مقدمة: ثورة الصين غير المكتملة
جاءت ثورة الصين البروليتاريَّة الثقافية العظمى إلى الحياة في مايو عام ١٩٦٦، واستمرت حتى وفاة ماو تسي تونج عام ١٩٧٦. وقد كانت بروليتاريَّة في طموحها أكثر من واقعها، بالنظر إلى أن أربعة أخماس الصينيين كانوا من الفلاحين. كانت الثورة ثقافية من منظور أن أكثر أهدافها ثباتًا كان الفنون والمعتقدات العامة. ولم تكن هذه الثورة عظيمة في نفسها؛ فقد أحدثت الكثير من الصخب، ولكنها أعادت تنظيم الدولة فقط ولم تقوِّض بنيانها، ومثل معظم الثورات استمرت لأكثر مما هو مرغوب. ويستهوي المرء أن ينظر إلى هذا العقد الصاخب باعتباره الدَّفعة الأخيرة، وربما النهائية، في مسار الثورة الصينية التي استمرت طوال قرن من الزمان، لتتجه الصين بعدها للمهمة الخطيرة التي تمثَّلت في بناء أمة حديثة.
لا يولِي قادة الصين الحاليون — الذين غالبًا ما يكونون هم أنفسهم من أفراد الحرس الأحمر السابقين — اهتمامًا كبيرًا بدراسة الصلة بين «الصين الماوية» والدولة في الوقت الحالي؛ فهم يتجنَّبون المناقشات المخزية حول فترة شبابهم، ويتمسَّكون بإدراك غير مصرَّح به مفادُهُ نبذ الاتهامات المضادة القائمة ضدهم من تلك الفترة. ويجد الإعلام الغربي إغراءً في تعميق التفاوت بين الصين ذات الوجه الطيب (التي تملأ محالنا بالمنتجات والسلع وتحمل عنا ديوننا) والصين ذات الوجه السيئ (التي وضعت — فيما مضى — حدًّا للنفوذ الغربي في العالم). ولكن الروايات التي تدَّعي ببساطة أن ماو تسي تونج طاغية مجنون، وأن تاريخ الصين الحديث «الحقيقي» يبدأ فقط مع موته، إنما تغفل أبعادًا مهمة للتغيير الاجتماعي السريع والنافذ الذي حدث منذ نهاية الثورة الثقافية.
في المقابل، يستنبط هذا الكتاب أوجه الصلة بين الصين كدولة معزولة ومحاصَرة في ستينيات القرن العشرين، والصين اليوم كقوة عالمية سطع نجمها حديثًا. إن هذين الوجهين لا يقفان على طرفي نقيض، لدرجة أننا أحيانًا ما نرغب في أن يكونا كذلك. لقد أراد ماو — شأنه شأن غيره من القادة الصينيين في القرن العشرين — صينًا قوية وحديثة، وساهمت بعض سياسات الثورة الثقافية في بلوغ هذا الهدف، والبعض الآخر لم يكن مفيدًا إلى حد كبير في هذا الصدد، ولكنها مع ذلك أضافت للاتجاه المميز الذي اتبعته الصين المعاصرة.
وبدلًا من مهاجمة الثورة الثقافية باعتبارها مستنقعًا تاريخيًّا، يمكننا التركيز على صلاتها بعالمنا المعاصر، واضعين بذلك تلك الحركة الصينية القومية في سياق عالمي. لقد كانت الثورة الثقافية جزءًا من الحركة العالمية للشباب الراديكاليين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وكان المعارضون الغربيون يفتخرون بوجود صلات خيالية أو عاطفية بثوار الصين. وخلال الثورة الثقافية، عملت بكين وواشنطن على تصفية العداء الطويل بزيارة نيكسون في عام ١٩٧١، مما أدى إلى إعادة تشكيل سياسات آسيا الدولية، وغرس بذور عقود من النمو الاقتصادي المذهل في الصين. لقد قامت الثورة الثقافية وما تلاها من حركة تطهير ضد اليسار بسحق البيروقراطية في الصين بشكل حادٍّ للغاية، لدرجة أنه لم يكن هناك قدر كبير من التفنيد القوي للسياسات التي حولت الدولة إلى ملجأ ضخم للصناعة العالمية.
(١) حركة التحديث والقومية في الثورات الثقافية
يبدأ التراث الثوري المحطِّم لكل الأيقونات للصين الحديثة على أقل تقدير بثورة تايبنج الفاشلة التي اندلعت في منتصف القرن التاسع عشر، والتي تُعد أكثر المحاولات دموية للإطاحة بأسرة تشينج الضعيفة الفاسدة، والتي سقطت في النهاية في عام ١٩١١. وقد أعطى حزب الكومنتانج (الحزب الوطني) الذي تزعَّمه صان يات سين ثم شيانج كاي شيك الثورةَ وجهًا أكثر تحضرًا وعصرية في محاولة ممتدة لتوحيد وتحديث الصين. وقد انضم إليهم الشيوعيون، كحلفاء في البداية، ثم كخصوم في حرب أهلية، لتحديد مدى الضراوة التي ستكون عليها الثورة. وعندما تراجع الكومنتانج إلى تايوان في عام ١٩٤٩، كانت الثورة الاشتراكية على البر الرئيسي في مأمن.
لكن الثورة على الصعيد الثقافي كانت لا تزال في مهدها، وكانت كل موجة من الموجات الثورية التي اجتاحت الصين في القرن التاسع عشر معنية بالتغيير الثقافي بشغف. سيقول الكثيرون إن إلغاء أسرة تشينج لنظام الاختبارات القديم للخدمة المدنية في عام ١٩٠٥، والذي قضى بدوره على همزة وصل ظلت قائمة لقرون بين التعليم، والحراك الاجتماعي، والرقابة الاجتماعية، والهيمنة الأيديولوجية، كان نذيرًا بسقوطها.
وخلال العقد التالي الذي ساده الارتباك والتخبط عقب تأسيس الجمهورية الصينية في عام ١٩١١، قاد المثقفون المجدِّدون حركة الرابع من مايو في عام ١٩١٩. اندلعت المظاهرات في ذلك التاريخ احتجاجًا على حصول اليابان على امتيازات الأراضي التي كانت ألمانيا تحظى بها فيما سبق في الصين في نهاية الحرب العالمية الأولى، لكن ناشطي حركة الرابع من مايو كانوا يحملون أجندة تجديدية أوسع بكثير. فقد كانت حركة الرابع من مايو، التي سيطرت على الحياة الثقافية للصين لعقود، تعتبر أن العقبة الرئيسية أمام التقدم الاجتماعي والحداثة تتمثل في كونها ثقافة كونفوشية بنظامها البابوي، ونظام تملُّك الأراضي، ومناهضة التعلم بالطرق الأجنبية. وقد كان مجددو حركة الرابع من مايو يؤمنون بالحرية التي يبشِّر بها العلم، وبقدرة الديمقراطية على التغيير. كذلك ادعوا أن للمثقفين مهمة خاصة في قيادة الصين، وهو موقع مميز لا يختلف كثيرًا عن الكونفوشية التي كانوا يعارضونها.
