بعد ستمائة عام
الفصل الأول
لم يكن هناك شكٌّ في ذلك. لقد ضل الطريق.
ألقى فريدريك سميث نظرةً سريعةً على كتاب الخرائط الذي كان ملقًى على مَقعد السيارة الأمامي، وقطب جبينه. ليته بقيَ على الطريق الرئيسي. أوقف السيارة، وخلع قفازات القيادة، وحاول تبيُّن مكانه بالضبط. لم يكن قد رأى أي شخص آخر منذ فترة. لاحت الصخور الرَّمادية للجبل من فوق الوادي. امتلأت السفوح بالغابات القديمة. وامتد الطريق شريطًا رفيعًا رماديًّا، متعرجًا على البعد.
كان فريدي شابًّا حسن المظهر، ذا نمش وشعر بلون الرمل. كان يبدو على سيمائه الصدق والثقة، واستقر على فمه شبه ابتسامة دائمة جعلته يبدو بسيطًا. في الواقع، كان ذكيًّا، وإن كان قد فقدَ الاهتمام بالحياة.
تتبَّع فريدي الطريق الذي اتخذه على الخريطة بإصبعه. كان يحاول معرفة أين ضل. كان الورق يخشخش تحت لمساته.
كان قد انطلق من بلدة فُوَا الفرنسية هذا الأسبوع، صباح الإثنين، بعد أن تناول وجبة إفطارٍ طيبة من القهوة الطازجة، ولفائف الخبز الأبيض الدافئ، والزبد. وقرر أن يسلك الطريق الخلاب عبر الجبال. أراد أن يشاهد المناظر ويستشعرها، ويأخذ قسطًا من الراحة من مشاكل الحياة اليومية، ويحاول الاستمتاع بالحياة مرة أخرى. لقد مضى وقت طويل منذ أن اكترث لأي شيء.
خلع فريدي قبعته المسطحة، ومرَّر أصابعه على شعره المدهون ليُسوِّيه. كان كل ما أراده بعد ساعات من الاهتزاز والترجرج على الأحجار والحُفر، حمامًا ساخنًا طويلًا وويسكي مع الصودا.
في البداية كان كل شيء على ما يرام، وكان فريدي مستمتعًا بالطريق. فقد كان المشهد أمام ناظرَيه بديعًا، بما فيه من تباينات طبيعية؛ شموخ الجبال، وأودية الأنهار، والأخاديد بلونها الأخضر الخلاب، والسماء الزرقاء اللانهائية. نَمَت على السهول حقول من دوَّار الشمس الأصفر. وعلى مرمى البصر امتدت صفوف متتابعة من العنب في كُرُومه، ولاحت أشجار الزيتون بأوراقها الخضراء الفِضية وثمارها السوداء. وعلى شرفات المنازل، رأى أُصُص زرعٍ بُنِّية مليئة بزهور الغُرنوقيِّ البيضاء والوردية بحجم يد الإنسان.
بينما كان يقود سيارته جنوبًا، بمحاذاة خط النهر، رأى قرًى على قمم التلال. كان على كل قمة من القمم قلعة مهدمة أو أطلال حصن مهجور منذ زمن، أو هكذا بدا له. كان فريدي يعرف أن المنطقة كان لها تاريخ مُروِّع ودموي. فقد كانت هذه السهول والوديان الهادئة الجميلة مسرحًا لحرب استمرَّت أكثر من مائة عام في العصور الوسطى. كانت أصداء الماضي في كل مكان.
كانت معاناة جنوب غرب فرنسا أقلَّ من الشمال الشرقي في الحرب الأخيرة التي مزَّقت أوروبا. ومع ذلك، لاحظ فريدي أنه في كل قرية كانت هناك شواهد قبور تحمل أسماء جميع من قضَوا نحبهم، وهم يقاتلون من أجل بلادهم.
كان جورج شقيق فريدي قد ذهب إلى الحرب ولم يعُد. كان قد فُقد في القتال في يوليو ١٩١٧، واعتُبر في عداد الموتى. ولم يُعثر على جثته قط. لكن حتى الآن، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات، ما زال يشقُّ على فريدي أن يصدق أن جورج لن يدخل عليه من الباب يومًا ما. كان يُخيَّل إليه أنه يسمعه يصفر. أو يتخيَّله جالسًا على الكرسي القديم ذي الذراعين ينفث حلقات الدخان.
تنهد فريدي. لم يكن هذا الوقت مناسبًا للتفكير في الماضي. فقد كان الحاضر عصيبًا بما فيه الكفاية. فقد ضل الطريق وسيبقى ضالًّا ما لم يعرف أين كان.
كان من المفترض أن يلتقي باثنَين من أقدم أصدقائه، في بلدةٍ قريبة في السادسة مساءً من ذلك اليوم. كانوا ينوون قضاء بضعة أيام يتجولون في الجبال على الحدود الفرنسية الإسبانية. فقد كان ذلك تقليدًا سنويًّا يحرصون عليه. كانوا قد التقَوا في المدرسة الداخلية، ثم التحقوا بالجامعة نفسها. وبعد ثلاث سنوات من الشرب والعلاقات العاطفية والدراسة، ذهب كلٌّ منهم في طريق لكنهم ظلوا أصدقاء مقربين.
وجد كل واحد منهم نفسه يبحث عن عمل في السنوات القاتمة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى. فاتخذ براون عملًا في المدينة وكان يبلو بلاءً حسنًا إلى حدٍّ ما. وتولى تيرنر شركة عائلته لصناعة القوارب في بورتسموث. أما فريدي فحَذا حَذو والده وأصبح معلمًا. لكن لم يكن يجد كثيرًا من المتعة في هذا العمل. فقد وجد الأولاد مزعجين والعمل مملًّا. لكن لم يكن هناك شيء يفضِّله على ذلك. فقد أفقدَته وفاة جورج الحماسة. وعلى كل حال فهو يحصل على عطلات طويلة في هذا العمل.
كان براون وتيرنر قد بدآ الرحلة في عطلة نهاية الأسبوع الماضية. فقد سافرا بحرًا ليلًا من بورتسموث، وراحا يقودان السيارة على مَهَل طيلة عشرة أيام عبر الساحل الغربي لفرنسا. كان على فريدي تصحيح أوراق امتحانات نهاية الفصل الدراسي للأولاد؛ لذا لم يتمكن من الرحيل. كانت الخطة أن يلتقوا في الساعة السادسة في فندق صغير في بلدة كيون. ألقى فريدي نظرة على الساعة في لوحة العدادات المصنوعة من خشب الجَوز، في سيارته الموريس ماينور الصغيرة. كانت الساعة الثانية بالفعل. لم يكن سيتمكَّن من الوصول في الموعد المتفق عليه.
تطلَّع فريدي إلى أعلى من خلال الزجاج الأمامي. فرأى الأمور ازدادت سوءًا حين بدا أن الطقس في سبيله إلى الانقلاب. فقد كانت السماء رَمادية بلون الأُردُواز، وكانت السحب الداكنة نذيرًا بسقوط الأمطار.
تأمل فريدي الخريطة بضع دقائق أخرى. كان أمامه خياران فقط. كان بإمكانه إما الاستمرار وإما العودة والتوجُّه نحو القرية الأخيرة. كان يعتقد أن هذا هو المكان الذي اتخذ فيه منعطفًا خاطئًا. لكن ذلك كان قبل ساعة على الأقل. ولم يسعْه أن يضيع المزيد من الوقت.
أغلق فريدي كتاب الخرائط. وارتدى قبعته والقفازات الجلدية الخاصة بالقيادة مجددًا، وبدأ يتحرَّك بالسيارة الصغيرة على مَهَل. إذا كان على حق، فإن هذا الطريق يلتقي بالطريق السريع الرئيسي خلف هذه السلسلة من التلال.
ركز عينيه على الطريق ومضى في سبيله.
الفصل الثاني
فجأة، سمع فريدي دَوِيَّ الرعد في الأفق. وتردد صداه في الوادي في الفُسحة بين الجبال. فنظر بقلق إلى السماء من خلال الزجاج الأمامي.
دَوَّى الرعد مرة ثانية، ثم شق السماءَ الرمادية شعاعٌ واحد من البرق.
شعَر فريدي برياح عنيفة تضرب السيارة، ثم هطلت الأمطار. سقطت قطرة كبيرة واحدة في البداية، بحجم البِنْس، ثم توالت القطرات واحدة تلو الأخرى، وأخذت تتسارع أكثر وأكثر. وخلال ثوانٍ، كان المطر ينقر على سقف السيارة كدقات الطبول. وجعل يرتد من فوق الغطاء الأمامي ويصطدم بالنوافذ. شغَّل فريدي المسَّاحات بسرعتها القصوى. فأخذت تتحرك يمينًا ويسارًا، دون أي جدوى.
تردَّد دَوِيُّ الرعد مرة أخرى، تلاه عصفة برق ثانية. عصفة أضاءت السماء بأكملها. أبطأ فريدي سرعته تمامًا وشدد قبضته على عجلة القيادة. لم يعُد بإمكانه أن يرى أبعد من بضع أقدام أمامه. وبات من الصعب على الإطارات السير بثبات على الطريق الزلِق المنحدر.
أظلمت السماء وصارت حالكة كأنه منتصف الليل. أشعل فريدي المصابيح الأمامية. تكاثف البخار في السيارة حتى غبَّش الزجاج. فمال إلى الأمام ومسح الزجاج الأمامي من الداخل بكُمه. تردد صدى المسَّاحات في رأسه، وهي تتحرك يمينًا ويسارًا، يمينًا ويسارًا. أنزل زجاج النافذة قليلًا وشعَر بنفحة هواء بارد ورطب. ولم يكن الفرق كبيرًا.
ثم ضرب البرق الطريق أمامه مباشرةً. ضغط فريدي على المكابح بشدة. وشعَر بنبضه يتسارع، وقلبه يخفق بقوة.
بدأ يَعُد، محاولًا تحديد المسافة الفاصلة بينه وبين العاصفة.
واحد، اثنان، ثلاثة …
تردد هَزِيم الرعد مدويًّا في أنحاء الوادي. كان يفصل بين البرق والرعد سبع ثوانٍ. كانت العاصفة لا تزال على بُعد سبعة، أو ربما ثمانية، أميال. ضغط فريدي على دواسة البنزين بقوة. فقد شعَر أنه معرض للخطر على هذا الطريق الجبلي. كان بحاجة لأن يجد مأوًى.
اندفعت السيارة الصغيرة مضطربة في مواجهة الرياح المناوئة. حدَّث فريدي نفسه بأنه ليس في خطر حقيقي بالمرة. فالأمر ليس بالسوء الذي يبدو عليه في الواقع. كان احتمال أن يصيب البرق السيارة محدودًا. فقد كان هناك الكثير والكثير من الأشجار الطويلة من حوله.
لكنه لم يقتنع بخواطره تلك. كانت العاصفة تقترب أكثر. وكان فريدي يدرك أن الخطر الحقيقي كان المطر وليس العاصفة نفسها. إذا ظل المطر يتساقط على هذا النحو، فسيصبح عبور الطريق متعذرًا. بالفعل كانت زخات المطر تتدفق من الجبل إلى الوادي مثل شلال. وامتلأت الحفر بدوامات من مياه الفيضان السوداء.
ضرب البرق السماء مرة أخرى، وكان حادًّا كالسوط، وصدح صوت رعد عنيف فوق رأسه مباشرةً. ضغط فريدي على المكابح، وارتعب حين شعَر بالسيارة وهي تنزلق. حاول جهده أن يبقى على المسار. سحب عجلة القيادة بقوة أكثر من اللازم. لكنَّ فِعله كان مبالغًا فيه، ومتأخرًا جدًّا. فقد انزلقت السيارة، وانحرفت عن الطريق.
كانت السيارة تندفع به نحو الحافة الشديدة الانحدار على الجانب الأيسر من الطريق. فراح يقترب أكثر فأكثر نحو اللاشيء. ثم، وفي اللحظة الأخيرة، جاءه صوت طقطقةٍ حاد. علِقت العجلات الأمامية في حافة حفرة في الطريق. جذب عجلة القيادة بشدة وقد تملكه اليأس. فدارت السيارة حول نفسها ١٨٠ درجة، كلعبة النحلة الدوارة الخاصة بالأطفال. لم يكن هناك شيء يمكنه فعله. فقد كان على وَشْك الاصطدام.
سيطرت الغريزة على فريدي. فرفع يديه لحماية وجهه. ثم شعَر بأن المحرك قد توقف، ثم جاءه صوت ارتطام. تحطم زجاج السيارة وسقط في حِجره. لقد قُضي الأمر. إنها النهاية. في أي لحظة الآن لن يشعر بشيءٍ سوى الهواء من تحته، بينما تسقط السيارة به نحو الهاوية. فكَّر في والدَيه؛ والدته الرقيقة، ووالده وصرامته. كيف سيستقبلان خبر وفاته؟ وفكَّر في أخيه. تُرى هل رأى جورج الموت قادمًا للقائه؟ هل كان يعرف، في تلك اللحظة الأخيرة قبل أن تدركه الرصاصة، أن وقته قد انتهى؟
ثم باغته الحاضر مرة أخرى. اندفع فريدي إلى الوراء بقوة. وتسلل الألم إلى عظامه. وسمع صوت طقطقة معدِنٍ حادة والسيارة تصطدم بشيء ما. ثم ارتد رأس فريدي إلى الأمام مصطدمًا بلوحة القيادة.
وبعدها لم يشعر بشيء.
الفصل الثالث
لم يعلم فريدي كم مضى عليه من الزمن وهو فاقد الوعي. وشيئًا فشيئًا بدأت حواسه تعود إليه. شعَر بوخز في أصابع قدميه. ثم أحس بجسده كله يؤلمه. وشعَر في رأسه بدقٍّ كفيلٍ بإيقاظ الموتى.
للحظة ظن أنه كان يحلم. ثم، شيئًا فشيئًا، عاوده ما حدث. فتذكر العاصفة، والسيارة وهي تندفع به عبر الطريق، والحادث.
فتح عينيه. واتضح له الأمر. طرف بعينيه، ثم فركهما. وعندئذٍ ضحك فريدي بصوت عالٍ ارتياحًا، وخوفًا في نفس الوقت، مما حالفه من حظ. كانت السيارة قد توقفت على بُعد بوصات من حافة المنحدر. في الواقع، كانت العجلات الخلفية متوازنة على الحافة، لكن جسم السيارة كان لا يزال على الطريق.
كان بخير. كان على قيد الحياة.
