الثقافة: تدمير القديم وبناء الحديث
لماذا اعتقد الماويون في ضرورة قيام ثورة ثقافية في الفنون؟ إن ما حدث في عام ١٩٤٩ من استيلاء على السلطة السياسية، وما تبعه من سيطرة على الاقتصاد، لم يحقِّق تمكينًا حقيقيًّا للطبقة العاملة؛ فمن كانوا يومًا ما ثوارًا محاربين بواسل لانوا بفعل الثقافة الجذابة والمفسِدة في الوقت ذاته الآتية من ماضي الصين الإقطاعي أو من الأمم البرجوازية الأجنبية. وكانت الوصفة الطبية الماوية لعلاج ذلك تتمثل في الحد من هذه «الطلقات المغلفة بالسكر»، مع تشجيع فن جديد وقوي ذي شكل ومضمون بروليتاري بحق.
قبيل الثورة الثقافية، شكا ماو من أن وزارة الثقافة قد أصبحت «وزارة المومياوات الميتة»، ومن ثم أصبحت المومياوات الميتة الباقية من التراث الصيني هدفًا رئيسيًّا للحرس الأحمر. فراحوا يفتشون المنازل الخاصة بحثًا عن دلالات لأي أثر إقطاعي أو برجوازي. لقد كان هناك حاجز فصل بين فترة الازدهار الأولى للحرس الأحمر وبين فترة السيطرة وتعزيز النفوذ التي امتدت لأمد أطول. عملت السياسة التي اعتُمدت فيما بعد على تحجيم دور الفن التقليدي أو الأجنبي، ولكنها حقَّقت نجاحًا أقل بكثير في استبدال أعمال جديدة به. فقد قادت جيانج تشينج، قرينة ماو، حركة لصنع أعمال مسرحية نموذجية معبرة عن الثورة، لاقت بالفعل جمهورًا عريضًا من خلال تركيبة جمعت بين تحديث موسيقى أوبرا بكين، والمساواة بين الجنسين، وإضفاء الطابع العسكري.
(١) تدمير القدماء الأربعة
كان الحرس الأحمر القائمَ الأوحد تقريبًا على تدمير المعالم الثقافية، وقد وقعت موجة التحطيم الجنوني التي قادها فيما بين منتصف أغسطس ونهاية سبتمبر من عام ١٩٦٦. فكان الشباب يتنافسون فيما بينهم في التصدي ﻟ «القدماء الأربعة» (الأعراف، والثقافة، والعادات، والأفكار القديمة). كان القدماء الأربعة يشمل رموز المجتمع الصيني التقليدي فيما قبل الحداثة، مثل الأعمال الفنية التي تحتفي بالنخبوية الكونفوشية. وقد كان يُندَّد بهذه الرموز صراحة لكونها «إقطاعية» في وقت كان فيه المجتمع القديم لا يزال ذكرى حاضرة في أذهان الكثيرين، ولم يكن تراثه الظاهر يشمل اللوحات الكلاسيكية، والكتب ذات الخيوط فحسب، بل شمل أيضًا السيدات العجائز ذوات الأقدام المربوطة. ولعل أفضل تفسير لهمجية هذه الاستجابة الجمالية لدعوة ماو للثورة الثقافية هو كونها جهلًا وطيشًا شبابيًّا، امتزجا بقلق معمم من رغبة المناهضين للثورة في إعادة المجتمع القديم.
قام الحرس الأحمر بتفتيش منازل أعداء الثورة المشتبه بهم، كان من بينها ما يزيد على ١٠٠ ألف منزل في بكين. وعندما انتشرت أخبار هذه الغارات، قام العديد من المواطنين — على سبيل الاحتياط — بتدمير بعضٍ من مقتنياتهم التي قد تمثِّل إدانة لهم. ولم يكن الحرس الأحمر يسرقون؛ لأنهم كانوا مدفوعين بحماس ثوري خالص؛ فإذا عُثر على شيء قيِّم بشكل واضح، كان الحرس يسلِّمونه للدولة. ولكنهم أيضًا لم يكونوا نقادًا فنيين، وعندما يكونون في ريبة من أمرهم، كانوا غالبًا ما يختارون تمزيق أو حرق أي شيء؛ وكانت الكتب التي تحمل شبهة سياسية تمزَّق إربًا. من الصعب حصر كم الدمار الذي لحق بالثروات القومية على يد شباب الثوار، ولكن الكثير من المتعلقات الشخصية، بما في ذلك سجلات الأنساب، واللوحات، والكتب، وأسطوانات الفونوغراف، والصور الدينية، كانت تضيع للأبد أيضًا.
لم يوافق الكثير من أفراد الحرس الأحمر على الغارات على منازل «الفئات الخمس السوداء» (انظر الفصل الثاني) أو المشاركة فيها، وكذلك استاء الكثيرون من العنف ضد المعلمين ومسئولي المدارس. وفي كثير من الحالات كانت الدولة تتدخل لحماية معالمها الأثرية الكبرى. فقام رئيس الوزراء شو إن لاي بوضع قوة من الحرس العسكري في المواقع الثقافية المهمة؛ حتى القادة اليساريين، أمثال تشن بودا وتشي بنيو، ساعدوا في الحد من الدمار. وفي بعض الحالات كان السكان المحليون يتدخلون لحماية الكنوز التاريخية، مثل مواقع الأسرة الكونفوشية في كوفو بإقليم شاندونج. وقام الطلاب وهيئة التدريس بإخفاء مكتبة التسجيلات لمعهد الموسيقى العالي، ووجدت الكثير من العائلات طرقًا مبتكرة لإخفاء المقتنيات القيمة.
جانج هوا «تقرير عن تدمير الكتب»
فوجو وانباو (١٨ أبريل، ١٩٨٩)
أنا مدرس تستطيع القول بأنه مدمن للكتب، ومع ذلك فقد اشتركت يومًا في تدميرها. ليس لدي تفسير منطقي لهذا الخطأ الفادح. الزمان: ذروة صيف عام ١٩٦٦. المكان: مصنع الورق حيث كنت أعمل. كنت قد أُخرجت من المدرسة، وأُمرت باجتياز فترة عمل، وجاء يوم عصيب ترك بداخلي شعورًا مضطربًّا. عندما دخلت المصنع، لم أسمع الأصوات المعتادة للشاحنات التي تقوم بنقل المخلفات. كان المصنع بأكمله الذي كانت مساحته مائة متر مربع يعج بتل رهيب من الكتب: كتب على الطراز الأجنبي مجلدة بأغلفة صلبة، وكتب ذات خيوط على الطراز القديم، وكتب ذات أغلفة ورقية. اقتربت من كومة الكتب وألقيت نظرة على المجلدات الممتدة أمامي. وانتابني الغضب حين وجدت الكتاب الذي يعتلي القمة هو كتاب «أعمال دو شاولينج» الذي طالما أُعجبت به. وبالتنقيب داخل الكومة، وجدت «كتاب القصائد الغنائية»، و«شاو مينج وين شوان» و«قصائد جديدة من جايد تراس»، و«سو دونج بو يوفو».