كانت سياسات الصين الثورية أيضًا قومية بقدر ما كانت مجددة، وكان مما يميزها الإضرابات، والمظاهرات، وحملات مقاطعة الشركات الأجنبية، وقد سحقتها شناعة الغزو الياباني في النهاية. وعلى الرغم من اتهام النقاد لحركة الرابع من مايو بالسعي نحو تغريب الصين واقتلاعها من جذورها، فإن السخط من الإمبريالية حال دون حدوث ذلك. وقد قام حزب الكومنتانج تحت زعامة شيانج كاي شيك بتأسيس «حركة حياة جديدة» لمحاربة الخرافات، وإغلاق المعابد، وتحطيم تماثيل آلهة الإقطاع، والحث على فلسفة أخلاقية جديدة للصين، ولكنها تراجعت بعد ذلك عن هذه الراديكالية المتطرفة.
شدَّد الحزب الشيوعي الجديد، الذي تأثر بشكل عميق بحركة الرابع من مايو، في مرحلة مبكرة على التغيير الثقافي. ولكن بعد صعود ماو تسي تونج كزعيم للحزب في عام ١٩٣٥، صار للثقافة دور استراتيجي جديد ومحوري. كان ماو، الذي يعد أحد مؤسسي الحزب الشيوعي في عام ١٩٢١، قد أصبح زعيمًا للحزب من خلال قيادة الثوار الشيوعيين من قواعدهم في جنوب الصين، والتي حاصرتها قوات الكومنتانج، إلى مدينة يونان الواقعة في أقصى الشمال الشرقي وذلك بين عامي ١٩٣٤-١٩٣٥. كان لهذا الانسحاب الذي استمر لمدة عام، والمعروف باسم المسيرة الطويلة، دوره في الحفاظ على نواة للقوات الشيوعية، ولكنه أجبر الحزب على إعادة النظر في علاقته بمضيفيهم من الفلاحين المحليين.
مع اشتداد الحرب مع اليابان، أدرك ماو أن الحزب بحاجة إلى كسب تأييد وثقة فلاحي الصين، فأطلق الحزب برنامجًا لإعادة تدريب المثقفين الحضريين والعمال السابقين لتحقيق ذلك. وقد شملت هذه الحركة التصحيحية التي انطلقت عام ١٩٤٢ الرفض الواعي لطرق وأساليب النخبة، وفي بعض الأحيان احتفالًا ضخمًا بالفضائل الريفية، إلى جانب سلسلة من الأعمال الفنية الرامية لنشر القيم الثورية من خلال التودد للجماهير الريفية ومخاطبتهم. أدت حركة التصحيح الماوية إلى شحذ قدرة الحزب على محاربة كلٍّ من الغزاة اليابانيين والكومنتانج. وفي الوقت نفسه، أُحبطت النزعات الكوزموبوليتانية لحركة الرابع من مايو بتفضيل الفن الريفي على الموسيقى والدراما المستوردَيْن من الخارج. وفي عام ١٩٤٥ استوحى الشيوعيون عرضًا أوبراليًّا صينيًّا (بعنوان «الفتاة ذات الشعر الأبيض») ورقصة باليه من رقصة ريفية مشهورة («يانج جي»)، وشجعوا مثقفي الحزب على الكتابة بطرق سهلة وغير أدبية.
كانت الفنون موجَّهة لخدمة السياسة، غير أن ماو ذهب أيضًا إلى أنَّ رفع المعايير الفنية من شأنه أن يصنع دعاية أكثر إقناعًا. وقد سار معظم المثقفين في يونان مع هذا النهج القومي المتمسك بالهوية بسعادة غامرة. واستطاعوا أن يروا مدى فاعليته حين أرادت جماهير الفلاحين الذين كانوا يشاهدون أوبرا «الفتاة ذات الشعر الأبيض» قتل الممثل الذي كان يقوم بدور الإقطاعي الشرير. ولكن بعد هزيمة اليابانيين، وبعد هروب الكومنتانج، نبذ العديد من الطرق اليونانية مع تقدم الجيش الأحمر المنتصر نحو مدن الصين، وتولى الحزب الشيوعي زمام حكم أمة ذات ثقافة رفيعة، وليس قاعدة لحرب عصابات في منطقة نائية. واتسعت الأجندة الثقافية للحزب، ليعيد إدخال بعض من الميول الكوزموبوليتانية التي نُبذت في يونان، حتى إن رسامًا شيوعيًّا صاح في سرور وإثارة قبل أيام من تحرير بكين قائلًا: أخيرًا سوف نستطيع رسم لوحات بالزيت!
(٢) السبعة عشر عامًا الأولى
كان العقد الأول من عمر الصين الثورية ناجحًا إلى حد كبير؛ فقد استعادت الجمهورية الشعبية الجديدة النظام الاجتماعي بعد حرب أهلية مدمرة، وساهم الإصلاح الزراعي والبرامج الاقتصادية الجديدة في تحقيق نمو اقتصادي مذهل، وشجع النجاح العسكري في مواجهة الولايات المتحدة على خلق نظرة احترام جديدة لبكين، وأسعد انتشار التعليم العالي المثقفين المتلهفين لبناء صين أفضل، وانفتح الفن على كلٍّ من الإلهام الأجنبي والمحلي التقليدي.
جاءت أولى الدلالات المهمة لحالة التخبط بين قادة الحزب الشيوعي مع حملة المائة زهرة التي انطلقت بين عامي ١٩٥٦-١٩٥٧. فمع الثقة المفرطة التي انتابت ماو تسي تونج في أعقاب «تحول اشتراكي» سلس للحياة الاقتصادية في عام ١٩٥٦، تواصل مع المثقفين خارج الحزب، مشجعًا إياهم على التحدث دون خوف عن الشئون العامة، بل وانتقاد الحزب الشيوعي. تردَّد العديد من المثقفين في البداية، وفي النهاية استجابوا لنداء «دَعْ ألف زهرة تزهر»، ليكشفوا عن كمٍّ من الاستياء والمرارة تجاوز توقعات الحزب. وفي تغيير سريع ومفاجئ للمسار، تخلَّى القادة عن ليبرالية المائة زهرة واتجهوا إلى حملة شرسة مضادة لليمينيين في عام ١٩٥٧ صُنِّف على أثرها مليون مثقف ﮐ «عناصر يمينية»، وفقد كثيرون وظائفهم، وأُرسل بعضهم إلى معسكرات الإصلاح الزراعي على مدى العقدين التاليين.
شجَّع إخماد أصوات الناقدين على ظهور «القفزة الكبرى إلى الأمام»، وهي محاولة ضخمة لكسر القيود على النمو الاقتصادي عن طريق تعبئة أعظم موارد الصين: قوتها العاملة. كانت القفزة الكبرى حالمة، ومثيرة، ومغلوطة؛ فقد دُمجت الجمعيات التعاونية الزراعية المنشأة حديثًا في كوميونات أكبر بهدف اكتساب قوة إنتاجية من خلال إعادة التنظيم والهيكلة، بما في ذلك التشارك في رعاية الأطفال والطهي. وبينما أحدثت القفزة الكبرى تغييرات مهمة في البنية التحتية في صورة مصانع زراعية، وطرق، وجسور جديدة، إلا أن غياب المردود الإداري أدى إلى زيادة أهداف الإنتاج غير الواقعية. فبسبب خوفهم من تصنيفهم ﮐ «يمينيين»، كان صغار المسئولين يتسرعون في طمأنة رؤسائهم على النجاح في كل مجال. وكان الحزب يؤكد على الإسهامات التي يمكن أن يقدمها الهواة الملهَمون سياسيًّا، مما شوَّه القيود التي عادة ما كان الخبراء المحترفون يفرضونها. كان هناك مشروعات ضخمة للأشغال العامة، بعضها كان ناجحًا، والبعض الآخر كان عبارة عن حملات هوجاء في الأساس، مثل مصاهر «الأفنية الخلفية» للصلب رديئة التخطيط، أو حملة تدمير العصافير.