وجد نفسه في الجهة المقابلة للتل، لكنه أدرك ما حدث. لقد اصطدمت السيارة بحفرة. فغيرت مسارها، ودارت حول نفسها واصطدمت بحجر قائم على جانب الطريق، بدلًا من الاندفاع مباشرةً إلى الهاوية.
مال فريدي برأسه على المَقعد. كان قلبه يدق بين أضلاعه كقرع الطبول. سرَت برودة في أعماق معدته جعلته يشعر بالغثيان من مجرد التفكير في مدى قربه الشديد من الموت. أحس فريدي بشظايا الزجاج في حجره. كان مبللًا تمامًا، لكن راق له الشعور بالمطر على جلده. رفع يده ليمسح وجهه. وحين نظر لأسفل، رأى دمًا أحمر داكنًا على أطراف قفازاته الجلدية البُنِّية.
مرت الدقائق، لكن فريدي لم يستطع الحركة. فقد صارت ساقاه مثل الهُلام، وكان نبضه لا يزال متوثبًا. أخذت الرياح تصفِّر حول السيارة. وظل المطر يطرق بقوة على سقف السيارة، لكنه كان في مأمن.
كان فريدي يعلم أنه لا بد أن يخرج من السيارة. كان لا بد أن يجد النجدة. لذا مد يده وفتح الباب ببطء وحذر. هبت عصفة رياح عنيفة جعلت الباب يندفع بقوة إلى الخلف ويرتطم بجانب السيارة. وحينئذٍ مالت السيارة ميلًا خطيرًا على محورها.
ببطء شديد، أخرج فريدي إحدى ساقيه، ثم الأخرى. أخذت الرياح تصطدم به، فجعلت توازنه يختل وأثارت طنينًا في أذنيه. رويدًا رويدًا، حرر نفسه وترجل من السيارة برفق. ثم تمكن من الوقوف وإغلاق الباب.
رفع فريدي ياقة معطفه ليتقي المطر، وجعل يعاين ما لحق بالسيارة من أضرار. وكان مما سَرَّه أن معظم السيارة كان لا يزال على الطريق. وحدها العجلات الخلفية كانت مشرفة على الوادي. لكن ساءه أن المحور الأمامي بدا مكسورًا. كان أمر الزجاج الأمامي المهشم مزعجًا لكن كان من السهل إصلاحه. ثمة شيء واحد كان مؤكدًا، وهو أنه بحاجة إلى مساعدة. فلم يكن سيستطيع أن يعيد السيارة إلى الطريق بمفرده.
لم يستطع فريدي المجازفة بإخراج الحقيبة التي ضمت أغراض المبيت من صندوق السيارة. فقد يؤدي ذلك إلى سقوط السيارة في الحال. ففتح باب الراكب الأمامي بحذر وأخذ كتاب الخرائط من فوق المقعد. وبينما كان يحاول بصعوبةٍ تثبيت الصفحات في مواجهة الرياح، رأى علامةً على الخريطة تشير إلى قرية صغيرة قريبة.
أوصد فريدي السيارة. ووضع المفاتيح في جيبه، ورفع ياقة سُترته، ثم عاد أدراجه متجهًا نحو المكان الذي رآه على الخريطة. ظلت الرياح تصفع أذنيه. وكان المطر يندفع نحو مؤخرة عنقه، وظهره، وركبتيه. كان سرواله الصوفي مبتلًّا تمامًا وراح يخبط ساقيه.
برأسٍ منحنٍ، وياقةٍ مرفوعةٍ حتى أذنيه، هبط فريدي التل بخطوات متثاقلة. بدا وكأن الماء قد غمر العالم بأسره. كان كل شيء يلتمع بلون فِضي، فلا أثر لبقعة جافة من الأرض أو شجرة على مرمى البصر. أخذت الرياح تهدأ قليلًا، ولم يسمع فريدي الرعد لبضع دقائق. كان المطر ينهمر سريعًا وغاضبًا. وتوثبت قطراته فوق سطح الطريق كما يتوثب الشرر فوق السندان.
تنهد فريدي. كان من الممكن أن يكون حاله أسوأ بكثير من ذلك. لكن من ناحية أخرى، كانت مشاكله أبعد من أن تكون قد انتهت.
الفصل الرابع
لم يرَ فريدي سيارةً واحدة أخرى. لم تكن هناك أي آثار لحياة بشرية على الإطلاق. لا شيء سوى الأشجار والصخور وصوت المطر.
بعد برهة، وجد فريدي مسارًا متفرعًا من الطريق يؤدي إلى داخل الغابة. كان مسارًا منحدرًا ومغطًّى بالنباتات والحشائش البرية، لكنه متسع كفاية ليمشي فيه شخصان جنبًا إلى جنب. كان المطر لا يزال يتساقط ولكن أغصان الأشجار وقَتْه منه بعض الشيء. وبينما هو ماضٍ في مسيره، استطاع أن يتبين الأخاديد التي تركتها عجلات عربةٍ وحوافرُ حصان أو ربما ثور. ارتفعت معنوياته قليلًا. على الأقل لقد مر شخص بهذا الطريق من قبل.
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى وجد نفسه واقفًا عند طريقَين متقاطعَين. الطريق إلى اليسار غلب عليه جو من الهجر والسكون. فكانت الأشجار والشجيرات الدائمة الخضرة تقطر مطرًا. وفاحت رائحة الرطوبة والبلل من كل شيء. كانت أوراق البلوط متناثرة على الطريق، فيما انحنت الأوراق الإبرية الحادة لأشجار التَّنُّوب فوقه. كان الطريق الأيمن أكثر انحدارًا، ولكنه مباشر أكثر. كان يهبط إلى جانب الجبل في خط مستقيم لا خط متعرج.
نظر فريدي إلى حذائه الجلدي. فوجد الأطراف وقد اصطبغت بلون داكن. وتسرَّب إليه الماء من النعلَين. عندئذٍ خطر بباله حذاؤه المتين المخصص للمسافات الطويلة الموجود في صندوق سيارته الموريس ماينور. شد سُترته فوق رأسه لحماية الخريطة من المطر، ثم اتجه نحو الطريق الأسرع على اليمين.
كان المسار يلُفُّه جو من الوحشة. لم يعد هناك آثار حديثة لعجلات. ولم يكن هناك ما ينمُّ عن أن الأوراق على الأرض قد بُعثرت. لم يكن هناك أي شعور بأن أحدًا قد مر بهذا الطريق مؤخرًا. حتى الهواء بدا أكثر برودة.
ازداد المسير صعوبة. لم يكن حوله سوى حجارة، وأرض وعرة، وأفرع متساقطة من الآجام الكثيفة على كلا الجانبين. شعَر فريدي كأن الجبل ينغلق عليه. كانت صدمة الحادث قد داهمته عندئذٍ وكانت معدته مضطربة. بدت الغابة صامتة صمتًا غريبًا. لا طيور تغرد، ولا أرانب أو ثعالب أو فئران تتحرك وسط الزروع.
تمتم فريدي لنفسه قائلًا: «إنه مكان مسكون بالأشباح.»
أخذ المطر يتوقف تدريجيًّا. ولكن كان ضباب أبريل قد حل، متسللًا دون إنذار. أسرع فريدي في سيره. فقد بدأ يتخيل أشكالًا، بل أطيافًا، خلف كل شجرة. حتى إنه استدار مرة أو مرتين، وهو واثق من أن شخصًا ما أو شيئًا ما يراقبه من الغابة المظلمة حوله.
لكن لم يكن هناك شيء. لا أحد.
أخيرًا، أصبحت الأرض مستوية. وجد فريدي نفسه واقفًا على قطعة من أرض مستوية تطلُّ على أحد الأودية. لفت نظره سحابة ملتفَّة من الدخان الرمادي. ضيق عينيه وأنعم النظر. تنهد فريدي تنهيدة ارتياح. لقد نجا. لقد نجا.
تمتم قائلًا: «حمدًا للرب.»
لقد رأى مجموعة من الأسقف المغطاة بالقِرميد الأحمر لبيوت لفَّها الضباب. تملَّك فريدي شعورٌ بالبرد والجوع وشعَر بأن ساقيه قد تنهاران في أي لحظة. ولكن ها هي نهاية محنته تَلُوح أمامه وشعَر أنه وُهب فرصة جديدة للحياة.
حث فريدي الخطى. وبينما هو ينظر إلى المدينة الصغيرة بمنظرها البديع، استطاع بالفعل سماع تلك الجلبة الباعثة على الطمأنينة الآتية من المقاهي والحانات، وصوت احتكاك الصحون في المطابخ بعضها ببعض، وأصوات البشر. سار فريدي بسرعة عبر الحقول الرطبة نحو جسر حجري صغير في الزاوية البعيدة من الحقل. وبينما كان يعبره، ألقى نظرة على الجدول المائي أسفله. كان الماء يتدفق سريعًا، ويرتطم بأسفل الجسر ليتناثر إلى أعلى فوق الضفاف.
بعد ذلك سمع فريدي من بعيد الرنين الرقيق لجرس كنيسة. نقلت الرياح هذا النغم الحزين الرتيب إلى حيث وقف يستمع. وجعل يعد الدقات. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة.
رفع فريدي حاجبيه دهشةً. كان آخر شيء يتذكره حين نظر إلى الساعة على لوحة القيادة، وكانت الساعة الثانية. أنصت فريدي حتى اختفى الصدى الأخير للجرس ثم سار عبر حقل ثانٍ. كان هذا الحقل مغطًّى بزهور جبلية زرقاء ووردية صغيرة، مثل النِّثار الملون في ساحات الكنائس بعد حفلات الزفاف. وحول حافة الحقل، نمت زهور خَشخاش طويلة. كانت بلون أحمر زاهٍ، مثل بقع الدم.
أخيرًا، وصل فريدي إلى أطراف القرية. وهنا أدى به الطريق العشبي الذي سلكه إلى مسارٍ واسع بما يكفي لمرور عربة. كان السطح موحلًا بعد المطر، كان بلون كعك الزنجبيل. وطفا ضباب أبيض مثل ستار فوق البلدة ملامسًا قمم المنازل والمباني.
وصل فريدي إلى لافتة خشبية صغيرة على جانب الطريق.
قرأ اسم القرية بصوت عالٍ قائلًا: «لارنا.»
لم يبدُ أنها من الأماكن التي تستقبل القادمين بالتَّرحاب.
الفصل الخامس
دخل فريدي البلدة بخطًى وئيدة متلفتًا حوله.
مر ببعض المباني المنخفضة التي بدت مثل متاجر أو حظائر للحيوانات. بعد ذلك، حين اقترب أكثر من المركز، بدأت المنازل تظهر. بدت البلدة خاوية على نحو مستغرب، حتى مع وضع ظروف العاصفة في الاعتبار. لم يبدُ أن هناك شيئًا مفتوحًا. ظن فريدي أن العاصفة قد أجبرت الجميع على التزام منازلهم. ذات مرة ظن أنه سمع خطًى في البُعد، اختنقت بفعل الضباب. ومرة أخرى تخيل أنه سمع ثُغاء أغنام.
ولكن عندما أصغى السمع مرة أخرى، كان كل شيء هادئًا.
عندما اقترب أكثر من المركز، تحسنت حالة الطريق. كانت المنازل الأكثر فخامة تحوي أشجار غار في أحواض خشبية واسعة خارج أبوابها. ولكنه لم يرَ أحدًا أيضًا. لم يرَ أيَّ علامةٍ من علامات الحياة اليومية. كانت جميع المتاجر مغطاةً بألواح خشبية، ومصاريع النوافذ الخشبية مؤصدة بإحكام.
كان هناك مصابيح غاز ثقيلة ذات إطار معدني مثبتة في الجدران. كانت شعلاتها تبعث ضوءًا أصفر ضعيفًا. كان الضباب قد ارتفع قليلًا. ولكن شيئًا ما في الغسق، والسكون المخيم على المكان، وانعدام الحياة جعل فريدي يشعر كأنه دخل صورة فوتوغرافية قديمة. بل كاد يتوقع أن يرى سادة يرتدون معاطف وقبعات عالية على الطراز القديم يمرون به. أو مربيات يدفعْنَ أمامهن أطفالًا رُضَّعًا في عرباتهم. أو فتيات صغيرات شعورهن مربوطة بأشرطة، وصبية في ملابس البحارة يلعبون بالخذاريف الخشبية الدوارة.
ودون مقدمات، تبادرت إلى ذهنه ذكرى لصورة عائلية. كانت آخر صورة التُقِطت لهم جميعًا معًا. كانت والدته جالسةً وقد انبسطت حولها تَنُّورتها الطويلة. وبجوارها وقف فريدي، وكان صبيًّا في العاشرة. وخلفها وقف والده الذي بدا أنيقًا بياقته المجنحة وشاربه الأسود، وكان يضع يده على كتفها. وعلى الجانب الآخر، وقف جورج، وكان يبدو رائعًا في زيه العسكري.
كانوا جميعًا مبتسمين.
بعد وفاة جورج، انطفأ النور في عينَيْ والدته.
أخذ فريدي نفسًا عميقًا. مضى أكثر من عشر سنوات منذ اختفاء جورج. كان فريدي لا يزال يشتاق إليه، ولكن تضاءل تفكيره فيه مع مرور السنين. فكان غريبًا أن يطرأ شقيقه على ذهنه كثيرًا في عصر ذلك اليوم.
قال مرة أخرى بصوت خافت: «إنه مكان مسكون بالأشباح.»
وصل فريدي إلى الساحة الصغيرة في وسط القرية. كانت محاطةً من ثلاث جهات بمبانٍ وأشجار ذات لحاء فِضي. وفي وسط الساحة كانت هناك بئر حجرية ذات جوانب عالية. وفي إحدى الزوايا، كان هناك حوض ماء للحيوانات. وكان بجانبه مقهًى صغير بمِظلة مخططةٍ بالأصفر والأبيض. وكان مغلقًا هو الآخر. فكانت الكراسيُّ مائلةً على الطاولات المعدِنية الدائرية. شغلت الكنيسة الصغيرة معظم الجانب الجنوبي من الساحة. ارتفع فريدي بنظره فرأى جرسًا واحدًا مثبتًا في الجدار.
عندما جال ببصره في الساحة، رأى فريدي أخيرًا ما كان يبحث عنه. نُزُلًا متواضعًا، بسيطًا لكن يبدو محترمًا. سار نحوه وصعِد الدرجات الحجرية الثلاث المؤدية إلى باب خشبي واسع. كانت هناك لوحة فوق الباب تحمل أسماء مالكيه، السيد والسيدة جالي. وكانت هناك لافتة أخرى معلقة على النافذة، مكتوبة بخط اليد، تقول إن هناك غرفًا شاغرة.
