الفصل التاسع

البريطانيون الحمقى

ذات يوم مشمس من شهر يوليو عام ١٩٥٢، وبعد ثمانية أشهر من عودة مصدق من واشنطن، اقتيد عبر ممر تظله أشجار الدردار إلى قصر سعد آباد من أجل مواجهة حاسمة مع محمد رضا شاه. فلم تعد إيران تتسع لكليهما. وخلف الأبواب المغلقة في القصر تواجها في مبارزة في الذكاء والقوة. وانتهى الأمر بسقوط مصدق فاقد الوعي تحت أقدام الشاه.

كان من المفترض أن يكون هذا الاجتماع إجراء شكليًّا فقط. فقد أتم مصدق عامين في منصب رئيس الوزراء، وطبقًا للعرف يفترض أن يقدم للشاه قائمة بأسماء الوزراء في حكومته. لكنه انتهز الفرصة كي يقدم طلبًا لم يجرؤ أي رئيس وزراء إيراني على تقديمه من قبل. رغب مصدق في أن يقر الشاه بسلطة الحكومة المنتخبة عن طريق التنازل عن السيطرة على وزارة الحربية. لكن الشاه استشاط غضبًا. فبدون السيطرة على وزارة الحربية سيفقد السيطرة على الجيش الذي يعتبر الحصن الوقائي لسلطته ويصبح رئيسًا صوريًّا فقط. فأخبر مصدق أنه يفضل بدلًا من أن يفقد جيشه أن «يلم حقائبه ويرحل».

لم يتفوه مصدق الذي أتقن فن المسرح السياسي قبل أن يولد الشاه بكلمة. بل صمت قليلًا يفكر ثم نهض كي ينصرف. وخشي الشاه أن ينطلق مصدق في الشوارع ويحرض الجماهير ضده، فهب واقفًا واندفع نحو الباب كي يمنع مصدق من الخروج، لكن مصدق أصر على أن يبتعد الشاه. أجاب الشاه بأن ذلك مستحيل؛ فالمناقشة يجب أن تتواصل. واستمر هذا الموقف دقيقة أو دقيقتين. ثم ضاق تنفس مصدق وعاد خطوتين للوراء ثم سقط مغشيًّا عليه.

بموجب ملحق لدستور ١٩٠٦ أصبح الشاه القائد الأعلى للجيش الإيراني، ووجب عليه أيضًا التعاون مع الحكومة المنتخبة في الشئون السياسية. وكان رؤساء الوزراء دائمًا يفسرون ذلك بالسماح للشاه بتعيين وزير الحربية. لكن مصدق تسبب في حدوث أزمة بمخالفته ذلك التقليد. وبينما كان مستلقيًا في فراشه يتعافى من الانهيار الذي أصابه، قرر أن يحل الأزمة بطريقة صادمة للبلاد. وفي صباح اليوم التالي الموافق السابع عشر من يوليو استقال من منصبه.

كتب مصدق للشاه: «في ظل الظروف الحالية يستحيل الانتهاء من المرحلة الأخيرة من الكفاح الوطني. وأخشى أنني لا يمكنني الاستمرار في منصبي دون أن أكون مسئولًا عن وزارة الحربية، وحيث إن جلالتك لم تمنحني تلك السلطة أشعر أنني لا أتمتع بثقتكم، ولذلك فإنني أقدم استقالتي كي أمهد الطريق لحكومة أخرى تتمكن من تنفيذ رغبات جلالتك.»

هل كان مصدق يرغب بالفعل في ترك السلطة؟ أم أن تلك مناورة منه فقط للحصول على المزيد من المزايا السياسية؟ في العديد من اللحظات الحاسمة في مشواره المهني فضل أن ينسحب من الحياة العامة عن أن يلطخ سمعته. فقد شعر بالخزي الشديد عندما عقدت الاتفاقية البريطانية الفارسية عام ١٩١٩ حتى إنه قدم طلبًا للإقامة في سويسرا وأخبر عائلته أنه قرر قضاء بقية حياته في المنفى. وخلال حكم رضا شاه الذي استمر فترة طويلة ظل بمعزل عن السياسة. وفي عام ١٩٤٧ بعد إلغاء مشروع قانون كان قد تقدم به إلى المجلس انسحب إلى ضيعته بأحمد آباد وأعلن نهاية مشواره السياسي تمامًا. وقد عكست تلك الأحداث مسحة استشهادية في شخصية مصدق عززتها العقيدة الشيعية وجعلته يفضل احتمال المعاناة على قبول الظلم.

بحلول منتصف عام ١٩٥٢ كان مصدق يواجه العديد من المشكلات. فقد كان لمقاطعة بريطانيا للنفط الإيراني آثار مدمرة، وعلم أن العملاء البريطانيين في طهران يخططون لإسقاط حكومته. ولبرهة كان يأمل في أن ينجو من الأزمة عن طريق المساعدة الأمريكية، لكن الرئيس ترومان الذي كان واقعًا تحت ضغط شديد من لندن لم يتمكن من تقديم يد المساعدة له. فحاول الحصول على المساعدة من البنك الدولي، ولكن تلك المحاولة أيضًا أخفقت. وكان الإيرانيون يزدادون فقرًا وبؤسًا كل يوم. والتحالف السياسي لمصدق يتداعى، وفي ولايته الجديدة توقع أن يواجه حشدًا من الأعداء.

ولكن من السذاجة الاعتقاد بأن مصدق كان مستعدًّا بالفعل أن يتخلى عن المكانة الرفيعة التي وصل إليها في قلوب الإيرانيين والملايين من الناس حول العالم. فلم يرغب في الاستقالة بل في إجبار الإيرانيين على أن يقرروا هل يريدونه زعيمًا لهم أم لا. وهكذا كانت الاستقالة مقامرة ذكية.

وطوال معظم فترة الربيع من ذلك العام انشغل مصدق بالانتخابات البرلمانية. ولم يخشَ التصويت الحر، فعلى الرغم من المشكلات التي تعانيها البلاد فقد اعتبره الكثيرون بطلًا. لكن التصويت الحر لم يكن يتفق مع مخططات بعض الناس الآخرين. فقد انتشر العملاء البريطانيون في البلاد وأخذوا يقدمون الرشوة للمرشحين والمفوضين الإقليميين الذين يسيطرون عليهم. كان أملهم أن يملئوا المجلس بنواب يصوتون على خلع مصدق. وهكذا ينفذون الانقلاب بطريقة تبدو قانونية.

