر جاذبية حسب المطلوب».
كان السؤال الأول الذي وجهه مصدق لستوكس عندما تقابلا لأول مرة: هل يعتنق المذهب الكاثوليكي؟ وعندما أجاب ستوكس بالإيجاب أخبره مصدق بأنه غير مناسب لتلك المهمة لأن الكاثوليك لا يؤمنون بالطلاق، وإيران على وشك أن تعلن الطلاق من شركة النفط البريطانية الإيرانية. ولكن ستوكس لم يضحك للدعابة. وأجاب بأن ما يفعله مصدق مع شركة النفط البريطانية الإيرانية يعتبر أقرب إلى القتل منه إلى الطلاق.
كان ذلك الحوار بداية للشقاق في المحادثات. ومما زاد الأمر تعقيدًا القرار الذي اتخذته شركة النفط البريطانية الإيرانية في الحادي والثلاثين من يوليو بإغلاق مصفاة التكرير في عبدان. وأعلن مسئولو الشركة أنهم لا يملكون خيارًا آخر. فقد كانت ناقلات التخزين ممتلئة وناقلات النفط لا يمكنها التحرك لأن قباطنتها قد تلقوا تعليمات بألا يوقعوا الإيصالات التي تطلبها إيران. كانت تلك خطوة صادمة عكست مدى العمق الذي وصلت له الأزمة.
كان ستوكس يعلم جيدًا أنه يقدم لمصدق عرضًا سبق أن رفضه. وفي برقية بعث بها إلى الوطن قال إن جوهر العرض الذي تقدم به هو أن يجعل شركة النفط تستمر في عملها كالسابق ولكن «باسم جديد»، وأعرب عن استيائه الشديد لمحاولته القيام «بعدد من الحيل كي نخفي تلك الحقيقة المرة، ولكن كان كل ما توصل إليه إما خطرًا أو مكشوفًا أكثر من اللازم ولن يقبله الإيرانيون». ومن جانبه أعلن مصدق عن استعداده للتفاوض بشأن ثلاث نقاط فحسب: استمرار إيران في بيع النفط لبريطانيا كي تفي باحتياجاتها المحلية، ووضع الفنيين البريطانيين في خدمة شركة النفط القومية الإيرانية الجديدة، والأموال التي يجب على إيران سدادها في مقابل أصول شركة النفط البريطانية الإيرانية التي أممتها.
ولما طالت المباحثات بصورة تنبئ بالفشل المحتوم ذهب ستوكس وهاريمان إلى عبدان كي يلقيا نظرة على الأوضاع هناك. وعكست طريقة كلٍّ منهما في قضاء وقته هناك توجهاتهما المختلفة نحو الأزمة. فسرعان ما وضع ستوكس في مأزق دبلوماسي عندما حاول القنصل البريطاني طرد المسئولين الإيرانيين من عبدان، ثم استشاط غضبًا عندما سبقته سيارة إيرانية في الموكب الذي رافقه من المطار. وأرسل القنصل خطابًا غاضبًا إلى الحاكم المحلي يطالب فيه بضمانات «بعدم تعرض مندوب حكومة جلالة الملك إلى مثل تلك الإهانات في المستقبل». واستجاب وزير خارجية إيران بطرده من البلاد. وقبل أن يرحل بعث برقية إلى لندن يقترح فيها أن يظل في البصرة بحيث يتمكن من المساعدة «في حالة وقوع عمليات عسكرية».
أما هاريمان فقد استفاد بوقته بطريقة أفضل. قام بجولة في عبدان وأرسل برقية إلى ترومان يخبره فيها بأن الأحياء العشوائية التي شاهدها تعتبر «أردأ من أن تصلح مساكن لموظفي شركة نفط غربية كبرى». وفي برقيات أخرى اشتكى من أن البريطانيين ما زالوا «يحتفظون بموقفهم الاستعماري الذي يرجع للقرن التاسع عشر نحو إيران». فبدلًا من التفاوض بصورة جدية أصدروا «بيانات متسرعة» وعبروا «باندفاع شديد عن استيائهم» مما اعتبروه سرقة ممتلكاتهم في إيران. واختتم كلامه قائلًا: «في الواقع إنني أشعر أنه إذا لم تتعاون الحكومة البريطانية فسوف يزيد ذلك من صعوبة مهمتي بشدة إن لم يجعلها مستحيلة.»