كان هناك جرسٌ نحاسي معلق على الجدار. رفع فريدي يده لسحب الحبل، وإذا بشيء يوقفه. فقد انتابه فجأةً نفس ذلك الشعور بالوخز في مؤخرة عنقه. شعَر كأن عيونًا خفية تراقبه من خلف المصاريع والنوافذ. كان نفس الشعور الذي انتابه في الغابة. التفت فريدي خلفه. لكن، مرة أخرى، لم يجد أحدًا هناك.
قال لنفسه: «فلتتمالك نفسك.» وخلع قبعته، وهندم سُترته، ثم رن الجرس.
على الفور، سمع فريدي صوت خطًى خلف الباب. وبعد لحظات، فتح البابَ رجلٌ عجوز يرتدي قميصًا بياقة عريضة، وصُدْريَّة، وسروالًا ريفيًّا بنيًّا ثقيلًا. كان وجهه ضاربًا إلى سمرةٍ داكنة، وقد خطت فيه السنون التجاعيد، وأحاط شعره الأبيض بوجهه. خمن فريدي أنه لا بد أن يكون السيد جالي، مالك النُّزُل.
نظر إلى فريدي بتساؤل.
بلغة فرنسية متعثرة، سأله فريدي إن كانت هناك غرفةٌ متاحة للمبيت، وشرح له أمر الحادث وسيارته. صاح السيد جالي في الرِّواق وشق صياحه الصمت المخيِّم عليه. وفي الحال ظهرت امرأةٌ ممتلئة في منتصف العمر، متشحة بالسواد من رأسها إلى أخمَص قدمَيها. هُرعت إليهما سريعًا، وكان كعب حذائها يطقطق على الأرضية المبلطة.
كانت السيدة جالي تتحدَّث بعض الإنجليزية، كانت كافية لفريدي ليتمكَّن من شرح كيف جنحت سيارته في الجبال فوق البلدة. أومأت برأسها، ثم بعد محادثة سريعة مع زوجها بالفرنسية، كانت أسرع من أن يستطيع فريدي متابعتها، قالت إن هناك ميكانيكيًّا في البلدة.
قالت: «غدًا.»
«ليس هذا العصر؟»
هزَّت السيدة جالي رأسها: «الوقت متأخر جدًّا. سيحل الظلام بعد قليل.»
ارتجف فريدي. أدرك فجأة كم كان يشعر بالبرد. وبدأ الجرح على جبهته يؤلمه. كان يشعر بتعب شديد وإنهاك تام.
قال: «حسنًا. ليكن الغد.»
الفصل السادس
تبع فريدي السيدة جالي عبر الرِّواق الطويل الضيق.
ارتجف وميض الشموع المثبتة في شمعدانات سوداء من الحديد على الجدران أثناء مرورهما. وألقَت الحركة ظلالًا غريبة راقصة على السقف. كان المكان هادئًا جدًّا بالنسبة إلى نُزل. فما من صدًى لمحادثة. بل لم يكن هناك حتى أيُّ صوتٍ لخدمٍ يؤدون مهامهم.
سأل فريدي السيدة: «هل هناك نزلاء آخرون؟»
لم تسمعه السيدة جالي. توقفت أمام مكتب خشبي مرتفع عند أسفل الدَّرَج. شم فريدي رائحة الملمِّع المصنوع من شمع النحل. لمَع الخشب في الضوء القادم من مصباح الزيت المستقر على سطح مكتب الاستقبال. تناولَت السيدة مفتاحًا نحاسيًّا كبيرًا من صف الخُطَّافات على الجدار.
وقالت: «من هذا الطريق.»
صعِد فريدي في أثرها عبر الدَّرَج المبلط إلى غرفة في الطابق الثاني. أدارت السيدة جالي مفتاحًا في القفل ما أحدث دويًّا عاليًا. فتحت الباب ثم تراجعت ليدخل فريدي أولًا. جال فريدي بنظره في الحجرة. كانت بسيطة، لكنها نظيفة ولطيفة. شغل أحد جوانبها نافذتان طويلتان امتدَّتا من الأرض إلى السقف. وقبالة الجدار الأيسر استقر سرير من النُّحاس. وكان بجانبه منضدة خشبية صغيرة. على الجانب المقابل من الغرفة، عُلقت مرآةٌ ذات إطار مذهَّب على الجدار فوق خزانة كبيرة ذات أدراج. وكان فوقها وعاءٌ كبير من الخزف الأبيض وإبريقٌ من الخزف نفسه.
قال فريدي: «أنا بحاجةٍ للاستحمام. إذا كان هذا ممكنًا.»
هزَّت السيدة جالي رأسها بالموافقة. وقالت: «إنه في نهاية بسطة الدرَج. سأرسل الخادمة بالماء الساخن وشيء لرأسك، اتفقنا؟»
قال: «رأسي؟»
قالت: «لقد أصابك جرح»، وأشارت إلى المرآة. «انظر.»
كان فريدي قد نسي أمر الجرح. لكنه حين نظر في المرآة رأى آثار الدم المتخثر والجروح الصغيرة المتناثرة.
قال: «بالطبع.» لم يكن مدركًا مدى سوء مظهره. «لقد خُبط رأسي. عندما اصطدمت السيارة.»
قالت: «إذا لم يكن هناك شيء آخر …»
قال فريدي: «في الواقع، لديَّ طلب آخر وحيد. أريد إرسال رسالة إلى أصدقائي، إنهم في كيون. كان من المفترض أن ألتقي بهم الليلة. هل هناك مكتب تلغراف؟ أو لعل لديكم هاتفًا؟»
قالت السيدة: «يوجد في البلدة التالية لنا. لا يوجد هنا.»
شعَر فريدي بخيبة أمل. هكذا هو حظه دائمًا.
قالت السيدة: «إذا أردت أن تكتب رسالة»، وأشارت إلى المكتب في زاوية الغرفة، «فسأرسل صبيًّا بها في الصباح.»
قال فريدي: «شكرًا لك.»
قالت: «يجب أن تخلع ملابسك المبللة تلك. إذا تركتها خارج الحمام، فسأحرص على أن تكون مغسولة وجافة بحلول الصباح. سأحضر لك شيئًا من ملابس زوجي لترتديه.»
اجتاحه شعور جارف بالإنهاك. وقال: «هذا كرم بالغ.»
وضعت السيدة جالي المفتاح على المنضدة الصغيرة. وقالت: «غرفة الطعام أسفل الدرَج على اليمين. موعد العشاء في الساعة السادسة.»
بعد أن غادرت، وقف فريدي ساكنًا، ينصت إلى صوت حذائها وهو يتلاشى تدريجيًّا. ثم اتجه إلى المكتب. فكتب رسالة قصيرة إلى صديقَيه، ثم وضعها في ظرف، وكتب عنوان النزُل الذي كانا مقيمَين فيه وأغلق الظرف.
بعد ذلك، تجرَّد فريدي من كل ثيابه إلا ملابسه الداخلية. وأخذ المنشفة النظيفة من فوق طرَف السرير ومضى يبحث عن الماء الساخن.
الفصل السابع
دقَّت الساعة معلنةً السادسة مساءً. فأغلق فريدي باب غرفته، ووضع المفتاح في جيبه، ونزل لتناول العشاء. كان أفضل حالًا بكثير. لم تكن الجروح في رأسه خطيرة كما اعتقد. وجاءت الملابس المستعارة مناسبةً له.
ترك فريدي الخطاب المرسل لأصدقائه على مكتب الاستقبال، ثم ذهب إلى غرفة الطعام. لكنه توقف في المدخل للحظة ونظر حوله. كانت حجرة فسيحة. شغل أحد جدرانها مائدة ضخمة من البلوط. وكانت مثل غرفته في الطابق العلوي، بها نافذتان طويلتان تطلَّان على الساحة. غطَّى زجاج النافذتَين ستائر مخملية ثقيلة معلقة في حلقاتٍ ذهبية. كان في غرفة الطعام ثلاث طاولات مربعة متينة، كلٌّ منها مجهَّزة لأربعة أشخاص. غُطيت الطاولات بمفارش بيضاء، ووُضع سكين وشوكة وملعقة وكأس في كل موضع على الطاولة.
تحوَّلت عيون عديدة للنظر إليه. على إحدى الطاولات جلست امرأتان في منتصف العمر. كانت كلٌّ منهما تُشبه الأخرى، وخمَّن فريدي أنهما أختان. كانتا تتحدَّثان بصوتٍ منخفضٍ وتطالعان أحد أدلة السفر. كان هناك ثلاثة رجال جالسون على طاولة في منتصف الغرفة. وفي الطاولة الكائنة في الزاوية البعيدة، جلس رجلٌ وامرأةٌ شابان يحدِّق كلٌّ منهما في الآخر. وكانت أطراف أصابعهما متلامسة.
أومأ فريدي برأسه تحيةً للجميع. لم يُرد التطفل على الحبيبَين. ولم يشأ أن ينخرط في حديثٍ مع الأختَين العزباوَين. فقد بدتا متزمتتَين بعض الشيء. وهكذا توجَّه إلى طاولة الرجال.
«هل يمكنني الانضمام إليكم؟»
قدموا أنفسهم له. كانوا يتحدثون الإنجليزية، إلا إن فريدي وجد صعوبةً في تحديد لكنتهم. مر وقت العشاء ممتعًا مع أحاديث خفيفة، ونصائح حول أفضل الأماكن للتنزُّه في المنطقة، وحديث عن الطقس السيئ. جاءت الخادمة بأباريق الماء والنبيذ الأحمر المحليِّ لكل طاولة. قُدم على كل طاولة سلة خبز، وبيض مسلوق، وصحن من اللحوم الباردة، ولحم خنزير مملح، وجبن ماعز أبيض، وشرائح من فطيرة الدجاج. وللتحلية، قُدِّم طبق من بودنج أبيض ذي مذاقٍ سكري يشبه الكاسترد الإنجليزي بعض الشيء.
بعد انتهاء العشاء، استأذنت الشقيقتان في الانصراف. وغادر الثنائي الشاب بعد فترةٍ قصيرة، وقد تعالَت ضحكاتهما وتشابكت أيديهما. وبقيَ فريدي ورفاقه بعض الوقت في غرفة الطعام يدخِّنون. لم يكن لدى السيد جالي ويسكي؛ لذا جربوا جميعًا مشروبًا قويًّا محليًّا يشبه البراندي نوعًا ما. نظفت الخادمة المكان من حولهم. وعندما بدأت في حمل مستلزمات الإفطار لتكون جاهزةً في الصباح، أدرك فريدي ورفاقه أنهم أطالوا البقاء أكثر مما يجوز لهم.
قرَّر الآخرون أن يأووا إلى الفراش. غير أن فريدي كان في غاية اليقظة. ظل يستعيد في ذهنه ما جرى في يومه. كان يعلم أنه لن يتمكن من النوم.
وجد فريدي السيد جالي، وطلب منه أن يترك الزجاجة. فقد بدأ يروق له البراندي المحلي القوي. وعن طريق الإشارات والإيماءات، اتفقا على سداد الحساب في الصباح.
عبَر فريدي الرَّدْهة ودخل الصالون الصغير الواقع في مقدمة النزُل، حاملًا الكأس المستديرة الواسعة في يد وزجاجة البراندي في اليد الأخرى. دقَّت الساعة العالية ذات الصندوق الخشبي الطويل في الرَّدْهة معلنةً الوقت. حدَّق فريدي، الذي كان مخمورًا قليلًا، إلى العقارب. بدَت الأرقام على وجه الساعة كأنها تتراقص وتتمايل أمام عينَيه. كانت الساعة لم تتجاوز الثامنة والنصف بعد.
رفع فريدي حاجبَيه. فقد ظن أن الناس في الجبال يخلدون إلى النوم مبكرًا. سيتناول كأسًا أخيرة، وربما يدخن سيجارة أخرى. ثم يذهب إلى الفراش.
كان باب الصالون مغلقًا. فتحه فريدي دون أن يصدر صوتًا حتى لا يزعج أحدًا. كانت الحجرة خالية من الناس، ولكن كانت هناك نار دافئة تستعر في الموقد. كان المكان يفوح برائحة الراتينج، تلك الرائحة المميزة للغابة، فيما اشتعل الحطب وطقطق بألسنة اللهب.
كانت هناك طاولة لألعاب الورق في الزاوية. فاتجه فريدي نحوها بخطوات غير متزنة وارتمى بثِقْله على الكرسي. كانت هناك مجموعتان من أوراق اللعب متراصتان على الطاولة. كانت إحداهما ذات أوراق زرقاء وبيضاء، والأخرى حمراء. لعب فريدي عدة أدوار من لُعبة سوليتير. وعلى الرغم من أن حظَّه كان مؤاتيًا، فقد ظل عقله شاردًا طوال الوقت.
كان هناك كرسيان وثيران على كلا جانبَي المدفأة. ترك فريدي بطاقاته وجلس على الكرسي الأبعد عن الباب. وضع الزجاجة والكأس على الطاولة بشيءٍ من العنف. فاخترق الصوت صمت الغرفة.
همس فريدي محدثًا نفسه: «صه.»
ثم التقط جريدة. فرأى الكلمات تتمايل وتتراقص بلونها الأسود على خلفية الصفحة البيضاء. كانت الفرنسية صعبة جدًّا عليه على أي حال. فشعَر بالرضا، وقليل من النعاس. سرَّه تمامًا أن يجلس دون أن يفعل شيئًا. ربما يكون قد فكر قليلًا. فقد أخذ يقلب أحداث اليوم في عقله.
دقَّت الساعة التاسعة.
ألقى فريدي نظرة على وجه الساعة الأبيض والعقارب النحاسية. لا بد أن يذهب إلى الفراش. ولكنه لم يستطع استجماع قواه ليتحرك. كانت نار المدفأة متأججة، وكان هو دفآن وشبعان. شعَر بجفنَيه ينغلقان. بضع دقائق أخرى فقط وسيصعد إلى حجرته.
الفصل الثامن
استيقظ فريدي مفزوعًا.
كانت رقبته متيبسة. وكذلك كتفاه. كان فمه جافًّا من أثر النوم والبراندي. مرَّر لسانه على أسنانه. كان عطشانَ. ورويدًا رويدًا، أصبح فريدي واعيًا للرائحة الفاسدة في الغرفة. وأمكنه سماع ألسنة النيران تطقطق في المدفأة. ولكن كانت هناك رائحة رماد أيضًا، كما لو كانت النار قد خَبَت.
فتح عينَيه متسائلًا عن الوقت. استدار برأسه لينظر إلى الساعة وكان لا يزال ذاهلًا من أثر النوم. ولسبب ما، لم يتمكن من رؤية العقارب. لكنه رأى شيئًا آخر من زاوية عينه.
