بعد ستة أشهر

أكتوبر ١٩٢٨

حديقة ريفية إنجليزية في شهر أكتوبر. وصيف أوشك على نهايته حيث الشمس الدافئة والأيام الطويلة.

اكتسى العالم بألوان الخريف. الذهبي والنحاسي، والخضرة الداكنة لأشجار التنُّوب. وأوراق شجر بلون النبيذ متناثرة على الحشائش. وقف فريدي بيدَيه متشابكتَين أمامه ورأسه منحنٍ. وقف والداه بجانبه. وعلى مقربة منهم وقف كاهن الأبرشية المحلية، وصديق قديم للعائلة.

كان فريدي قد سافر بالسيارة إلى المنزل الذي شهد طفولته مساء اليوم السابق. كان من المقرَّر أن يعود إلى البلدة لاحقًا للقاء محرِّر من دار نشر مرموقة. فبعد عودته من فرنسا، بدأ فريدي في الكتابة للصحف. كان يكتب مقالاتٍ قصيرةً عن التاريخ الفرنسي، ومقالات عن السفر والرحلات. ومن وقت لآخر، كان يكتب شيئًا أكثر تأثيرًا عن الحرب أو الحزن أو الموت. وقد راسله هذا المحرر الأسبوع الماضي واقترح على فريدي تجميعها في كتاب.

بناءً على ذلك، قدم فريدي استقالته. فلم يعُد يرتضي قضاء حياته في وظيفة لا تستهويه. فمنذ تجربته في فرنسا، صار رجلًا جديدًا. أراد أن يفعل أشياء ذات قيمة، أن يستفيد من وقته ويجعل له معنًى.

التفت فريدي إلى والدَيه وابتسم. المهنة الجديدة، والكتابة، والقطيعة مع الماضي، كلها أمور تنتمي إلى الغد. أما اليوم فهو يوم جورج. كان ذلك في العشرين من أكتوبر، يوم عيد ميلاد جورج. أخيرًا أقنع والدَيه بتقبُّل فكرة أنهم لن يعثروا على جورج أبدًا. لكن هذا لا يعني أنهم لا يستطيعون إحياء ذكراه.

كانوا واقفين أمام شاهد قبر بسيط منحوت من الرخام الرمادي. أشرقت الشمس ساطعة، وقد تألَّق شعاعها على وجه الشاهد، مرسلة أشكال قوس قزح على العشب الكثيف. اختاروا المكان الذي كان جورج يلعب فيه وهو صبي. تحت الأشجار حيث كانت طيور أبي الحناء والشُّحرور تصنع أعشاشها.

كان النقش المحفور على الشاهد بسيطًا. كُتب عليه اسم جورج، وتاريخ ميلاده وشهر وسنة ولادته. فهم لم يعرفوا قط متى لقي حتفه تحديدًا. وتحت ذلك، نُقشت رسالة بسيطة بحروفٍ كبيرةٍ واضحة.

«ارقد في سلام.»

بإيماءةٍ من فريدي، تقدَّم الكاهن وقال بضع كلمات. ألقى عليهم قصصًا عن جورج حين كان صغيرًا. وعن شجاعته حين ذهب إلى الحرب. ومأساة وفاته. هنا أجهشت أمه الواقفة بجواره بالبكاء. فمدَّ فريدي يده وأخذ يدها.

أشار الكاهن بعلامة الصليب وتلا الكلمات الأخيرة من صلاته.

«آمين.»

ثم تراجع الكاهن. ونظر فريدي إلى والده، الذي أومأ له بهزةٍ خفيفةٍ من رأسه. رفعت أمه ناظرَيها إليه وهزَّت رأسها. فضغط على يدها، ثم تركها.

وبينما كان يتقدَّم إلى الأمام نحو الشاهد، أخذ يفكر في شاهد قبر ماري وعائلتها في مقبرتهم الصغيرة في فرنسا. هم أيضًا لن تُنسى أسماؤهم الآن. فالتاريخ كلمات منحوتة على الحجر حتى لا ننسى. الكلمات تدوم عندما تتلاشى الذكريات ويغشاها النسيان.

قال فريدي: «مرحبًا بك في وطنك يا جورج.»

وعلى فروع الشجرة فوق رأسه، بدأ طائر الحناء يشدو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