ازدادت أعصاب هاريمان توترًا مع إصابته باضطراب معوي واشتداد حر الصيف القائظ. وكان القصر الذي يقيم به في طهران فخمًا، ولكن لم يكن به سوى مراوح ضعيفة قليلة لا تقوى على تحريك الهواء الخانق. وبحثًا عن الراحة قام برحلات طويلة إلى العواصم الإقليمية مستقلًّا طائرته الرسمية المكيفة. وأمر بتخفيض درجة الحرارة في مقصورته قدر الإمكان، وتدثر هو ومساعدوه بالأغطية الثقيلة مستمتعين بقشعريرة البرد. وعندما أشار فيرنون والترز إلى أن استخدام طائرة تستهلك ثمانمائة جالون من الوقود في الساعة من أجل الاستمتاع بالتكييف يعتبر أمرًا زائدًا عن حده، انفجر هاريمان غاضبًا وقال: «لو اطلعت على ضرائب الدخل الخاصة بي لعدة سنوات مضت، لعلمت أنني اشتريت عددًا من هذه الطائرات لحكومة الولايات المتحدة.»
قابل مصدق ستوكس عدة مرات بعد ذلك، وفي إحدى المرات سلمه مذكرة دبلوماسية حملت بصيصًا من الأمل. كتب فيها أنه في حالة اعتراف البريطانيين بحق الإيرانيين في إدارة صناعة النفط الخاصة بهم، فسوف يتفاوض «بصورة عادلة وكاملة» بشأن «المطالبات المشروعة» لشركة النفط بالتعويض. وخدع ستوكس بذلك العرض وأرسل برقية إلى وزارة الخارجية يطلب فيها الإذن بدراسة ذلك العرض الذي بدا له مبشرًا بالخير. ولكن الرد كان صارمًا يتضمن أمرين صيغا بطريقة فظة وهما: «عدم القيام بمزيد من التنازلات» وقطع المباحثات والعودة على الفور إلى لندن.
في الثاني والعشرين من أغسطس فرض مجلس الوزراء البريطاني سلسلة من العقوبات الاقتصادية على إيران. لقد حظر تصدير أهم السلع البريطانية ومنها السكر والصلب إلى إيران وأمر بسحب الموظفين البريطانيين من حقول النفط الإيرانية فيما عدا ثلاثمائة من «أهم» الإداريين بعبدان وحظر وصول الإيرانيين إلى حساباتهم بالعملة الصعبة في البنوك البريطانية. وفي اليوم التالي غادر ستوكس طهران.
وأعلن مصدق في مؤتمر صحفي قائلًا: «لم نتوصل إلى نتيجة. كان الأمر بلا قيمة. لقد انتهى كل شيء.»
وعند رحيل ستوكس أرسل رئيس الوزراء أتلي برقية إلى ترومان. عبَّر فيها عن شعوره بالانتصار إذ كتب يقول: «أعتقد أنك توافقني الرأي في أن توقف المباحثات كان بسبب الجانب الإيراني. ونأمل أن الطريق الوحيد المتاح الآن هو الدعم الكامل من الولايات المتحدة لموقف حكومة جلالة الملك.» ولكن طلبه قوبل بالتجاهل التام. فقد أحبط ترومان بشدة من فشل مهمة هاريمان، ولكنه ألقى معظم اللوم على تعنت بريطانيا وعنادها. وفي الرد على تلك البرقية أصر على ألا يتخذ البريطانيون أو الأمريكيون أي خطوات «تبدو معارضة للطموحات المشروعة للشعب الإيراني».