استغرقت الانتخابات الإيرانية عدة أسابيع كي تقام بسبب صعوبة المواصلات والاتصالات. وجاءت النتائج الأولى من المدن الكبرى مشجعة لمصدق. ففي طهران فاز مرشحو الجبهة الوطنية الاثنا عشر. ولكن النتائج اختلفت في أماكن أخرى من البلاد حيث لم يكن هناك أحد يشرف على عملية التصويت. ولم تكن النتائج نفسها ما سبب إزعاجًا لمصدق الذي كانت ثقته في الإرادة الشعبية بلا حدود، ولكنه شعر بالقلق عقب اندلاع أحداث العنف في عبدان والعديد من الأماكن الأخرى حيث اشتد الصراع في الانتخابات. وأخبره مساعدوه أن بعض المرشحين المنتخبين كانوا واقعين تحت السيطرة المباشرة للعملاء البريطانيين. وكان مصدق على وشك أن يذهب إلى لاهاي كي يدافع عن إيران في دعوى قضائية أخرى مقامة من بريطانيا في محكمة العدل الدولية، لكنه خشي أن يؤدي غيابه إلى إزالة العقبات الأخيرة في طريق التزوير الانتخابي الذي يمارسه أعداؤه. وفي شهر يونيو وبعد أن صدق على فوز ثمانين مرشحًا في المجلس الذي يضم ١٣٦ مقعدًا، صوت مجلس الوزراء على إيقاف الانتخابات. وفي بيان أصدره مصدق أكد أنه حيث إن «العملاء الأجانب» يستغلون الحملة الانتخابية لتقويض استقرار إيران، «تتطلب المصلحة العليا للبلاد إيقاف الانتخابات حتى يعود الوفد الإيراني من لاهاي».

كان مصدق يمتلك قانونًا حق اتخاذ تلك الخطوة ما دام الأعضاء الثمانون لم يعترضوا عليها. ويمكنه أيضًا المطالبة بإجراء للشرعية الأخلاقية، فقد كان يدافع عن إيران ضد التخريب الأجنبي. ومع ذلك ألقى عليه هذا الحادث ضوءًا سلبيًّا. فقد سمح لمنتقديه بتصويره في صورة رجل غير ديمقراطي طامع في النفوذ الشخصي.

وفي الوقت الذي كان مصدق يواجه هذا التحدي كان عليه مواجهة تحدٍّ آخر اعتبره معظم الإيرانيين أكثر أهمية. فبلادهم تسقط في هاوية الإفلاس. وفقد عشرات الآلاف وظائفهم في معمل التكرير بعبدان، ومع أن معظمهم تفهَّموا فكرة التأميم وتعاطفوا معها، فقد أملوا بطبيعة الحال في أن يجد مصدق طريقة كي يعيدهم إلى العمل. وكان الطريق الوحيد المتاح هو بيع النفط.

خلال النصف الأول من عام ١٩٥٢ تمكنت بعض ناقلات النفط من الأرجنتين واليابان من الدخول والخروج من الموانئ الإيرانية رغم الحظر التجاري الذي فرضته بريطانيا. وأحضرت ناقلة أخرى أربعة آلاف طن من النفط من عبدان إلى فينيسيا، وعندما رفضت محكمة إيطالية الاحتجاج البريطاني اتهم وينستون تشرشل «الإيطاليين بأنهم ليسوا أصدقاء ولا حلفاء». وأدرك تشرشل أنه إذا لم يفرض الحصار بشكل أقوى فسوف ينهار تمامًا.

وفي منتصف يونيو استقبل عمال ميناء بندر معشور في الخليج العربي ناقلة النفط «روزماري» التي استأجرتها شركة نفط إيطالية خاصة ترغب في شراء عشرين مليون طن من النفط الخام الإيراني على مدار العقد التالي. ونظمت الشركة تلك «الرحلة التجريبية» كي تتحدى الحظر التجاري الذي فرضته بريطانيا. فإذا تمكنت «روزماري» من العودة بسلام إلى إيطاليا فسوف ينكسر الحصار الاقتصادي وتصبح إيران في طريقها للتعافي الاقتصادي.

وبينما كانت بريطانيا وإيران تستعدان للمواجهة في أعالي البحار دخلا أيضًا في معركة في ساحات محكمة العدل الدولية. فقد سعى البريطانيون إلى استصدار قرار يؤكد أحقيتهم في معمل التكرير بعبدان وحقول النفط المحيطة به. وأقام محاموهم حججًا بليغة، ولكن آمالهم في السيطرة على سير الدعوى تبخرت بقدوم مصدق. وقد قوبل باستقبال حافل من الجماهير في قصر السلام، الذين أخذوا يهتفون بحماس شديد ويرددون اسمه بصورة إيقاعية، وألقى مصدق خطبة قصيرة يطالب فيها القضاة بأخذ الجوانب الأخلاقية والسياسية للقضية في الاعتبار بالإضافة إلى الجوانب القانونية. وأكد أن تأميم شركة النفط البريطانية الإيرانية كان رد الفعل الوحيد للطريقة غير المحتملة التي ظلت الشركة لأعوام عديدة تعامل بها الموظفين الإيرانيين «وكأنهم حيوانات» وتستغل الحكومات الإيرانية كي تضمن استمرارها في نهب أهم الموارد الطبيعية في البلاد.

وبعد أن ألقى مصدق خطبته ذهب إلى الفندق ولم يظهر مرة أخرى في المحكمة. وعلى مدار ثلاثة أيام تولى فريق من المحامين الإيرانيين ومحامٍ بلجيكي شهير يدعى هنري رولين، وهو أستاذ القانون الدولي والرئيس السابق لمجلس الشيوخ البلجيكي الدفاع عن قضية إيران. وأخذ رولين يؤكد مرارًا وتكرارًا حجته الأساسية. وأكد أن المحكمة لم تكن تمتلك سلطة الفصل في تلك القضية، فهي لا تتعلق بنزاع بين دولتين بل بين دولة وشركة خاصة.