أسفرت القفزة الكبرى عن مجاعة هائلة بسبب انهيار الإنتاج الزراعي في العديد من الأقاليم. وبسبب العمل بأرقام متفائلة للإنتاج بلا أي سند لهذا التفاؤل، قامت الدولة بزيادة مخزونها من الحبوب، فيما قلَّلت من الموارد المتاحة للإنتاج الزراعي. وقد أسفرت الأمراض وسوء التغذية عن ما يقرب من ٢٠ إلى ٣٠ مليون حالة وفاة فيما بين ١٩٦٠-١٩٦١، ومن ثم اعتُبرت تلك هي المجاعة الكبرى في القرن العشرين.
كان الحزب بطيئًا في إدراك هذه الكارثة، وعندما أدرك ماو أن القفزة الكبرى لا تسير على نحو جيد، تنحَّى في ربيع ١٩٥٩ عن رئاسة البلاد لصالح ليو شاوشي، أحد القادة المحنكين للتنظيم السري الشيوعي إبان الثورة. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عاب العديد من كبار قادة الحزب على القفزة الكبرى سوء إدارتها، وطموحها المبالغ، وعدم تواصلها مع الناس. وكان قائد النقد المارشال بنج ديهواي وزير الدفاع وأحد الثوريين المخضرمين. وكان رد فعل ماو عنيفًا وقاسيًا. وكان في تطهير المارشال بنج تذكرة للجميع بمدى قوة القدسية التي صنعها الحزب حول ماو تسي تونج، ومدى صعوبة التضييق عليه.
تفاقمت حالة الطوارئ الاقتصادية بانهيار علاقات الصين مع الاتحاد السوفييتي؛ فبعد أن كانت يومًا ما «الأخ الأكبر في الاشتراكية»، صار القادة السوفييت يتشككون في تأكيدات الصين بالتزامها مسارًا تنمويًّا مستقلًّا. وتلاشى التعاون العسكري السابق في كوريا حين سعت الصين لطلب المساعدة لصنع قنبلة ذرية. وبالفعل أعدت قنبلة سوفييتية لشحنها إلى الصين، ولكنهم تراجعوا عن إرسالها لتخوف القادة السوفييت من صنع عدو محتمل. ومع تأزُّم الصراع، قام السوفييت في عام ١٩٦٠ باستعادة ستمائة مستشار فني ليرحلوا ومعهم مخططات لمئات المشروعات الصناعية التي لم تكتمل بعد، تاركين الرفاق الصينيين في موقف عصيب.
ربما تكون التوترات مع الاتحاد السوفييتي قد قوَّت قبضة ماو في فترة شديدة الحساسية عن طريق إذكاء نيران القومية الصينية. وبينما احتفظ ماو بزعامة الحزب، خاضت الصين تجارب مستميتة لإصلاح الدمار الاقتصادي الذي خلَّفته القفزة الكبرى؛ فخفف القادة المحليون من تعصُّب قفزتهم الكبرى ضد الأسواق الريفية المدرَّة للربح من أجل تحفيز الإنتاج الغذائي. وتم التخفيف من الإشراف على الأنشطة الثقافية؛ إذ قام الحزب بتشجيع ورعاية المثقفين والخبراء الذين كانوا قد عاقبوهم مؤخرًا.
(٣) إشعال لهيب الثورة من جديد
كان الموقف السياسي متوترًا عندما كان الحزب يسعى لقيادة الأمة لتجاوز «السنوات الثلاث العجاف» ١٩٥٩، و١٩٦٠، و١٩٦١. احتفظ ماو تسي تونج بمنصبه كزعيم للحزب، وإن كانت الإدارة اليومية في يد الرئيس ليو شاوشي والأمين العام للحزب دنج شياو بينج. كان ليو ودنج يؤيدان تخفيف قبضة الحزب، والإصلاحات السوقية الخفيفة، ووضع نظام ثقافي أكثر لينًا، كل ذلك في إطار لينيني مألوف. لم يتقبَّل ماو وأتباعه مثل هذا التحرر بسهولة، وراحوا في المقابل يدعمون مزيدًا من العمل السياسي للحيلولة دون تخلي الصين عن ثورتها.
من المبادئ الأساسية للسياسة الصينية أن تحافظ النخبة السياسية على مظهر من الوحدة والاتفاق، حتى في حالات الخلاف الشديد، ومن ثم كانت التوترات بشأن القرارات السياسية خفية. والحق أن مجموعة الخيارات السياسية التي كانت قيد التجربة لم يكن يُنظر إليها باعتبارها «خطَّيْن» سياسيَّيْن متعارضَيْن بمعنى الكلمة، إلا بأثر رجعي بعدما بدأت الثورة الثقافية. فعندما بدأت الثورة الثقافية في عام ١٩٦٦، انتقد الراديكاليون «السنوات السبع عشرة» منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام ١٩٤٩، وكان هدفهم تقديم مبررات وجيهة لانحراف حادٍّ عن فترة وصفوها خطأً بأنها فترة وحدة واتفاق.
كان الفساد الريفي أحد مجالات النضال؛ فقد انطلقت «حملة للتعليم الاشتراكي» في عام ١٩٦٢، سعت لتعزيز إخماد روح الثورة داخل الحزب بالتأكيد على النقاء الأيديولوجي وإعادة الصراعات الطبقية التي أتت بالشيوعيين إلى سدة الحكم للأذهان. وقد أثار الخلاف حول الأساليب الماوية للتعامل مع القيادة المحلية في الريف مقاومة من ليو شاوشي، ودنج شياو بينج، وغيرهما من قادة الصف الأول.
وليأسه من قدرة الحملات الإدارية على زعزعة البيروقراطية، وجَّه ماو زملاءه في عام ١٩٦٢ إلى ضرورة «ألا ينسوا الصراع الطبقي». وكان هذا يعني الحديث عنه «في كل عام، وكل شهر، وكل يوم، في المؤتمرات، واجتماعات الحزب، والجلسات مكتملة الأعضاء، وفي كل وأي اجتماع.» كان ماو يأمل في تجديد شباب الثورة الصينية بمطالبة الشعب بالإخلاص لجذوره التاريخية بالإطاحة بالرأسماليين وملاك الأراضي، وحماية المكانة الجديدة التي اكتسبها العمال والفلاحين.
ضغط ماو من أجل ثورة داخل الثورة؛ فقد كان في رأي الزعيم أن الطبقات الحاكمة القديمة قد أطيح بها بعد فترة قصيرة من تأسيس الجمهورية الشعبية في عام ١٩٤٩، إلا أن تأثيرها لا يزال حيًّا في المعتقدات والسلوكيات اليومية للشعب. لقد دمرت الثورة القواعد المادية للنفوذ الإقطاعي والرأسمالي، ولكن أيديولوجياتها كانت راسخة داخل مؤسسات الصين الجديدة، خاصة التعليم، والفنون، والثقافة الشعبية. وقد ميَّز ماو بين نوعين من التأثير المعادي للثورة. وكان الإقطاع، والذي هو نتاج طبقة ملاك الأراضي القديمة، في الغالب في صراع مع الأيديولوجية البرجوازية التي تبنَّاها الرأسماليون الصينيون الذين تأثروا بشدة بعلاقاتهم الأجنبية. ولكن بفعل الهزيمة، اتحدت القوتان الاجتماعيتان المهزومتان معًا لإرباك وتضليل الشيوعيين، مما أعاق طموحاتهم المشروعة وأثناهم عن أهدافهم.