توجه هاريمان لزيارة الشاه قبل أن يغادر طهران، وأثناء اجتماعهما تقدم للشاه على حذر باقتراح جديد. فحيث إن مصدق يقف عثرة في طريق حل الأزمة بطريقة مرضية للدول الغربية، قد يكون ضروريًّا أن يعزل من منصبه. وكان هاريمان يعلم أن الشاه لا يملك طريقة للإطاحة بمصدق في ذلك الوقت. ولكن مجرد طرْقه ذلك الموضوع أنذر بالتدخل الأمريكي في الانقلاب بعد ذلك بعامين.
كتب فيرنون والترز فيما بعد: «لم تكن تلك المهمة كأي مهمة أخرى. فبها طابع خيالي مما جعلني بعد ثلاثة أيام أرسل رسالة إلى سكرتيرة السيد هاريمان وأطلب منها إرسال نسخة من كتاب «أليس في بلاد العجائب» بحيث أعلم ما الخطوة التالية في البرنامج. كانت إلى حد ما مهمة فاشلة، ولكنها مهمة ألقت بظلالها على المشكلات الكبرى التي سوف يمر بها العالم الغربي مع النفط بعد ذلك التاريخ بعقدين ونصف. لم يعش د. مصدق حتى يشهد تلك المشكلات، ولكنه كان السبب الأصلي في حدوثها إلى حد ما.»
•••
بعد إخفاق تلك المحاولات الأخيرة للتفاوض كثف وزير الخارجية موريسون والسفير شيبرد جهودهما من أجل الإطاحة بمصدق. وعندما ناقش شيبرد الفكرة مع أصدقائه الإيرانيين علم مصدق بتلك المناقشات على الفور. وفي السادس من سبتمبر ألقى مصدق خطابًا أمام مجلس الشيوخ وجه فيه إليهما تهمة التآمر عليه وحذر البريطانيين من أنهم لو لم يتوقفوا عن التآمر فسوف يطرد كل المواطنين البريطانيين المقيمين في عبدان خلال أسبوعين. واستجاب رئيس الوزراء أتلي لذلك التهديد عن طريق زيادة حجم أسطول السفن الحربية الذي يحوم حول سواحل إيران.
كان البريطانيون يفكرون منذ عام تقريبًا في إرسال قوات إلى إيران كي تعمل على تأمين معمل التكرير وحقول النفط التي يعتبرونها ملكًا لهم. وفي خريف عام ١٩٥٠ أخبر السفير فرانكس المسئولين الأمريكيين في واشنطن بأن حكومته تعتقد أن «إرسال مجموعة صغيرة من القوات البريطانية إلى جنوب إيران سوف يؤدي إلى الاستقرار ولن يكون له تأثير استفزازي». وفي أبريل من العام التالي أرسل السير جورج بولتون المدير التنفيذي لبنك إنجلترا تقريرًا من مستشاره لشئون الشرق الأوسط يقول فيه إن الإيقاع السياسي في إيران «شديد حتى إنه يجب دراسة احتمال التدخل المباشر المتمثل في الاستيلاء على حقول النفط ومصفاة التكرير بالقوة». وأخبر وزير الدفاع إيمانويل شينويل مجلس الوزراء أن التساهل في تأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية سوف يعتبر سابقة مخيفة وأنه «علينا أن نثبت لهم أنه ليس باستطاعتهم ليُّ ذراعنا إلى ما لا نهاية». وتوقع مسئولو شركة النفط البريطانية الإيرانية في مذكرة أرسلوها إلى وزارة الخارجية أنه في حالة هبوط القوات البريطانية في عبدان «من المحتمل أن يسلم الإيرانيون بخطئهم» وأن الشركة بإمكانها استيراد «الآلاف من العمال الملونين من شرق أفريقيا كي يقوموا بالأعمال التي قد يرفض الإيرانيون أداءها».