دعا رئيس العمال لاجتماع قبل بدء العمل، وراح يقرأ بعض مقولات الزعيم ماو وتلا علينا مهام عملنا. «لقد قالت السلطات إن هذه الكتب من القدماء الأربعة؛ فالمجموعة بأكملها إما إقطاعية، أو رأسمالية، أو تعديلية. وقد تم إرسالها إلى هنا بعد حملات تفتيش للمنازل من أجل تمزيقها … والكتب التي لا يتم الانتهاء منها سوف تترك لنوبة العمل التالية.»
لم يكن لي أي رد فعل للحظة، بعدها وكزني السيد شاو قائلًا: «اذهب إلى الحوض رقم واحد ومزق هذه الكتب السميكة.» ترددت قليلًا ثم توجهت إلى فوهة الحوض رقم واحد وجلست القرفصاء، لأرى أمامي كتبًا ضخمة مثل «قاموس الإنجليزية إلى الصينية»، و«قاموس الروسية إلى الصينية»، و«الرياضيات المتقدمة»، وكتب أخرى بلغات أجنبية لا أتذكر أسماءها. تجولت عبر عدة صفحات من الكتب ثم توقفت دون وعي مني. رفعت رأسي فرأيت السيد دنج والسيد جيانج يمزقان الكتب برشاقة وخفة يد، مقطعين أربطة أغلفة الكتب بسكاكين صغيرة، وأخذوا يبعثرون الصفحات على فوهة الحوض بشكل تلقائي كما لو كانت الشاحنة قد سلمت كومة من الأوراق المهملة. وعندما شاهداني أتسكع وأضيع الوقت، نادياني بحدة قائلين: «ماذا تظن أنك فاعل؟ لتبدأ العمل!» وبيدين مرتعشتين، رحت أنتزع صفحات من الكتب، ولكنني شعرت بطعنة ألم كما لو كنت أمزق قلبي. فكرت لوهلة في إخفاء كتاب «أعمال دو شاولينج»، ولكن انتابني الخوف من احتمال قيام الحرس الأحمر بهجمة مفاجئة، ولم أكن أريد أي متاعب. ولم يمر وقت طويل حتى كنت أمزق الكتب إربًا دون أية مبالاة، واضعًا الصفحات الممزقة داخل فوهة الحوض. ورأيت بأم عيني ما يقرب من طنين من الكتب يتحول إلى عجينة ورقية صفراء تقلَّب جيئة وذهابًا خلال عملية صناعة عجينة الورق.
منذ بداية حملة تدمير القدماء الأربعة، سمعت أن مصنعنا وحده ألقى حوالي عشرين عربة ورق في المرجل. وبغض النظر عن كونها بيضاء أم حمراء، فقد ابتلعها المرجل جميعًا!
إن التاريخ الصيني والأجنبي يزخران بسوابق مماثلة في تدمير الكتب بما يكفي، لكن تشين شي هوانج دي لم يحرق كتبًا عن الزراعة والطب، ولم يحرق هتلر سوى الكتب ذات «الأيديولوجية المعادية للألمان»، وكتب الجنس (لو شون، «مقارنة بين حرق الكتب لدى الصينيين والألمان»): فكلاهما كان ينتقي ما يحرقه. لقد كان نمط وروح هذه الحرائق مختلفًا اختلافًا واضحًا عن تدميرنا للكتب؛ ففيما عدا مجموعة معينة من الكتب الحمراء، كان بالإمكان إدراج جميع الكتب ضمن فئة القدماء الأربعة وتدميرها. علاوة على ذلك، كانت وصفتنا لتدمير الكتب — استخدامها كمخلفات — تتفوق تفوقًا هائلًا على نهج تشين شي هوانج دي وهتلر. من يمكنه أن يدعي أنهما كانا أكثر همجية منا؟
وقع في نفس المصيدة مع القدماء الأربعة رموز الفن البرجوازي، بما في ذلك الكتب والموسيقى الواردة من الخارج، وكذلك المنتجات الصينية الحديثة في الفترة من ١٩١١ إلى ١٩٤٩. فقد انتقدت الأعمال المرتبطة بالكتلة السوفييتية انتقادًا عنيفًا باعتبارها منتمية للتيار التعديلي. فقد كانت مرحلة التعبئة الجماهيرية للثورة الثقافية، والتي اتخذت نبرة قومية من البداية، تُظهر توجهًا قوميًّا متعصبًا للهوية الوطنية كان واضحًا كل الوضوح في المجتمع الصيني. وقام الحرس الأحمر في مدينة هاربن الشمالية الشرقية بشكل مستبد وعنيد بهدم كنيسة أرثوذكسية خشبية بأكملها، وكانت من أطلال التأثير الروسي.
كان الحرس الأحمر يتعرضون لمواطنيهم ممن كانوا يصففون شعرهم بطرق لا تتسم بالبساطة بما يتفق مع التقاليد، ومن ثم كان يفترض أنهم «برجوازيون»، وأحيانًا ما يهذبون لهم شعرهم على قارعة الطريق دون طلب. وكانوا يرفضون الأحذية المستدقة، والبنطلونات الضيقة، والعطور، والحيوانات المنزلية، والقمار، والمجوهرات، والدعابات البذيئة، وألعاب المقامرة. وحلت المعاطف الثقيلة الضخمة لأفراد جيش التحرير الشعبي محل طراز هونج كونج لجعل الشكل الجديد هو الموضة السائدة. كذلك قام الحرس الأحمر بتغيير أسماء الشوارع، تاركين السفارة السوفييتية في شارع أنتي ريفيجونيست (بمعنى المعادي للتعديلية)، إلى جانب إعادة تسمية شارع وزارة الخارجية ليصبح شارع أنتي إمبرياليست (بمعنى المعادي للإمبريالية). وكان على رئيس الوزراء شو إن لاي الاعتماد على كل مهاراته الدبلوماسية لمنع إشارات المرور الحمراء من التحول إلى إشارة ثورية «للانطلاق» بدلًا من التوقف. كذلك قام الأفراد بتغيير أسمائهم، كتطهير من رائحة الإقطاع العفنة. وأُطلق على الأطفال أسماء تفوح منها رائحة الفضائل الثورية والمادية، كأن يسمى الطفل «ريد هيرو» (البطل الأحمر) بدلًا من «بريشيوس جايد» (اليشم الثمين).