وهكذا لم يكن لزامًا أن يكون الشخص حاملًا فعليًّا لملكية ما لكي يحمل معتقدات رأسمالية أو إقطاعية. والحق أن مصطلح «أتباع الطريق الرأسمالي» قد أصبح من أكثر المصطلحات المسيئة شيوعًا، وكان يسري على الشيوعيين المخضرمين الذين انحرفوا عن المسار الماوي. كان أسلوب ماو غير مادي بشكل مثير للدهشة بالنسبة لشخص عاش عمره ماركسيًّا، ولكنه كان يجسد جهوده في التعامل مع الآليات الجديدة للصين الاشتراكية، وقدَّم أساسًا فكريًّا لحركة تطهير ضخمة لأعدائه في الحزب.
بعد الثورة، تأرجح الحزب بين فترات النزعة اليسارية، عندما كانت الفضائل الأخلاقية للعمال والفلاحين والجنود هي العليا، وبين المراحل المحافظة عندما كان مفهوم «حشود الشعب الكادح» مفهومًا أكثر شمولية؛ إذ امتد ليضم المثقفين، وموظفي المكاتب، وأصحاب المحال، وغيرهم من المواطنين «البرجوازيين التافهين». وقد كان في نداء ماو لتذكُّر الصراع الطبقي دلالة على يساريته في وقت كان أعداء حزبه يتساهلون مع أو يشجعون سياسات اقتصادية أكثر انتقائية بكثير. كانت الفكرة الماوية بشأن حزب للعمال والفلاحين والجنود يقابلها فكرة أخرى تتمثل في حزب يصل أيضًا للمثقفين، والخبراء التقنيين، والقادة الدينيين، والصينيين في الخارج، والرأسماليين السابقين.
لم يتم احتواء هذه التوترات إلا بالكاد في السنوات الأربع التي مهَّدت الطريق للثورة الثقافية. فقد كُرِّم ماو تسي تونج من الجميع بالاسم، ولكنه كان يشكو من أن الأمين العام للحزب دنج شياو بينج يعامله وكأنه جثة في جنازة؛ إذ كان يحترم شخصه ولكن يتجاهل آراءه. بينما كان هناك آخرون أكثر دعمًا وتأييدًا، خاصة وزير الدفاع الجديد المارشال لين بياو. حل لين، الذي كان أحد أبطال الثورة، محل معارض ماو، المارشال بنج ديهواي، وقاد برنامجًا لتمديد أهمية الجيش وتأثيره السياسي. وعندما قامت الصين بتفجير قنبلة نووية في عام ١٩٦٤، ازدادت القوات المسلحة هيبة واعتبارًا. لقد شكَّل لين الجيش كمعقل للسياسات اليسارية؛ فألغى الميول نحو إضفاء صفة مهنية على فرق تدريب الضباط عن طريق إلغاء ألقاب الرتب العسكرية وشاراتها. كان الجيش الصيني مكونًا من مجندين جدد من الفلاحين، وكانت وزارة الدفاع تعتبر نفسها إلى حدٍّ ما الراعي السياسي، بل وصوت الملايين من الفلاحين. كذلك مال ماو نحو مجموعة من المثقفين الراديكاليين، وإلى زوجته جيانج تشينج بشكل متزايد.
أثار زواج جيانج تشينج من ماو في عام ١٩٣٨ في يونان جدلًا بين كبار قادة الحزب؛ فقد كان الكثيرون لا يزالون مغرمين بزوجة ماو السابقة، ولم يكن لديهم ثقة في الممثلة القادمة من شنغهاي التي أغوت قائدهم، فأجبروا الزوجين الجديدين على الموافقة على أن تبتعد جيانج تشينج عن القيادة السياسية. وقبلت جيانج تشينج ذلك على مضض، لتتولى مهامَّ تافهة في المنظمات الثقافية في الخمسينيات. ولكن مع بداية الستينيات تملَّكها الضجر والاستياء، وصارت حليفًا طوعيًّا لزوجها الذي كانت حدة غضبه في تزايد. ومع تصاعد التوترات في عام ١٩٦٦، اجتمعت مع لين بياو لتنظيم مؤتمر فبراير عن الفنون داخل جيش التحرير الشعبي، والذي كان إشارة إلى دورها العام الجديد، وتأكيدًا على أن الجيش يقف في صف ماو.
ومنذ عام ١٩٦٢ وحتى عام ١٩٦٦، نظَّم ماو وأتباعه العديد من البرامج النموذجية التي أصبحت تُعرف فيما بعد بالثورة الثقافية، وتم الإعداد لكتاب ماو «الكتاب الأحمر الصغير» («مقتطفات من أعمال ماو تسي تونج») بواسطة الجيش في عام ١٩٦٣ لنشر القيم الراديكالية بين الجنود من خلال دراسة سياسية إجبارية، وتم البدء في إعادة توطين شباب المدن في الريف في إطار برنامج جاد تم تعديله لتخليص المدن من الحرس الأحمر المزعج بحلول عام ١٩٦٨. وبدأ التقديس الماوي للجندي المثالي لي فينج في عام ١٩٦٣. وقدمت وحدة إنتاج دازهاي، وهو النموذج الماوي للمنظمة الريفية، أوراق اعتماده السياسية في عام ١٩٦٤، وكذلك فعل حقل داتشينج النفطي، الذي يعتبر النموذج المعادل في قطاع الصناعة. وفي عام ١٩٦٤ تم إطلاق حملة «الجبهة الثالثة» للتنمية الاقتصادية، والتي تم على أثرها إنشاء صناعات جديدة في مناطق داخلية آمنة، وإن كان ذلك قد تم في سرية.
ليس المقصود بذلك الإيحاءَ بأن البداية الحقيقية للثورة الثقافية كانت قبل سنوات عديدة من تاريخها الذي نعرفه، ولكن ماو وأنصاره كان لديهم بالفعل برنامج متكامل للصين. وكان مما ساهم بشكل جزئي في تأجيج الاضطرابات السياسية بعد عام ١٩٦٦ إخفاقاتهم في تنفيذ هذه المبادرات اليسارية في ظل مقاومة نخبة بيروقراطية محترفة، كانت منشغلة بتطوير نظام أكثر استقرارًا وروتينية. وكان مما أضافه ماو في عام ١٩٦٦ لإشعال الثورة الثقافية التعبئةُ الضخمة للجماعات التي لم يكن لها نشاط في السياسة الصينية فيما سبق.
ولشعور ماو بأن خصومه هم من يهيمنون على تنظيم الحزب، وخوفه من منافسيه، راح يبحث عن حلفاء خارج نطاق الحزب. ومثلما قام بتجنيد قادة جدد من أجل قضيته، اتجه إلى ناشطين غير حزبيين، أولئك «المتمردين» الذين لبوا نداءه من أجل «ثورة بروليتاريَّة ثقافية عظيمة». وقد لمست مناشدات ماو وترًا لدى الكثيرين ممن كانوا يرون أن الحياة في الصين غير عادلة، وأنها لم ترقَ لمُثُل الثورة.
التقى ماو تسي تونج بالروائي الزائر ووزير الثقافة الفرنسي أندريه مارلو في عام ١٩٦٥، وقد أخبره ماو بأن «الفكر، والثقافة، والعادات، التي أوصلت الصين لما وجدناها عليه لا بد أن تختفي، وأن فكر، وعادات، وثقافة الصين البروليتارية، التي لم توجد بعد، لا بد أن تظهر.» كذلك كان ماو يعتقد أن وصول الشيوعية قضية خطيرة، وليس مسعًى نظريًّا مجردًا. وقد انتقد رئيسَ الوزراء السوفييتي أندريه كوسيجين في تهكُّم لقوله إن ««الشيوعية تعني ارتفاع معايير المعيشة» بالطبع! والسباحة طريقة لارتداء سروال السباحة!»