وفي مايو من عام ١٩٥١، وقبل شهرين من وصول هاريمان، وضع البريطانيون خطتين مفصلتين لغزو إيران واحتلالها. حملت الخطة الأولى الاسم الكودي «القرصان» وغُيرت إلى «الخطة ص»، وكانت تعتمد على استخدام قوات مكونة من سبعين ألفًا في «هجوم بحري يصاحبه هجوم بالحد الأقصى للقوات الجوية» التي «تستولي على مصفاة التكرير وحقول النفط وتعمل على تأمينها». والخطة الأخرى محدودة وحملت الاسم الكودي «عملية القزم» واعتمدت على الاستيلاء على مصفاة التكرير فحسب إما لمدة أسبوعين حتى تفرغ الناقلات حمولتها المخزنة من النفط أو للأبد بحيث يُستخدم المعمل في تكرير النفط القادم من أماكن أخرى في الخليج. ورأى مؤيدو تلك الخطط أنها لن تحافظ على تدفق النفط إلى بريطانيا فحسب، بل إنها أيضًا سوف تشعل لهيب الوطنية عبر البلاد. وأعلن اللورد فريزر أمير البحار أن هجومًا عسكريًّا جريئًا سوف يبدد «حالة الكآبة والحزن» التي تمر بها بريطانيا ويثبت أنها لا تقبل أن «تتلقَّى تعليمات من الإيرانيين تافهي الشأن».
تشكك بعض المسئولين البريطانيين في حكمة تلك الخطط، ولكن الميل لفكرة الغزو كان قويًّا حتى إنه كاد يتغلب لولا المعارضة الشديدة لتلك الفكرة من إدارة ترومان. وفي السادس عشر من مايو أرسل السفير الأمريكي في بريطانيا والتر جيفورد برقية إلى أتشيسون يخبره فيها «بزيادة قلقه» بشأن «مناخ الحرب» المخيم على لندن. وحذر من أن وزارة الخارجية قد أصبحت تعتقد أن الاعتراض الأمريكي على الغزو «ليس شديدًا ويمكن التغلب عليه».
وأضاف: «على ضوء هذه الخلفية نخشى أنه نظرًا إلى التهديدات الضمنية التي أطلقها البريطانيون فقد يجدون أنفسهم مضطرين إلى أحد خيارين: إما تنفيذ ذلك التهديد وتحمُّل العواقب غير المتوقعة أو التراجع والانسحاب وما ينتج عنه من فقدان الهيبة وربما إضعاف موقفهم بصورة رهيبة. وفي اعتقادنا أن القرار النهائي لبريطانيا سواء باللجوء إلى القوة أم لا سوف يتحدد على أساس مدى الدعم الذي تقدمه لها الولايات المتحدة.»
فهم أتشيسون على الفور الأهمية العاجلة لتلك الرسالة. فأرسل في استدعاء السفير فرانكس وأخبره بأن الولايات المتحدة تعارض «اللجوء إلى القوة أو التهديد باللجوء إلى القوة ضد إيران»، وأن ترومان نفسه «أكد بشدة أنه يجب ألا يسمح لأي موقف بأن يتحوَّل إلى نزاع مسلح بين مجموعة من القوات البريطانية والقوات الإيرانية.» وكان لحدته التأثير المطلوب. أرسل فرانكس على الفور رسالة إلى الوطن يحذر فيها من أنه إذا استمرت بريطانيا في خططها للغزو، فمن المحتمل أن تصبح «المعارضة للموقف البريطاني في واشنطن أكثر حدة مما هي عليه الآن».
دعمت الصحافة الأمريكية موقف ترومان بشدة. تعجبت جريدة «وول ستريت جورنال» من اعتماد بريطانيا على «التهديدات من طراز القرن التاسع عشر»، وحذرت جريدة «فيلادلفيا إنكوايرر» من أن الغزو البريطاني لإيران قد «يعجل بنشوب حرب عالمية ثالثة». وأكد هوارد كيه سميث المعلق على الأنباء بشبكة سي بي إس التليفزيونية أن دولًا عديدة في الشرق الأوسط وما وراءه تساند إيران، وأن الغزو قد «يحرض سكان جنوب آسيا على الثورة ضد الأجانب ويؤدي إلى وقوع مشكلات خطيرة لكلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة».
