عجوز داهية
احتشد المعجبون في مطار طهران كي يهتفوا لمصدق قبل أن يشرع في رحلته التاريخية إلى نيويورك. وعندما توقف في محطته الأولى في روما أحاط المصورون الصحفيون بطائرته، وأخذ رجال الشرطة يجاهدون للسيطرة على الجماهير المحتشدة من المغتربين الإيرانيين المتحمسين وغيرهم من المؤيدين الذين انتظروا نصف النهار ليلقوا عليه ولو نظرة خاطفة. وتكرر المشهد الجنوني نفسه في محطته التالية في أمستردام.
انتظرت مدينة نيويورك التي اعتادت استقبال أشهر الشخصيات في العالم وصول مصدق بفضول شديد. فلم يكن مصدق «رمزًا للقومية الصاعدة في إيران» كما أطلقت عليه جريدة «نيويورك تايمز» فحسب، بل كان أيضًا زعيمًا عالميًّا لديه قصة عظيمة تستحق أن تُروى. هذا بالإضافة إلى طريقة مسرحية اشتهر بها، والجميع باستثناء مندوب بريطانيا لدى الأمم المتحدة ينتظرون ذلك المشهد على أحر من الجمر. وذكرت جريدة «ديلي نيوز» أنه «سواء أكان مصدق يستدر الدموع بالصدق أو بالكذب، فعليه أن يستخدم كل ما في جعبته من الحيل إذا ظهر على شاشات التلفاز هنا».
هبط مصدق بحذر شديد من طائرته بعد ظهر الثامن من أكتوبر عام ١٩٥١. وساعده ابنه وطبيبه الخاص غلام حسين في هبوط سلم الطائرة. ولم يتحدث مصدق، لكنه أصدر بيانًا مكتوبًا للصحفيين الذين كانوا في انتظاره. تضمَّن بيانه وعدًا بأن يسمع العالم قريبًا قصة «شركة استعمارية متوحشة» استولت على ممتلكات «شعب بائس مسكين» وتحاول الآن استغلال الأمم المتحدة لتبرير جريمتها.
ومن المطار انطلق مصدق إلى مستشفى نيويورك كي يخضع لفحص طبي. وأعلن الأطباء أنه سليم جسديًّا، فانطلق إلى فندق ريتز تاور في تقاطع بارك أفينيو وشارع ٥٧. هناك قضى معظم وقته يعد الخطبة التي سوف يلقيها في مجلس الأمن. لم يكن العالم قد عرف زعماء من أمثال كاسترو وسوكارنو ونكروما ولومومبا بعد. ولم يكن صوت الدول الفقيرة مسموعًا في مثل تلك المحافل الخاصة بالصفوة. وكان صوت مصدق هو أول صوت سمعه معظم الغربيين.
وفي الوقت الذي كان مصدق ينتظر فيه لحظته الموعودة، قرأ باهتمام شديد كل ما كتبته الصحف الأمريكية حول عرضه الوشيك. ومن تلك الآراء ما نشرته مجلة «نيوزويك» التي حمل غلافها عنوان «مصدق: المتعصب العليل». امتدحت «نيوزويك» نزاهة مصدق، وذكرت أنه رفض تسلُّم سيارته الليموزين الرسمية وراتبه بصفته رئيسًا للوزراء، وقصت سيرته المهنية بصفته حاكمًا إقليميًّا غير قابل للإفساد، ومحرضًا ضد البريطانيين، وعدوًّا للشاه السابق رضا خان، ومحاربًا للشيوعية، ومؤسسًا للجبهة الوطنية الإرهابية. وأكدت المجلة أيضًا أن معظم الغربيين كانوا يعدونه في بادئ الأمر رجلًا «ضعيفًا مخرفًا وربما مجنونًا»، لكنهم يرونه الآن «عجوزًا داهية ذا إرادة حديدية ونزعة لتضخيم الذات». واختتمت بسؤال يتردد في معظم دول العالم، وهو ماذا سيفعل ذلك «المريض الأسطوري» في الأيام التالية.
قالت «نيوزويك»: «كان المسرح معدًّا لواحد من أقوى النزاعات في تاريخ الأمم المتحدة، وهو نزاع رئيس الوزراء المرتعش الغريب الأطوار ضد المندوب البريطاني الشديد اللباقة السير جلادوين جيب. وقد يكون ذلك هو الفصل الحاسم في المأساة الدرامية السخيفة التي بدأت عندما أعلنت إيران تأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية منذ خمسة أشهر.»