كان مصدق جالسًا في الفندق عندما أتت أنباء تفيد بأن السفن الحربية البريطانية قد اعترضت سبيل «روزماري» وأجبرتها على أن ترسو في محمية عدن البريطانية. وحاول المحامون البريطانيون في إحدى المحاكم بعدن أن يثبتوا أن شركة النفط البريطانية الإيرانية هي المالك الشرعي للنفط الإيراني، وهكذا فإن «روزماري» تنقل ممتلكات مسروقة. وتأخر صدور الحكم — الذي أتى بالطبع في مصلحة بريطانيا — لعدة أشهر، ولكن أنباء اعتراض البحرية البريطانية لناقلات النفط الإيراني كانت كافية كي تصيب العملاء الآخرين بالذعر. ودعا مصدق إلى عقد مؤتمر صحفي يشجب فيه ذلك الاستيلاء الذي اعتبره «مثالًا حيًّا على الطريقة التي تحاول بها بريطانيا تقييد حريتنا». وتعاطف معه العديد من الأوروبيين، وأرسل السفير البريطاني برقية إلى لندن يقول فيها: «أخشى أن د. مصدق قد تمكن من أن يخلف انطباعًا إيجابيًّا بصورة عامة في لاهاي.»

كان استيلاء بريطانيا على ناقلة النفط روزماري ضربة قاتلة لمصدق وحكومته. فلن تقبل أي شركة نفط بعد ذلك التعامل مع إيران، وهكذا خسرت البلاد مصدرها الرئيس للدخل. لقد ربحت إيران ٤٥ مليون جنيه إسترليني من صادرات النفط عام ١٩٥٠، وهو ما يمثل أكثر من ٧٠٪ من إجمالي صادراتها. ولكن ذلك المبلغ انخفض إلى النصف عام ١٩٥١ ثم أصبح لا شيء تقريبًا عام ١٩٥٢.

أخبر مصدق الإيرانيين بأن حملة استعادة الكرامة الوطنية تتطلب الكثير من «الحرمان والتضحية والإخلاص»، ومع أن معظمهم وافق على ذلك فقد عانوا معاناة شديدة. لكنه تمكن من تخفيف آلامهم بعض الشيء عن طريق زيادة الصادرات من المنتجات الأخرى غير النفطية، وخاصة المنسوجات والمواد الغذائية، والتفاوض بشأن إجراء صفقات مقايضة مع العديد من الدول. وحافظت تلك الخطوات وغيرها على إيران من الانهيار، ولكنها لم تكن بديلًا عن الدخل المكتسب من صادرات النفط.

كانت الانتخابات المسببة للخلاف والحصار البريطاني الخانق على النفط والقضية المنظورة أمام محكمة العدل الدولية تمثل عبئًا على مصدق عندما عاد من لاهاي في نهاية شهر يونيو. بعد ذلك بأسبوعين حدثت نوبة الإغماء التي تعرض لها في قصر الشاه، وفي اليوم التالي استقال من منصبه. كانت استقالته هدية من السماء لأعدائه البريطانيين وللشاه. فقد كانوا يأملون في التأثير في المجلس بحيث يعرقل إعادة انتخابه. ولكنه قدم لهم خدمة لم يحلموا بها بتقديم استقالته بمحض إرادته.

اختار المسئولون البريطانيون الشخص الذي يريدونه خليفة لمصدق. لقد كان السياسي الماكر البالغ من العمر اثنين وسبعين عامًا أحمد قوام الذي كان رئيسًا للوزراء في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين. وأعلن العالم والعميل البريطاني روبين زينر من موقعه في طهران أنها «كانت رغبة قوام في أن يتعاون مع البريطانيين ويحافظ على مصالحهم الشرعية في إيران … كان يفضل النفوذ البريطاني في إيران بدلًا من النفوذ الأمريكي أو الروسي، فالشعب الأمريكي يتمتع بالحماقة وقلة الخبرة، والروسيون يعتبرون أعداء لإيران».

في بداية الأمر عارض الشاه تأييد قوام. فقد أثارت تجربته مع مصدق كراهيته لأي رئيس وزراء قوي الشخصية، وكان يفضل أن يكون رئيس الوزراء ضعيف الشخصية سهل الانقياد. ولم يكن قوام يتمتع بتلك الصفات. ولكن البريطانيين أصروا عليه. وفي الساعات التي تلت تقديم مصدق استقالته في السابع عشر من يوليو استغرق الشاه في التفكير في الخطوات التالية دون أن يتوصل إلى نتيجة. وفي تلك الليلة اجتمع أربعون من أعضاء المجلس المؤيدين لبريطانيا ورشحوا قوام لمنصب رئيس الوزراء. واجتمع سبعة وعشرون آخرون على مقربة منهم كي يعلنوا ولاءهم الأبدي لمصدق بصفته الشخص الوحيد الذي يستطيع حكم إيران «في تلك الفترة العصيبة من تاريخنا».

وفي نهاية الأمر استسلم الشاه للضغوط البريطانية كما اعتاد دائمًا ووافق على تعيين قوام. تصور قوام بحماقة أنه قد امتلك زمام السلطة تمامًا، فبدأ يصدر تصريحات صارمة تفيد بأن يوم الجزاء قد حان. واتهم مصدق بالإخفاق في حل أزمة النفط وبشن «حملة واسعة النطاق ضد دولة أجنبية». وأعلن أيضًا أن إيران على وشك التغيير. وأعلن في أول تصريح له بصفته رئيسًا للوزراء «هذا القائد يتخذ مسارًا مختلفًا». وتوعد من يعترض على سياساته الجديدة بالقبض عليه وتسليمه إلى «يد القانون التي لا ترحم».

لم يدرك العديد من الإيرانيين أن مصدق قد خرج من السلطة حتى استمعوا إلى تصريح قوام في المذياع الذي أثار عاصفة من الاحتجاجات. فاندفعت الجماهير في شوارع طهران والعديد من المدن الأخرى تهتف «إما مصدق وإما الموت!» وأعطى قوام أوامره للشرطة بالهجوم عليهم وإخماد تلك الثورة، لكن العديد من الضباط رفضوا. وانضم بعضهم إلى المتظاهرين الذين رحبوا بهم.