أخذ موريسون وزير الخارجية الذي كان يقود الحزب المؤيد للحرب في لندن يحث الأمريكيين على تغيير موقفهم. حاول أن يقنعهم بأنها ستصبح كارثة للغرب لو ظهرت بريطانيا بمظهر «الضعيف العاجز» على يد رجل مثل مصدق «الذي يدفعه التعصب إلى حافة الجنون». وبعد أن أصدرت محكمة العدل الدولية «توصيتها»، توجه موريسون إلى أتشيسون متسائلًا هل سيدعم الأمريكيون الغزو في حالة رفض إيران التسليم بخطئها. أجاب أتشيسون بالنفي القاطع، حيث إن الغزو البريطاني لإيران تحت أي ظروف سوف يكون له «عواقب سياسية وخيمة».
كان ذلك كافيًا لرئيس الوزراء أتلي الذي لم يتحمس قط لفكرة غزو إيران. وفي التاسع عشر من يوليو صوت مجلس الوزراء على إرجاء الحل العسكري وترجيح قرار الموافقة على إرسال ثلاث كتائب مسلحة إلى العراق المجاور. لكن موريسون لم يستسلم. فبعد أن أعلن مصدق في سبتمبر عن قرب إجلاء البريطانيين عن عبدان أخبر موريسون مجلس الوزراء بأن وقت الغزو قد حان. ووافق أتلي على إجراء استعراض للقوات البحرية في الخليج، ولكنه استبعد تمامًا أي عمليات عسكرية أكثر عنفًا.
صرح أتلي لمجلس الوزراء قائلًا: «ليس بالضرورة أن يؤدي احتلال جزيرة عبدان إلى إحداث تغيير في الحكومة الإيرانية، وقد يؤدي إلى توحيد الشعب الإيراني ضد بلادنا، ولا يمكننا تشغيل آبار النفط أو مصفاة التكرير دون مساعدة العمال الإيرانيين. فإذا حاولنا إيجاد حل باستخدام القوة فلن نتمكن من الحصول على دعم من الأمم المتحدة، وسوف تحذو حكومات أمريكا الجنوبية حذو الولايات المتحدة، وستناصبنا حكومات الدول الآسيوية العداء.»
وعندما أخفق موريسون في إقناع أتلي بالغزو قرر أن يبدأ التحرك في الخفاء. فذهب أولًا إلى باحثَين مشهورَين قضيا أعوامًا عديدة في دراسة إيران وكانا متعاطفَين مع الموقف البريطاني. كانت آن كيه إس لامتون تشغل وظيفة الملحق الصحفي في السفارة البريطانية بطهران خلال الحرب العالمية الثانية، ثم أصبحت أحد كبار الخبراء ببريطانيا في الشئون الإيرانية. وبناء على طلب موريسون بدأت تقترح بعض «أساليب الدعاية المؤثرة» التي يمكن للبريطانيين استخدامها لتأليب الرأي العام الإيراني ضد مصدق.
امتلك زينر قدرة خارقة على المزج بين الفكر النبيل والحياة الوضيعة. واستمتع بالجانب المرح في مهامه، وكان يتمسك بموقفه أثناء الثرثرة أو المناقشات، سواء عن الفلسفة والدين أم عن نقاط الضعف البشرية. كان يتناول الخمر بشراهة شديدة. وعلى طريقة ألدوس هاكسلي جرب زينر أيضًا تناول المخدرات كي يزيد من إدراكه الحسي بالحقائق الأبدية … وينصح من يرغب في معرفة المزيد عن السياسة الإيرانية بقراءة رواية لويس كارول «عبر المرآة». وكان يميل إلى إخبار رؤسائه بما يودون سماعه. ولم تجعله طباعه ينجرف إلى الجانب القذر من عمليات المخابرات، ولا كان يمتلك قدرة فائقة على ضبط النفس والاحتفاظ بالأسرار. كان زينر رجلًا باحثًا عن المتعة آتيًا من أوكسفورد تحوَّل بعد ذلك إلى شبه عميل سري للمخابرات.
في منتصف عام ١٩٥١ عُيِّن موريسون زينر في وظيفة «نائب مستشار» بالسفارة البريطانية في طهران. ومع أنه لم يكن ضابط مخابرات من الناحية الفنية فقد كرس زينر معظم وقته لمقابلة زعماء المعارضة واقتراح طرق لتقويض حكومة مصدق. وقد شجعتهم تلك الجهود، وكان للتقارير التي يرسلها إلى وزارة الخارجية أيضًا تأثير كبير. فهو أول أجنبي يرسَل إلى إيران في مهمة الإطاحة بحكومة مصدق. وقوَّى التقدم الذي أحرزه من شوكة المؤمنين بنجاح الحملة الخفية ضد مصدق في لندن.