الحقيقة الواضحة هي أن الحكومة الإيرانية تتسبب بسلسلة من الخطوات الحمقاء في توقف مشروع ضخم لا يعود تشغيله بالنفع على المملكة المتحدة وإيران فحسب بل على العالم الحر بأكمله. وما لم توقَف عند حدها على الفور فسيزداد العالم الحر بأكمله فقرًا وضعفًا وفيه الشعب الإيراني المخدوع نفسه …
لأسباب خاصة بالحكومة الإيرانية لا تخفى على أحد يحلو دائمًا لها أن تصور شركة النفط البريطانية الإيرانية على أنها عصابة من مصاصي الدماء عديمي الضمير، الذين تستحوذ عليهم فكرة استنزاف ثروات الشعب الإيراني … ولكن تلك الاتهامات المتطرفة غير صحيحة … ففضلًا عن إسهامات الشركة المالية في الاقتصاد الإيراني، فإن سجلها في إيران مثير للإعجاب من الناحية الاجتماعية، ويجب أن يتخذ نموذجًا للتنمية يفيد المناطق الأقل تطورًا من الناحية الاقتصادية في العالم. ولم تحاول الشركة إعاقة الإيرانيين عن النجاح كما يزعمون، لكنها بذلت أقصى جهودها كي تعمل على تحسين مستوى المعيشة والتعليم لموظفيها بحيث يتمكنون من تأدية دور أكبر في الأعمال العظيمة التي يجب أداؤها في إيران … ويعتبر تجاهل تلك الأعمال تمامًا وتصوير الشركة وكأنها مسئولة عن الظلم والفساد والخيانة نوعًا من نكران الجميل الدنيء إن لم يكن أمرًا سخيفًا.
طالب جيب مجلس الأمن بأن يتخذ إجراءاته قبل الرابع من أكتوبر، وهو التاريخ الذي أنذر مصدق بطرد البريطانيين من عبدان بحلوله. لكنه عندما أنهى كلمته طلب المندوب الإيراني التأجيل لمدة عشرة أيام كي يتيح لمصدق فرصة للسفر من طهران إلى نيويورك. ووافق رئيس المجلس على التأجيل. وعندما وصل مصدق كان الوضع في عبدان قد تغير بالفعل. ففي الرابع من أكتوبر اجتمع آخر المواطنين البريطانيين في أحد ملاجئهم المفضلة في النادي الرياضي، ونُقلوا في مجموعات على متن قوارب إلى السفينة البريطانية موريشيوس التي كانت في انتظارهم كي تقلهم عبر شط العرب إلى البصرة. وبتلك الخطوة انتهى واحد من أضخم المشروعات التجارية في التاريخ الاستعماري.
توجه مراسل جريدة «نيويورك تايمز» لزيارة تلك الرقعة الفسيحة الخالية بعد ذلك ببضعة أيام. وكتب: «عندما نظرت إلى مداخن مصفاة التكرير الفولاذية التي يبلغ عددها بضعًا وخمسين مدخنة من مسافة بعيدة، كانت تبدو كأطلال القاعة الكبرى وقاعة الأعمدة المائة في برسيبوليس التي لا تزال باقية منذ عهد الملك خشايار شاه. ولكن عندما اقتربت سرعان ما اتضح أن ذلك المعدن البراق يمثل الأبراج الصامتة لمدينة عبدان الخاوية بوصفها عملاق العصر الصناعي وليس القرن الخامس قبل الميلاد … وكانت السيارات والحافلات البريطانية الصنع التي تخص شركة النفط المؤممة تمر. وكان الناس يملئون الطرقات. ولكن إذا تفحَّص الزائر وجوه المارة في تلك المدينة الإنجليزية التي تقع جنوبي إيران فلن يجد أثرًا لأي إنجليزي. بل إن أي أوروبي يحدق إليه الناس بفضول شديد.»
ملأ الترقب الجو عندما اجتمع مجلس الأمن في الخامس عشر من أكتوبر كي يستمع إلى مصدق. وصمتت جميع الوفود عند دخوله القاعة. وحدق الجميع في ذلك السياسي الأنيق الفارع الطول الذي لفت انتباه العالم منذ أن وصل إلى السلطة قبل ستة أشهر. كان مصدق يبدو مطمئنًّا للغاية، ومعه الحق في ذلك. فقد كان محاميًا بارعًا تلقَّى تعليمه في أوروبا وتمكَّن من شحذ قدراته الإقناعية من خلال العديد من المحاكمات والخطب البرلمانية. وأهم من ذلك أنه لم يكن مقتنعًا بعدالة قضيته فحسب، بل أيضًا بأن العناية الإلهية قد أتت به في ذلك الحين. لقد أتى إلى نيويورك كي ينفذ المهمة التي كرس لها حياته.
كان دبلوماسي برازيلي يدعى جواو كارلوس مونيز يرأس مجلس الأمن في ذلك اليوم، وافتتح الجلسة في تمام الثالثة. فوجَّه الدعوة أولًا لكلٍّ من مصدق واللهيار صالح سفير إيران لدى الأمم المتحدة كي يجلسا إلى المائدة المخصصة لأعضاء المجلس. ثم تعرف على جيب الذي أخبر زملاءه الموفدين بأن بريطانيا لم تعد مصرة «على مجرد العودة للوضع الراهن» ولكنها ترغب فحسب في التفاوض من أجل إصلاح «الأضرار الجسيمة التي لم تصبها وحدها بل أصابت العالم الحر بأكمله من جراء تصرفات الحكومة الإيرانية». واختتم جيب كلمته بأن استدار كي يواجه «مندوب إيران الذي قطع مسافة طويلة وتكبد مشقة كبيرة لحضور ذلك الاجتماع». وحث مصدق على «ألا يتخذ موقفًا متطرفًا في الوطنية؛ موقفًا يدنو من الانعزالية، وألا يشغل ذهنه كثيرًا بالمظالم القديمة المتوهمة، بل عليه أن يهتم بالجوانب الأعم والأشمل، وأن يبدي ترحيبه بالتوصل إلى حل بنَّاء للمشكلة».