كان ذلك الانفجار العفوي تعبيرًا عن التأييد الشعبي لقرار مصدق بتحدي شركة النفط البريطانية الإيرانية. ولكن ما اجتذب العديد من الإيرانيين إليه أيضًا التزامه بالإصلاح الاجتماعي. فقد حرر الفلاحين من العمل بالسخرة لدى ملاك الأراضي، وأجبر أصحاب المصانع على تقديم إعانات مالية للعمال المصابين والمرضى، وأنشأ نظامًا لإعانات البطالة، واقتطع ٢٠٪ من الإيجارات التي يحصلها الملاك وأنشأ منها اعتمادًا ماليًّا كي ينفقه في مشروعات تنموية مثل مكافحة الآفات وإنشاء المساكن الريفية والحمامات العامة. وكان يؤيد حقوق المرأة ويدافع عن الحريات الدينية، بالإضافة إلى سماحه للمحاكم والجامعات بالعمل بحرية. وقبل كل شيء كان معروفًا لأعدائه بشدة الأمانة وعدم القابلية للفساد المنتشر في السياسة الإيرانية. فكانت فكرة خسارته على نحو مفاجئ واستبدال نظام حكومي مدعم من الخارج به فوق احتمال الشعب الثائر.

في الحادي والعشرين من يوليو دعا زعماء الجبهة الوطنية إلى تنظيم إضراب عام كي يظهروا معارضة الأمة لقوام ودعمها لمصدق الذي يعتبر «الشخص الوحيد الذي يتمتع بالشعبية والذي يمكنه قيادة الكفاح الوطني». وخلال بضع ساعات كان معظم البلاد قد أصيبت بالشلل. وعندما علم آية الله كاشاني بأن قوام ينوي اعتقاله أصدر فتوى يطالب فيها الجنود بالانضمام إلى الثورة التي أطلق عليها «حربًا مقدسة ضد المستعمرين.» أما مقاتلو حزب تودة الذين كانوا ما زالوا غاضبين من قوام من أجل تدبيره انسحاب القوات السوفييتية من أذربيجان عام ١٩٤٧ فقد انضموا بسرور إلى ذلك الصراع وأخذوا يهتفون «يسقط الشاه! نريد جمهورية شعبية!»

صُدم كلٌّ من قوام والشاه بتلك الثورة، وكان رد فعلهم استدعاء الوحدات العسكرية الخاصة. فأطلق الجنود النار على المتظاهرين في العديد من أجزاء طهران. مما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى. وعندما شعر صغار ضباط الجيش بالخوف من تلك المذبحة بدءوا يفكرون في إعلان التمرد. وهكذا فقد الشاه السيطرة على الموقف تمامًا، ولم يعد أمامه خيار سوى مطالبة قوام بالاستقالة. وبالفعل قدم رئيس الوزراء استقالته في ذلك المساء في الرابعة عصرًا. وفور أن تسلمها الشاه أرسل في استدعاء مصدق.

وكان لقاؤهما وديًّا على غير المتوقع. أكد الشاه أنه مستعد الآن لتقبل مصدق في منصب رئيس الوزراء ومنحه السيطرة على وزارة الحربية. وتساءل هل يرغب مصدق في الاحتفاظ بالملكية. وافق مصدق ولكن بافتراض تقبل الملوك لسيادة الزعماء المنتخبين.

وقال للشاه: «قد يتذكرك التاريخ بصفتك ملكًا ذا شعبية هائلة إذا تعاونت مع القوى الديمقراطية والوطنية.»

وفي اليوم التالي صوت المجلس بأغلبية ساحقة على إعادة انتخاب مصدق رئيسًا للوزراء. ولم يستغرق قوام سوى أربعة أيام في الحكم. وكان سقوطه يوم «الاثنين الدموي» انتصارًا ضخمًا غير متوقع للقوميين الإيرانيين. هذا بالإضافة إلى كونه انتصارًا شخصيًّا أكبر لمصدق. فمن دون أن يلقي خطبة واحدة أو يغادر منزله عاد إلى السلطة بمساعدة الشعب الممتن له.

وفي اليوم التالي استيقظت البلاد على أخبار مثيرة. فقد رفضت محكمة العدل الدولية الدعوى التي تقدمت بها بريطانيا نائية بنفسها عن أن تتدخل في نزاع على النفط. وفي لندن صدرت جريدة «ديلي إكسبريس» تحمل العنوان الرئيس «يوم انتصار مصدق». وكان بالفعل يوم انتصار مصدق بل أكثر.

صار الدعم الذي كان يحصل عليه مصدق حينذاك كبيرًا حتى إنه كان يمكنه الإطاحة بالشاه وإعلان نهاية أسرة بهلوي وإنشاء جمهورية وتنصيب نفسه رئيسًا لها إذا كان يرغب في ذلك. لكنه بدلًا من ذلك أرسل إلى الشاه هدية استرضائية. كانت نسخة من المصحف هدية، كتب عليها بخط اليد «اعتبرني عدوًّا للقرآن إذا اتخذت أي خطوة تخالف الدستور أو قبلت تولي الرئاسة في حالة إلغاء الدستور وتغيير شكل حكومة بلادنا.»

كان ذلك التطور في الأحداث هزيمة مخيبة للآمال للبريطانيين. ففي خلال أسبوع انتقلوا من التآمر الخفي إلى انتصار ساحق ثم إلى هزيمة نكراء. ولكن برغم الأخطار المحدقة لم يكونوا على استعداد للاستسلام. بل أخذوا يستعرضون ما حدث كي يكتشفوا أخطاءهم. وبالفعل وجدوا أنهم كانوا مخطئين في عدة أمور. فقد ترك ضباط المخابرات البريطانية الكثير من التخطيط والتنفيذ للإيرانيين. هذا بالإضافة إلى أنهم وضعوا ثقتهم في قوام مع كونه شخصًا مدنيًّا وليس عسكريًّا. وأهم من ذلك كله أنهم عملوا بمفردهم دون مساعدة الأمريكيين. ولكن في المرة التالية لن يكرروا تلك الأخطاء، فقد كانوا مصرين على أن تكون هناك مرة تالية.