•••
أمر القادة البريطانيون باتخاذ خطوات عسكرية لتهديد إيران وأطلقوا حملتهم الخفية ضد حكومتها، واتخذوا أيضًا مجموعة من الخطوات الجادة لإصابة اقتصادها بالشلل. وقد تبدو تلك الاستراتيجية منطقية، حيث إن الإصابة بالألم غالبًا ما تكسر إرادة الشعوب كما تكسر إرادة الإنسان. لكن ما أخفق البريطانيون فيه أو بالأحرى رفضوا إدراكه هو أن مصدق والأغلبية العظمى من الإيرانيين كانوا مستعدين لتقبل آلام كثيرة دفاعًا عن قضيتهم المقدسة. لقد امتزجت التقاليد الشيعية مع العاطفة الوطنية التي تكتسح إيران. فجعلا إرادة الشعب الإيراني قوية كالصلب.
أراد البريطانيون أن يعرقلوا عمل شركة النفط القومية الإيرانية. وأول خطة لجئوا إليها تتمثل في التخريب السري بمصفاة التكرير بعبدان. وذكر إريك دريك المدير العام بعبدان عند التأميم بعد ذلك أن المديرين البريطانيين فعلوا كل ما بوسعهم كي يضمنوا تعطل الآلات وعدم معرفة المديرين الجدد بكيفية تشغيل المكان. وأضاف: «لم تكن هناك مقاومة عنيفة، ولكن من الغريب أن تتعطل الأدوات عندما لم يكن من المفترض أن يحدث ذلك.»
لم تكن تلك الخطوات كافية لإيقاف مصفاة التكرير عن العمل لو كان الفنيون موجودين لإدارته. فنشرت شركة النفط القومية الإيرانية إعلانات في العديد من الصحف والمجلات الأوروبية المتخصصة تعلن عن حاجتها إلى مثل هؤلاء الفنيين. وانطلق الدبلوماسيون البريطانيون يمنعون وصول أي شخص يصلح للوظيفة إلى عبدان. وتمكنوا من إقناع السويد والنمسا وفرنسا وسويسرا بمنع منح تأشيرات خروج لطلاب تلك الوظيفة. وفي ألمانيا التي كانت تحت احتلال الحلفاء طالبوا الحكومة «برفض إصدار جوازات سفر للمواطنين الألمان الذين يرغبون في السفر إلى إيران» ما لم يثبتوا أنهم غير متخصصين بالنفط، ولم يكن الألمان في موقف يسمح لهم بالمعارضة. وعرضت مؤسسة أمريكية على الحكومة الإيرانية مساعدتها في تعيين ٢٥٠٠ من الفنيين الأمريكيين لإدارة صناعة النفط، ولكنها سحبت العرض بعد تحذير وزارة الخارجية بأنه «يتعارض مع المصالح البريطانية ويضع الولايات المتحدة في موقف حرج». وتقدم عضو الكونجرس الأمريكي أوين هاريس بمشروع قانون يسمح لوزارة الداخلية بالبحث عن خبراء مؤهلين ومساعدتهم على السفر إلى إيران، ولكن ذلك المشروع توقف عندما تقدم الدبلوماسيون البريطانيون بتظلم للجنة الشئون الخارجية. وفي بريطانيا نفسها كان هناك عشرون من موظفي شركة النفط البريطانية الإيرانية الذين غادروا إيران يرغبون في العودة إليها، ولكنهم أُخبروا بأنه بموجب قانون العقوبات الجديد لن يسمح لهم بتحويل مرتباتهم إلى العملة البريطانية.