أو بالأحرى شخصًا آخر.
كانت هناك امرأة شابة على الجانب المقابل للمدفأة. جلست في استقامة وفي هدوء شديد، تنظر إلى النار. كانت بشرتها شاحبة، وناعمة كالخزف.
اعتدل فريدي في جلسته. فجذبت حركته انتباهها. التفتَت برأسها نحوه. نظرَت إليه مباشرة بعينَين بنيتَين أحاطت بهما رموش طويلة وسوداء. شعَر فريدي بقلبه يقفز في صدره. ثم أشاحت برأسها دون أن تتكلم، وعادت للنظر إلى ألسنة اللهب في المدفأة.
باغته الوعي بالعالم الحقيقي مجددًا. وشعَر أنه يجب أن يعتذر على إزعاجه لها.
«أنا آسف جدًّا. لا بد أن النوم غلبني. إنها لوقاحة مني.»
لم يبدر من الفتاة أي إشارة تدل على أنها سمعته.
«إذا كنتِ تفضلين أن تكوني بمفردك، فبالطبع …»
هزت رأسها هزة خفيفة.
«حسنًا. إذا كنتِ متأكدة أنكِ لا تمانعين …»
تلاشى صوت فريدي حتى أمسك عن الكلام. وتناول الجريدة مرة أخرى. ومن خلفها، راح ينظر إلى الفتاة من وقت لآخر. كانت شابة، ربما في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمرها. كان شعرها مسترسلًا ومنسدلًا في خصلات بنية على ظهرها، ولم يكن قصيرًا حسب الموضة الحديثة. غلب عليها سيماء العصور القديمة. فقد بدت كبطلة قصيدة من العصر الفيكتوري. كانت ملابسها من طراز قديم. فقد ارتدَت عباءةً حمراء ثقيلة على كتفَيها الصغيرتَين، على الرغم من حرارة الغرفة. وبدا أنها ترتدي فستانًا طويلًا تحت العباءة. فقد استطاع أن يرى القماش الأخضر تحت حافة العباءة. كانت شاحبة ونحيلة جدًّا.
أدرك فريدي أنه يشعر بالحر. ففكَّ ياقة قميصه المستعار. كان بحاجة إلى كأس من الماء. لكنه لم يُرد مغادرة الغرفة ليحضره خوفًا من أن تختفي الفتاة.
ترى من تكون؟
أخذ رشفة أخرى من البراندي. هل هي نزيلة؟ إذا كانت كذلك، فلماذا لم تحضر العشاء؟ أو لعلها ابنة صاحب النزُل؟ الآنسة جالي؟ نفض هذه الفكرة عن ذهنه أيضًا. فلو كانت كذلك، لكانت الآن في جناح العائلة، وليست جالسةً في الصالون الأمامي.
طوى الجريدة. فقد أحس بصداع مزعج، وشعَر بذهنه مشوشًا وبقليل من الإعياء. الصمت، والشراب، والنوم على الكرسي، كل ذلك جعله يشعر أنه ليس على ما يرام. كان الحطب في المدفأة يطقطق ويقرقع. والساعة لا تزال تدق. بدت الأصوات كأنها نبضات قلب الحجرة نفسها.
ولما كان واضحًا أن الفتاة راغبة عن التحدث، أدرك أن من المستحسن أن يخلد للنوم. فلم يكن هناك جدوى من الجلوس هنا منتظرًا في صمت متوتر. فكر في الأمر لحظة وفي سبب اضطراب أعصابه.
هذا هو السبب، كان يشعر كأنه ينتظر حدوث شيء ما.
«هل أنت رجل أمين؟»
قفز فريدي من مكانه. كان صوتها أعمق، وأقل شبهًا بأصوات الأطفال، مما كان يتوقع.
«تبدو رجلًا أمينًا.»
تحدثت بالإنجليزية ولكن بلكنة لم يسمع فريدي مثلها من قبل. لم تكن فرنسيةً خالصة، ولا إسبانية خالصة، وإنما شيء بين الاثنتَين.
تلعثم فريدي قائلًا: «أعتقد … أعتقد أنني كذلك. نعم، يمكنني أن أقول ذلك.»
«وهل أنت رجل شجاع؟»
كانت نظرتها حادة وجادة.
فقال: «حسنًا، أميل للقول بذلك. إذا اقتضى الأمر، فأنا كذلك.»
شعَر فريدي كأنه فراشة مثبتة بدبوس على لوح. بدا كأنها نفذت بنظرتها لمكنون نفسه.
«وهل أنت رجل يستطيع التفريق بين الحقيقة والكذب؟»
«بالتأكيد.»
بدا أنها تقيِّمه. كانت تكوِّن رأيًا عنه. أدرك فريدي أن أنفاسه كانت حبيسة. ثم مدَّت يدها وأشارَت له بأن يقترب. سحب فريدي كرسيَّه، حتى أصبحا قريبَين جدًّا حتى كادت ركبتاهما تتلامسان.
«هل يمكنني أن أثق بك؟ أن أحكي لك قصة؟»
قال بسرعة شديدة: «نعم. نعم، بالطبع.» كان فريدي سيوافق على أي شيء ما دامت ستستمر في الحديث. الحديث إليه. «هل هي قصة حقيقية؟»
مالت برأسها جانبًا. «أنت من سيحكم.»
تذكر فريدي آداب السلوك. فنهض ومد يده. «أنا فريدريك سميث، بالمناسبة. وأصدقائي ينادونني فريدي.» أمسك عن الكلام لترد بالمثل. لكنها لم تفعل. تردد فريدي لحظة، ثم جلس على كرسيه مرة أخرى. بدا أن جميع القواعد الاجتماعية والسلوكية العادية لا تهم.
هكذا قال لها: «كلي آذان مُصغية.»
الفصل التاسع
قالت: «وُلدْتُ عصر أحد أيام الربيع. كان العالم قد عاد إلى الحياة بعد شتاء قاسٍ. ذاب الثلج. وتدفقت المياه في الجداول مجددًا. وامتلأت حقول الوادي العلوي بالزهور الجبلية الصغيرة الزرقاء والوردية والصفراء. قال والدي إنه في اليوم الذي وُلدتُ فيه سمع تغريد أول طائر وَقْواق. وقال إنه كان فألًا حسنًا.
بعد ولادتي، دُثِّرتُ بقطعة قماش من الكتان. وجاء جيراننا برغيف خبز كانوا قد خبزوه. قال أبي إنه كان من الدقيق الأبيض، لا الحبوب البنية الخشنة المستخدمة في الأيام العادية. وجاء آخرون من القرية يحملون الهدايا أيضًا. بطانية بنية من الصوف من أجل الشتاء. وكأسًا للشرب، وصندوقًا خشبيًّا به بهارات. وكانت أغلى تلك الهدايا ملحًا مغلفًا في قطعةٍ من القطن المصبوغ باللون الأزرق.
كنا في شهر أبريل. كانت الأغنام قد عادت إلى المراعي الصيفية. فالرعاة في الخريف يأخذون قطعانهم إلى إسبانيا على الجانب الآخر من الجبال. وفي كل ربيع، عندما يصبح الهواء دافئًا مرة أخرى، يعود الرجال والحيوانات.»
بينما كانت تتحدث، لاحظ فريدي أن السنين بدت وكأنها تتلاشى. بدت سعيدة وهي تتذكر طفولتها. ثم، مثل سحابة تعبر أمام وجه الشمس، اكتسى وجهها بملامح الجدية.
«كنت أول طفل يُولَد في قريتنا منذ … منذ بدأت المتاعب مجددًا.»
دون مقدمات، عاد فريدي بذاكرته فجأة إلى آخر مرة عاد فيها جورج إلى المنزل في إجازة. كان قد تحدث عن «المتاعب». كان يتحدث عن الألمان وكيف أنهم يستهدفون المدنيين بأسلحتهم. ويهاجمون قرًى بأكملها لمجرد التسلية. لم يكن جورج قد باح بكل شيء. فلم يكن بحاجة لأن يفعل ذلك.
استعد فريدي لما قد يأتي.
واصلت حديثها بهدوء قائلة: «كان أبي وأمي محبوبَين في قريتنا. كان أبي يكتب الرسائل لرجال القرية ونسائها الذين لا يستطيعون القراءة ولا الكتابة. وكان يساعد الكاهن في إسداء النصح لأولئك المتهمين بارتكاب جرائم. كان يُعنى بأمر الضعفاء والمحتاجين. لم يكن هو نفسه رجلًا قوي الإيمان. لكنه كان رجلًا صالحًا.»
أومأ فريدي برأسه.
«في البداية، لم تؤثِّر المتاعب على قريتنا كثيرًا. استمر الصراع بضع سنوات. بل سنوات عديدة في الواقع. لكن المعارك كانت بعيدة. وكنا نعتقد أن قريتنا آمنة، كونها بعيدةً عن قلب الأحداث. فقد كانت أصغر من أن تهم أي شخص سوانا.»
أمسكت عن الكلام. وتهدل كتفاها.
فقال من فوره: «أرى ألَّا تكدري نفسكِ. لا حاجة لمتابعة القصة إذا كان في ذلك مشقةٌ بالغة.»
قالت بهدوء: «بل هناك حاجة كبيرة. ما دام الأمر يتعلق بالحقيقة.» هنا تغير صوتها. فصار أوضح وأعلى نبرةً. «ما مبلغ علمك بتاريخنا، يا سيد سميث؟ الأرض، التقاليد، طريقة حياتنا في الجزء من فرنسا الذي نعيش فيه؟»
تفاجأ فريدي بالتغيير المفاجئ للموضوع. لكنه استطاع أن يقول: «الأمور المعتادة. نوعية الأشياء التي يقرؤها المرء في دليل السفر. أمور بسيطة جدًّا.»
قالت: «ظللنا نعيش تحت تهديد الهجوم سنوات وسنوات. كنا نخشى جنود الأعداء، والمحاكم، والجواسيس، وسجونهم. لم تتفق معتقداتنا مع معتقداتهم. عشنا في حالة انتظارٍ دائمٍ لوقوع البلاء. لم تكن لدينا قدرةٌ على الوثوق بأحد.»
فقال لها: «لكنكِ وثقت بي.»
ابتسمت ابتسامة حزينة. وقالت: «الأمور مختلفة الآن.»
«أعتقد أنها كذلك.»
أخذ فريدي يقلِّب الأمور في رأسه. لم يخطر له أن هجوم الألمان قد وصل حتى هذا الجزء القاصي جنوبًا. كان يعتقد أن القتال اقتصر على الخنادق في شمال فرنسا، في بلجيكا. لكنه لم يكن يعرف الكثير. فقد كان طفلًا حينذاك.
«حين بدأت المتاعب، تركوا قريتنا وشأنها. لكن دارت علينا الدوائر في النهاية. وجاءوا إلينا.»
الفصل العاشر
كان فريدي متشبثًا بذراعَي الكرسي بشدة. حتى إنه حين نظر لأسفل، رأى أن مفاصل أصابعه كانت بيضاء.
أخذ نفسًا عميقًا. مهما كان ما ستخبره به، فقد انتهى منذ زمن طويل الآن. فهو من أهوال الماضي.
قال بهدوء: «فلتتابعي.»
«كان يومًا جميلًا. أتذكر أنني أدركت فيما بعد كم كان ذلك اعتقادًا خاطئًا مني. من الخطأ أن تظن أنه لا يمكن أن يحدث شيء فظيع في صباحٍ يغمره هذا الضوء الصافي، وتغطيه تلك السماوات الزرقاء.
كانت عائلتي محظوظة. فقد كنا في زيارة لأصدقاء لنا على الجانب الآخر من الجبال. بدأنا رحلتنا مبكرًا، عند الفجر، عائدين أدراجنا إلى القرية. كان الضباب لا يزال منخفضًا في الوادي. ولم تكن الشمس متقدةً بعدُ في السماء. وعلى مشارف القرية، حيث تنحدر الغابات مباشرة إلى البلدة، رأينا صبيًّا من أصدقاء أخي يركض. قال إنه رأى جنودًا. صفًّا ضيقًا ومتناثرًا من الرجال يزحف نحونا بخطًى ثابتة. قال …»
وجد فريدي أنه أيضًا قد خفض صوته. وقال: «ماذا؟ ماذا قال؟»
قالت: «قال إنهم كانوا يحرقون قرى الوادي السفلي. قال إن الرجال والنساء والأطفال قد قُتِلوا حيث كانوا يقفون.
وفي الحال أسرعنا إلى الساحة. فوجدناها غارقةً في فوضى عارمة. وتعالى البكاء والصراخ. بعض الناس أرادوا البقاء، رافضين أن يصدقوا أن التهديد كان حقيقيًّا. وآخرون أرادوا الدفاع عن قريتنا ضد أي هجوم. والبعض الآخر، الذين رأوا الرعب بعيونهم، أدركوا أن البقاء معناه الموت المحقق.
قالت الأختان مارتي إنهما كبيرتان في السن على الطرد مرة أخرى من منزلهما. وهكذا رفضتا الرحيل. كان هناك زوجان شابان، تزوجا منذ أسبوع، وكانا قد خرجا مبكرًا ولم يعودا. وقرر بعض الرجال البقاء. بقوا لتضليل العدو، إذا اقتضى الأمر. ولمنع الجنود من اقتفاء آثارنا في الجبال. بقيَ بيتر جالي، وميشيل أوتي وابناه، وويليام وبول أيضًا.»
جعل فريدي يفكر مليًّا في كلماتها. وقال: «أنا مندهش من بقاء الكثير من الرجال. ألم يكن جميع الرجال في سن القتال قد استُدعوا للقتال؟»
قالت: «كانت الأمور مختلفة هنا.»
شعَر فريدي بعدم ارتياح. كانت هناك حلقة مفقودة لديه. لم يستطع أن يحدد ما هي، ولكن ما قالته لم يكن منطقيًّا. فقد كان قد مر بنصب تذكارية للموتى في كل قرية، وفي كل بلدة. كان في مقابر كل كنيسة قوائم بضحايا الحرب. آباء، وأبناء، وأصدقاء، وإخوة.
ولكنها واصلت الحديث قبل أن يتمكن من طرح سؤال آخر عليها.
قالت: «لم يتسع الوقت إلا لجمع ما يمكن حمله على ظهورنا والمغادرة. أخذنا رغيف خبز، ونبيذًا، وبطانيات لِلَيالي الجبل الباردة. وحبر والدي وأوراقه. عندما ارتفعت الشمس في السماء، انضممنا إلى المتجهين جنوبًا إلى الغابات. أقصد والدَيَّ وأخي. كان عمر أخي عشر سنوات آنذاك. لم يكن صبيًّا قويًّا، بل كان نحيفًا، وكثيرًا ما كان ينتابه المرض. لكنه كان قوي العزيمة. كان شجاعًا.