تكونت الجولة التالية من التآمر البريطاني من مجموعة من البرقيات الدالة على الفهم العميق التي أرسلها جورج ميدلتون القائم بأعمال السفارة البريطانية في طهران في الأيام التي تلت انتفاضة يوليو. فقد اعتبر ميدلتون تلك الانتفاضة «نقطة تحوُّل في التاريخ الإيراني»، وذلك لأنها كانت بداية ظهور قوة سياسية جديدة ألا وهي الجماهير. فقد فشلت خطة بريطانيا في استبدال مصدق بسبب تدخل الجماهير. فكتب إنه يجب على البريطانيين في المرة التالية أن يكسبوا الجماهير في صفهم.

لاحظ ميدلتون أيضًا أنه أثناء الانتفاضة أبدى عدد كبير من ضباط الجيش ضعف ولائهم لمصدق. وإذا توفرت الظروف المناسبة يمكنهم الانضمام للتمرد ضده، ولكن يجب جمعهم تحت لواء القضية عن طريق ضابط يحترمونه ويثقون به. وكان لدى ميدلتون اسم ذلك الضابط. فاقترح وزير الداخلية السابق في وزارة مصدق الجنرال فضل الله زاهدي.

كان هذا الاختيار لا بأس به. فلم يكن زاهدي مرشحًا مثاليًّا، حيث وصفته جريدة «نيويورك تايمز» بأنه «أحد أفراد الطبقة الراقية المولعين بالقمار والنساء الجميلات»، ولكنه أفضل المرشحين المتاحين. فقد قضى معظم حياته في الجيش وعلى معرفة شخصية بكل ضباط الجيش الإيراني تقريبًا.

في سن الثالثة والعشرين — وعندما كان زاهدي يشغل منصب قائد سرية — قاد مجموعة من القوات في معركة ضد رجال القبائل المتمردين في المقاطعات الشمالية. وبعد ذلك بعامين منحه رضا شاه رتبة العميد. وإعجابًا منه بإخلاصه وقبضته الحديدية عيَّنه الشاه عام ١٩٢٦ حاكمًا لخوزستان، وهي المقاطعة التي يوجد بها مصفاة التكرير، وعام ١٩٣٢ جعله رئيسًا لشرطة طهران، وعام ١٩٤١ جعله قائدًا لحامية أصفهان ذات الأهمية الاستراتيجية.

كان زاهدي ورضا شاه يتفقان بشأن ما تحتاجه إيران. وكلاهما يتميز بالطباع العسكرية من القوة والشراسة والطموح. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية سعى كلاهما إلى تقديم المساعدة للألمان. وبعد أن أطاح البريطانيون برضا شاه وأرسلوه إلى المنفى ازداد اهتمامهم بزاهدي. فقد رأياه استغلاليًّا يجني أرباحًا ضخمة من تخزين الحبوب، وكان من الممكن أن يتركاه وشأنه لولا علاقاته الوثيقة بالعملاء النازيين. فعندما اكتشفا أنه يخطط لثورة قبلية تتزامن مع هجوم ألماني محتمل على إيران قررا التدخل.

وفي سبتمبر ١٩٤٢ استدعى كبار ضباط المخابرات السرية العميل الأسطورة فيتزروي ماكلين الذي قادته أعماله البطولية في ساحات معارك خفية من طرابلس إلى طشقند ثم إلى اجتماع في لندن حيث أخبروه بأنهم يريدون رحيل زاهدي. وكتب ماكلين عن ذلك الأمر: «تركوني كي أقرر بنفسي كيف أنفذ تلك المهمة. ولم يكن هناك سوى شرطين فقط: أن أحافظ عليه على قيد الحياة وألا أتسبب في حدوث أي اضطراب.»

كانت أبسط طريقة تتمثل في اختطاف زاهدي من منزله، ولكن عندما وصل ماكلين إلى أصفهان اكتشف أن منزل زاهدي محاط بحراسة مشددة. وكانت فكرته التالية اختطاف الجنرال من سيارته، لكن اتضح أنها فكرة غير عملية بسبب الحراسة الأمنية المشددة. فقرر ماكلين أن يتوصل إلى حيلة تمكنه من المثول أمام زاهدي.

كانت خطته التي أوضحها في برقية مشفرة أرسلها إلى لندن تتمثل في التنكر في زي عميد في الجيش البريطاني مقيم في بغداد وإرسال رسالة لزاهدي يخبره فيها بأنه يمر بأصفهان ويرغب في إلقاء التحية عليه، ثم يذهب بصحبة شخص أو اثنين «واسعي الحيلة»، وعندما ينفرد بالجنرال يبرز مسدسه ويجبره على الركوب في السيارة التي تنتظرهم. كانت فصيلة من جنود المشاة تنتظر على مقربة منهم كي «يقدموا المساعدة في حالة وقوع أي خطأ». وحصل ماكلين من رؤسائه على كل ما طلب، وفي ذلك الإذن بقتل زاهدي إذا تطلب الأمر ذلك، لكنهم لم يوافقوا على نقطة واحدة. فلم يكن مسموحًا لأي شخص تحت أي ظرف من الظروف بأن يتظاهر بكونه عميدًا في الجيش البريطاني. ولكن من الممكن أن يستعينوا بعميد حقيقي إذا لزم الأمر.

سافر ماكلين إلى مدينة قم التي تبعد مائة وخمسين ميلًا شمال أصفهان حيث كان القائد البريطاني المحلي قد تلقى تعليمات بأن يوفر له ما يحتاجه. وكان يحتاج إلى فصيلة من الجنود، وبالفعل تمكن من جمع الفصيلة بسهولة عندما أشاع أنه يجمع الجنود لتنفيذ مهمة فدائية. وفي حصن مهجور في الصحراء القريبة أجرى هو ورجاله تدريبات لعدة أيام. وفي اليوم السابق للاختطاف توجه إلى أصفهان. كان بصحبة عميد حقيقي وفرته له القنصلية البريطانية في قم، وكان «ضابطًا مميزًا يتمتع بحس الدعابة الذي ساعده على أن يتقمص الدور الغامض الذي كلف به».