(٤) الثورة الثقافية من الصعود إلى السقوط، دراما من فصلين
على الرغم من أن الأحد عشر عامًا مدة الثورة الثقافية تُعامَل في العادة كحقبة واحدة مترابطة، فإن بوسعنا أن نفهمها بشكل أفضل إذا ما قُسمت إلى مرحلتين شديدتي الاختلاف. اندلعت الحركة بانفجار مفاجئ وحادٍّ للراديكالية من جانب الحرس الأحمر، والعمال المحبطين، وصغار المسئولين الطموحين، فيما بين عامي ١٩٦٦ و١٩٦٧. وقد نجحت هذه المرحلة من التعبئة الحاشدة للثورة الثقافية في الإطاحة بخصوم ماو من الحكم. أما المرحلة الثانية للثورة الثقافية، فقد استمرت من عام ١٩٦٨ حتى عام ١٩٧٦، وعززت نظامًا ماويًّا جديدًا من خلال اللجوء للمفاوضات والقوة لإخضاع الجماعات المتمردة للسيطرة. وهكذا أعقب الثورة حركة قمع مع قيام حزب أعيد تشكيله من جديد بقمع متمردي ١٩٦٦. وقد توقفت هذه الفترة الثانية في عام ١٩٧١ بعد الوفاة الشنيعة للين بياو الذي كان مرشحًا لخلافة ماو. فقد أثارت هذه الفضيحة معظم الصينيين، مما أدى بالحركة إلى الاستمرار لفترة طويلة تحت قيادة زعيمه المريض ماو الذي كان يشرف من بعيد وبأسلوب عقيم على الانشقاق الحزبي حتى وفاته في عام ١٩٧٦.
(٤-١) الحماس الراديكالي: ١٩٦٦-١٩٦٧
اندلعت الثورة الثقافية عندما شعر الزعيم ماو بالإقصاء من جانب الرفاق الأكثر محافظة، وحارب لفرض نفوذه من جديد. بدأت الثورة الثقافية العظمى رسميًّا في مايو من عام ١٩٦٦، وكانت مختلفة عن جميع الحملات التي أُطلقت خلال السبعة عشر عامًا الماضية؛ لأنها كانت موجهة ضد الحزب الشيوعي الحاكم نفسه.
وبينما كان ماو يعد العدة للثورة الثقافية، وجد بكين تحت سيطرة خصومه، فاتجه لثاني كبرى المدن الصينية، وهي مدينة شنغهاي، بحثًا عن الدعم السياسي، وهناك وجد الكتَّابُ الماويون منفذًا لمقالاتهم التي لم يكن أحد في العاصمة ليقدم على نشرها، وكرَّس العديد من الشخصيات ذات الموهبة والطموح أنفسهم لنصرة القضية الماوية.
وبناء على طلب من ماو، قام الكاتب ياو وين يوان من شنغهاي بكتابة نقد لمسرحية «إقصاء هاي روي من السلطة» التي عُرضت في عام ١٩٦١. وعلى الرغم من أن أحداث هذه المسرحية وقعت في عهد أسرة مينج، فقد كان من الممكن قراءتها بشكل مجازي كدفاع عن المارشال بنج ديهواي لتجرُّئه على نقد ماو تسي تونج بسبب مشروع القفزة الكبرى. لم يكن كاتب المسرحية، ووهان، حديث العهد بالسياسة، إذ كان نائبًا لعمدة بكين. كانت خطة ماو هي عزل قادة الحزب المحافظين بمهاجمة التابعين لهم، ومن ثم، عندما عجز رئيس الحزب الشيوعي في بكين، بنج تسين، عن إيقاف نقد ووهان وحجب هذا العضو المنتمي لبطانته السياسية، أُقصي هو نفسه من السلطة. وفي ظل الفوضى التي اجتاحت مكتب الحزب ببكين، وجد ماو سهولة أكبر في مهاجمة ليو شاوشي ودنج شياو بينج.
وبينما كان ماو يكافح من أجل تحسين أوضاع حزبه، تغلَّب على المقاومة من خلال الاستعانة بحلفاء جدد من خارج المنظومة الحزبية الطبيعية. وعن طريق توسيع نطاق المشاركة السياسية، اتجه ماو بشكل خاص إلى الطلاب، الذين استجابوا بتكوين منظمات «الحرس الأحمر» العشوائية، والتي كانت متلهفة لمواجهة المعلمين، وقادة الحزب المحليين، وأي شخص تقريبًا في موقع سلطة. ففي ظل مجتمع مستبد تقل فيه المناسبات التي تتيح التعبير عن الرأي صراحة بلا خوف، شجَّع ماو المراهقين على مهاجمة أعدائه. وسرعان ما نظَّم الحرس الأحمر لقاءات جماهيرية، ونشروا صحفًا، وقاموا بتعليق «الملصقات ذات الأحرف الكبيرة» في الأماكن العامة، وهاجموا منازل الأعداء الخياليين، بل وأقاموا سجونًا للمسئولين المخلوعين. ولم تكن حداثة سنهم وافتقادهم للمسئوليات الاجتماعية وقودًا لحراكهم النضالي فحسب، بل شجعا كذلك الانقسامات الداخلية والسلوك غير المسئول.
ومع انهيار التنظيم القائم للحزب، كوَّن الماويون مجموعة مركزية جديدة للثورة الثقافية مخصصة لخدمة أغراضها. في البداية واجهت المجموعة صعوبة في تأسيس سلطتها خارج نطاق بكين. لقد أطاحت «عاصفة يناير» في شنغهاي بالتنظيم المحلي القديم للحزب، إلا أن الراديكاليين وجدوا صعوبة في تعميم هذا النموذج عبر جميع أنحاء الأمة. وراحت منظمات الحرس الأحمر المتناحرة، والتي غالبًا ما كانت ترتبط بداعمين مختلفين في الحكومة والإدارة البيروقراطية للحزب، تحارب إحداها الأخرى. حتى مؤيدو ماو صدموا من العنف والفوضى السياسية السائدة. وكان في الإذلال العلني لمن كانوا يومًا مسئولين كبارًا لهم احترامهم واعتبارهم في لقاءات النقد والهجوم الجماهيرية استفزازٌ للكثيرين ممن تحالفوا مع الزعيم. وعبَّر بعضهم عن رفضهم لذلك في سلسلة من اللقاءات في بداية عام ١٩٦٧، والتي لقِّبت ﺑ «تيار فبراير المعادي» على سبيل الانتقاد. ولكنهم أوصلوا فكرتهم. تردد الجيش في التدخل في النزاعات القائمة بين الجماعات المتنافسة بزعم الحفاظ على النهج الثوري الحقيقي، ولكن لم يكن هناك مناصٌ من إدخاله في الصراع. فمع بداية عام ١٩٦٨، تدخَّل الجيش لاستعادة النظام بمعدل متزايد، خاصة في المناطق التي شنَّت فيها فصائل الحرس الأحمر حربًا أهلية محلية.