جعلت تلك الحملة المنسقة الاستمرار في إنتاج النفط أمرًا شبه مستحيل لإيران. ولكن البريطانيين كانوا يخشون أن تجد إيران طريقة لذلك، سواء عن طريق اللجوء إلى خبراء إيرانيين أو تهريب بعض الأجانب عبر ذلك الحصار. فأصروا على أن يضمنوا أنه في حالة حدوث ذلك لن تجد إيران عملاء يشترون منها النفط.
كانت الشركات في بريطانيا والولايات المتحدة تمتلك أكثر من ثلثي ناقلات النفط في العالم، لكن هناك احتمالًا أن تعتمد إيران في نقل النفط على ناقلات من الاتحاد السوفييتي أو أي مكان آخر. ولمنع حدوث ذلك فكرت وزارة الخارجية أولًا في إعلان «باعتراض سبيل ناقلات النفط الأجنبية في أعالي البحار بدعوى أنها تنقل النفط المسروق من إيران». ولكن بعد أن أدركت أن ذلك التهديد مخالف للقانون الدولي قررت اللجوء إلى خطة أخرى. فنشرت شركة النفط البريطانية الإيرانية تحذيرات في صحف عديدة في كل أنحاء العالم من أنها سوف تتخذ «كل الإجراءات اللازمة» ضد أي دولة تشتري النفط من إيران. واعتمدت الشركة في هذا التهديد على ذريعة أن النفط الإيراني يعتبر ملكية قانونية لها بموجب «المعاهدة التي عقدت في التاسع والعشرين من أبريل عام ١٩٣٣». كان ذلك الاستخدام اللغوي مضللًا، حيث إن المعاهدات وثائق متبادلة بين الحكومات، ولكن اتفاقية امتياز ١٩٣٣ بين حكومة وشركة. وأدرك المسئولون في دول عديدة تلك الحقيقة ووضعوا خططًا لشراء النفط الذي اختزنته أو قد تنتجه إيران.
وأثناء صيف ١٩٥١ كان في عبدان أكثر من ثلاثمائة بريطاني، وأحدهم وهو نائب المدير العام ويدعى أليك ميسون يملك طريقة لاعتراض سبيل البرقيات التي تأتي إلى شركة النفط القومية الإيرانية. ففي شهر يوليو اعترض برقيتين من شركتي نفط أمريكيتين تعرضا تزويد شركة النفط القومية الإيرانية بناقلات النفط الخاصة بهما في مقابل أن تبيعهما الشركة عشرة ملايين طن من النفط الخام خلال العام القادم. أخبر ميسون رؤساءه في لندن بفحوى هاتين البرقيتين. فقدموا التماسًا لوزارة الخارجية التي أقنعت الشركتين بسحب هذا العرض. وأدت مثل تلك المطالبات إلى وأد صفقات أخرى في مهدها بين شركة النفط القومية الإيرانية وشركات إيطالية وبرتغالية. فحاول الإيرانيون عقد صفقات مقايضة مع الهند وتركيا، ولكن الضغط البريطاني أوقف تلك الصفقات أيضًا.
وفي حين استمرت بريطانيا في إحكام المصيدة تعرضت إيران للاضطرابات السياسية. وشهد المجلس الكثير من الجدال العنيف حتى إن أحد نواب المجلس ألقى بحقيبته في وجه أحد الوزراء. وحذر المعتدلون من أن مصدق قد جعل البلاد على شفا كارثة. وحاول المتطرفون أن يبرهنوا بنفس الحماس أنه لا يواجه البريطانيين بالقوة الكافية. وامتلأت الصحف التي أصبحت تتمتع بحرية غير مسبوقة في التاريخ الإيراني بالتنديد والاتهامات وتوقع الهلاك بصورة أو بأخرى. وحذر السفير جريدي في حوار له نشر بالصحف الإيرانية من أن وقوع الحرب مع البريطانيين أو استيلاء الشيوعيين على السلطة قد يكون أمرًا وشيكًا.
كانت تلك التحذيرات آخر ما تفوه به جريدي بصفته سفيرًا. فقد كان دعمه الصريح للقضية الوطنية الإيرانية يثير حنق البريطانيين، وفي نهاية الأمر قرر أتشيسون أن «شخصيته القوية» قد جعلت منه عائقًا. فأقال جريدي من منصبه واستبدل به لوي هندرسون الذي تشكلت رؤيته للعالم من منظور الصراع بين الشرق والغرب والذي سرعان ما توصل إلى أن مصدق «رجل مجنون يمكنه أن يتحالف مع الروسيين».