لا يجد أبناء بلادي ضروريات الحياة الأساسية. وأظن أن مستوى معيشتهم من أقل المستويات في العالم. النفط هو أهم ثرواتنا الطبيعية. ولهذا يجب أن يكون مصدر فرص العمل والغذاء للشعب الإيراني. ويجب أن يكون استغلاله صناعتنا الوطنية، وأن تذهب أرباحه إلى تحسين ظروفنا المعيشية. لكن صناعة النفط بوضعها الحالي لم تسهم بشيء في رفاهية الشعب أو التقدم التقني أو الصناعي لبلادي. والدليل على ذلك أننا بعد خمسين عامًا من الاستغلال على يد شركة أجنبية لم نمتلك بعدُ عددًا كافيًا من الفنيين الإيرانيين وما زلنا نضطر إلى استدعاء الخبراء الأجانب.
ومع أن إيران تؤدي دورًا مهمًّا في توفير احتياجات العالم من النفط، وأن إنتاجها بلغ ٣١٥ مليون طن خلال خمسين عامًا، فإن إجمالي ربحها طبقًا لحسابات الشركة السابقة لم يزد عن ١١٠ ملايين جنيه إسترليني. أود أن أعطيكم فكرة عن أرباح إيران من هذه الصناعة الضخمة: بلغ صافي أرباح شركة النفط البريطانية الإيرانية السابقة عام ١٩٤٨ طبقًا لدفاتر حساباتها ٦١ مليون جنيه لم تحصل إيران منها إلا على ٩ ملايين جنيه فقط، في حين دخلت ٢٨ مليون جنيه خزانة المملكة المتحدة في صورة ضريبة الدخل …
ويجب أن أضيف أيضًا أن السكان الذين يعيشون في مناطق النفط جنوبي إيران وفي منطقة عبدان — حيث يوجد أكبر معامل تكرير النفط في العالم — يعانون البؤس الشديد، ولا يجدون أبسط ضروريات الحياة. وإذا استمر استغلال صناعة النفط في المستقبل كما كان عليه في الماضي، وإذا كان علينا أن نحتمل موقفًا يقوم فيه الإيرانيون بدور العمال اليدويين في حقول النفط بمسجد سليمان وأغا جاري وكرمانشاه ومصفاة التكرير في عبدان، وإذا استمر المستغلون الأجانب يستأثرون بكل العائد تقريبًا؛ فسوف يظل شعبنا للأبد يرزح تحت وطأة الفقر والبؤس. وتلك هي الأسباب التي حثت البرلمان الإيراني — المكون من المجلس ومجلس الشيوخ — على التصويت بالإجماع لتأميم صناعة النفط.
وهنا جلس مصدق وسلم نص البيان إلى صالح. بدأ صالح بقراءة الحجة القانونية الأساسية لإيران التي انتقاها مصدق: «تعد الموارد النفطية لإيران، مثلها مثل التربة والأنهار والجبال، ملكًا للشعب الإيراني. وهم وحدهم يملكون حق تقرير ما يفعلونه به، وكيف يستغلونه، وبالاستعانة بمن.» استغرق الأمر ساعتين كي يقرأ صالح البيان الذي كتبه مصدق والذي كان سردًا لتاريخ التدخل الأجنبي في إيران مع التركيز على الخطوات التي اتخذتها بريطانيا كي «تخضعنا للعبودية الاقتصادية».
وفي ختام البيان قال: «إن سجل الاستغلال الاقتصادي البريطاني لإيران سجل مؤسف. ولا داعي أن يندهش أحد من أن النتيجة كانت تأميم صناعة النفط.»
وبعد الانتهاء من قراءة بيان مصدق صوت المجلس على الاجتماع مرة أخرى في اليوم التالي لاستكمال المباحثات. وطلب المصورون الصحفيون الذين كانوا في الانتظار خارج القاعة من الخصمين أن يتصافحا أمام الكاميرات. وبينما أضواء الكاميرات تومض تبادلا حوارًا قصيرًا.
قال جيب لمصدق: «سنصبح إن شاء الله أصدقاء مرة أخرى.»
ورد مصدق: «كنا دومًا أصدقاء لإنجلترا. ولكن الشركة السابقة استدرجت بلادكم بلا داعٍ إلى هذا النزاع.»
وفي اليوم التالي ظهرت صور الرجلين في جميع صحف العالم. وظهر فيها مصدق فارع الطول يبتسم ابتسامة عريضة. وبدا جيب مشدوهًا مرتبكًا.
بدأت جلسة الثلاثاء بالإشادة برئيس الوزراء الباكستاني لياقات علي خان الذي اغتيل لتوه. كان لياقات شبيهًا بمصدق. فقد كان زعيمًا لحركة تهدف إلى إنهاء الاستعمار البريطاني للهند، وتعاون مع مؤسس باكستان محمد علي جناح من أجل بناء جمهورية إسلامية ديمقراطية في مقاطعات الهند الشمالية. وعقب وفاة جناح أصبح هو «زعيم البلاد بلا منازع»، كما أطلق عليه جورج ماكجي الذي قابله عدة مرات. وعلى غرار مصدق كان لياقات سياسيًّا بعيد النظر واسع المعرفة تلقى تعليمًا عاليًا، وكان علمانيًّا متعاطفًا مع القيم الغربية، ولكنه في الوقت ذاته كان محبطًا بسبب آثار الاستعمار المعوِّقة التي تمنع الدول الفقيرة من تحقيق الاستقلال الحقيقي. ولم تحظَ باكستان قط بزعيم في مثل مكانته، كما لم تحظَ إيران بزعيم آخر مثل مصدق.