وبقدر قصر مرحلة تدمير القدماء الأربعة، فقد ارتبطت ببعض من أحط أشكال العنف، وهو ما دفع بعد ذلك إلى إدانة الحرس الأحمر ليس فقط لأفعالهم الشائنة، ولكن أيضًا لأفعالهم التخريبية السابقة ضد تاريخ الصين، بما في ذلك ناشطي الكومنتانج المنتمين لحقبة العشرينيات، ولصوص الفن الشرقي المنتمين للحقبة الإمبريالية. فعلى سبيل المثال، أحيانًا ما يلقي السائحون الأجانب باللائمة — خطأ — على الحرس الأحمر في حادث التدمير الشهير الذي حل بحديقة الإشراق المثالي (يانج مين يوان) الإمبراطورية ببكين، والتي تم حرقها — في الحقيقة — على يد جيش بريطاني فرنسي في عام ١٨٦٠.
تزامن مع الهجوم ضد القدماء الأربعة انطلاقة لصناعة الفن الثوري، خاصة من قبل الطلاب المنتمين للحرس الأحمر من المعاهد الموسيقية وأكاديميات الفنون الجميلة. كان الحماس أهم من الجودة، على الرغم من أن الطلاب الأكثر تفوقًا في الخط غالبًا ما كانوا يجنَّدون لكتابة الملصقات ذات الأحرف الكبيرة، التي كانت وسيلة أفضل لجذب القراء.
عندما ساور السلطات المركزية القلق بشأن كيفية السيطرة على الحرس الأحمر، حاولوا تحجيم عروض الشارع الارتجالية، والتي لم تنجح سوى في إثارة الحشود. وبحلول الرابع من ديسمبر من عام ١٩٦٦، التقى شو إن لاي بالمتمردين من مؤسسات فنية عديدة، زاعمًا أن ماو تسي تونج قد أخبره أن الدعاية التي تمارَس في الشوارع ليس من السهل القيام بها على نحو جيد، بل وقد تكون غير آمنة وسط حشود بكين الضخمة. وأكد شو إن لاي للحرس الأحمر أنه سيكون من الأفضل للجميع أن تقوم المدينة بتنظيم العروض الدعائية الكبيرة. وبحلول فبراير من عام ١٩٦٧، سعت السلطات المركزية لإحكام السيطرة بالتصريح بأن الفنانين الشبان «لا بد أن يمتنعوا تمامًا عن الخروج لتبادل الخبرات.» وكان على الفنانين العودة في الحال إلى مدارسهم وأماكن عملهم الأصلية لإعداد الفن الثوري من أجل العمال، والفلاحين، والجنود.
لم يكن ماو تسي تونج وقادة الثورة الثقافية الآخرون راضين عن الصخب القومي بشأن القدماء الأربعة والهجمات على المنازل، لكونها قد صرفت الانتباه عن هدفهم الأساسي، ألا وهو «ممثلو البرجوازية» القابعون في مواقع السلطة. وفي الواقع، كان لأعضاء النخبة السياسية في الصين أذواق ثقافية كانت لتحبط آمال الكثير من أفراد الحرس الأحمر. فكان ماو عاشقًا للأوبرا والروايات القديمة، ويستمتع بممارسة فن الخط لبعض الوقت، ويتبادل القصائد الشعرية مع الثوار القدماء الآخرين. وكان أحد منافسيه، وهو تشين يون مسئول الاقتصاد، راعيًا أساسيًّا لغناء القصص الشعرية في منطقة يانجتسي السفلى «بينجتان». كذلك كان كانج شينج، المسئول عن أعمال الأمن بالحزب، رسامًا رائعًا للوحات أزهار الأقحوان.
أراد ماو إعادة توجيه أكثر جدية للثورة الثقافية تتجاوز الانتفاض ضد ارتداء الأحذية المستدقة والعزف على آلات الكمان. واشتكى في عام ١٩٦٣ من أن الإنجازات في مجال الفن الثوري كانت قليلة للغاية، على الرغم من الجهد الكبير المبذول: «أليس من السخف أن يكون الكثير من الشيوعيين متحمسين للترويج للفن الإقطاعي والرأسمالي، وليس للفن الاشتراكي؟»
(٢) جيانج تشينج والأعمال المسرحية النموذجية
وضع ماو مهمة الترويج للفن الاشتراكي بين يدي زوجته، الممثلة السابقة جيانج تشينج، التي قامت بتنظيم سلسلة من الأعمال المسرحية النموذجية. ولعل النظر إلى جيانج تشينج كمنتجة تعمل مع مجموعة من المطربين، والراقصين، والملحنين المحترفين، من ضمنهم وزير الثقافة يو هوي يونج، هو أفضل منظور يمكن النظر منه إليها. وقد انضمت تلك الأعمال إلى تيار قديم لتحديث الفن من خلال دمج عناصر غربية بشكل انتقائي، مثل الأوركسترا والباليه، ولكنها هنا من أجل خدمة الثورة وليس للترفيه. وكانت جيانج تشينج فخورة بأعمالها الإنتاجية الجديدة، ولكنها لم تكن تحتمل المنافسة. وعلى الرغم من أنها قد بدأت نشاطها قبل الثورة الثقافية، فإنه لم يهيمن حتى وقوع حركة تطهير اليسار المدني وانتهاء التعبئة الجماهيرية. وقد قدمت جيانج تشينج مجموعة من ثمانية أعمال نموذجية للأمة في مايو من عام ١٩٦٧، حين كانت الثورة الثقافية تعمل على تفكيك حرسها الأحمر بالقوة.
كانت هناك مسرحيات أخرى، عُرض بعضها كمسرح شارع، ولكن عُرضت مسرحيات أخرى بطموحات أكبر، مثل مسرحية غنائية عُرضت في ووهان بعنوان «اقصفوا وانج كوانج، أحد أهل السلطة يتخذ الطريق الرأسمالي». ثمة عمل آخر أكثر شهرة بعنوان «مجنون العصر الحديث»، وهي مسرحية عُرضت في تانجين. كان بطل المسرحية هو تشين لينينج، الذي أُودع أحد مستشفيات الأمراض العصبية قبل الثورة الثقافية لاحتفاظه بمذكرات نقدية عن كتابات ليو شاوشي. وعندما أُطيح بليو من السلطة، أُفرج عن تشين واحتُفي به كأسير سياسي محرر. وقد دعم المسرحية وانج لي وتشي بنيو من مجموعة الثورة الثقافية. ولكن تشين لينينج كان يحتفظ بمذكرات نقدية لماو، والتي اكتُشفت، بينما كانت حركة التطهير ضد يساريي الثورة الثقافية تكتسب زخمًا. وقد أعلنت جيانج تشينج أن تشين لينينج ليس بطلًا، ولا حتى مجنونًا، ولكنه معادٍ للثورة. وقد وصمت هذه المسرحية بصلات مزعومة لها بمؤامرة ١٦ مايو، وهي مؤامرة ضد الماويين لم يكن لها وجود، ولكنها اختُلقت للإطاحة بالسياسيين اليساريين الصاعدين أمثال وانج وتشي.