سافرنا سيرًا على الأقدام. لم نستطع المجازفة باصطحاب الحيوانات والعربة، خوفًا من أن تكشف الآثار مسارنا. وتركنا البغال، والأغنام، والماعز أيضًا. حدت بنا الجرأة أن نأمل أن تظل هناك إلى حين عودتنا.»
«إلى أين ذهبتم؟ كان هناك الكثير من الناس.»
نظرت إليه لحظة، كأنها متفاجئة من طرحه مثل هذا السؤال.
«توجد كهوف داخل هذه الجبال. إنها متوارية عن الأنظار.»
«هل تكفي لإيواء قرية كاملة؟»
«نعم، إذا اقتضت الحاجة. بعض الكهوف صغيرة ومتصلة بأنفاق ضيقة. وفي مواضع أخرى، هناك مدن بأكملها تحت الأرض داخل الجبال. أنفاق، وكهوف، وأماكن مخفية. وجدت كل عائلة مكانًا لتستريح فيه. لم نكن نعتقد أن المُقام سيطول بنا هناك.»
كانت الأسئلة تلحُّ على ذهن فريدي. فكثير من الأمور لم تبدُ منطقيةً أو منسجمةً مع ما يعرفه.
«ولكن إذا كنتم تعلمون بمكان الكهوف، فكيف لم يسمع الجنود عنها؟ لا بد أن أحدهم تحدث عنها؟ دائمًا ما يفعل شخص ما ذلك.»
هزت رأسها. وقالت: «لم يكن قد استخدمها أحد لسنوات عديدة قبل ذلك.»
هنا عبس فريدي. كان يرى غرابة في كون حديثها يعطي انطباعًا بمرور زمن طويل. لقد بدأت الحرب في عام ١٩١٤ واستمرت أحداثها البغيضة حتى عام ١٩١٨. كانت سنوات مريعة بلا ريب، ولكنها كانت أربع سنوات فقط إجمالًا.
قالت: «كان الجنود يعرفون أننا لا يمكن أن نذهب بعيدًا. وظلوا يبحثون ويبحثون عنَّا. في البداية لم يجدونا. كان الكهف الذي أوينا إليه واقعًا على أعلى قمة إلى حد ما. وشكلت جذور الأشجار القديمة درجات سلم في الأرض. كان الطريق الوحيد للدخول إليه أو الخروج منه عبر فتحة صغيرة في الجبل. كانت تبدو من الأسفل كأنها نصف قمر يشق واجهة الصخور. نصف دائرة من الأحجار. لم يبدُ أنها تؤدي إلى أي مكان. مجرد طريق مسدود.»
سألها: «إذن، هل عشتم هناك لأيام؟ أو أسابيع؟»
قالت: «بل أكثر من ذلك. تلا الربيعَ الصيفُ. ثم اصفرَّت أوراق الأشجار. لكنهم لم يجدونا. بعدها تساقطت الثلوج. وظننا أنهم سيغادرون، لكنهم لم يفعلوا. ظلوا لنا بالمرصاد.»
سألها: «وأخوكِ؟ كيف تحمل الشتاء؟»
خفضت رأسها. وقالت بهدوء: «لم يتحمله. لقد اخترق البرد عظامه وصدره. كان بحاجة إلى الهواء النقي وأشعة الشمس والطعام الجيد. الأشياء ذاتها التي لم يكن بمقدورنا الحصول عليها.» ازدردت لعابها بصعوبة. ثم قالت: «لم يشتكِ قط. حتى عندما بلغ به الألم مبلغه، تحمَّله بشجاعة.»
رأى فريدي الحزن يحول عينَيها البنيتَين إلى اللون الأسود.
قالت: «لم أستطع إنقاذه.»
الفصل الحادي عشر
قال فريدي: «أنا آسف جدًّا.»
كان فريدي يعلم كيف يمكن أن يتسلل الحزن إلى النفس في أي لحظة. كان يعلم كم كان الألم حادًّا مثل إبرة مغروسة تحت الجلد. وكيف صار الألم فاترًا بمرور الوقت بعد ذلك. إنه موجود دائمًا، متشبِّث بمكانه في زوايا الأشياء، مثل صديق مقرب.
قالت مرة أخرى: «لم أستطع إنقاذه.»
أدرك كيف شغل الأمر عقلها. فخلال الأشهر الأولى بعد الإبلاغ عن اختفاء جورج، ظلت فكرة جثته المجهولة الملقاة في ساحة المعركة تطارده.
لم يتحدث فريدي عن وفاة جورج قط. لم يعترف لأي شخص كيف أنه لا يزال يتحسر على أخيه كل يوم. ولكن لأول مرة خلال أكثر مِن عَقد من الزمن، أراد فريدي التحدث. كان بحاجة إلى التحدث.
فقال: «أنا أيضًا فقدت أخًا.»
كانت هي التي تجاوزت المسافة بينهما وأمسكت بيده. كانت لمستها في غاية الرقة حتى إن فريدي لم يكد يشعر بها. كانت بشرتها شاحبة. عندما تحركت، انزلقت العباءة من فوق كتفَيها. رأى أنها ترتدي تحت العباءة فستانًا أخضر طويلًا مع حزام عتيق الطراز. وكان يتصل به جراب جلدي، بدا مثل محفظة أو حقيبة صغيرة. كانت ملابسها لا تساير العصر تمامًا.
شرع فريدي يتكلم. كانت نبرته بطيئة في البداية، ثم تسارعت فيما بعد. فقد تدافعت عشر سنوات وأكثر من الحزن، والخسارة، والصمت إلى ذهنه. تصاعد صوت نار المدفأة في الغرفة. وبدا الوقت وكأنه قد توقف وهو مسترسل في الحديث.
أخيرًا، لم يتبقَّ شيء ليقوله. لقد نفَّس عن كل مشاعره. وصار رأسه فارغًا. وأخذ فريدي نفسًا عميقًا.
وقال: «أنا آسف، أنا … أنا لا أعرف ما الذي أصابني.»
شعَر للحظة عابرة بضغط أصابعها على راحة يده. ثم سحبتها ببطء. كان متعبًا حينئذٍ، متعبًا جدًّا. لكنه شعَر وكأنه أزاح عبئًا عن كاهله.
«كل ما أردت قوله، قبل … حسنًا. كان من المفترض أن أواسيكِ، لا العكس. أردت فقط أن أخبركِ أنني أدرك ما تشعرين به.»
قالت برقة: «كنت أعرف ذلك من البداية. وإلا فكيف كنت سأتحدث إليك؟»
لم يكن فريدي متأكدًا مما تقصده، لكنه شعَر بالإطراء على أي حال.
قال: «كنتِ تتحدثين عن صمودكم أمام الشتاء. وعندما انتهى؟ هل عدتم؟»
أوقفته النظرة التي لاحت على وجهها. أدرك أنه خيب أملها. أو بالأحرى، عجز عن فهم شيء ما.
«لم يَعُد أحد. لا أحد.»
أدرك فريدي أنه غفل عن شيءٍ ما. كان يعرف أنها فقدت أخاها، ولكن ماذا عن والدَيها؟ فهي نفسها وصلت إلى هنا رغم كل شيء.
قال: «لا أفهم ما حدث. لا بد أن بعضكم قد عاد.»
رأى قبضتَيها مطبقتَين في حجرها. لاحظ كم هي طويلة أصابعها وكم كانت أظافرها باهتة، وليست مطلية بالأحمر حسب الموضة الحديثة.
«كان الجنود ينتظرون نهاية الشتاء فحسب. عندما بدأ الجليد يذوب، وبمجرد أن بلغ بنا الأمل حد الاعتقاد بأننا آمنون، هاجمونا.»
ظل فريدي غير مستوعب ما تقول. هز رأسه. فدار رأسه من هذه الحركة. بدا أن الغرفة كلها تهتز. أدرك فجأة أنه كان ثملًا أكثر مما كان يعتقد.
قال: «ولكن ها أنتِ هنا.» بدت الكلمات غريبة حتى على أذنيه، كأنه يتحدث تحت الماء.
كان فريدي يحاول جاهدًا أن يركز انتباهه. فقد بدا له آنذاك أن هناك فتاتَين، كلتاهما تنظر إليه بعينَيها البنيتَين. كان بحاجةٍ إلى كوبٍ من الماء. أو قهوة مركزة. حاول الوقوف، لكنَّ ساقَيه لم تقويا على حمله.
قالت له برفق: «يجب أن ترتاح.»
بدا صوتها كأنه آتٍ من مسافة بعيدة. لم يعد بإمكان فريدي أن يبقيَ عينَيه مفتوحتَين. شعَر بنفسه وقد غمره دفء الغرفة، وارتفاع صوتها وانخفاضه بسلاسة. وأحس بثقل في ذراعَيه، وكتفَيه، ورقبته، وساقَيه.
تمتم قائلًا: «لبضع دقائق فقط. أنتِ لم تخبريني باسمك بعد.»
بدا كأنه يسمعها تتحدث في أعماق رأسه. ترددت كلمة واحدة في رأسه همسًا.
قالت هامسة: «ماري. اسمي ماري.»
كان متعبًا جدًّا، بل في غاية التعب. «بضع دقائق وسأكون بخير.» شعَر فريدي بعينَيه تَغْمُضان. شعَر بحركة، أو بالأحرى تحوُّل بسيط في الجو من حوله. ثم تحدثت مرةً أخرى.
قالت: «ابحث عنا. ابحث عنا وأعدنا إلى ديارنا.»
كانت هذه هي الكلمات الأخيرة التي سمعها فريدي.
الفصل الثاني عشر
«سيد سميث؟»
سمع فريدي اسمه. وشعَر بيد على كتفه تهزه لتوقظه. ببطء، أفاق نفسه من سباته. أحس بجسده كله يؤلمه وبصداع في رأسه.
«سيدي؟ سيد سميث؟»
أدرك أنه صوت السيدة جالي. فتح فريدي عينيه. انتبه إلى الحجرة، التي كانت باردة وخاوية في الضوء الرمادي للصباح. كانت النار قد خبت في المدفأة. وأبصر زجاجة البراندي والكأس، كلاهما فارغٌ، على الطاولة بجانب كرسيه.
ثم تذكر كيف مرت الليلة. الحديث عن الماضي، وتذكره، والتأمل فيه. جلس مستقيمًا، وحدَّق في الكرسي حيث كانت ماري جالسة.
كان فارغًا.
«هل أنت متوعك؟»
جال فريدي بنظره في أنحاء الحجرة مرة أخرى. فلم يجد شيئًا. لا أثر لها.
«هل أستدعي الطبيب؟»
«لا، لا، أنا بخير. سامحيني. كنت أتحدث مع نزيلة أخرى مساء الأمس. لا بد أن النوم قد غلبني هنا. كانت امرأة شابة، ذات شعر طويل داكن. هل رأيتِها هذا الصباح؟»
هزت السيدة جالي رأسها نفيًا.
قال: «كانت ترتدي ملابس كأنها من زمن قديم، على ما أعتقد. عباءةً حمراء طويلة وثوبًا أخضر.»
قالت: «لا أعرف أحدًا بهذا الوصف.»
لما رأى أن السيدة جالي لم تصدق، أضاف قائلًا: «دخلت هنا لألعب الورق، أو أقرأ الجريدة. فغفوت قليلًا. وعندما استيقظت، كانت هنا. قالت إن اسمها ماري.» ورفع يدَيه وفرك صدغَيه اللذَين آلماه. كان يشعر بآثار البراندي.
قالت: «ليس لدينا نزيلة بهذا الاسم، يا سيدي.»
قال: «ماذا عن العاملين في المطبخ؟ أو أهل القرية؟»
هزت السيدة جالي رأسها. «ليس على حد علمي يا سيدي. آسفة.»
«هل أنتِ متأكدة؟»
خطر له أن ماري ربما كانت هنا دون علم السيدة جالي. فقد كان الوقت متأخرًا على كل حال. ولم يكن هناك أحد آخر مستيقظًا خلال الليل.
ألقى فريدي نظرة على الساعة. واندهش حين وجد أنها السادسة وثلاثة وأربعون دقيقة صباحًا. فنهض عن كرسيه. كان واضحًا أن السيدة جالي لن تفيده بأي معلومة. لذلك سيسأل عن ماري في البلدة بدلًا من ذلك. ربما تعرفها إحدى الخادمات.
«أخبريني يا سيدة جالي، هل هاجم الأعداء منطقتكم كثيرًا خلال الحرب؟»
بدا على وجهها الدهشة من هذا السؤال. لكنها أجابته.
قالت: «ليس بالضبط يا سيدي. كان هناك معسكر قريب جدًّا للأسرى. لكنه على بعد ثلاث ساعات بالسيارة.»
قطب فريدي حاجبيه. «ماذا عن الوحدات الألمانية التي كانت تعمل في المنطقة؟»
هزت السيدة جالي رأسها. «لم يكن الوضع سهلًا، لكننا كنا أفضل حالًا من كثيرين. خسرت القرية رجالًا قاتلوا على الجبهة الشمالية.»
اتجهت عيناها إلى الساعة. كانت متوترة. كان من الواضح أنها تريد الذهاب لمتابعة عملها. لكن فريدي لم يستطع التوقف عن الحديث في هذا الأمر.
قال: «إذن، لم تتعرض هذه البلدة لغزو قط؟ أو تُهاجَم بأي شكل من الأشكال؟»
قالت: «نعم يا سيدي.»
تعجب فريدي.
قالت: «إذا لم يكن هناك شيء آخر، فإنني بحاجة إلى تحضير الإفطار. لقد طلبت من ميشيل أوتي، الذي يدير ورشة السيارات، أن يكون هنا في الساعة الثامنة. يمكنك أن تأخذه إلى سيارتك.»
بالكاد سمعها فريدي. كانت الأفكار تدور في رأسه، مثل أوراق الشجر حين تذروها الرياح. راح يعتصر ذهنه. فأدرك أن ماري في الواقع لم تقل إنها تتحدث عن الحرب الأخيرة. لكنه كان التخمين المنطقي، بناءً على عمرها. وحين فكر فيما قالته، وجد أنها بالفعل لم تقل إنها جاءت من هنا. لكن هذا أيضًا كان تخمينًا منطقيًّا. كان وصفها واضحًا جدًّا. الهروب من القرية، والرحلة بين الجبال، والكهف.
قالت على مهل، كأنها تتحدث إلى طفل: «سيد سميث؟ هل الساعة الثامنة تناسبك؟ من أجل السيارة؟»
حمل فريدي نفسه على العودة بتركيزه إلى المسألة الراهنة. فقال: «نعم، معذرة. بالتأكيد. مناسبة جدًّا، أشكرك.»