كان لياقات يجسد روح الأمم المتحدة الشابة، وجاء خبر مقتله صدمة لكثير من المندوبين في الأمم المتحدة. كانت تشغلهم بالفعل هموم كثيرة. فقد تزامن تحدي مصدق الخطير للبريطانيين مع حدوث اضطرابات غير عادية في العالم. فقد أجرى الاتحاد السوفييتي لتوه تجربته الثانية للقنبلة الذرية، مما أكد أن خطر الفناء سوف يغير التاريخ لأجيال عديدة لاحقة. وكانت الحرب مشتعلة في كوريا. وكان الموقف متفجرًا في كشمير التي يتنازع عليها الهند وباكستان. وأعلنت حالة الطوارئ في مصر عقب اندلاع أعمال الشغب ضد البريطانيين.
كان مخططًا إجراء حملة انتخابية في بريطانيا في خريف ذلك العام. ترشح وينستون تشرشل مرة أخرى لمنصبه القديم، وفي العديد من الخطب ألقى اللوم على رئيس الوزراء الحالي أتلي لإخفاقه في مواجهة مصدق بالحزم المطلوب. أخبر الجماهير في ليفربول بأن أتلي قد خان «التعهدات المقدسة» بعدم التنازل عن عبدان. وأعلن غاضبًا: «لم يخلف أحد المسئولين من قبل وعده على نحو مفاجئ هكذا حتى دون أن يحاول تقديم تفسير لذلك.» ومع سير الحملة الانتخابية ازداد موقف تشرشل من قضية إيران عدوانية لدرجة أن موريسون سأله في حدة أثناء إحدى جلسات مجلس العموم هل يدعو إلى الحرب؟ ولم يجب تشرشل، لكنه لم ينكر قط أنه معجب بفكرة غزو إيران.
ولكن رغم كل الأحداث الجارية في العالم ظل مصدق رجل الساعة. ففي اتهاماته التي ألقاها جزافًا أمام مجلس الأمن كانت كلماته تقع كالسياط اللاذعة على خصومه، وتشرح صدور معجبيه الذين لا حصر لهم. واستهل يومه الثاني بالسخرية من البريطانيين لمحاولتهم «إقناع الرأي العام العالمي بأن الحمل قد التهم الذئب».
قال مصدق: «أوضحت حكومة المملكة المتحدة بما لا يدع مجالًا للشك أنها لا ترغب في التفاوض، واستخدمت عوضًا عن ذلك كل ما طالته أيديها من وسائل غير مشروعة للضغط الاقتصادي والنفسي والعسكري كي تحطم إرادتنا. لقد حشدت سفنها الحربية على طول سواحلنا، وجنود المظلات في قواعد قريبة، وتتفاخر بعد هذا كله بحبها للسلام!»
ثم جاء دور جيب في الحديث. فأبدى استياءه وإحباطه من كون خطاب مصدق «شديد السلبية، وهو موقف أخشى أن أقول إنه يميز التوجه الإيراني في المفاوضات الطويلة التي أجريناها حتى اليوم». وأكد أن مصدق يواجه «موقفًا عصيبًا بسبب حماقته». فلم يفعل شيئًا منذ أن تولى منصبه سوى التحقير من شأن إنجازات شركة النفط البريطانية الإيرانية «الحكيمة بعيدة النظر»، والإلحاح في تعيين «الإيرانيين غير المؤهلين» في الوظائف الفنية، وانتهاك القانون الدولي عن طريق الأمر «بمصادرة ممتلكات أجنبية». وقد نشأت تلك الأزمة من جراء «إصرار إيران على رفض الاعتراف بحصانة العقود».
لم أحصِ بدقة الكلمات المسيئة التي استخدمها السير جلادوين جيب في بياناته المتعددة، ولكنكم إذا تصفحتم سجلات الجلسات فسوف تتراءى لأعينكم الإساءات واحدة تلو الأخرى. فقد وصف أعمالنا «بالوحشية» وشعبنا «بالمخدوع». هذا بالإضافة إلى وصفنا «بالتهور» و«التعسف»، وبأننا جعلنا الحياة «لا تطاق». ووصف عملية التشريع بأنها «احتيال». ونعتنا «بالعناد»، واتهمنا بإطلاق التهديدات. واعتبر مظالمنا «اتهامات جزافية». ووصفنا «بالسخافة» و«الجحود الذي يشي بالدناءة». واتهمنا أيضًا «بالتطرف»، و«باستغلال» شعبنا، وبأننا ننقذ رقابنا عن طريق تحريض شعبنا ضد الأجانب. وهو يرى أهدافنا «وهمية» وطريقنا لتحقيقها «انتحاريًّا». ويقول إن مثلنا كمثل كسيح يقود أعمى سعيًا وراء سراب …
لقد أدركنا منذ زمن طويل أن آمالنا في تنمية بلادنا ورفع الظروف المعيشية لشعبنا وزيادة الفرص المتوفرة له تعتمد اعتمادًا كبيرًا على ذلك المورد القومي شديد الأهمية. ولكن النفط لم يحقق لازدهارنا القومي أكثر مما حققته الفتات الذي سمحوا لنا بالتقاطه من على مائدة الشركة السابقة … ويسرني الاستجابة لطلب مندوب المملكة المتحدة بمواجهة الحقائق العملية للموقف، وأؤكد أنني لا أقل عنه حماسًا للتفاوض. ولكن الشركة السابقة يمكنها أن تمارس نشاطها في أي مكان في العالم ما عدا إيران. فلن نسلم حق استغلال مواردنا النفطية للأجانب، لا عن طريق الوصاية ولا التعاقد.