تمت إجراءات مقابلة الجنرال زاهدي تمامًا كما كان مخططًا لها، وأتى ماكلين في سيارة يرفرف عليها العلم البريطاني. واستغرق حارس البوابة في حوار طويل مع العميل البريطاني الذي كان جزءًا من فريق ماكلين ولم يرفع بصره إلا لفترة وجيزة حين كان يمر. ووقفت شاحنتان غريبتان حمولتهما مغطاة بالمشمع في الانتظار على مقربة. كان بداخلهما الجنود الذين قضى ماكلين الأسبوع الأخير في تدريبهم. وظلوا منتظرين في حين يدخل هو مقر الفرقة:

ظهر الجنرال زاهدي بعد دقيقتين، وكان رجلًا أنيقًا رشيقًا يرتدي زيًّا عسكريًّا رماديًّا محكمًا وحذاء لامعًا، وعندما دخل الغرفة وجد نفسه ينظر إلى فوهة مسدسي الآلي. ولم تكن هناك فائدة من إطالة موقف محرج كهذا. فدون أن أحدث ضجة طلبت من الجنرال أن يرفع يديه وأخبرته بأن لديَّ تعليمات بالقبض عليه وإطلاق الرصاص عليه إذا حاول المقاومة أو إصدار أي صوت. ثم جردته من مسدسه ودفعته بقوة عبر النافذة إلى السيارة التي كانت في الانتظار ومحركها دائر … وسرعان ما وصلنا إلى نفس المكان الذي قضينا فيه ليلتنا الماضية في الصحراء، وهناك سلمت أسيري إلى ضابط وستة رجال كانوا متأهبين كي يصطحبوه في السيارة إلى أقرب مطار حيث كانت طائرة بانتظاره كي تقله إلى فلسطين … وفي غرفة الجنرال وجدت مجموعة من الأسلحة الآلية الألمانية الصنع والكثير من الملابس الداخلية الحريرية وبعض الأفيون وسجلًّا مصورًا للعاهرات في أصفهان.

قضى زاهدي بقية فترة الحرب في معتقل بريطاني. وبعد إطلاق سراحه استأنف نشاطه وكأن شيئًا لم يكن، فشغل منصب القائد العسكري في مقاطعة فارس ثم عاد لوظيفته القديمة رئيسًا لشرطة طهران. ورشحه محمد رضا شاه لعضوية مجلس الشيوخ عام ١٩٥٠، وفي العام التالي أقنع مصدق باختياره وزيرًا للداخلية. ولكن مصدق طرده بعد بضعة أشهر عندما أمر بإجراء مذبحة للمتظاهرين الذين احتجوا على زيارة أفريل هاريمان. ومع أن زاهدي كان قد ترك الجيش، فقد كان رئيسًا لجمعية الضباط المتقاعدين التي تكوَّن معظمها من ضباط جُرِّدوا من رتبهم العسكرية على يد مصدق وكانوا متعطشين للانتقام منه. وبفضل هؤلاء الأنصار بالإضافة إلى جرأته وقسوته المعروفتين اختاره البريطانيون كي يكون القائد الصوري للانقلاب الذي قاموا به. فقد كان كلاهما على استعداد لنسيان الخلافات الماضية.

أصبحت التركيبة التي أوصى بها جورج ميدلتون في برقياته المكونة من الجماهير بالإضافة إلى زاهدي جوهر المؤامرة ضد مصدق ولم تتغير قط. ولكن قبل أن يبدأ البريطانيون التخطيط بصورة جدية كان يجب عليهم كسب الأمريكيين في صفهم. وهكذا قضى تشرشل — الذي كان طبقًا لوصف أحد جواسيسه الأجانب «يستمتع بالعمليات المثيرة ولا يحترم الدبلوماسيين الجبناء» — النصف الثاني من عام ١٩٥٢ يحاول ضم الرئيس ترومان إلى صفه.

وفي شهر أغسطس وجه مصدق الدعوة لأحد كبار الإداريين في مجال النفط في الولايات المتحدة ويدعى ألتون جونز لزيارة إيران. ورحب ترومان بتلك الفكرة وباركها، ولكن عندما علم بها تشرشل انزعج بشدة واعترض. وأكد أن أي عروض صداقة من الولايات المتحدة سوف تؤثر سلبًا على حملته لإبعاد مصدق. وانبرى يذكر ترومان بأن بريطانيا تدعم الأمريكيين في كوريا، وهكذا فإنها تتوقع «موقفًا بريطانيًّا أمريكيًّا موحدًا» تجاه إيران.

لم تسفر مهمة جونز عن شيء يذكر، ولكن ذلك لم يضعف من رغبة ترومان أو مستشاريه في التوصل إلى تسوية مع مصدق. وتوصلوا في نهاية الأمر كما قال أتشيسون إلى أن «البريطانيين يقفون عائقًا ويصممون على اتباع سياسة الحكم أو التدمير في إيران حتى إننا إما أن نتبع سياسة مستقلة خاصة بنا أو نجازف باختفاء إيران خلف الستار الحديدي». وحث ترومان تشرشل على قبول حقيقة التأميم التي «يبدو أنها أصبحت مقدسة لدى الإيرانيين مثل القرآن». وحذر من أن الاستمرار في مقاومتها قد يؤدي إلى وقوع اضطرابات تجرف إيران مع «المد الشيوعي» وتصبح «كارثة للعالم الحر».

وردًّا على ذلك اقترح تشرشل أن يرسل هو وترومان «برقية مشتركة شخصية وسرية إلى مصدق». وكتب مسودة لها. كانت قد صيغت بلهجة ودية، ولكنها لم تكن سوى نفس العروض البريطانية القديمة وقد صيغت بطريقة جديدة. فرفض ترومان التوقيع عليها. ولكن تشرشل أصر على وجهة نظره المتمثلة في أن بريطانيا والولايات المتحدة يجب أن «ينطلقا معًا» ضد مصدق. وقال لترومان: «لست أدري لماذا لا يتحالف شخصان في جانب الخير ضد شخص آخر في جانب الشر.»