كانت جيانج تشينج تغار من أية منافسة لمشروعاتها الفنية ذات التخطيط الدقيق، وكانت شديدة الحساسية تجاه ابتكارات الحرس الأحمر التلقائية. واستغلت انتهاء حركة الحرس الأحمر لإيقاف تمسكهم البالغ التطرف بالهوية الثقافية. ومن ثم تدخَّلت جيانج تشينج لحماية شكلين مستوردين من الفن، هاجمهما الحرس الأحمر باعتبارهما من الفنون البرجوازية، وهما: الرسم بالزيت وموسيقى البيانو. فقد رأت جيانج تشينج كلا الفنين كفرص لتغيير الفن الصيني. وعلى الرغم من سعادتها برؤية فن الفنانين الفرديين والمتعصبين يعاني، فلم تكن راغبة في السماح لأعضاء الحرس الأحمر السذج بحرمانها من الألوان العميقة والبراقة للرسم الزيتي، أو من لوحة الألوان الصوتية الغنية للموسيقى الغربية. وقد أشادت حملتان مزدوجتان دُشِّنتا في عام ١٩٦٨ بلوحة «الزعيم ماو في أنيوان»، ونسخة البيانو من الأوبرا النموذجية «المصباح الأحمر» بوصفهما إنجازات ثورية جديدة؛ إذ أبرز كلاهما فنانًا شابًّا جديدًا. فقد صوَّر الرسام ليو جون هوا الشابَّ ماو بملامح القديسين وهو في طريقه إلى إضراب لعمال التعدين وقع في عام ١٩٢٤؛ وقد تم توزيع تسعمائة مليون نسخة من هذه اللوحة في جميع أنحاء البلاد. أما عازف البيانو يين تشينج تسونج، الحائز على جائزة في مسابقة تشايكوفسكي بموسكو، فقد صنع مقطوعة مصاحبة بالبيانو لواحد من أشهر أعمال جيانج تشينج النموذجية. وظل الرسم والموسيقى الفعليان المستوردان من الغرب محل جدل على مدار حقبة الثورة الثقافية، غير أنه لا أحد كان سيتساءل عن تعديل وسائلهما وموادهما الأساسية، والتي كانت تنقَّى في ذلك الوقت من أجل الثورة.
كانت أوبرا «المصباح الأحمر» واحدة من المجموعة المبدئية من «الأعمال المسرحية النموذجية» الثمانية، التي كان خمسة منها عبارة عن عروض أوبرالية بأوبرا بكين تناولت موضوعات ثورية، تم تحديثها ليس فقط في القصة، وإنما أيضًا في التوزيع الموسيقي وطريقة العرض، فيما كان اثنان منها عبارة عن عروض باليه وواحد عبارة عن مقطوعة سيمفونية، وكلاهما كان شكلًا ورد حديثًا للصين، على الرغم من أن جيانج تشينج قد قللت من أهمية أصولهما الأجنبية.
كانت لهذه الأعمال المسرحية النموذجية شعبيةٌ بالغة، وتم عرضها في جميع أنحاء البلاد. على سبيل المثال، يدور باليه «الفتاة ذات الشعر الأبيض» عن فلاحة شابة أُجبرت على الاختباء في الجبال بسبب إقطاعي حاقد حتى اشتعل رأسها شيبًا، وظنها الفلاحون شبحًا. ولكنها تعود إلى موطنها بعد أن قضت الثورة على الإقطاعي. فكرة العرض ثورية، ولكنها أيضًا تتعلق بالمرأة والمساواة (على الرغم من أن الثورة الثقافية لم توظف هذا المصطلح). وعلى الرغم من أن الموسيقى صينية بشكل واضح، فإن النوتة الموسيقية مؤلفة لتناسب آلات أوركسترا سيمفونية غربية.
وعلى عكس الأوبرا الصينية التقليدية، أصبحت الموسيقى أعلى، لتنفصل بذلك عن المجموعات الصغيرة من الآلات الوترية التقليدية. ولكن ثمة اختلاف أكبر تمثل في محتوى الأعمال الجديدة؛ فبينما كانت الأوبرا التقليدية تركز على قصص الوعظ الأخلاقي المستقاة من أساطير الأسر المالكة القديمة، كانت الأعمال المسرحية النموذجية تجسَّد في الحاضر، مشتقةً دروسًا من الحقبة الثورية.
وقع اختيار الراديكاليين على الفنون الأدائية لما تحويه من تجديدات؛ لأن الأدب، ذلك الفن الذي كان الأقرب تاريخيًّا للسلطة في الصين، كان يخضع لسيطرة صارمة من قبل خصومهم. ولم يكن الاستيلاء على السلطة في المسرح أسهل فحسب، ولكن خلفية جيانج تشينج كممثلة منحتها ثقة بالنفس إزاء المسرح، افتقدتها مع الفنون الأخرى. كذلك تتسم الأوبرا الصينية كشكل فني بشعبية أوسع من الأدب، مما جعلها أكثر ملاءمة للإصلاحات الشعبية. وأخيرًا، كانت الأوبرا ملائمة للعروض النموذجية، بما في ذلك عروض الهواة والنسخ الفيلمية، بطريقة لم تُتَح للروايات أو القصائد. وهذه الاختيارات منحت فنون الثورة الثقافية حيوية فورية واتجاهًا سياسيًّا.
بعض اختيارات جيانج الفنية الأخرى كانت شخصية إلى حد كبير؛ فقد كانت تكره الأغاني الفولكلورية، ورفضت فرصة لدمج ألحان لها شعبية مثبتة في أعمالها. كذلك كانت تراجع الآلات المستخدمة في اللحن السيمفوني بشكل منتظم، وقررت أن آلة التوبا قبيحة ومن ثم لم تجد مكانًا لها في برنامجها. لقد مزج الفن المركب الذي أنتجته بين الفن غير الراقي والفن الرفيع، وهو يناسب نهج حركة الرابع من مايو في تحديث الصين من خلال ثقافتها.