وهكذا أصبح القرار الذي خففته بريطانيا تحت ضغط الولايات المتحدة قبل عرضه على مجلس الأمن أكثر ضعفًا بعد التعديلات التي طالبت بها الهند ويوغوسلافيا. ولم يزد في نهاية الأمر على دعوة الطرفين لإبداء النوايا الحسنة، لكن مصدق لم يقبل حتى بذلك. وأصر على أن المجلس لا يملك حق إصدار أي قرار في ذلك الشأن. وكان الانطباع الذي خلفه قويًّا حتى إن معظم الحكومات الأخرى لم تجد خيارًا سوى موافقته على رأيه. وفي التاسع عشر من أكتوبر صوت المجلس على «تأجيل مناقشة ذلك الأمر إلى يوم محدد أو لأجل غير مسمى». وامتنعت بريطانيا والولايات المتحدة عن التصويت. وكانت هزيمة دبلوماسية مخزية للبريطانيين.
كتب جيمس ريستون في العدد التالي من جريدة «نيويورك تايمز»: «لقد أحدث النزاع على النفط الإيراني أثرًا لم يحدثه نزاع آخر من قبل في تاريخ الأمم المتحدة. فقد أرسى مبدأ الهزيمة المطلقة. وأثبت أمرًا كان حتى الآن موضع شك، وهو إمكانية نشوب نزاع في الأمم المتحدة تخسر فيه كل الأطراف، وفيها القوى العظمى والقوى الصغرى والأمم المتحدة نفسها.»
وهكذا أصبح التوصل إلى حل لذلك النزاع على النفط مستبعدًا أكثر من ذي قبل. وظل مصدق على إصراره الذي لا يلين على الاستمرار في مشروع التأميم، وظل البريطانيون أيضًا على عزمهم على إحباط جهوده. وفي محاولة أخيرة من الرئيس ترومان للتسوية وجه الدعوة إلى الزعيم الإيراني للذهاب إلى واشنطن.
كان مصدق قد أثبت بالفعل مهارته في التأثير على الشعب الأمريكي واستمالته. فقد ظهر عدة مرات على شاشات التلفاز وتمكن من كسب تعاطف الكثيرين بالمنطق الواضح لقضيته التي دأب على تشبيهها بالصراع من أجل الاستقلال الأمريكي. وكانت صفاته الشخصية المميزة مثل وجهه الأرستقراطي الطويل الذي ينفجر ضحكًا فجأة والطريقة التي يتكئ بها برأسه المتعب على عصاه وحركات ذراعيه تزيد من جاذبيته. فقد أعطته الهيئة المحببة لعم أو جد قريب إلى قلبك لكنه غريب الأطوار. وهكذا لاحقه المصورون في كل مكان أينما ذهب في نيويورك.
وقبل أن يرحل مصدق إلى واشنطن خطب في الطلاب الإيرانيين بجامعة كولومبيا وأخبرهم بأنهم إذا كانوا يرغبون في مساعدة بلادهم فعليهم أن يتعلموا كيف يديرون صناعة النفط. وفي صباح اليوم التالي استقل القطار، ولكن بدلًا من أن يتجه مباشرة إلى واشنطن توقف في لفتة ذكية منه في فيلادلفيا. هناك توجه لزيارة قاعة الاستقلال التي قال إنها ترمز إلى الطموحات التي وحدت بين الشعبين الأمريكي والإيراني. وهتف المئات من المشاهدين مهللين وقت التقاط الصور الفوتوغرافية له بجوار جرس الحرية.
كان ترومان قد حصل على تقرير سري عن مصدق يعكس وجهة النظر الأمريكية عنه. وذكر التقرير أنه «يتمتع بتأييد أغلبية الشعب»، ووصفه بأنه رجل «ذكي» «دمث الخلق» «صريح» «واسع الاطلاع». ولكن وجهة النظر البريطانية فيه كانت على النقيض تمامًا، فطبقًا للعديد من البرقيات والمذكرات الدبلوماسية كان مصدق «طائشًا» «شاذًّا» «غريب الأطوار» «مجنونًا» «مجرمًا» «متعصبًا» «أحمق» «مستبدًّا» «زعيمًا للدهماء» «مثيرًا للشغب» «ماكرًا» «مراوغًا» «عديم الضمير» «غير متوازن»، فضلًا على كونه «رجلًا شرقيًّا خبيثًا» «يشبه أحصنة جر العربات» و«تفوح منه رائحة الأفيون».