أخذت السيدة جالي الكأس والزجاجة الفارغتين، وربتت على حشية الكرسي. ألقت نظرة خبيرة في أنحاء الحجرة، لتتحقق من أن كل شيء كما يجب أن يكون، ثم غادرت.
ظل فريدي واقفًا بلا حراك دقيقة أو دقيقتين. وساد الهدوء في الحجرة. سمع خطى السيدة جالي تتلاشى شيئًا فشيئًا وهي تمضي في الممر. ثم نظر في أرجاء الحجرة مرة أخرى. كانت الصحيفة حيث تركها. وكانت مجموعتا أوراق اللعب متراصتين على الطاولة. عاد فريدي بنظره إلى الكرسي الذي كانت ماري جالسة عليه. لم يكن في حشيته أي انبعاج يدل على أثر جلوس.
هل رآها في الحلم؟ فقد غلبه النوم أمام المدفأة. كان اليوم عصيبًا ومرهقًا. الحادث، وإصابة رأسه، والبراندي. فقد أفرط في الشرب.
لكن حتى وإن كان الأمر كذلك.
على رف الموقد، دقت الساعة الصغيرة معلنة الوقت. أعاد الصوت فريدي إلى المهمة الحالية. كان بحاجة إلى الاستحمام وتغيير ملابسه. كان بحاجة لكوب من القهوة الثقيلة. ثم، كان عليه التفكير في ترتيب الأمور مع الورشة.
خرج إلى الممر وهو ما زال يفكر في ماري. عندما وصل إلى مستوى المكتب في أسفل الدرَج، لاحظ فريدي أن سجل النزلاء مفتوح. نظر حوله. فلم يجد أحدًا هناك. قلب فريدي الدفتر نحوه. وألقى نظرة سريعة على الأسماء المكتوبة في الصفحة. كان اسمه آخر ما أُدرج في الدفتر. وفوق اسمه، كانت أسماء رفاقه على العشاء. وفوقها، بخط نسائي منساب في دوائر، اسم السيد بيردو وزوجته. إنهما العروسان الجديدان، كما افترض. رجع فريدي إلى الصفحة السابقة ومرَّر إصبعه على الأسماء من الأسفل. وكما خمن، كانت السيدتان المتقدمتان في السن شقيقتَين، أو على الأقل، كان لهما نفس اللقب: مارتي.
تجهم وجهه. بدا الاسم مألوفًا له، لكنه لم يستطع أن يحدد أين سمعه. ولمَّا أمعن التفكير في الأمر، وجد أن جميع الأسماء كانت بطريقة ما مألوفة.
الاسم الوحيد الذي لم يجده كان اسم ماري.
الفصل الثالث عشر
لم يكن لدى فريدي وقت للتفكير في ماري خلال الساعات القليلة التالية.
وصل الرجال في الثامنة بالضبط. وصل السيد أوتي مع ابنَيه. كان أحدهما، ويُدعى ويليام، يتحدث الإنجليزية بطلاقة؛ لذا لعب دور الوسيط بين فريدي ووالده. وصف الطريق الذي سلكه فريدي، واستنتج والده مكان السيارة.
كان الهواء نقيًّا وباردًا عندما مضت المجموعة الصغيرة في طريقها نحو الجبال. لم تكن الشمس قد تجلَّت بعد على قمة التل الأقرب. طبع برد الصباح الباكر حمرة في وجنتي فريدي، لكن لم يكن الطقس سيئًا كما كان في اليوم السابق. فقد امتدَّت زرقة السماء لا يحدُّها حدٌّ، ولا تعترضها غيوم. واكتمل نمو الأوراق على أشجار البلُّوط والزان.
غادروا القرية عبر الطريق الذي اتخذه فريدي في عصر اليوم السابق. وبينما كان ينظر حوله، بدا كأن الربيع قد حل ليلًا. فقد تألقت الألوان في كل مكان، في المروج، وفي الغابات الماثلة أمامه، وفي الشمس الباهتة التي ترتفع من خلف الجبل. تذكر وصف ماري للريف. كان مرآة دقيقة لما رأى. كان متأكدًا أنها كانت تتحدث عن هذه التلال.
عبر الرجال الأربعة الجسر. كان النهر في ذلك اليوم يتدفَّق بسرعة، لكنه لم يعُد يهدِّد باختراق ضفافه. رأى فريدي وميض السمك الفِضي في مجرى المياه. والتمعَت أعشاب النهر الخضراء في التيار، متمايلة هنا وهناك. كان كلُّ شيءٍ في غاية الهدوء والسكينة.
بعد ربع ساعة، وصلوا إلى أطراف الغابة. أشار فريدي إلى الطريق الذي اتبعه. وفي صف واحد، انتقلوا من ضياء الحقول إلى ظل الغابة. كانت الشمس مشارفة على البزوغ من خلف الجبل. فصبغت سطح الأوراق بأشعتها الذهبية.
كان الطريق وعرًا وغير مستوٍ. ولكن بدا لفريدي أن المضي فيه أسهل مما كان بالأمس، مع أنهم كانوا يسيرون صعودًا. فرُفقة ميشيل وابنيه المريحة، والشمس، وعدم وجود رياح أو مطر، كلها أمور رفعت معنوياته. اليوم، لم يعد فريدي يشعر بوجود أشباح في الغابة.
بعد قليل وصلوا إلى النقطة حيث يصعد الممشى إلى الطريق. أشار فريدي إلى التل فواصلوا السير في صف واحد. سمع فريدي تغريد طيور بين الأشجار. ربما شُحرور، أو سُمنة، أو حتى أبو الحناء. كان شقيقه يحب الطبيعة ويعرف الأصوات المختلفة للطيور كلها. ابتسم فريدي. بدت أشبه بتغاريد طيور إنجليزية حتى إنه تعجب من سماعها في غابة في الريف الفرنسي. وكان هناك صقر يحلق فوقهم في السماء.
بعد خمس دقائق أخرى، وصل فريق الإنقاذ إلى المكان. ارتاح فريدي لما وجد سيارته الموريس ماينور حيث تركها بالضبط. لم تقع في الخندق ولم تصدمها سيارة أخرى في العاصفة. أنزل ويليام لفة الحبل من فوق كتفه. وبمساعدة أخيه، ربطوه حول عارضة التصادم الأمامية. وأخذ الرجال يشدونها وهم يطلقون صيحاتهم. وعلى مهل، سحبوا السيارة رويدًا رويدًا إلى الطريق مرة أخرى. كان الهواء لا يزال باردًا، لكن العمل كان شاقًّا وكانت الشمس ساخنة بالنسبة إلى شهر أبريل. تفحص ميشيل السيارة والعرق يقطر من جبينه. بدا بشاربه الرمادي المتدلي وحاجبيه الكثيفين أقرب إلى مطرب أوبرالي من ميكانيكي. لكن بدا أنه يعرف ما يفعله.
أشار إلى محور العجلات، ثم إلى قنطرة العجلة الأمامية التي انبعجت. ثم ركل جانب السيارة بطرف حذائه الطويل. وبمساعدة ويليام، لم يعد لدى فريدي أدنى شك في أن السيارة بها قدر لا بأس به من التلف. ولن يكون إصلاحها سهلًا بالمرة. ظن فريدي أن الأمر يستدعي القلق. فقد بدا من التعبير البادي على وجه ميشيل أن السيارة ستحتاج إلى بعض الإصلاحات لتسير مرة أخرى على الطريق. وسيكون ذلك مكلفًا بلا شك. لكنهم كانوا يتحدثون بسرعة كبيرة بالنسبة إليه وكانت لكناتهم قوية.
لبث فريدي على إحدى الصخور منتظرًا. كانت الشمس، ورائحة أشجار الصَّنَوْبر، وتغاريد الطيور العذبة على الأشجار، كلها أشياء باعثة على السكينة. وجد عقله يشرد به إلى ماري. فآنس شعورًا بالهدوء والراحة. بل إنه شعَر براحة لم يشعر بها منذ زمن بعيد. أبعد مما يتذكر في الواقع.
رفع فريدي نظره إلى السور الصخري الكبير أمامه. وعندئذٍ رآها. فهب واقفًا وأنعم النظر. ظن في البداية أنها مجرد خيالات من الضوء. فحجب عينيه. واستطاع بصعوبة أن يتبين فتحة في الصخور عاليًا في التلال من فوقه. لم يبدُ هناك طريقة للصعود. فمال برأسه إلى الخلف للحصول على رؤية أكثر وضوحًا.
كان مدخل كهف منحوتًا في جانب الجبل. وإلى اليسار، كانت ثمة فتحة أخرى أصغر قليلًا وأقل ارتفاعًا قليلًا. كانتا كعينين فارغتين في جمجمة. وبعد هذا الكهف بقليل، كان هناك كهف آخر.
في تلك اللحظة، وضع ويليام يده على كتف فريدي.
قال ويليام: «هناك بعض الأعطاب في الهيكل. بإمكان أبي أن يقطر السيارة إلى الورشة. وبمجرد أن يفحصها جيدًا، سيتضح له كم الإصلاحات اللازمة أكثر.»
لم يكن فريدي مصغيًا له. قال: «هل تلك التي في الجبل كهوف؟» وأشار. «هناك، فوق تلك الحافة الجبلية؟»
تتبع ويليام مسار إصبعه إلى حيث أشار، ثم هز رأسه بالإيجاب.
سأل بإلحاح: «هل من الممكن الصعود إلى هناك؟ أعني من هنا.»
قال ويليام: «يمكنك الصعود من الطريق، لكنه مسار شاق. هناك مسار أسهل من الجانب الجنوبي للقرية يؤدي إلى ذلك الجزء من الجبل.»
شعَر فريدي بذكرى تطفو على ذهنه.
«جنوب القرية؟»
أومأ ويليام برأسه. «الغابات تقترب أكثر من البلدة عند تلك النقطة. إنه طريق أكثر أمنًا.» نظر إلى فريدي بوجهه الصبور المتأني. «إذن يا سيدي، هل نعود بالسيارة إلى البلدة؟»
كان فريدي لا يزال رافعًا نظره إلى الجبل. «نعم. نعم، بالطبع. لا بأس بأي شيء سيوصي به والدك، أيًّا كان.»
ذهب ويليام للتحدث مع ميشيل، الذي أومأ لفريدي بالموافقة رافعًا إبهامه وابتسم له ابتسامة واسعة. وبمساعدة بول، أخرج فريدي حقيبته من الصندوق. وبدَّل حذاءه بآخر مناسب للمشي. ثم عادوا أدراجهم إلى لارنا مع ويليام الذي حمل حقيبته.
عندما خرجوا من الطريق الرئيسي، ألقى فريدي نظرة أخيرة وراءه. لم يعد بإمكانه رؤية مدخل الكهف. لكن كان يكفيه العلم بأنه موجود. وما لبث أن تشكلت خطة في عقله. إذا لم تُجهَّز سيارته اليوم، كما كان يخشى، فسيتسلق الجبل ويستكشف الأمر.
إذا لم يتمكن من العثور على أي أثر لماري في القرية، فربما يحالفه حظ أفضل في الكهف نفسه.
الفصل الرابع عشر
أوفى ميشيل بوعده وسرعان ما أُعيدت السيارة إلى البلدة. وبعد عشر دقائق من الفحص تحت غطاء المحرك وفي هيكل السيارة، أخبر ميشيل فريدي أنه سيستغرق يومَين على الأقل لإصلاحها. كان فريدي واقفًا في الساحة الأمامية للورشة. وكان كلما سأل عن سير الأمور، صرفوه. حتى إنه بدأ يشعر كأنه أب في انتظار ولادة صغيره وتطرده الممرضات الصارمات من غرفة الولادة.
قرر أن يتناول الغداء مبكرًا، وبعد ذلك يشرع في تنفيذ خطته لتسلق الجبل. تمشى حتى دخل الساحة. وهناك لاحظ فريدي أن محل الصحف القائم في زاوية الساحة مفتوح. جلجلت أجراس الكنيسة وراءه، معلنة انتصاف النهار، وإذا به يصل هناك في نفس الوقت الذي كان صاحب المتجر يغلقه.
كان المتجر طويلًا وضيقًا وباردًا من الداخل. في الطرف الأقصى كانت هناك منضدة زجاجية أمام جدار مُلِئَت بأنواع مختلفة من السجائر والتبغ والسيجار. على أحد الجانبين كانت هناك خِزانات عرض زجاجية تحتوي على سكاكين صغيرة وغَلَايين. وعلى الجانب الآخر، كان هناك رفٌّ من صحفٍ وكتيباتٍ عن شئون محلية. بدا معظمها مهترئًا وذا حوافَّ مُصْفرَّة، وكان واضحًا أنها هناك منذ وقت طويل.
فحص فريدي الصف بتأنٍّ لقراءة العناوين.
وسأل: «أهي بالإنجليزية؟»
أشار صاحب المتجر إلى قسم صغير خلف الرف. اختار فريدي دليلًا قليل الصفحات طُبِعَ أعلاه على اليمين العلم البريطاني. ثم أخرج ورقة نقدية من محفظته. وبينما كان يأخذ باقي نقوده، سأل فريدي السؤال الذي ظل يطرحه في أنحاء البلدة طوال الصباح. هل يعرف صاحب المتجر امرأة تُدعى ماري؟ حصل فريدي على نفس الرد الذي حصل عليه في الورشة، وعند الخباز، والجزار، والمتاجر العامة. هزة متثاقلة للرأس ونفي آخر.
طريق مسدود آخر.
وجد فريدي طاولة خارج المقهى في ضوء الشمس. طلب عُجَّة باللحم وكأسًا من النبيذ الأحمر، ثم استرخى في جلسته برُفقة كتابه. فتح الكتاب باسطًا صفحاته، حتى تطقطق كعبه. كان نصه بسيطًا، مطبوعًا في أعمدة مزدوجة على ورق أبيض خشن. وخمن من تعبيراته الركيكة أنه مترجم عن الفرنسية. واتضح له أنه أقرب إلى كتاب تاريخ، لا دليل سياحي كما كان يعتقد. كان يروي قصة مجموعة من المسيحيين عاشوا في المنطقة خلال القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر. كانت الكنيسة الكاثوليكية مناوئة لهم وكانوا ممنوعين من العبادة على النحو الذي أرادوه. وجُردوا من ممتلكاتهم. وعُذبوا وأُدينوا في محاكمات غير عادلة، وسُجنوا وأُعدموا. وأُحرق آخر كهنتهم، حسبما ورد في الكتاب، على الخازوق عام ١٣٢٨. وكانت هذه نهاية هذا الدين وأتباعه.