(٣) جماليات الثورة الثقافية
الأهم من نزعات جيانج تشينج الشخصية أن الثورة الثقافية قد استفادت من بعض التقاليد القديمة على الرغم من أنها كانت تنادي بفن راديكالي جديد. لم يسبق لمصطلح الفن لأجل الفن أن ساد في الصين مطلقًا، فغالبًا ما يعتقد الغرب أن الفن لا بد أن يسمو بالروح، وأن قراءة رواية «الحرب والسلام» لتولستوي، أو التحديق في تمثال فينوس دي ميلو يساعد في تكوين إنسان أكثر تحضرًا ورهافة. وتلك أمنية إنسانية بحتة: أن تُمكننا الفنونُ من فهم الحقائق الأساسية عن الطبيعة البشرية. كذلك يقل لدى الغرب التقاليد الفنية الموجهة للإقناع، مثل لوحات فرانسيسكو جويا المريعة عن الحروب النابليونية، أو أفلام سيرجي أيزنشتاين عن الثورة الروسية. والفن ذو الرسالة في الصين تقليد أساسي؛ فالفنانون الصينيون على اختلاف قناعاتهم السياسية يسلمون بديهيًّا بأن فنهم لا بد أن يكون بمثابة تعليق على الحياة العامة، إما كموظفي دعاية مدفوعي الأجر أو كنقاد منشقين عن النظام. إن الفن ليس بحاجة لامتلاك قناعة سياسية، ولكن معظم الفنانين يتفقون في الرأي على أن الفن لا بد أن يثقِّف ويوعِّي. والحق أن البعض يعتبرونه عملًا سياسيًّا حين يتجه الفنانون إلى الداخل لأفكار شخصية تأملية.
ويتوافق هجوم الثورة الثقافية على التجارة تمامًا مع فكرة أن النشاط التجاري قد لوَّث الفن. والواقع أن جزءًا كبيرًا من عالم فنون ما قبل الحداثة في الصين ارتبط بالتجارة. ولكن الأنشطة التجارية غالبًا ما كانت تتخفى في شكل هدايا أو لا تسجَّل، حتى يتسنى للجميع الإبقاء على ذلك الوهم الأرستقراطي الأنيق بأن الفن يسمو فوق المال. وقد شجَّعت الثورة الثقافية تقديس الهواة، للتحقير من نخبوية الفنانين المحترفين. فقد خيِّل للراديكاليين أن العمال، والفلاحين، والجنود يمكنهم أن يصبحوا فنانين ومؤدين من شأن مشاركتهم أن تُحدث ثورة ثقافية جديدة. والحقيقة أن إصرار جيانج تشينج على المعايير العالية قد أدى إلى الاستغلال غير المعلن للمحترفين كمعلمين للفنانين الهواة، وهو الأمر الذي تم إخفاؤه بحرص عن أنظار الرأي العام.
لم يصوِّر نموذج الهواة لحركة النضال الماوي الفنَّ كمتعة ترويحية؛ فقد كان الفن على قدر عالٍ من الجدية لا يسمح بمثل هذا التوجه التعديلي. لقد كان الفن نفعيًّا بشكل عنيف، وليس به سوى مساحة محدودة لأي طابع خيالي حالم، وهو عنصر من المدهش غيابه في حركة لها مثل هذه الطموحات اليوطوبية الحالمة. ولكن إذا لم يكن الفن من أجل المتعة، فقد ظهرت المتعة رغم ذلك، خاصة في الريف المعدم ثقافيًّا. فقد استمتع الناس بمشاهدة وأداء العروض الأوبرالية، واستمتع الكثيرون بالوضوح الجلي للرسالة. والحق أن غياب البدائل الفنية ربما يكون قد ضاعف من قوة التجربة. غير أن الآخرين كانوا دائمًا ما يتضررون من الحدود الضيقة للفن المقبول. فلِمَ كان الاستمتاع بلوحة لسمكة ذهبية عداءً للثورة؟
لم يكن لدى الثورة الثقافية الكثير من الهوادة والتسامح تجاه الجماليات الصينية التي كانت تتلاعب بالزخرفة، والتعقيد، وإظهار ولع عفوي بالتحف الفنية. فقد كان فن الثورة الثقافية في شدة التُزمت لنقل الكثير من حس اللهو، ويتضح ذلك على وجه الخصوص في الصناعات اليدوية التقليدية. فقد وضعت الثورة الثقافية نهاية جبرية للمنتجات التي تحمل أسماء مثل: «جويفي المحظية الثملة»، أو «الجنرال والوزير يعقدان صلحًا»، أو «الثمانية الخالدون» (في الطاوية)، أو «بوذا المنتفخ»، تلك المنتجات التي كانت مهددة بالفعل من قبل الثورة، التي قضت على جامعي التحف الأثرياء الذين كانوا يشترون الآنية المطلية باللَّك، والمنحوتات المصنوعة من المينا المزخرفة، أو العاج، أو اليشم. وتعلَّم مصنع جينجدتشن الشهير لصناعة الخزف الصيني إنتاج شارات ماو (المرغوبة بشدة). وتوصَّل مصنع ببكين إلى تصميمات جديدة للتماثيل الصغيرة المعبرة عن الثورة، من ضمنها تماثيل لشخصيات مشهورة من عروض الأوبرا النموذجية، والجندي المثالي لي فينج، والشهيد الكندي نورمان بيثون شهيد الثورة الثقافية. غير أن الولع بالتحف الفنية استمر واتجه آنذاك نحو الثورة. فقد عرضت أحد المتاجر متعددة الأقسام المملوكة للبر الرئيسي لهونج كونج نابَ فيل نُقش بدقة وإحكام رائع لتجسيد معركة هائلة من معارك المسيرة الطويلة، وفيها كانت تماثيل صغيرة لجنود الجيش الأحمر تهاجم العدو بإلقاء قذائف يدوية على طول الطريق نحو سن الناب. ولكن سوق هذه السلع الثورية المترفة كان محدودًا.
لم تبذل الثورة الثقافية الكثير من أجل تقويض المفهوم الصيني القديم من أن الحكام الجيدين يهتمون بالثقافة، مما أضفى شرعية على الجهود الماوية من أجل إعادة تعريف فنون الصين. غير أنه صنع بعض التنافر. ففي ظل النزعات الجمالية للكثير من القادة الشيوعيين، شجَّعت القيود الجمالية للثورة الثقافية على النفاق. فحين حظرت عروض الأوبرا التقليدية، كان ماو تسي تونج يشاهد مجموعة من العروض المصورة خصيصًا في مسكنه الخاص. وكان قادة المستوى الأدنى للحزب يستطيعون مشاهدة الأفلام الأجنبية المحظور عرضها للعامة، بداعي «الدراسة»، فيما قضى تشو دي — قائد الجيش الأحمر الذي لم يكن له أية فاعلية على المستوى السياسي — فترة الثورة الثقافية في مشاهدة أفلام أبوت وكوستيلو، ذلك الثنائي الكوميدي الأمريكي الذي اشتهر في فترة الأربعينيات من القرن العشرين. وكان الأكثر خبثًا من هؤلاء هو الخبير المحنك كانج شينج، أحد حلفاء ماو الأساسيين الذي اختار آلاف اللوحات، والأختام الصينية المنحوتة، والكتب لضمها لمجموعته الخاصة من غارات الحرس الأحمر على الملاك البرجوازيين.