وفي نهاية الأمر وافق ترومان على التوقيع على نسخة مخففة من خطاب تشرشل. كان يطالب فيها مصدق بتنفيذ أمرين كان قد أقسم ألا يفعلهما، وهما السماح بعودة شركة النفط البريطانية الإيرانية إلى وضعها السابق في إيران وقبول التحكيم في محكمة العدل الدولية بناء على وضع الشركة قبل تأميمها. وإذا استجاب لهذين المطلبين فسوف ترفع بريطانيا الحصار الاقتصادي عن إيران وتقدم لها الولايات المتحدة معونة تبلغ قيمتها عشرة ملايين دولار أمريكي.

وبعد بضعة أيام من تسلُّم الخطاب قرأه مصدق بتهكم في المجلس. أعلن أنها إهانة بالغة، لأنهم لم يدركوا حتى الآن أن «الشركة السابقة» قد أممت بصورة نهائية لا تقبل التراجع. وأما عرض المعونة فقد أعلن أنه «يفوح برائحة الصدقة» وهو ما لا تريده إيران. وخلال الهتافات المتصاعدة أعلن أن بريطانيا قد «اعتادت على مدار قرون عديدة نهب الأمم الضعيفة» وأن إيران لن تقبل «بشروطها المجحفة» بعد الآن. واختتم حديثه بملحوظة أخلاقية معبرة وهي أن «الالتزام بالقانون ومراعاة حقوق الضعفاء لا ينتقص من قدر الأقوياء، بل يؤدي إلى تعزيز موقفهم وزيادة مكانتهم العظيمة».

وهنا طلب مصدق موافقة المجلس على تقديم عرض مضاد. وبالفعل حصل عليها. تمثل العرض في موافقة إيران على التحكيم في محكمة العدل الدولية ولكن بشرطين. أولًا: أن تفصل المحكمة في القضية إما طبقًا للقانون الإيراني أو «قوانين أي دولة أخرى تؤمم صناعاتها في ظروف مشابهة». وثانيًا: في حالة مطالبة بريطانيا بالتعويض يجب السماح لإيران أيضًا بالمطالبة بأرباحها التي استولت عليها بريطانيا.

كان هذان الشرطان معقولين لدرجة أثارت قلق تشرشل. وعلى مدار الأسابيع التالية أرسل مجموعة من البرقيات إلى ترومان يحثه فيها على ألا يخضع لإغراء التفاوض. وأصر قائلًا: «إنني على ثقة أنه ليس باستطاعتنا تحقيق المزيد من الإنجازات في ذلك الوقت الحرج من الصراع. ولن نتوصل إلى تفاهم مع مصدق إلا عندما نواجهه بائتلاف أمريكي بريطاني.»

وبينما كان يتم تبادل تلك البرقيات عبر الأطلنطي سمع وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن أنباء سارة من السفارة البريطانية في طهران. فقد أبدى الجنرال زاهدي استجابة كبيرة للعروض البريطانية. حيث كان على استعداد للمشاركة في انقلاب ضد مصدق على أن يخلفه بالطبع في منصبه. وسُرَّ إيدن بهذا التطور في الأحداث، فأرسل مذكرة بلهجة غير ودية إلى مصدق يخبره فيها برفض شروطه.

على النقيض من بعض الأجانب الآخرين الذين ساهموا في التدخل الغربي في إيران، كان إيدن على دراية بالمنطقة. فقد درس الفارسية التي اعتبرها «إيطالية الشرق» في جامعة أكسفورد. وقرأ ملحمة الشاهنامة والشعر الفارسي القديم والنقوش المكتوبة بواسطة داريوس. وبعد التخرج التحق بوزارة الخارجية. وكان يشغل منصب وكيل الوزارة عندما كانت بريطانيا تتفاوض بشأن اتفاقية ١٩٣٣ التي أثارت غضب مصدق والعديد من الإيرانيين المؤمنين بالقومية. وفيما بعد زار إيران عدة زيارات طويلة. لكن تلك الزيارات لم تخلِّف لديه انطباعًا جيدًا عن الإيرانيين.

كان إيدن على غرار تشرشل مدافعًا نشطًا عن النظام الاستعماري، واحتقاره الذي لم يكن يخفيه للقدرات السياسية والعقلية لمواطني الشعوب الفقيرة يدهش بعض الأجانب. وكان منهم دين أتشيسون الذي فوجئ بوجهة نظر إيدن في الإيرانيين. كانت وجهة النظر هذه تتمثل في كونهم «لا يصلحون إلا لتجارة السجاد. وهكذا عليك ألا تستسلم أبدًا وسوف تجدهم دائمًا يغيرون رأيهم ويحاولون عقد اتفاق معك إذا ظللت ثابتًا على موقفك.»

زادت رسالة إيدن المتعجرفة مصدق اقتناعًا بأن بريطانيا لن تقدم له أي شيء سوى العداء. وتحوَّل اعتقاده إلى يقين عندما علم باجتماعات الجنرال زاهدي مع العملاء البريطانيين. وكان زاهدي قد بدأ أيضًا يعقد اجتماعات مع آية الله كاشاني الذي اختير كي يكون ناطقًا بلسان المجلس وبدأ يكن العداوة السياسية لمصدق. وامتلأت طهران بالشائعات عن قرب وقوع انقلاب. ولم تكن هناك سوى طريقة واحدة كي يتخلص مصدق من العملاء البريطانيين الذين يخططون له. في السادس عشر من أكتوبر أعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا.

وبنهاية ذلك الشهر كان كل الدبلوماسيين البريطانيين وعملاء المخابرات البريطانية قد رحلوا من إيران. كانت ضربة قاتلة من مصدق. لقد حطمت آمال بريطانيا في تنظيم انقلاب. وكي ينفذ ذلك الانقلاب يجب أن ينظمه الأمريكيون.