وإلى جانب تغير السفير الأمريكي في طهران عمل البريطانيون أيضًا على تعديل استراتيجيتهم. فبعد أن استبعدوا على مضض خيار الغزو المسلح قرروا أن يعرضوا قضيتهم على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وكانوا يأملون في الحصول على موافقة على قرار يلزم مصدق بعدم طرد شركتهم من إيران. هذا بالإضافة إلى أن الجدال سوف يعطيهم فرصة لعرض قضيتهم — التي كانوا على ثقة من كونها مقنعة — في ساحات الرأي العام العالمي.
حذر الأمريكيون من هذا الإجراء. وصرح هنري جريدي الذي أصبح سفيرًا سابقًا لإحدى الصحف الإنجليزية بأن البريطانيين يعطون بحماقة شديدة الفرصة للإيرانيين «لعرض قضيتهم أمام العالم في محفل ضخم وتوضيح ظلم شركة النفط للشعب الإيراني وكيف تعمل الرأسمالية الغربية على التحكم في الدول النامية بل أحيانًا تحطيمها». وشعرت وزارة الخارجية بالقلق من احتمال استخدام الاتحاد السوفييتي لحق الرفض على أي قرار بريطاني، مما يقوي في الأذهان صورتها كنصير للمظلومين في العالم. وفي مذكرة إلى هربرت موريسون حذر أتشيسون من أن عرض النزاع على الأمم المتحدة بالقوة قد يؤدي إلى «تجميد أبدي للموقف الإيراني».
قابلت موريسون لمدة خمس وأربعين دقيقة في ذلك المساء وكان غاضبًا حاد المزاج … واندفع في تقريع مطول حول موقفنا حيال الأزمة الإيرانية. وكان محبطًا بشأن [الاقتراحات الأمريكية لتخفيف قرار مجلس الأمن]، وكرر مرات عديدة «لن أقف في قفص الاتهام مع مصدق» … ثم قال: «لقد كنا نحن الملائكة وكان مصدق هو الشرير.» وأكد أنه لا يفهم موقف الولايات المتحدة. كان يتوقع منها دعمًا بنسبة ١٠٠٪ ولكنه لم يحصل إلا على ٢٠٪ فقط … إننا نصر على التنديد باللجوء إلى العنف، وعندما لجأت بريطانيا إلى مناشدة الأمم المتحدة لدعم سلطة القانون لم نتشكك في حكمة هذا الإجراء فحسب، بل أيضًا تذكرنا بعض القرارات التي لم تفرق بين الجرم النسبي وبين براءة أطراف النزاع … وأثناء المناقشات المذكورة احتفظ موريسون برسالة أتشيسون مغلقة أمامه. وفي نهاية الأمر تناولها وقرأها وأخذ يهز رأسه ويغمغم «إن ذلك انهزامية شديدة!»
كان موريسون واثقًا من قدرة مندوب بريطانيا الفصيح في الأمم المتحدة السير جلادوين جيب على السيطرة على المداولات والتغلب على نظيره الإيراني في البلاغة. ولكنه أخطأ بشأن خوف الزعماء الإيرانيين من المواجهة في تلك الهيئة الموقرة. فقد كان مصدق يعشق المواجهة حتى إنه قرر أن يذهب إلى نيويورك ويعرض قضيته بنفسه.
كانت تلك خطوة في منتهى الذكاء. فأكثر الإيرانيين فصاحة على مدار عدة قرون على وشك أن يعتلي المسرح العالمي، لا ليعرض قضية دولة صغيرة ضد شركة عملاقة، ولكن ليعرض قضية البؤساء في العالم ضد الأثرياء وذوي النفوذ. كان مصدق على وشك أن يصبح المتحدث الرسمي المفوه الذي يعبر عن المشاعر الوطنية التي تتدفق في العالم المستعمر.