انفصل الفن الماوي انفصالًا حادًّا عن تقليد النظر إلى أي ماضٍ مقدس؛ فقد كان تقديس الصين لعصر ذهبي قديم يتعارض مع التقديس الغربي للتقدم وأن الأفضل قادم. وهنا انضم الماويون إلى نهج حركة الرابع من مايو من مقت واحتقار الثقل الكبير لتراث الصين، الذي اعتبر بمثابة وعاء للقيم الإقطاعية. واستمر الثوار الثقافيون في الإصلاح اللغوي، تلك الحملة الموجهة لتوحيد وتبسيط الحروف الصينية المكتوبة من أجل الحد من العوائق التي تحول دون محو الأمية.
لقد قضى الماويون على هيمنة الأدب التي استمرت لزمن طويل باعتباره الشكل الفني الأجلَّ والأبرز عن طريق رفع مكانة واعتبار الفنون الأدائية، التي لم يكن نهج رجال الأدب يقيم لها ثقلًا كبيرًا. وقد شمل النجوم الجدد المطرب تشيان هاوليانج، والراقص ليو تشينج تانج (اللذين عينا نائبين لوزير الثقافة)، وعازف البيانو يين تشينج تسونج (ملحن «كونشرتو النهر الأصفر» الشهير ونائب رئيس الجمعية الموسيقية المركزية). وكان الروائي الأشهر في تلك الفترة هو هاو ران، الذي باعت روايته «الطريق الذهبي» ٤ ملايين نسخة في أول عام نشرت فيه، وهو عام ١٩٧٢. ولكن هاو تميز بعدم وجود أقران له في الأدب؛ فقد كان الكاتب الوحيد الذي كان يحصل على عمولات في بداية السبعينيات، متمتعًا بذلك بمعاملة مادية متفردة مساوية لتلك التي حظي بها المسئولون على المستوى الوزاري.
وأخيرًا، تتميز فنون الثورة الثقافية لرفضها العنصرية الجنسية التقليدية؛ فالكثير من الأعمال تُبرز بطولة نسائية قوية بشكل واضح، مما يؤكد سعي الحركة الحثيث من أجل دمج المرأة في المناصب القيادية. وربما رأى البعض حتمًا تجسيدات لجيانج تشينج بغرض التزلف والتملق في المحاربات في باليه «الانفصال الأحمر للنساء»، أو البطلة الشجاعة الذكية في أوبرا «المصباح الأحمر»، لي تيمي.
(٤) السيطرة السياسية والخوف من التلقائية
كانت الإصلاحات الفنية أيضًا بمثابة نظام للسيطرة السياسية. ولا يقصد بهذا السيطرة على الأفراد، الذين بدوا قادرين تمامًا على التمييز عندما يتغنون مع ماو لا أكثر، أو فقط يستمتعون بوقت طيب، بل يُقصد بذلك الإشارة إلى دور الفنون في تعزيز حس من المشاركة السياسية المشتركة.
كانت الثورة الثقافية فترة من اللامركزية الراديكالية، وقد كان هذا متعمَدًا بشكل جزئي؛ فالسياسات الاقتصادية القائمة على الاعتماد على النفس استغلت الحاجة إلى تجنُّب إثقال نظام النقل المتهالك في الصين أكثر من اللازم. كذلك كانت اللامركزية غير متعمدة، كما ظهر في الانهيار الوشيك للبنية الإدارية القومية عندما تعرَّضت مؤسسة الحزب للنقد الشديد. وعلى عكس الاتجاهات السياسية والاقتصادية التي كانت تتجه نحو اللامركزية، كانت فنون جيانج تشينج تميل نحو المركزية إلى حد كبير.
ساهمت عسكرة الثقافة الصينية في تسخير الحس الفني لخدمة الأمة بأسرها، خاصة قبل وفاة لين بياو في عام ١٩٧١؛ فقد سيطر الجيش على وزارة الثقافة في عام ١٩٦٥، خلال فترة الإعداد التي سبقت الثورة الثقافية. وفيما بعد، أصبحت مجموعات ثقافية كاملة، مثل أوركسترا الجمعية الموسيقية المركزية، تؤدي عروضًا في ملابس عسكرية؛ إذ كانوا يسعون لنيل حماية ورعاية الجيش. كذلك قامت مجموعات الفنون الأدائية ذات الاحترافية العالية للجيش بأداء أعمال جديدة.
كان للسيطرة الماوية المركزية على الثقافة أثرها في تمكين السلطة المركزية من رسم صورة لأمَّة أكثر توحدًا مما هو مكفول في الواقع. فقد حقَّقت الثورة الثقافية ظاهريًّا التجانس بين الفوارق العرقية، والاقتصادية، وحتى النوعية. ويشكِّل تعداد الصين السكاني الهائل ومساحتها الشاسعة الأساس لخصائص ثقافية إقليمية فريدة وعظيمة. وغالبًا ما تمثِّل هذه الخصائص حدًّا فاصلًا بين الشمال والجنوب، ولكن بخواص فنية فريدة، سواء إقليميًّا أو حتى على مستوى المقاطعات، في الأوبرا، وسرد القصص، والرسم، والصناعات اليدوية. وقد أُحبطت بعض التفضيلات الثقافية المحلية، إن لم تكن قد قُمعت، قبل الثورة الثقافية. وصرفت الثقافة الصاخبة اللافتة القادمة من بكين الانتباه عن التنويعات المحلية العديدة التي عادت للظهور بشكل عملي، كنتيجة للفوضى الإدارية واللامركزية الاقتصادية.
فرضت حركة جيانج تشينج للإصلاح الثقافي سيطرة مركزية على التلقائية؛ فقد سعت مع زملائها لصناعة فن بدا ملهمًا دون إعادة تعبئة منظمات السياسة الجماهيرية فعليًّا. وكان من إحدى عواقب هذه المهمة المستحيلة غياب التنوع الفني، ونقص الأعمال الفنية الجديدة حتى في عيون الماويين المخلصين. ولم يستطع فريق الإنتاج الخاص بجيانج تشينج، برئاسة وزير الثقافة الجديد يو هوي يونج زيادة الإنتاج بالسرعة الكافية للحيلولة دون انتقاد الزعيم ماو لهم.
غالبًا ما يقال إن فنون الثورة الثقافية تألَّفت فقط من أعمال جيانج تشينج المسرحية النموذجية الثمانية. وتلك مبالغة، ولكنها تحمل إشارة إلى النقص الثقافي. فقد ظهرت مزيدًا من الأوبرات الثورية، إلى جانب كونشرتو بيانو، وسيمفونية، وثلاث مجموعات من المنحوتات، وعرضين للباليه، وبعض الأفلام والمسرحيات الناطقة، بالإضافة إلى حوالي مائة رواية، وقصائد قصصية محلية، ومسرح للعرائس. وكان هناك ملصقات دعاية، ولوحات، وأغنيات. علاوة على ذلك، شملت الفنون الأخرى قصائد ماو الشعرية، والرواية الكلاسيكية «حافة الماء»، وأدبيات قانونية أُعيد طباعتها جميعًا إبان الحملة المضادة للين بياو وكونفوشيوس. وكانت الأفلام والروايات الأجنبية متاحة لذوي الحظوة السياسية. غير أنه من المستغرب أن تكون قادرًا على تدوين معظم الفنون المتاحة لمواطني مثل هذه الأمة المثقفة ذات الكثافة السكانية على مدار عقد كامل.
ساهمت عوامل عدة في إبطاء حركة الإبداع، من بينها ضخامة وغرور الهدف الذي حددته جيانج تشينج؛ فقد كانت شخصيتها المستبدة والانتقامية تذكِّر الجميع بأن السيطرة على الفن أسهل من إنتاجه.
لقد كان الثوار الثقافيون يرغبون حقًّا في ثقافة مزدهرة، وحماسية، وثورية لتحل محل كل ما مضى، ولكنهم كانوا يخشون ما يمكن أن تطلقه المشاركة الجماهيرية. ففي عام ١٩٧١، حث جانج تشن شياو على تخفيف محدود للرقابة على الفنون، موجهًا إلى أن الأغنيات الجديدة لا تحتاج للحصول على موافقة من السلطات المركزية، ولكن في عام ١٩٦٧، كانت وزارة الثقافة لا يزال لديها مكتب لتقييم الأغنيات الجديدة، من بينها ستمائة لحن تهاجم دنج شياو بينج (الذي أطيح به للتو من منصبه كنائب لرئيس الوزراء)، و«الانحراف اليميني».
لم تكن العقوبات على الفنانين تطبق إلا عندما يتجاوز مقال أو لوحة «حدًّا فاصلًا». لكن الحدود كانت نادرًا ما تحدَّد بوضوح، مما ولَّد مزيدًا من القلق والاضطراب لدى الفنانين. وظل الرؤساء على حذر، ليس فقط بسبب «رؤسائهم»، ولكن أيضًا لأن الماوية كانت تعمل بشكل غير رسمي، عن طريق تحريض المواطنين الغاضبين لإبداء تذمرهم الشديد من الانتهاكات الأيديولوجية. كان النظام يعمل بشكل فعال في ظل وجود ملايين الماويين المتقدين بالحماس؛ ولكن عندما خفت الحماس السياسي بعد الثورة الثقافية، خفتت كذلك فاعلية الرقابة.
كان لقلة منافذ النشر دورها في تسهيل مراقبة نشاط الكُتَّاب؛ فبحلول عام ١٩٧٣، لم يكن هناك سوى خمسين مجلة وصحيفة، من إجمالي ١٣٣٠ في عام ١٩٦٠. وأدى انهيار المؤسسات في عام ١٩٦٦ إلى انهيار وسائل الإعلام التي كانت تقوم برعايتها. ولكن تعطيل الروابط والاتحادات المهنية للفنانين وغيرهم من المثقفين كان يعني أن الثوار الثقافيين يعملون بدون منظومة الدعم التي نمت خلال الأعوام السبعة عشر. لقد عمد العديد من المثقفين لمساعدة النظام الجديد، ولكن الفنانين المُحبَطين لم يكونوا ليرغموا على الكتابة، أو الرسم، أو تصميم الرقصات.
لم تبدأ مبادرات أخرى جديدة، مثل الرسم الريفي، إلا في مرحلة متأخرة من الثورة الثقافية. تطورت هذه المشروعات ببطء، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الحاجة الماسة إلى الاستعانة بمحترفين مدربين تدريبًا رسميًّا (ولكن موصومون أيديولوجيًّا) لتدريب الفنانين الجدد من الفلاحين.
كانت بعض العقائد التي تحكم العمل في الأعمال المسرحية النموذجية تشكِّل عقبات؛ فكان من الصعب أن تجسد العدو، خوفًا من إظهار المُلاك، والغزاة اليابانيين، و«الأعداء الطبقيين الخفيين» المتواجدين حاليًّا كشخصيات شائقة ومثيرة أكثر من اللازم. وقد وضعت «نظرية الشخصيات المرموقة الثلاث» قواعد للفنانين: «من بين جميع الشخصيات، سُلِّط الضوء على الشخصيات الإيجابية؛ من بين الشخصيات الإيجابية، سلِّط الضوء على شخصيات الأبطال الأساسيين، من بين جميع الأبطال، سلِّط الضوء على الشخصية المحورية.» وكان هذا يعني على الصعيد العملي أن الأبطال كانوا يحتكرون الحدث، ويفيضون بضوء من الشمس، كما ظهر في كثير من ملصقات ماو تسي تونج.
عاودت التلقائية الفنية الظهور خلال مظاهرات الخامس من أبريل عام ١٩٧٦، التي خرجت ترثي وفاة رئيس الوزراء شو إن لاي؛ إذ قام الكثير من الناس بتعليق قصائد شعرية وسط أكاليل الزهور التي وُضعت في ميدان تيانامين تكريمًا له. وشنَّ عدد ليس بالقليل من هذه القصائد هجومًا شرسًا على جيانج تشينج وحلفائها. وحتى هذه القصائد التي كانت عفوية في البداية، وانتهى الأمر بنشرها بعد وفاة ماو كجزء من حملة منظمة ضد الثورة الثقافية، ذكَّرت القراء كيف أصبح الفن متداخلًا بعمق مع السياسة.
(٥) مخاطر العمل الثقافي
غالبًا ما كان الفنانون العجائز وأبناؤهم مستهدفين من الثورة الثقافية، إذ كان كثير منهم ينحدر من عائلات ذات مستوى تعليمي راقٍ، كانت تساند الحزب الشيوعي في البداية في عام ١٩٤٩. ولكن الضربتين المزدوجتين المتمثلتين في حملة ١٩٥٧ المضادة لليمينيين والثورة الثقافية جعلت الحزب يجد صعوبة في جذب حماسهم والاستفادة من علمهم.
خلال فترة الثورة الثقافية، ارتفعت مخاطر العمل في مجال الفن؛ فبحلول عام ١٩٦٩، كان الحزب ينتقد بشكل دفاعي «النظرية الخاطئة بأن العمل الثقافي خطير»، وهو الاعتقاد بأن البرجوازيين يعتبرون الثقافة ملكية لهم بالوراثة، مما أخاف العمال والمثقفين الثوريين. وقد ذهب الحزب إلى أن النضال في مجال الثقافة معقد بشكل خاص، وهو ما كان رسالة غير مطمئنة للفنانين القلقين.
إلى أي مدى يمكن أن يكون العمل الثقافي مصدر عناء وقلاقل؟ على سبيل المثال، كان تشن مين يوان باحثًا في معهد السمعيات بأكاديمية العلوم في الثانية والعشرين من عمره. حين كان طفلًا، التقى بجوو مورو، الكاتب المسرحي وعالم الآثار المنتمي لليسار، والذي علَّم تشن الصغير كيفية كتابة الشعر. وفيما بعد، أرسل تشن أشعاره إلى معلمه، ويبدو أن هذه الأشعار قد اختلطت مع أشعار أخرى من أحد المراسِلين الآخرين لجوو مورو، هو ماو تسي تونج. وفي أكتوبر عام ١٩٦٦، أنتج الحرس الأحمر طبعة مستنسخة من كتاب «قصائد لم تنشر للزعيم ماو». ومن بين أربع وعشرين قصيدة احتواها الكتاب، لم يكتب ماو سوى قصيدتين فقط؛ فيما كانت عشر منها لتشن. عندما سمع تشن أفراد الحرس الأحمر يقرءون قصائده خارج أكاديمية العلوم، أفصح عن ذلك فقط ليوصف ﺑ «المعادي للثورة» لتجرُّئه على نسب أعمال الزعيم لنفسه. وسُجن تشن حتى سقوط لين بياو، حين سُمح له بالعودة إلى الأكاديمية، ومع ذلك لم يسمح له باستئناف نشاطه العلمي حتى عام ١٩٧٨. ولم يجرؤ أحد على أن يسأل ماو إن كان قد كتب هذه القصائد.
هجر كثيرون الفن للهروب من السياسة كلية؛ فقد توقف اثنان من أعظم أدباء الصين، هما شيان شونج شو وشين كونج ون، عن الكتابة في عام ١٩٤٩. ولم يستطع رفض نظام عمولات الرسم علنًا وبشكل صريح إبان الثورة الثقافية سوى قليلين، ولكن كثيرين وجدوا أن الإبطاء والعمل بلا روح أو حماس بمثابة إجراء عملي. كان معظم الفنانين موظفين حكوميين، وحتى الفنانون المتمارضون استمروا في صرف رواتبهم الحكومية من وحدات عملهم. ولكن عازف الكمان جانج شيهانج تجنَّب هذه الحيلة؛ فنظرًا لانشغاله بالموسيقى فقط، لم يكن لديه أي نشاط سياسي يؤخذ عليه، وأعطاه أحد الأطباء شهادة مرضية تفيد بإصابته بمرض مزمن، وأُدخل المستشفى أربع مرات، وقضى الكثير من الوقت في تعليم طفليه العزف على الكمان.
وجد الكثير من الحرس الأحمر المحبين للاطلاع والقراءة ملاذًا في الفنون بعد إرسالهم إلى الريف. ففي كثير من القرى، كان الفلاحون الأميون يكنون احترامًا كبيرًا للتعليم، وقرروا أن يمنحوا المثقفين الشبان مساحة لممارسة فن الخط أو قراءة الكتب الكلاسيكية التي حظيت بتبادل سري نشط.
غير أن آخرين من أفراد الحرس الأحمر استخدم الفن كطريق للخروج من الريف، أو على الأقل من العمل اليومي في الحقول. فقد خلق الضغط من أجل توسيع نطاق الفرق الغنائية والراقصة المتجولة حاجة جديدة لشباب موهوبين موسيقيًّا. وظهر اتجاه مماثل في المصانع الحضرية، حيث كان الموسيقيون والرسامون من العمال يعفُّون من مهامهم الاعتيادية من أجل البروفات والعروض لتحفيز زملائهم على بذل جهود أكبر. وقد أدت هذه الاتجاهات إلى ارتفاع حاد في أسعار آلات الكمان والأوكورديون المستعملة.
عند وفاة ماو في عام ١٩٧٦، كانت جيانج تشينج وحلفاؤها يقفون على قاعدة سياسية في غاية الضيق؛ فعلى قدر قوة الثقافة، فإن قوتها لا تتكشف إلا على المدى الطويل؛ فلا يمكنها أن تتفوق على مصانع الصلب أو الجنود في أية مواجهة، ومن ثم قام دنج شياو بينج بجمع تقارير من الفنانين المحبطين، ثم استخدمها لمحاولة تقويض دعم ماو لجيانج تشينج.
كانت التحديات التي فرضتها الفنون الماوية على الثقافة الصينية ضخمة، ولكن هذه القضايا الفنية كانت أكثر اختلافًا عن كونها مجرد قضية هدم مقابل وقاية. أيضًا لم تُختزل الانقسامات إلى صراع بين الحزب الشيوعي والفنانين، فكلاهما سقط معًا، وكلاهما عاد معًا. لقد كانت الثورة الثقافية أداة هدم وإحياء على حد سواء، ونهايتها لم تضمن عصرًا من الحرية الفنية.
بالنظر إلى الوراء، نجد أن الثورة الثقافية قد بُنيت على برنامج قوي قائم للتحديث الجذري لحركة الرابع من مايو، بما يحمله من رفض لعبء القيم «الإقطاعية» الثقيل. غير أن الثورة الثقافية أيضًا نبذت التغريب الكامل المؤيَّد من جانب نشطاء الرابع من مايو الأكثر تطرفًا، بل قام الماويون، بدلًا من ذلك، بتنمية قومية صينية مدعمة بالتقنيات الغربية.
وبالنظر إلى المستقبل، نجد أن الثورة الثقافية قد صنعت جمهورًا ثقافيًّا متجانسًا، شُحذ برسائل وعظية، وتشكَّل لاستبعاد أدوار تروق بشكل أساسي لمنطقة، أو طبقة، أو عرق. وقد أصبح ذلك فيما بعد سوقًا تجارية واسعة للترفيه، مما يعد استكمالًا للسعي إلى التجديد التقني تحت راية التحديث. والأهم من ذلك أن الثورة الثقافية كانت ضربة موجهة لتحطيم الدور المميز للنخبة المثقفة في الحياة السياسية، وجاءت مطرقة السوقنة التي لا ترحم لتضعف مكانتهم أكثر. حتى ضغط الثوار الثقافيين على الفنون الأدائية يظهر الآن كجزء من اتجاه عالمي أطول، تقلَّص بفعله دور المثقف المتحضر، من خلال التوجيه السياسي أولًا، ثم لامبالاة السوق.