ثم قرأ فريدي شيئًا جعل قلبه يتوقف. وفقًا للكاتب، لجأت قرًى بأكملها إلى الكهوف. وكان الدليل على ذلك أن الجنود قد سدوا كثيرًا من المداخل. حتى بلغ القرن السابع عشر نهايته، حين اكتُشِفت كهوف تحتوي على جثث لا تُعَد ولا تُحصى لأولئك الذين دُفنوا أحياءً.
وضع فريدي الكتاب على الطاولة.
خلال ساعات الصباح، ظل يقينه من رؤية ماري يراوده ثم يبارحه. ففي بعض الأحيان يراوده يقين بأنها كانت هناك. فقد تحدثا طوال الليل، عن الحرب، عن الموت، عن الحزن الذي يحملانه بداخلهما. كانت لديها أشباحها، وكان لديه أشباحه. لكن بعد ذلك كان الشك يتسلل إليه. فما من أحد سمع عنها. وما من أحد رآها.
نظر فريدي إلى الكتاب. لقد غيَّر هذا الكتاب الأمور بطريقة ما. فها هو ذا دليلٌ على أن السكان المحليين قد لجئوا إلى الكهوف قبل ستمائة عام. وإذا كانوا قد فعلوا ذلك قبل ستمائة عام، فلماذا لا يكونون قد فعلوه قبل عشر سنوات؟ حسبما قالت.
تجرع فريدي كأس النبيذ الأحمر وطلب الفاتورة. كان ما زال أمامه أربع، أو ربما خمس ساعات، من ضوء النهار. وقد اعتزم استغلالها خير استغلال.
بعد نصف ساعة، خرج فريدي إلى الطريق مرة أخرى، مزودًا بخريطة وبوصلة وحقيبة ظهره. ووجد المسار الذي قال ويليام إنه يؤدي مباشرةً إلى قلب الجبال.
بينما كان يتسلق، حاول أن يتذكر كلمات ماري عن رحلتهم والمعالم التي مرت بها في الطريق. المراعي الصيفية، وأشعة الشمس وهي ترافقهم، والأشجار الممتدة على طول الطريق. والأهم من ذلك كله، جذور الأشجار القديمة التي شكلت درجات طبيعية تؤدي إلى الكهف. رغم أن ماري لم تقل ذلك، فإن فريدي لم يعتقد أن عائلتها قد ذهبت بعيدًا. فقد كانوا حريصين على الابتعاد عن الأنظار بأسرع ما يمكن. هذا إلى جانب أن الهروب صعب مع طفل مريض.
لم يسمح فريدي لنفسه بالتردد حيال ما سيفعله. كان قد قرر خطة، وعزم على الالتزام بها. أدرك في نفسه حيوية لم يشعر بها منذ زمن. شعَر أن لديه هدفًا، أن لديه ما يهمه في الحياة.
لم يكن يعرف لماذا باحت له ماري بسرها، وهو غريب عنها. إذا كانت عائلتها ما زالت راقدة عاليًا، في الكهوف، أليس من المؤكد أن تكون قد أنزلتهم منذ فترة طويلة؟
واصل فريدي الصعود بينما راحت الشمس تعلو في السماء. والظلال تقصر على الأرض.
الفصل الخامس عشر
بعد مرور نحو ساعة، وصل فريدي إلى منطقة مفتوحة مسطحة، مثل فرجة في غابة، تطوقها الأشجار. كانت الصخور مغطاة بالعشب والطحالب. وأخيرًا لاحظ فتحة في الصخور مخفية بين أغصان الأشجار. ثم لاحظ فتحة أخرى.
جلس فريدي على صخرة وشرب الماء من قارورته. انتظر حتى استعاد أنفاسه ثم مضى في جولته الاستكشافية. هنا، على هذا المستوى، كانت هناك خمس أو ست فتحات. وقد بدت كلها طبيعية لعينه غير الخبيرة، لا من صنع الإنسان. ولكنه استطاع أن يرى من مكانه أن بعضها كبير الحجم بما يكفي لدخول شخصين أو ثلاثة في وقت واحد. والبعض الآخر كان صغيرًا وضيقًا. والبعض الآخر كان طويلًا ومسطحًا، لا تتسع إلا لدخول شخص على يدَيه وركبتَيه.
كان فريدي يحدق داخل كل واحدة ثم ينتقل إلى الأخرى. كان بعضها ممتدًّا لمسافة عشر أقدام أو اثنتَي عشرة قدمًا. والبعض الآخر لم يؤدِّ إلى أي مكان؛ إذ لم يكن سوى مجرد تجاويف في الصخر.
كانت الأشكال المحفورة على الصخور، والتي كانت دلالة على مرور الزمن، بديعة. فقد ظلت الرياح والأمطار تنحت الصخور على مدى آلاف السنين. ذكرت فريدي بصور القبور في الأرض المقدسة. كان كل شيء هنا يكتسي باللون الأخضر والرمادي والبني، على عكس صفرة الصحارى، لكن جمالها أسَر لُبَّه.
بسط فريدي الخريطة على حجر مستوٍ وحدد موقعه بإصبعه. كان بحاجة للتسلق لمستوًى أعلى للعثور على الكهوف التي رآها من الطريق. ولم يكن أيٌّ من هذه الكهوف يطابق وصف الكهف الذي تحدثت عنه ماري.
على الخريطة، بدا وكأن هناك مكانًا مستويًا آخر على مسافة أعلى تصل إلى بضع مئات من الأقدام. تفقد فريدي الاتجاهات ببوصلته، ثم واصل التسلق. شعَر بثقل في ساقيه من قلة النوم والجهد الشاق الذي بذله، لكنه لم يستسلم.
رفع فريدي نظره إلى السماء. لا بد أن الساعة قد تجاوزت الثانية بكثير. كان يدرك أنه يجب أن يمنح نفسه وقتًا كافيًا للعودة إلى البلدة قبل حلول الظلام. فقد كان يعلم أن هناك دببة وقططًا برية في الجبال. بل وربما ذئاب.
قطع المسافة سريعًا. وعند هذا المستوى التالي، كان هناك أربعة كهوف. كان كل واحد منها يطل على الوادي أدناه مثل عيون ميتة. كان الوصول إلى الكهوف متاحًا عبر درب ضيق يمتد أمام الصخور على اليسار. وعلى اليمين كان هناك منحدر شديد. كانت الأرض تنحدر بلا قرار.
ابتسم فريدي. كان متأكدًا أنه وجد الكهوف التي رآها من الطريق سابقًا. كان يتقدم خطوة خطوة على الدرب محاولًا عدم النظر إلى أسفل. استند بكتفه إلى الصخور من أجل التوازن، وحاول ألَّا يفكر فيما سيحدث إذا سقط.
لكن على الرغم من أن كل كهف كان كبيرًا بما يكفي ليكون مأوًى، فلم يكن أيٌّ منها مطابقًا لوصف ماري. ثم لاحظ فريدي دربًا ضيقًا يمتد إلى أعلى بين صخرتَين. نظر إلى أسفل. فتفاجأ حين رأى درَجًا طبيعيًّا تكون من جذور الأشجار المتشابكة.
لقد تحدثت ماري عن شيء من هذا القبيل. تنفس فريدي الصُّعَداء. كان هذا دليلًا على أنه على الطريق الصحيح على الأقل. مشى بضع خطوات أخرى، ثم رآها. كان فوق رأسه مباشرة فتحة على شكل نصف قمر. فتسلق حتى اعتلى حافتها.
ها قد بلغ غايته.
الفصل السادس عشر
حدَّق فريدي في ظلمة الكهف.
كان ارتفاع الفتحة في أعلى أجزائها نحو أربع أقدام، وعرضها خمس أو ست أقدام. كانت رائحة الرطوبة، والتراب، والماضي تفوح منها بقوة. قلب فريدي حجرًا بطرف حذائه. فوجد التربة الرطبة مليئة بالديدان والخنافس التي انزعجت حين تعرضت فجأة للضوء.
شيئًا فشيئًا، اعتادت عيناه الظلام. تحول اللون الأسود القاتم إلى الرمادي. شعَر فريدي بشعيراته القصيرة تقف في مؤخرة عنقه. ساوره شعور بالقلق. لم يكن يؤمن بالأشباح. وبعد وفاة جورج، تعلَّم أن الرعب الحقيقي يكمن في أفعال البشر، لا في المخاوف الطفولية من الظلام. ولكن الآن، وهو يقف في مثل هذا المكان الموحش، شعَر فريدي برعشة تسري في جسده.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم تقدم إلى الداخل.
وفي الحال، أحاط به عبق هواء راكد ظل مكتومًا فترة طويلة. كانت الأجواء باردة ورطبة. بحث في حقيبته عن مصباح يدوي. كان شعاعه ضعيفًا، ولكنه أضاء المنطقة أمامه مباشرةً. وألقى ظلالًا راقصة على امتداد جدران الكهف الرمادية الخشنة.
سار فريدي بخطوات متمهلة. شعَر بالأرض تنحدر تحت قدميه، وكانت خشنة وغير مستوية. كانت الأحجار المبعثرة وقطع الصخور الصغيرة تنسحق تحت قدميه. كان يدرك أن ضوء النهار يخفت من خلفه.
ثم، على حين غرة، انتهى الطريق فجأة. فتوقف فريدي على الفور. لم يستطع المضي قدمًا. فقد سد طريقه جدار من الحجر، والصخور، والخشب. سلَّط فريدي مصباحه اليدوي على السقف ليرى ما إن كان هناك انهيار صخري قد حدث، ولكن لم تكن هناك أي علامات على ذلك. في هذه الحالة، لا بد أن يكون بشر هم من وضعوا هذه الأحجار هنا. انتابه شعور بالخوف والاضطراب. قالت ماري إن الجنود لم يجدوهم، ولكنها قالت أيضًا إنه لا أحد منهم عاد إلى الديار. ثم تذكر ما قرأه في الكتاب في المقهى. تذكر كيف أن الجنود، قبل مئات السنين، سدوا مغارتهم داخل الجبل. هل يُحتمل أن يكونوا قد لجئوا إلى الخدعة نفسها في الحرب الأخيرة؟
بشعور من العجلة، شرع فريدي في الحفر. أخذ ينزع الحجارة، مستخدمًا كلتا يديه. انكب على العمل، ولم يتوقف إلا لشرب الماء من زجاجته. ولكن على الرغم من أن أكوام الصخور بجانبه كانت تتزايد، لم يبدُ أن الجدار قد تضاءل. وسرعان ما خُدشت يداه ونزفتا. وأحس بألمٍ في ذراعَيه وركبتَيه من الجثو على الأرض الصلبة. لكنه كان مدفوعًا بحاجةٍ جامحةٍ لمعرفة ما وراء الصخور.
كان فريدي يعرف في عقله الباطن لماذا يبدو هذا الأمر في غاية الأهمية له. فهو يفعل من أجل ماري وعائلتها ما لم يتمكن من فعله لعائلته. كان يجب أن يعيد جورج إلى إنجلترا ويواري جثمانه الثرى ليرقد رقدته الأبدية. ويضع اسمه على شاهد قبره حتى يتذكره الناس. لم يستحق أخوه أقل من ذلك. وكذلك شقيق ماري ووالداها.
أخيرًا، بدأ الجدار ينحسر. سعل فريدي ووضع ذراعه على فمه إذ ملأ الغبار المكان. بدأت قطع الخشب والحجر والصخر تتخلخل. وخلال دقائق، ظهرت فتحة بحجم يده. جعل فريدي ينبش الفجوة حتى اتسعت بما يكفي ليمر من خلالها. ثم سلط ضوء مصباحه على الظلام أمامه. داخل القبر.
الفصل السابع عشر
كان الهواء أبرد على هذا الجانب من الجدار.
مد فريدي يده. فوجد جدران الكهف رطبة عند لمسها. كان أديم الأرض تحت قدميه مختلفًا أيضًا. لم يعد حجرًا وحصًى وغبارًا، بل كان أملس. كان زلقًا. حتى إنه فقد توازنه وزل أكثر من مرة.
تزايد قلقه مع كل خطوة يخطوها في الظلام اللانهائي.
وأخيرًا، وصل النفق إلى نهاية. عندئذٍ نظر فريدي حوله في رهبة. كان يقف عند مدخل كهف ضخم، مثل كاتدرائية مخفية في الجبال. أخذ يوجه ضوء المصباح لأعلى وحوله في ذهول.
قال: «إنها مدينة في الجبل.»
هكذا وصفت ماري مخبأهم. فهِم فريدي ما كانت تقصده وهو واقف هنا. أخذ خطوة إلى الأمام، ثم خطوة أخرى. لم يعد يشعر بالخوف. لم يعد يشعر بالوحدة. بل حداه شعور بالسلام والهدوء والسكينة. كان مكانًا لم يتأثر بالزمن، لم يتغير، كان مكانًا بعيدًا عن هموم العالم.
ثم رأى شيئًا غريبًا في الكهف من زاوية عينه. ليس صخرة أو حجرًا، بل شيئًا من صنع الإنسان. أهي كومة من الملابس أو الأغراض الشخصية؟ التقط فريدي أنفاسه. أهو قبر؟ هذا ما جاء ليكتشفه. لكن ساقَيه كانتا ترتجفان وشعاع ضوء المصباح يهتزُّ في يدَيه.
تقدم فريدي أكثر. لا، لم يكن لديه شك. إنهم بشر مضطجعون جنبًا إلى جنب. بدوا من هذه المسافة كما لو كانوا نائمين. تقدم أكثر وأكثر. فارتجف قلبه. فقد رأى ملابسهم، ونسيجها، وقماشها الثقيل الذي صُنعت منه.
صدر من حلقه صوت مختنق. ليسوا بشرًا، بل هياكل عظمية. عظام.
محاجر فارغة كانت تشغلها عيون ذات يوم. جماجم بدت بلون بين الأبيض والأخضر في ضوء مصباحه الباهت. شعَر بمعدته تتقلص وتضطرب. فازدرد لعابه وبحث في جيبه عن منديل ليغطي به أنفه وفمه.
بينما كان فريدي يجاهد للحفاظ على هدوء أعصابه، حاول أن يفهم ما كان ينظر إليه. إذا كان قد وجد عائلة ماري، فكيف تعفَّنت أجسادهم تمامًا هكذا في زمن قصير جدًّا كهذا؟ حتى لو كانوا قد ماتوا في بداية الحرب، في عام ١٩١٤، لا نهايتها، أفلم يكن سيتبقَّى بعض اللحم على عظامهم؟ من المؤكد أن العظام لم تكن ستُجرَّد من اللحم تمامًا هكذا في مثل هذه الظروف، بعيدًا عن الضوء والرطوبة والهواء الطلق؟
ألقى نظرةً سريعةً على القبر المؤقت. رأى قطعًا من قماش، ووعاءً من الفخار، وبقايا شمعة. إنها الأشياء البسيطة التي كانت العائلة تحتفظ بها وهم في انتظار الموت. كانوا جنبًا إلى جنب، كما لو كانوا قد اضطجعوا معًا وخلدوا إلى النوم.