•••
كانت لحظة وصول مصدق إلى محطة القطار في واشنطن في الثالث والعشرين من أكتوبر عام ١٩٥١ لحظة لا تنسى. فقد غادر القطار بصعوبة شديدة معتمدًا على عصاه من ناحية وعلى قبضة ابنه الثابتة من ناحية أخرى. وبدا أنه على وشك السقوط في أي لحظة. وفجأة رأى وزير الخارجية أتشيسون الذي كان معجبًا به ولكنه لم يقابله من قبل. فأشرق وجهه وبدا أنه استعاد شبابه على الفور، فألقى عصاه ودفع ابنه جانبًا بقوة وقفز عبر صالة الوصول كي يعانق مضيفه.
وفي اليوم التالي عبر الرئيس ترومان الشارع من البيت الأبيض كي يقابل مصدق في بلير هاوس. ومرة أخرى أصبح مصدق ذلك المريض المتهالك الذي يرغب — وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة — في الدفاع عن شعبه المظلوم ضد قوى الشر. وانحنى مصدق نحو ترومان قائلًا بضعف شديد: «سيدي الرئيس، إنني أتحدث باسم دولة تعاني الفقر المدقع؛ دولة كلها صحراء ليس بها سوى الرمال وبعض الجمال والخراف …»
لكن أتشيسون قاطعه قائلًا: «نعم والنفط أيضًا، مثل تكساس بالضبط!» وأعجب مصدق بذلك التعليق. فمال إلى الخلف في مقعده وانفجر في إحدى نوبات الضحك التي اشتهر بها مثل نوبات البكاء.
استهل ترومان حديثه بإخبار مصدق بأنه شديد التعاطف مع القضية الإيرانية. ولكنه يخشى أنه في حالة خروج أزمة النفط عن السيطرة فقد تسقط إيران في أيدي السوفييت الذين كانوا «جالسين كالنسر على السور في انتظار لحظة الانقضاض». وحذره قائلًا: «إذا استولى السوفييت على إيران فسوف يصبحون في وضع يتيح لهم شن حرب عالمية جديدة.» وأعلن مصدق أنه يستشعر الخطر نفسه، ولكنه أصر على أن التعنت البريطاني هو ما سيلقي بإيران في هاوية الفوضى.
ولما أدرك ترومان استحالة التوصل إلى تسوية في ذلك اليوم، وجه الدعوة لمصدق كي يظل في واشنطن ويقضي بعض الوقت بصحبة أتشيسون وجورج ماكجي. ولكي يلطف من الدعوة أجرى ترتيبات لإقامة مصدق في مستشفى والتر ريد حيث يمكنه الراحة وإجراء مجموعة كاملة من الفحوصات الطبية. كان ذلك العرض لا يقاوم لشخص مصاب بالعديد من الأمراض ويعتقد أنه مصاب بالكثير غيرها ويشعر بالراحة في الفراش ويرحب دائمًا بالعناية الطبية. اقتيد مصدق إلى المستشفى في ذلك المساء، وابتهج عندما وجد أن الجناح الرئاسي قد أعد له.
وفي اليوم التالي توجه أتشيسون وماكجي لزيارته كي يتفقوا على شروط تسوية رأوا أنها ستكون عادلة مع البريطانيين. والصيغة التي توصلا إليها — على حد تعبير جريدة «نيويورك تايمز» — تمثلت في «ضمان تحكم إيران في مواردها النفطية مع إعطاء السلطة الكاملة لشركة وصفتها بأنها «محايدة» في تشغيل معامل التكرير ومرافق التوزيع الضخمة وإدارتها، بالإضافة إلى تمكين بريطانيا من تسويق النفط». ولكن مصدق رفض ذلك العرض دون تفكير.
قُدِّم العرض نفسه للبريطانيين، وقبل أن يعلموا برد فعل مصدق رفضوه أيضًا، وأطلق السير ويليام سترانج أحد كبار الدبلوماسيين في وزارة الخارجية على ذلك العرض «مصادرة للأملاك على حساب المصالح البريطانية». وأكد مستشار خزانة الدولة آر إيه باتلر أن ذلك العرض أخفق في إدراك حقيقة أن «مصلحتنا الاقتصادية في خطر، وهي تفوق مصلحة إيران في الأهمية».
كان هناك العديد من الاجتماعات والمباحثات الأخرى، ومنها جدال امتد طويلًا حول الثمن الذي ستطلبه إيران في مقابل النفط عندما يبدأ في التدفق مرة أخرى، إذا حدث ذلك أصلًا. ولكن تلك المباحثات لم تسفر عن أي نجاح. وبعد مضي أسبوع على وجود مصدق في واشنطن كتب جيمس ريستون: «إن الإحساس العام هنا هو أن الولايات المتحدة قد تدخلت في القضية في وقت متأخر جدًّا، وأنه لا يمكن التوصل الآن إلى تسوية ترضي جميع الأطراف: الولايات المتحدة وبريطانيا وإيران.»
كان الأمريكيون بالفعل حديثي العهد بالشرق الأوسط. ورآهم البريطانيون سذجًا قليلي الخبرة. وكانوا محقين بعض الشيء. كان الأمريكيون بطبيعتهم ينفرون من الغطرسة الاستعمارية التي تميز بريطانيا، خاصة في إيران، لكنهم لم يتمتعوا بالثقة الكافية للتصرف بحسم من تلقاء أنفسهم.