(٤-٢) إقامة النظام الثوري: ١٩٦٨–١٩٧٦
بدأت التغطية على الجانب الوحشي للسياسة الجماهيرية بشكل جاد في عام ١٩٦٨. في ذلك الحين، كانت حركة تطهير المسئولين المحافظين مثل الرئيس ليو شاوشي وغيره من «أتباع الطريق الرأسمالي» قد انتهت. ولكن استمرار الصراعات بين منظمات الحرس الأحمر والمتمردين ظل فوضويًّا، مما عمل على تعطيل الاقتصاد. كذلك انتبه الماويون إلى الضغوط الخارجية؛ فعلى الجبهة الشمالية، ازدادت حدة التوترات العسكرية مع الاتحاد السوفييتي، فيما كانت الولايات المتحدة، على الجبهة الجنوبية، تصعِّد هجومها على فيتنام.
اتخذ الماويون المنتصرون عدة إجراءات لاستعادة النظام، كان أولها إجبار المنظمات الراديكالية المتنافسة على التوحد. كان التفاوض من أجل إعادة تشكيل السلطة المحلية معقَّدًا، وكان الدور السياسي الجديد للجيش — الماويين المسلحين — في غاية الأهمية؛ فقد قام الجيش بتدعيم «اللجان الثورية» الجديدة، والهيئات الإدارية المحلية التي اعتمدت على «تحالف ثلاثي» بين الناشطين الثوريين، والبيروقراطيين اليساريين، والقادة العسكريين. وقام القادة العسكريون بدور الوسيط في التدابير المحلية، في كل الأقاليم، إقليم بإقليم، وعادة ما كانوا يتولَّون السلطة العظمى. تمثَّل الإجراء الثاني في إرسال الحرس الأحمر إلى الريف للاشتغال بالزراعة كمشاركين في حركة «الصعود إلى الجبال والنزول إلى القرى». وقد أدى توسيع هذا البرنامج إلى إخلاء الساحة السياسية بإجبار الحرس الأحمر على تقوية أنفسهم من خلال الحياة والعمل مع الناشطين القرويين. أما الإجراء الثالث، فتمثَّل في إطلاق حملة سرية ﻟ «تطهير الرتب العليا»، قامت بمراجعة الملفات الفردية والتخلص من كثير ممن لم يكن مرغوبًا فيهم في القيادة الماوية. وقد كانت حركات التطهير تلك هي الجانب الأعنف للثورة الثقافية، ولكنها كانت أقل وضوحًا وعلانية بكثير من المؤتمرات الشعبية الصاخبة للحرس الأحمر في أوج ازدهاره.
وبحلول مايو من عام ١٩٦٨، ومع إرسال الحرس الأحمر إلى الريف، انتهت حركة الثورة الثقافية للتعبئة الجماهيرية للمعارضة الاجتماعية. وقد أشار ماو إلى تغيُّر موقفه ضد الهجمات المتواصلة على السلطة بقوله: «لا بد أن نؤمن بأن أكثر من ٩٠ بالمائة من كوادرنا جيدون أو جيدون نسبيًّا، وغالبية هؤلاء الذين ارتكبوا أخطاء يمكن تقويمهم.»
وقد كان المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي في أبريل من عام ١٩٦٩ إيذانًا بإعادة تأسيس نوع من الاستتباب السياسي. ومهَّدت حركة تطهير القادة المحافظين الطريق لترقية الماويين المخلصين إلى المواقع العليا بالحزب. وقد تم إقصاء حوالي ٧٠ بالمائة من أعضاء اللجنة المركزية الثامنة الذين نجوا من التطهير من اللجنة التاسعة، والتي تم اختيارها من جانب مؤتمر الحزب الجديد. وفقد حوالي خمسة وعشرين من أصل تسعة وعشرين سكرتيرًا محليًّا أول لأفرع الحزب الإقليمية وظائفهم. وحظيت جيانج تشينج وغيرها من المدنيين ممن كوَّنوا مجموعة الثورة الثقافية بمكانة جديدة أسمى. وكذلك الحال بالنسبة لكبار قادة جيش التحرير الشعبي، خاصة في أعقاب المعركة الحدودية مع الاتحاد السوفييتي على جزيرة نهرية متنازع عليها في مارس من عام ١٩٦٩. وجاء على رأس هؤلاء وزير الدفاع لين بياو الذي سُمِّي نائبًا لزعيم الحزب الشيوعي، وكان يُعامَل كخليفة ماو المنتظر باعتباره أقرب رفاق السلاح له.
جمع بين السنوات المتبقية من عمر الحركة خطاب بلاغي مشترك وإيماءات مألوفة، غير أنها كانت مختلفة من حيث النوعية؛ إذ كان الماويون منشغلين بتعزيز سلطتهم بدلًا من الفوز بها، وكانت السياسات على المستوى المركزي مائعة وقابلة للتغيير. وعلى الرغم من أن الحزب كان يشجب الحزبية، كانت هناك انقسامات واضحة أحدثت شقاقًا بين الراديكاليين المدنيين، والمسئولين البراجماتيين تحت قيادة رئيس الوزراء شو إن لاي، والقادة العسكريين (بانقساماتهم الداخلية). وكان الجميع يتنافسون من أجل لفت انتباه الزعيم ماو، الذي كان بمثابة قوة توازن رائعة بين الأصوات المتنافسة.
بدت الصين أكثر انسجامًا من الخارج عما كانت تبدو عليه داخل المقرات الرئيسية للحزب في زونجنانهاي. وبعد خمس سنوات من الاضطرابات السياسية، استيقظت الأمة على صدمة جديدة، وهى الحادث البشع الذي أودى بحياة لين بياو في سبتمبر من عام ١٩٧١. كان لين (أو مرءوسيه على الأرجح) قد خطط لانقلاب عسكري فاشل ضد ماو تسي تونج. كثير من تفاصيل القصة الرسمية للحدث تتجاوز حد التصديق، ولكن المحصلة كانت حادث تحطم طائرة مشئومًا في منغوليا، عندما كان لين وزوجته وابنه يحاولون الفرار من الصين. وتمثَّلت العواقب السياسية للحادث في حركة تطهير لكبار مساعدي لين بياو، وأزمة ثقة عامة، وعمليات إعادة تأهيل لبعض المسئولين الذين تم إقصاؤهم خلال المعارك الأولى للثورة الثقافية.
أبرزت السنوات الأخيرة للثورة الثقافية مؤامرة حزبية في الداخل؛ إذ تنافست جماعات للفوز بالحظوة والمنصب في بلاط ماو تسي تونج الذي سقط فريسة للمرض. في المقابل باتت السياسة الجماهيرية أكثر هدوءًا عما كانت عليه منذ عام ١٩٦٦؛ إذ تراجع الأشخاص العاديون عن الأشكال المفرطة للمشاركة السياسية. لقد بدت الصين أكثر طبيعية على السطح، بينما بدت من الداخل أكثر غرابة.
أدى سقوط قادة الجيش اليساريين بعد قضية لين بياو إلى تدعيم مجموعتين؛ الأولى هي الناشطون المدنيون الذين ارتبطوا بماو من خلال زوجته جيانج تشينج. أما المجموعة الثانية، فتألفت من مسئولين أكثر اعتدالًا بقيادة رئيس الوزراء شو إن لاي. وفي المؤتمر العام العاشر للحزب الشيوعي في عام ١٩٧٣، كان هناك أربعون من أعضاء اللجنة المركزية من ضحايا الثورة الثقافية ممن خضعوا لإعادة التأهيل، وكان من ضمنهم دنج شياو بينج، الذي كان يومًا ما محل انتقاد شديد لكونه «قد اتخذ طريق الرأسمالية وهو ثاني رجل في السلطة.» وكان ليو شاوشي، الملقب ﺑ «خروشوف الصين»، قد توفي تحت ظروف بائسة في عام ١٩٦٩. لم يكن ماو ينظر إلى دنج نظرة شديدة الصرامة، مما حال دون فصله من الحزب مع ليو. وبعد النفي الداخلي في إقليم جوانجشي، استُدعي دنج إلى بكين كنائب لرئيس الوزراء في عام ١٩٧٣، ليعمل مع شو على تطوير برنامج للتحديث. وفي عام ١٩٧٥، أعيد دنج إلى دائرة السلطة الداخلية؛ أي اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي، واضعًا نصب عينيه بالطبع صحة شو إن لاي المتدهورة والحاجة لبديل محنَّك لخلافته.