بعد أن طرد مصدق البريطانيين قبل أن يتمكنوا من هزيمته، سعى هو وحلفاؤه إلى القبض على الجنرال زاهدي وتقديمه للمحاكمة بتهمة الخيانة. وجدوا في بادئ الأمر عقبة في طريقهم وهي تمتع زاهدي بالحصانة البرلمانية بصفته عضوًا في مجلس الشيوخ. كانت دورة مجلس الشيوخ التي تستمر عامين قد انتهت، ومع أن أعضاء المجلس كانوا قد صوتوا على البقاء في مناصبهم لمدة أربعة أعوام أخرى، فقد كان واضحًا أن دعواهم غير قانونية. وفي الثالث والعشرين من أكتوبر أعلن المجلس حل مجلس الشيوخ. وفور أن طبق ذلك القانون أصبح زاهدي عرضة للاعتقال. وكي يتجنب ذلك اختبأ عن الأعين.

والآن لم يعد هناك عملاء مخابرات بريطانيين في إيران، واختفى زاهدي عن الأنظار، وظلت إدارة ترومان ترفض بإصرار فكرة التدخل في إيران. وهكذا توقفت خطط الانقلاب. وهو ما راق ترومان الذي كان مقتنعًا بأن اللوم يقع على البريطانيين في ذلك «الوضع السيئ» بقدر ما يقع على مصدق. وفي خطاب أرسله إلى هنري جريدي السفير الأمريكي السابق في طهران أعلن أسفه قائلًا: «لقد حاولنا أن نجعل البريطانيين الحمقى يعقدون اتفاقًا عادلًا مع إيران. ولكنهم رفضوا تمامًا. فهم يعرفون جيدًا كيف يعالجون الموقف، ومن وجهة نظرهم فإننا نحن الذين لا نعرف كيف نعالج الموقف.»

كان من الممكن أن يشعر البريطانيون باليأس في ذلك الوقت، ولكنهم رأوا بصيصًا من الأمل يلوح في الأفق. كانت الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة قد اقتربت، ولم يرشح ترومان نفسه مرة أخرى. وكان المرشح الجمهوري دوايت أيزنهاور يملك برنامجًا معاديًا للشيوعية بشدة، وشجعت لغة الخطاب التي يستخدمها أيزنهاور تشرشل وإيدن، وفور ترشحه لمنصب الرئيس توقفوا عن محاولة إقناع ترومان وصبوا اهتمامهم على الفريق الجديد.

وفي يوم الانتخابات كان كيرمت روزفلت في طهران. وكان بحكم وظيفته يدير عمليات المخابرات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط مما أعطاه مصالح مهنية هناك وجعله يزورها من حين إلى آخر، لكن تلك المرة لم تكن مجرد زيارة روتينية. فقد كان الرحيل المفاجئ لضباط المخابرات البريطانية من إيران حدثًا بالغ الأهمية في حياة روزفلت. فقد قضى البريطانيون عقودًا يبنون شبكة سرية هناك، والآن أصبحت تلك الشبكة بلا قائد. كانت تلك فرصة رائعة للولايات المتحدة. وصمم روزفلت على استغلالها إلى أقصى حد ممكن.

ولد كيرمت روزفلت في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس حيث يعمل والده، ونشأ في رعاية جده ثيودور روزفلت في ضيعته بجزيرة لونج آيلاند، ودرس في جامعة هارفارد، وهكذا كان نموذجًا ممتازًا للجاسوس العريق الأصل. كان طالبًا في العام الدراسي قبل الأخير في قسم التاريخ بجامعة هارفارد وفي العشرينيات من عمره عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية. وكان تواقًا للمغامرة فالتحق بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي كان سريًّا حتى إن الكثيرين ممن يعلمون بوجوده لم يكونوا يعلمون إلامَ تشير الأحرف الأولى من اسمه OSS. ولم يكن أحد يعلم طبيعة عمل روزفلت عندما كان عميلًا لمكتب الخدمات الاستراتيجية، فهو يقضي أوقاتًا في مصر وإيطاليا. ولكن حتى عائلته لم تكتشف طبيعة مهامه. قالت زوجته بعد أعوام عديدة: «تلك أمور تخص أعمال الجاسوسية، ولم يكن يتحدث فيها معي قط.»

كانت صور روزفلت التي التقطت له في الفترة التي ذهب فيها إلى إيران تصوره نحيلًا ووسيمًا بشكل صبياني يرتدي نظارة ذات إطار غامق اللون ويبتسم ابتسامة خلابة. وكانت عائلته تراه شخصًا مهملًا لا يمكنه تغيير مصباح النور، ولكنه في العمل يعطي انطباعًا مختلفًا. وصفه زملاؤه في العمل بأنه شديد الثقة بالنفس ولكن ليس لدرجة الغرور. ووصفه أحد الكتاب بأنه «البرود مجسدًا». وأثناء مهمته الاستكشافية في نوفمبر ١٩٥٢ لم يقابل أي إيراني يعلم أنه من العملاء البريطانيين، ولكنه كان ذكيًّا بما يكفي كي يدرك أن هناك الكثير منهم في كل مكان.

وفي طريقه إلى الديار توقف روزفلت في لندن. كان لديه أصدقاء يشغلون مناصب رفيعة في المخابرات السرية، وظلوا يتشاركون التفكير في طريقة للتعامل مع مصدق على مدار أكثر من عام. الآن ولأول مرة بدأت تلك الأفكار تبدو واقعية. أخبره أصدقاؤه بأنهم أكثر إصرارًا من ذي قبل على تنفيذ الانقلاب وأن إيدن وتشرشل يستحثانهم على ذلك، وخاصة تشرشل الذي يحثهم «بعنف شديد». وأثار هذا الأمر اهتمام روزفلت بشدة:

لم يكن يرضيهم سوى الإطاحة بمصدق. ولم يروا جدوى من إضاعة الوقت بالتأجيل. بل رغبوا في البدء في الحال، وكان عليَّ أن أوضح أن المشروع يتطلب تصريحًا من حكومة بلادي وأنني لست متأكدًا من نتائجه. وقد ذكرت لزملائي البريطانيين أنني على ثقة من أننا لن نحصل على موافقة إدارة ترومان وأتشيسون الراحلة. ولكن الجمهوريين الجدد قد يكونون مختلفين تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