لم يكن إخفاق الولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق مع مصدق خلال زيارته لها ناتجًا عن تقصير من جورج ماكجي. فقد ظل يزور مصدق يومًا بعد يوم وهو في المستشفى ثم في جناحه بفندق شوريهام بعد خروجه من المستشفى بشهادة صحية تفيد سلامته. وكتب فيما بعد: «رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها لم أتمكن من إقناعه بحقائق الأمور في صناعة النفط العالمية. فعندما أتحدث إليه عن أسعار النفط أو الاستقطاعات أو الفنيين كان دائمًا يبتسم في نهاية الأمر؛ إذ كان يقول: «لا يهمني ذلك. أنت لا تفهم المسألة. إنها قضية سياسية.»»
وفي منتصف شهر نوفمبر استسلم ماكجي أخيرًا بعد سلسلة من الاجتماعات مع مصدق استغرقت سبعين ساعة في الإجمالي. وعندما أتى كي يخبر مصدق بذلك كان الرجل العجوز يعلم ما الذي سيحدث، حيث ابتدر ماكجي قائلًا: «لقد أتيت كي ترسلني إلى الديار، أليس كذلك؟»
أجاب ماكجي: «بلى. ويؤسفني أن أخبرك أننا لا نستطيع رأب الصدع بينك وبين البريطانيين. وهو شيء مخيب للآمال لنا كما هو لك بالتأكيد.»
تقبل مصدق تلك الأخبار بهدوء، وقبل أن يغادر واشنطن قَبِل دعوة موجهة إليه لإلقاء خطاب في النادي الوطني للصحافة. وكان خطابه شجبًا لبريطانيا وإدانة لها ممتزجين بمهارة بالثناء على الولايات المتحدة وطلب المساعدة المالية. وأعلن متحدث باسم وزارة الخارجية أن طلب المساعدة سوف «يوضع في الاعتبار»، لكنه أخبر مصدق سرًّا بأنه يستحيل إعطاؤه قرضًا لأن البريطانيين سوف يعارضون ذلك بشدة.
جاءت أعمق تعليقات مصدق أثرًا قبل أن يغادر واشنطن في الثامن عشر من نوفمبر إلى فيرنون والترز الذي زاره وحده بناء على طلب أفريل هاريمان كي يتأكد من أنه لم يغير موقفه في اللحظة الأخيرة. ففور أن دخل والترز من الباب ابتدره مصدق قائلًا: «إنني أعلم لماذا جئت، وإجابتي لا تزال لا.»
أجاب والترز: «د. مصدق، لقد مكثتَ هنا فترة طويلة. وكانت لدينا آمال عريضة في أن تحقق زيارتك نتائج إيجابية، لكنك الآن تعود إلى إيران صفر اليدين.»
هنا حدق مصدق في وجه ضيفه قائلًا: «ألا تدرك أنني إذ أعود إلى إيران صفر اليدين فإنني أعود في موقف أقوى كثيرًا من عودتي باتفاق يصبح عليَّ أن أقنع به أنصاري المتحمسين؟»
•••
وفي طريقه للعودة إلى الديار توقف مصدق في مصر. لقد لاقى استقبالًا حارًّا. فالمصريون كانوا بالفعل قد أصابتهم حمى مناهضة الاستعمار التي أدت إلى وقوع أزمة قناة السويس بعد ذلك ببضع سنوات، وكلما ظهر مصدق للعامة استقبلوه بالتهليل الحماسي. وأطلقت عليه الصحف لقب البطل «قاهر التاريخ» الذي «ظفر بالحرية والكرامة لبلاده». ومكث في مصر بضعة أيام استقبله فيها الملك فاروق ووقع فيها معاهدة صداقة مع رئيس الوزراء المصري النحاس باشا. وأكدت المعاهدة أن «اتحاد إيران ومصر سوف يضع حدًّا للاستعمار البريطاني».
وحينما كان مصدق في الولايات المتحدة حدث تغير سياسي خطير في بريطانيا. فقد فاز حزب المحافظين بقيادة وينستون تشرشل في الانتخابات ليحل محل حكومة حزب العمل بقيادة أتلي. وعلى غرار العديد من الزعماء البريطانيين الذين ينتمون إلى الجيل نفسه، كان من الصعب على تشرشل — البالغ من العمر اثنين وسبعين عامًا — أن يتخلى عن كون بريطانيا قوة استعمارية. فعندما كان جنديًّا شابًّا عام ١٨٩٨ أغار على الدراويش في معركة أم درمان الفاصلة التي وطدت الاستعمار البريطاني للسودان. وأثناء الحرب العالمية الأولى ساهم في وضع خطة لحملة جاليبولي بتركيا التي لم تلق نجاحًا. وفيما بعد تولى إدارة الجهود البريطانية للسيطرة على فلسطين والعراق، وعارض بشدة منح الهند الاستقلال. وظل دائمًا ينظر إلى إيران النظرة نفسها؛ على أنها مصدر يعتمد عليه للحصول على النفط بسعر منخفض، وإيران أيضًا إحدى أكبر القواعد الأمامية التي بقيت لبريطانيا، وكان تشرشل يعلم أنه لو خسرت بريطانيا إيران فسوف يتضاءل الأمل في المحافظة على السويس أو القواعد الأخرى المتبقية. وكان الوقوف بإصرار في وجه القومية الصاعدة في العالم الثالث إحدى حملاته العنيفة التي استمرت مدى الحياة، وفي أواخر مشواره المهني صمَّم على أن يحاول محاولة أخيرة.
