الماضي

أبريل ١٣٢٨

لا أرى الآن سوى عظامٍ وعتَمة. الحزن يكتنف الغبار، والظلام.

أنا آخر من تبقَّى. الآخرون كلهم قضَوا نحبهم. الكبار والصغار جميعًا طواهم الظلام. ذهبت أرواحهم إلى مكان أفضل من هذا. أو هذا ما أرجوه على أي حال.

النهاية قادمة. وأنا بها مرحِّبة. كان موتًا بطيئًا، موتًا حيًّا، وأنا هنا محاصرة، داخل هذا الكهف. قبرنا. توقفت كل القلوب عن النبض، واحدًا تلو الآخر. أمي، أبي، أخي. والآن لا يتردد إلا صوت أنفاسي القصيرة، وحفيف الماء الهادئ وهو يتقاطر على جدران الكهف. كأن الجبل نفسه يبكي، كأنه ينوح على الموتى.

خلال سنوات الحرب الطويلة، منحتنا هذه الأنفاق المأوى. فقد شكلت مدينة تحت الأرض لا ينيرها إلا ضوء الشموع والمشاعل. كانت المأمن لنا من سيوف كارهينا، من العظام المحطمة، من التنكيل، من التعذيب بالنار. في أعماق جوف الجبل، لم يكن الجو بالقيظ الحار، ولا بالبرد القارس. لم نكن نغادر إلا في جنح الليل، حين كان الظلام يغشى الجبال، والجنود يغطُّون في سبات عميق. حينئذٍ فقط، كنت أشعر بنسمات الهواء الرقيقة تداعب وجنتيَّ والرياح تتخلل خُصلات شعري.

تلك هي كلماتي الأخيرة التي أكتبها. ليس أمامي كثير من الوقت. فلم أعد أستطيع تحريك ساقيَّ. وجسدي لا يطيعني.

أفكر في القرية التي شهدت نشأتي. أتذكر الثلوج التي كانت تغطي الحقول العليا، من أكتوبر إلى مارس من كل عام. أتذكر زهور الربيع بألوانها الزرقاء والوردية والصفراء. أتذكر السباحة في الجداول، والنهر، وقد تدفق إليها الماء البارد من جرَّاء ذوبان الثلوج على ذرى الجبال الشاهقة. أتذكر ثُغاء الأغنام في نهاية كل يوم، ورائحة الدفء الطيبة المنبعثة من الخبز الساخن، وخشخشة عجلات الغزل الخشبية في الساحة الرئيسية. أتذكر رنين الجرس الوحيد في برج الكنيسة الصغيرة، وكيف كانت الشمس تهبط إلى الأرض كل يوم ساعة الغسَق.

وها هي قد صارت مأوًى للأشباح الآن. باتت قريتنا مهجورة. نمَت الحشائش بكثافة حتى أحاطت بالباب الأمامي لمنزلنا. واستطالت الأشجار في الساحة. والبئر الحجرية التي كانت النساء يغسلن فيها الملابس نضَب ماؤها.

احترقت شمعتي الأخيرة. وقضيت أيامًا ولياليَ كثيرة في هذا الكهف دون طعام أو ماء. أصابعي متيبسة ومُعْوجَّة، لكني لا أستطيع التوقف عن الكتابة. أريد أن يعرف العالم قصتنا، أن يدرك من كنا ولماذا مُتْنا، إذا فُتح الكهف يومًا ما وعُثر على رفاتنا. أن يُدفن رفاتنا في الأرض الباردة، تفترش الزهور قبرنا ويعلوه شاهد. حتى لا نُنسى.

لا أخاف الموت. لكن، حتى بعد كل ما حدث، سأحزن لمغادرة هذه الحياة. في هذه اللحظات الأخيرة، كل ما أتمناه هو أن يعثر أحدٌ على كلامي هذا الذي دوَّنته، حتى يقرأ الناس كلماتي ذات يوم ولو بعيدًا. فعندما ينتهي كل شيء، وحدها الكلمات تبقى. الكلمات تدوم.

قُضي الأمر. فليتغمَّد الله رُوحي برحمته.

ماري من لارنا
أبريل ١٣٢٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