وعلى مدار فترة بدايات السبعينيات، تكشَّفت خصومات النخبة من خلال حملات سياسية عامة، والتي غالبًا ما كانت عبارة عن قضايا موجَّهة ومبهمة حلَّت محل الصراعات القائمة بين كبار القادة. ما المعنى الحقيقي وراء «حملة لانتقاد لين بياو وكونفوشيوس»؟ لقد أصبح لين بياو الشخص الشرير، والصينيون التقدميون كانوا يجدون سعادة في صب اللعنات على كونفوشيوس باعتباره رمزًا للمجتمع القديم منذ حركة الرابع من مايو. ولكن لِمَ الربط بين الاثنين؟ أي طريقة سرية تلك التي كانت بها هذه الحملة ضربة موجهة من جيانج تشينج ضد شو إن لاي؟ وفي أعقاب مؤامرة لين بياو، لم تكن مثل هذه الظلامية تساهم كثيرًا في بث الثقة.
في مقابل هذه الحملات السياسية الغامضة المدعومة من اليسار جاءت الدعوة الحاسمة لرئيس الوزراء شو إن لاي ﻟ «التحديثات الأربعة» في مجالات الزراعة، والصناعة، والعلوم، والتكنولوجيا، والدفاع الوطني. كانت فصاحته البلاغية متماشية مع أجواء الثورة الثقافية، ولكن مضمون الدعوة أظهر النزعة العملية الاقتصادية لدنج شياو بينج والكوادر القديمة الأخرى التي أُعيد تأهيلها.
كان شو إن لاي يشرف على الإدارة اليومية على مدار فترة الثورة الثقافية، ولا يزال شخصًا مثيرًا للجدل. هل كان الوسيط الكبير الذي أخضع حمية ماو لقدر من السيطرة؟ أم كان الانتهازي الكبير، وأحد متملقي ماو الذي كان يحمي بعض الأتباع بينما يضحي بآخرين عندما يجد في ذلك منفعة له؟
كان جنون الارتياب السياسي على أشده، وأدت صحة ماو المتدهورة (إذ كان يعاني من الشلل الرعاش ومرض القلب) لعزل الشخصية المحورية الوحيدة التي كانت قادرة على الفصل بين الفصائل المتصارعة. فقد توفي شو إن لاي في يناير من عام ١٩٧٦؛ وقد مكَّنت مظاهرات أبريل التي اندلعت في ذكراه في ميدان تيانامين ببكين، الراديكاليين من إقناع ماو بالتخلص من دنج شياو بينج للمرة الثانية. وتمَّت تسمية وزير الأمن العام، هوا جوفينج، الذي صعد نجمه مع الثورة الثقافية، رئيسًا للوزراء بالنيابة والنائب الأول لزعيم الحزب. وبحلول شهر يونيو، كان ماو قد وصل إلى حالة من الضعف عجز معها عن استقبال الزوار الأجانب، وأصبح فهم صوته وخط يده ضربًا من المشقة. وعندما أودى زلزال تانجشان بحياة ربع مليون من سكان تلك المدينة الواقعة شمال الصين في يوليو، بدأ العرافون في التساؤل عن إمكانية فقدان «مفوض السماء» التقليدي.
عند وفاة ماو في التاسع من سبتمبر عام ١٩٧٦، اندلعت عملية تصفية حسابات سريعة بين الفصائل المتصارعة، فأصبح هوا جوفينج رئيسًا للحزب، وقامت مجموعة من أنصار ماو باعتقال مجموعة أخرى، وتم القبض على الراديكاليين المدنيين الأساسيين — وهم أرملة ماو، جيانج تشينج، والناقد الأدبي ياو ون يوان، ورئيس شنغهاي ونائب رئيس الوزراء تشانج تشون شياو، ونائب رئيس الحزب وانج هونج ون — في انقلاب نظَّمه قادة الجيش والحارس الخاص لماو. اتُّهم الراديكاليون، والذين كانوا قد لُقبوا لتوِّهم ﺑ «عصابة الأربعة»، في البداية بهدم الثورة الثقافية، ولكن الصين في الواقع كانت قد بدأت عملية طويلة من التبرؤ من حركة ماو الجماهيرية الأخيرة.
(٥) التفسيرات
توقَّع ماو أن تستمر الثورة الثقافية لمدة عام. ويجادل الكثيرون ببعض الفصاحة والبلاغة بأن الثورة الثقافية قد انتهت في الواقع مع قمع حركة الحرس الأحمر النضالية في عام ١٩٦٨، غير أن ماو وحلفاءه استمروا في الإشارة إلى الثورة الثقافية بعد انتهاء التعبئة الجماهيرية، ولم يعلن الحزب انتهاء الحركة إلا في عام ١٩٧٧. وتاريخ نهاية الثورة له أهميته؛ فإذا حصرنا الثورة الثقافية فيما بين عامي ١٩٦٦ و١٩٦٨، سوف تبدو الكثير من الأحداث التي وقعت خلال الثمانية أعوام التالية (من الانفتاح على الغرب، وانتشار التعليم، واستثمارات البنية التحتية) أقرب لأن تكون مؤشرات لفترة الإصلاح التي لم تبدأ رسميًّا حتى عام ١٩٧٨. وإذا تعاملنا مع الفترة ما بين ١٩٦٦–١٩٧٦ كوحدة واحدة، فسوف يتم التعتيم على الفرق بين التعبئة الجماهيرية الراديكالية وإعادة بناء سيطرة الحزب. وهذا الكتاب يحترم وحدة الخطاب البلاغي لعقد الثورة الثقافية، ولكن مع التنبيه بأنه في السياسة، والثقافة، والاقتصاد، والعلاقات الخارجية، لا بد للمرء أن يدرك الفوارق الحادة بين بدايتها الراديكالية وبين فترة توطيدها وتعزيزها التي تمتد لفترة أطول.
بدأ تحليل ونقد الثورة الثقافية قبل انتهاء الحركة بفترة طويلة. في البداية، قام الراديكاليون، الذين كانوا يعتقدون أن الحركة لم تحقق نجاحًا كافيًا، بالضغط لتوسيع نطاق الهجوم على أهل السلطة. وعندما أُعيد تأهيل دنج شياو بينج في بداية السبعينيات، قام بمراجعة سياسات الثورة الثقافية بهدف التخفيف منها. ولكن خلال حياة ماو، كانت التحليلات اليمينية واليسارية على حد سواء تصاغ بلغة الزعيم بشكل دفاعي.
وقد ظهرت ثلاثة تفسيرات عامة لقضايا الثورة الثقافية: (١) الصراع بين النخبة السياسية، (٢) التوترات داخل المجتمع الصيني، (٣) موقع الصين الدولي.