أقام تشرشل حملته الانتخابية على أساس اتهام أتلي بأنه «فر هاربًا من عبدان في الوقت الذي كانت فيه أصوات البنادق تكفي لحسم الأمر». وفي واحد من أوائل القرارات التي اتخذها تشرشل فور توليه منصبه أرسل وزير الخارجية الجديد أنتوني إيدن كي يقابل أتشيسون. وأعطى أوامره لإيدن أن يلح في مسألة إيران وأن «يظل متمسكًا بموقفه حتى لو احتدم الموقف».
ثبت أن التغيير في الحكومة البريطانية كان حاسمًا فيما يتعلق بإيران. فقد فعل أتلي كل ما يراه مناسبًا نيابة عن شركة النفط البريطانية الإيرانية، ولم يتورع عن فعل شيء إلا استخدام العنف. أما تشرشل الذي اعتبر مصدق «كهلًا مجنونًا مصممًا على تحطيم بلاده وتسليمها فريسة للشيوعيين»، فقد كان مستعدًّا لأن يتخطى تلك الحدود. وأثبت الحماس الذي استُقبل به مصدق في مصر لتشرشل أنه لا يمثل خطرًا على مخزون النفط الخاص ببريطانيا فحسب، بل يمثل أيضًا رمزًا غير مقبول لمعاداة البريطانيين في كل أنحاء العالم.
وفي الحال ازدادت سياسة بريطانيا تجاه مصدق قسوة وخشونة. إذ أخبر إيدن أتشيسون بأن الأمريكيين قد قضوا وقتًا أطول من اللازم في استرضاء مصدق، وأن دعوته إلى واشنطن كانت خطأ كبيرًا. وأعلن أنه منذ ذلك الحين سوف تركز بريطانيا جهودها على الإطاحة به.
كان جورج ماكجي من أشد الأمريكيين إحباطًا بقرار بريطانيا باللجوء إلى العنف. فمن وجهة نظره كانت تلك الضربة القاضية في حملة انتحار جماعي أو «تقريبًا نهاية العالم». كان صديقه هنري جريدي قد أقيل منذ بضعة أسابيع من منصبه سفيرًا لدى إيران، وعندما كان مصدق يغادر واشنطن بدأ ماكجي منصبه الجديد سفيرًا لدى تركيا. وكان كلاهما يملك حماسًا بلا حدود لفكرة التسوية مع إيران، ولكن تلك الفكرة قد ماتت.
وفي عام ١٩٥١ ظهر مصدق على المسرح العالمي وسيطر عليه. وأصبح شخصًا تساهم أفكاره في تشكيل التاريخ سواء للأفضل أم للأسوأ. ولهذا السبب لم يفاجأ أحد عندما اختارته مجلة «تايم» بوصفه «رجل العام» متخطية هاري ترومان ودوايت أيزنهاور ووينستون تشرشل.
بدا مصدق مهيبًا وقورًا على غلاف مجلة «تايم». وحفل المقال الطويل الذي كتب عنه في مجلة «تايم» بالإهانات الموجهة إلى «زعيم تلك الدولة البائسة الباكي الضعيف» الذي كان «انتهازيًّا متعنتًا» وينفجر في نوبات الغضب «كالطفل العنيد». لكنه وُصِفَ أيضًا بأنه «جورج واشنطن الإيراني» و«أشهر شخص في العالم أنجبته تلك السلالة العريقة منذ عدة قرون».
ذات يوم كان هناك رجل نبيل يعيش في منطقة جبلية تقع بين بغداد وبحر قزوين. وبعد أن قضى ذلك النبيل عمره في الشكوى من الطريقة التي تدار بها المملكة أصبح هو كبير الوزراء. وخلال بضعة أشهر أصبح العالم بأكمله ينتبه لحديثه وأفعاله ودعاباته ودموعه ونوبات غضبه. وخلف سلوكه الغريب تكمن قضايا كبرى خاصة بالسلام أو الحرب يمكنها أن تؤثر على العديد من الأماكن التي تتجاوز نطاق الجبال التي يعيش فيها …
كان هذا الرجل محمد مصدق رئيس وزراء إيران عام ١٩٥١. وكان ورجل العام. وقد زج بشهرزاد في قضية النفط وفتح الباب على مصراعيه للفوضى. وتمكنت دموعه المريرة من إذابة أحد الأعمدة الباقية لإمبراطورية عظمى. وبصوته الحزين الرخيم أطلق تحديات أفرزتها كراهية وحقد لا يكاد يفهمهما الغرب …
إن موقف بريطانيا في [الشرق الأوسط] بأكمله ميئوس منه، حيث يكنُّ لها الجميع تقريبًا الكراهية وعدم الثقة. لقد انتهت العلاقة الاستعمارية القديمة، ولا يمكن لأي قوة أخرى أن تحل محل بريطانيا … أما الولايات المتحدة — التي سوف يتعين عليها أن تشكل سياسة الغرب تجاه الشرق الأوسط سواء أرغبت في ذلك أم لا — فلم تكوِّن سياسة محددة نحوه بعد … حيث إن ريادتها للدول غير الشيوعية تفرض عليها بعض المسئوليات الجسيمة. وإحداها مواجهة التحدي الأخلاقي الذي يفرضه الساحر العجوز الغريب الأطوار الذي يعيش في منطقة جبلية، والذي أصبح للأسف رجل العام لعام ١٩٥١.