تقدم فريدي بحذر بين الجثث. هيكلان عظميان كبيران، ثم واحد أصغر بكثير. افترض أنه لشقيق ماري. ثم وجد هيكلًا عظميًّا رابعًا. كانت العظام ملفوفة بعباءة حمراء مهترئة عند الحواف. وظهر من تحتها أطراف فستان أخضر ثقيل.
بدأت ساقا فريدي في الارتجاف. في مساء اليوم السابق، قالت ماري إن والدها ووالدتها وشقيقها لجئوا إلى الكهف. ولم تذكر أنه كان هناك أي شخص آخر معهم.
بعد ذلك لاحظ وجود أوراقٍ متناثرةٍ في كل مكان، مثل أوراق الخريف المتساقطة. أخرج منديله من جيبه. ثم انحنى وسحب الورقة برفق. كانت هشةً عند اللمس، أشبه برَقِّ الكتابة من الورق العادي. رأى المزيد من الأوراق تحته، متناثرة حول العظام مثل أوراق الأشجار حين تتساقط في الخريف.
جمع فريدي الأوراق الفردية؛ حرصًا منه على عدم بعثرة الأشياء أكثر مما يجب. كان الخط واحدًا على كل ورقة. خط مضطرب غير متساوٍ، كُتب بحبر أسود على السطح الأصفر. لم يتعرَّف على اللغة. بعض الكلمات بدت كالفرنسية، وبدت أخرى أشبه بالإسبانية.
أخيرًا، بقيَت ورقة واحدة فقط. كانت بين أصابع الهيكل العظمي البيضاء، كأن كاتبها كان لا يزال يكتب عندما لفظ أنفاسه الأخيرة.
تصفَّح فريدي الورقة بعينَيه. تقافزَت الكلمات إلى عينَيه.
«عندما ينتهي كل شيء، وحدها الكلمات تبقى.»
قفزت عيناه إلى نهاية الورقة. كان هناك تاريخ. ارتجفت معدته. أبريل ١٣٢٨.
عام ١٣٢٨؟ أيعقل هذا؟ إذا كانت هذه عائلة ماري، وكل الدلائل تشير إلى ذلك، فإن هذا التاريخ يعود إلى ستمائة سنة؟ شرد بأفكاره إلى كتاب التاريخ الذي اشتراه في المقهى وقرأه. ذلك الكتاب الذي يتحدث عن حروب القرن الرابع عشر.
هزَّ فريدي رأسه. كيف يمكنه أن يفسِّر، وهو شخصٌ غريب عن المكان، أنه ربما عثر بالصدفة على قبرٍ يعود إلى العصور الوسطى؟ كان من المفترض أن يُعثر عليه منذ زمن طويل.
ثم فكَّر مرة أخرى. لو لم يكن يعرف أين يبحث، كان سيفترض أنه لا يوجد شيء هناك. فقد سد الطريق جدار صلب من الحجر والصخر. وبدا كأنه طريق مسدود.
ألقى فريدي نظرة أخرى على الورقة القديمة. فإذا بأنفاسه تنقطع مما قرأه بعد ذلك. هاله ما قرأ. وبدأت ساقاه ترتجفان، وكذلك يداه.
كيف يمكنه أن يجد تفسيرًا لهذا؟ لم يكن يريد تفسيرًا. وفي تلك اللحظة تبيَّن للمرة الأولى ما يحيط بالهيكل العظمي. إنها عباءة حمراء، وفستان أخضر. ثم نظر فرأى الجراب الجلدي البني، الشبيه بالمحفظة، متصلًا بحزام.
أخذ رأسه يدور. وفجأةً بدا الهواء في الكهف فاسدًا وراكدًا. وشعَر به يتسلل إلى فمه ورئتيه، ويسلبه أنفاسه إلى حد الاختناق. إن الملابس، والمكان، والأدلة، كل شيء كان مطابقًا لما أخبرته به ماري. هل كل ذلك من قبيل الصدفة؟ هل ثمة تفسير آخر ممكن؟ وكيف يمكن تفسير الاسم المتلاشي المكتوب في أسفل الورقة.
ماري من لارنا.
خرَّ فريدي على ركبتَيه وهو ما زال ممسكًا بالورقة. وللمرة الأولى منذ وفاة أخيه أجهش بالبكاء. بكى من أجل جورج، وماري، وكل الراقدين في جوف الأرض الباردة الذين طواهم النسيان.
الفصل الثامن عشر
كان كل شيءٍ من حوله أبيض اللون.
عندما فتح فريدي عينَيه، رأى صديقَيه يتطلعان إليه بقلق واضح على وجهَيهما. وجوه بيضاء، وجدران بيضاء، وملاءات بيضاء على السرير.
نهض من رقدته بصعوبة. «أين؟ أين أنا؟»
«في المستشفى، يا صديقي العزيز.» استخدم براون النبرة الرسمية التي دائمًا ما يستخدمها عندما يكون قلقًا.
للحظةٍ لم يَستطِع فريدي أن يفهم أي شيء. خفض بصره فرأى يدَيه مضمَّدتَين. كان رأسه أيضًا معصوبًا. شعَر بضيق الضِّمادة. وأحس بألمٍ في حَلْقه، كما لو أنه كان يصرخ.
سأله تيرنر: «كيف حالك؟ كنت في حالة سيئة جدًّا عندما أحضروك. كنت تعاني من الحمى، وتهذي بكلام عن الأشباح.»
أضاف براون: «لقد وجدوا عنوان فندقنا في كيون في جيبك. وهكذا عرفوا كيف يصلون إلينا.»
«ليس من عادتك ألَّا تأتيَ دون أن تبلغنا. عندما لم يصلنا خبر منك، اتصلنا بفندقك. وكان ذلك من حسن الحظ حقًّا. فقد تذكَّر المالك أنك كنت تنوي اتخاذ الطريق الجبلي للقائنا.»
وشيئًا فشيئًا، بدأت تعاوده ذكريات ما حدث. «السيد جالي؟ لكنه ليس لديه هاتف.»
تبادل صديقاه النظرات. وقال تيرنر: «لقد تحدثنا مع صاحب الفندق في فوا.»
لم يفهم فريدي مقصدهما. قال: «لا، هذا غير صحيح.» كان صوته واهنًا.
قال براون: «أنت مشوش يا صديقي العزيز. لقد وصلت إلى فوا يوم الأحد. أمس. ثم في صباح اليوم، الإثنين، غادرت متجهًا بسيارتك للقائنا في كيون. لكنك لم تصل. ألا تتذكر؟»
استلقى فريدي على الوسائد البيضاء. بدا كلامهما غير منطقي. لقد أقام في لارنا الليلة الماضية وليس في فوا. وأمضى الليلة في الحديث مع ماري.
قال ببطء: «أتذكر الحادث. كانت هناك عاصفة. وانحرفت السيارة عن الطريق.»
قال براون: «بالضبط.» وقد بدا في صوته نبرة ارتياح من قلقه. ثم أردف يقول: «تعرَّضت لحادث. كان الطقس فظيعًا. ويبدو أنك تركت سيارتك للبحث عن المساعدة وضللت طريقك بطريقة ما. وعُثر عليك في الجبال أعلى الطريق.»
قطب فريدي جبينه. فآلمت هذه الحركة رأسه. فقد كانت الضِّمادة تشدُّ جلده.
قال: «لا، هذا غير صحيح. لقد ذهبت إلى لارنا. ذهبت للبحث عن مساعدة. والسيدة جالي رتبت كل شيء. والسيارة الآن في الورشة حيث يعملون على إصلاحها.»
كانت نظرة القلق على وجه براون جلية هذه المرة. «لقد وجدوا السيارة على جانب الطريق، يا صديقي العزيز. وكان الجزء الأمامي محطمًا تمامًا. ولا تزال هناك، على حدِّ علمي.»
هنا أكمل تيرنر القصة. وقال: «كنت محظوظًا. كان من الممكن أن تتعرَّض لأذًى بليغ. فهناك أناس يختفون لأيام. لكن تصادف أن عثر رجلٌ من أهل البلدة على سيارتك حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر. لم يكن لك أي أثر. وبينما كان يحاول أن يقرِّر ما عليه أن يفعل، رأى شخصًا أعلى الطريق. لم يستطع أن يرى ما إذا كان رجلًا أو امرأة. لم يرَ سوى أنه كان يرتدي معطفًا أحمر ثقيلًا وكان يصيح طالبًا النجدة. فصعِد وعثر عليك داخل أحد الكهوف. كنت فاقدًا الوعي. فقد تلقَّيت ضربةً قويةً على رأسك. وكنت تهذي بكلامٍ عن فتاة. ماري.»
اجتاحت عقل فريدي موجة من الذكريات.
تمتم قائلًا: «عودوا بنا إلى ديارنا.» ثم أغلق عينيه.
قال براون: «لكنها كانت صدفة مروعة نوعًا ما. من بين كل الأماكن، قادتك قدماك إلى مكان أشبه بالقبر. كان هناك أربع جثث. ظلت هناك زمنًا طويلًا. مئات السنين، حسبما يُقال.»
تذكر فريدي غداءه في الساحة. تذكر تجوله في الغابة. تذكر الصخور المكدسة عاليًا في النفق الضيق. تذكر رؤيته للهياكل العظمية الأربعة والاسم المكتوب على الرَّق.
فإذا به يفتح عينَيه على اتساعهما. ويقول متلهفًا: «الأوراق؟ هل هي في أمان؟ لقد وعدتها.»
تمتم براون: «هدِّئ من روعك يا صديقي العزيز.»
هُرعت ممرضة نحو السرير. وقالت بنبرة حادة: «إذا أزعجتما المريض، فسأدعوكما للمغادرة.»
رفع تيرنر يده. وقال: «بالطبع، بالطبع.»
همس فريدي، غير مبالٍ إن وبخته: «هل وجدتما الأوراق؟». كان لا بد أن يعرف.
ألقى براون نظرة وراءه. «إنها في أمان. كنت متشبثًا بها بكل قوتك. وكنت تردد اسم فتاة مرارًا وتكرارًا. وظللت تردِّد تاريخًا ما، على حد قول الرجل.»
تنهد فريدي. ١٣٢٨. لقد تذكره.
واصل براون كلامه قائلًا: «يبدو أنه اكتشاف مهم في واقع الأمر. سيجرون اختبارات بالطبع، لكن يبدو أن الهياكل العظمية قديمة جدًّا. يبدو أن قرًى بأكملها اختبأَت في الكهوف خلال حروب العصور الوسطى في هذه المنطقة. لكن جثثًا كثيرة لم يُعثر عليها قط. قد يتضح أن تلك الأوراق اكتشاف مهم جدًّا. لقد دوَّن كاتبها أسماء جميع من فرُّوا إلى الجبل. وجميع من بقُوا للدفاع عن البلدة.»
همس فريدي: «آل جالي، وميشيل أوتي وابناه، والشقيقتان مارتي.» بدأ يفهم الأمر. لم يكن أيٌّ منهم موجودًا، لكنهم كانوا موجودين ذات يوم. كانوا جميعًا أحياءً يُرزقون لكن ماتوا منذ نحو ستمائة سنة.
قال تيرنر مبتهجًا: «وها نحن ذا. نُقلت أنت إلى المستشفى. ووجدوا أسماءنا وعنواننا في جيبك واتصلوا بنا. فجئنا إليك بأسرع ما يمكن.»
زفر فريدي زفرةً عميقة. «وما زلنا يوم الإثنين، كما تقولان.»
«قرب منتصف الليل.»
قال براون: «يجب أن نتركك حتى تنام.» فطن فريدي إلى القلق الكامن وراء كلماته وتأثَّر به. «لا تقلق بشأن أي شيء. سنتصرَّف مع الورشة. سنتكفَّل بالأمور. لا تهتم إلا باستعادة صحتك والوقوف على قدمَيك. فإصابات الرأس ليس مما يستهان به.»
اقتربت منهم الممرضة بزيها النظيف وقبعتها البيضاء المنشَّاة. وقالت: «هذا يكفي أيها السادة.»
وقف الاثنان. وربت براون على كتفه. وذهب تيرنر لمصافحته، لكنه عدل عن ذلك.
وقال: «سنمر عليك غدًا. لنرى كيف صرت.»
انحنى براون. وقال: «وهذه الفتاة، ماري. تلك الفتاة التي ظَلِلتَ تتحدث عنها.» بدا محرجًا حين قال ذلك. «إذا كنت تريد مني التواصل معها، أو بحاجةٍ إلى مال، أو أي شيء.» وأومأ له أنه سيكون سرًّا بينهما. «فقط أخبرني.»
ابتسم فريدي. أدرك أن براون كان يعتقد أنه تورَّط في علاقةٍ عاطفيةٍ معقَّدة. وكان يحاول مساعدته بطريقته الخرقاء.
هزَّ رأسه. وقال بهدوء: «لا تشغل بالك. لقد رحلَت.»
تنفَّس الصُّعَداء وقال: «مرحى. هذا أفضل. قرار حكيم جدًّا، حكيم جدًّا.»
انغلق الباب خلفهما. وعادت الممرضة بعد بضع دقائق لتغطيته ليخلد إلى النوم. ثم غادرَت هي أيضًا.
أخيرًا، صار فريدي بمفرده.
تعالَت من حوله أصوات المستشفى. صرير العجلات في مكانٍ ما في ممرٍّ بعيد. الأحذية المطاطية لممرضات النوبة الليلية وهن يسعين ذَهابًا وإيابًا.
كان يعلم أنه لن يتحدَّث عن هذا اليوم أبدًا. فلن يصدقَه أحد. لم يكن فريدي يعرف كيف حدث ذلك. ولا لماذا حدث. كل ما كان يعرفه أنه سافر للحظة بطريقة ما عبر جدار الزمن. وفي تلك اللحظة، ما بين الواقع والخيال، جاءته ماري. طلبت منه المساعدة وساعدها.
هل كانت شبحًا؟
ربما. خطر له ذلك الشعور الذي راوده بأن ثمة عيونًا خفية تراقبه وهو يجوب الغابة. أغلق عينَيه. لقد طلبت منه ماري أن يعيد رفاتهم إلى أرضهم. لقد قادته إلى الكهف.
وقد أوفى بوعده.