من بين المناهج المعالجة لصراع النخبة، لاقت الرؤى التي تمحورت حول ماو رواجًا لدى العامة، فيما حظيت برواج أقل لدى الباحثين. فبينما كانت الثورة الثقافية في أوج انطلاقها، صُوِّر ماو للحشود الثورية كمحارب رائع من قبل كثيرين. وبعد وفاته، ولا سيما خارج حدود الصين، كان غالبًا ما يصوَّر ماو كوحش لديه عزم متهور على غرس بذور الفوضى من أجل تطلعاته النرجسية. وقد استغل أحد الفنانين الصينيين المنفيين هذه الروح عن طريق رسم لوحة زيتية ضخمة على القماش تُظهر ماو وهو يُستقبَل بالترحاب في الجحيم من زمرة من الطغاة، من بينهم هتلر، وستالين، وتشين شي هوانج دي، موحد الصين الأول الأسطوري المتوحش.
كان لماو جوانب بطولية وشيطانية على حد سواء، ولا بد أن يشغل موضعًا مهمًّا في أي تفسير. ولكن بعض الرؤى الشائعة تجسِّد ماو وهو يشق طريقه بالقوة على حساب مجتمع بأكمله. وهذه الرؤى تشبه تلك التي صاغها الرايخ الثالث والتي تمحورت حول هتلر ولم تترك سوى مساحة ضئيلة للشعب الألماني نفسه لكي يكون شعبًا إمبرياليًّا ومعاديًا للسامية. والرؤى التي تجسد ماو كوحش ملائمة سياسيًّا أيضًا للنخب الصينية الحالية التي تتجنب النظر في ماضي الصين القريب نظرة عميقة، إلى جانب أنها ترضي الجماهير الغربية، التي غالبًا ما تهوى تخيُّل الشعب الصيني كضحايا. ولكن هذه المناهج ترتكز على معرفة رديئة؛ إذ تتجاهل العلاقات المعقدة في سبيل رسالة بسيطة.
لم يكن ماو، شأنه شأن الكثير من ساسة الصف الأول في أية دولة، شخصية متزنة؛ فقد كان مضطرًّا للتواجد في قلب الأشياء، وجعلته الثورة الثقافية شخصية لا غنى عنها على المستوى السياسي. ومن الحماقة التغاضي عن دوره المحوري، أو تجاهل سماته الشخصية، مثل افتقاده لعلاقات الصداقة مع القادة الآخرين أو الاعتلالات الجسدية الخطيرة التي أصيب بها قبل وفاته. غير أن التصريح ببساطة بأن الثورة الثقافية حدثت لأن ماو كان شخصية شريرة يعفينا من أية مسئولية عن التفكير في العوامل الأخرى.
بعض الدراسات الأكثر دقة وتفصيلًا تتجاوز ماو لتشمل العلاقات ما بين كبار قادة الصين. بعض هذه الدراسات يبحث في التحالفات الحزبية التي ظلت قائمة لفترة طويلة، مثل التوترات التي امتدت ما بين الثلاثينيات إلى الأربعينيات من القرن العشرين بين الشيوعيين الذين تعاونوا معًا في العاصمة الحمراء يونان وهؤلاء الذين عملوا سرًّا، خلف خطوط العدو. والبعض الآخر يبحث في العلاقات الشخصية، مثل نمط التفاعلات بين القيادة العسكرية العليا والقادة المدنيين للثورة الثقافية. وهذا النوع من التحليل يتفادى اختزال الثورة الثقافية إلى هجوم قاده ماو ضد الجميع، ويعترف بدور الثأر والانتقام، ولكنه يعترف أيضًا بالمثالية، والنضال، والمناقشات السياسية والثقافية الجادة. ويفرض الخطاب البلاغي للثورة الثقافية أسئلة وجودية بشكل كاسح. ما الذي يجب أن تصبح عليه الثورة الثقافية؟ متى وكيف تنتهي أية ثورة؟ كذلك كان من شأن الصراعات، على المستوى العادي، أن تثير العداوات القديمة بين الرفاق الثوريين، والأحقاد والضغائن الشخصية التي تراكمت عبر مشوار الحياة المهنية الطويلة، والذكريات العصيبة لأخطاء الماضي.
ثمة نوع آخر من التفسير يركز على عوامل اجتماعية أو ثقافية أعم. تفترض هذه المناهج أن السياسة الصينية تشترك في أمور كثيرة مع السياسة في أي مكان آخر: إذ يصبح الأشخاص على وعي بالمعاناة والظلم، ويبحثون عن فرص للتنفيس عن غضبهم، ويعقدون صفقات سياسية جديدة بمساعدة الوسطاء السياسيين في الغالب. كذلك يتأمل بعض المحللين في مسألة المستفيدين من الدعوة للثورة الثقافية. على سبيل المثال، عند حشد الشباب للانضمام لحركة الحرس الأحمر، استندت دعوات المثاليين إلى اعتراف غير معلن بأن المجتمع الصيني به عدد ضخم من الشباب يتعذر معه تحقيق الأحلام المهنية لكل شخص. فقد كانت الزيادة الهائلة في عدد السكان التي تولدت من حالة السلام والرخاء التي سادت المجتمع تحمل بين طياتها عواقب سياسية. ونظر بعض الباحثين إلى تأثير الاختيارات السياسية السابقة، مثل اعتماد الحزب على الحملات السياسية والرقابة المحكمة على أعدائه الخياليين، فيما ركز آخرون على التأثير المتواصل للأوتوقراطية التقليدية، وغالبًا ما يكتنف ذلك نزعة لينينية. فمن السهل أن ترى في طقوس وسلوكيات الثورة الثقافية تأثير التقاليد الصينية الهرمية. ومثل هذه الاعتبارات الثقافية تسلط الضوء على الشكل الذي تكشفت به الأحداث، ولكنها لا تفيد كثيرًا في تفسير سبب وقوعها.
ثمة نوع مختلف من المجادلات يبحث في القوى العالمية. على سبيل المثال، عندما بدأت الثورة الثقافية، قام الكثير من المحللين الغربيين بتفسيرها كرد فعل على تصاعد الهجوم الأمريكي على فيتنام، وإن كان عمق الحركة سرعان ما جعل ذلك يبدو تفسيرًا خاطئًا. غير أنه فيما يبدو أن السياق الأوسع للحرب الباردة، مقترنًا بالعزلة الدولية التي فُرضت على الصين، قد أضاف عبئًا على النظام السياسي للصين. وقد ساهم الشقاق مع الاتحاد السوفييتي في هذه العزلة. ورأى البعض أن دراسة ماو للطرائق البيروقراطية السلبية للاتحاد السوفييتي كانت عاملًا مساهمًا في ذلك. غير أن المرآة السوفييتية ربما عكست ما أراد ماو أن يراه، ومن الصعب أن نتخيل أنه قد أطلق الثورة الثقافية بسبب تطورات حدثت في دولة أجنبية. فالثورة الثقافية عززت عزلة الصين في البداية، ثم بدأت في هدمها.
إن معظم الباحثين في مجال الثورة الثقافية كانوا سيتفقون على عدم وجود منهج واحد كافٍ. فالأزمة السياسية الكبرى التي حدثت في بداية الستينيات عملت على تأجيج صراع النخبة، وتفاقم التوترات الاجتماعية، وفصل الدولة عن بقية المجتمع الدولي. ويبدو من غير الملائم أن نحصر تركيزنا في بيان مبسط لتوضيح من فعل ماذا ولمن، متجاهلين القضية الأعم، والمتعلقة بالكيفية التي يمكن أن يرتبط بها عقد الاضطرابات الذي شهدته الصين بموقعها في السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين.