اقتصاد «الاعتماد على النفس»
كان «الاعتماد على النفس» هو الشعار المرشد لاقتصاد الصين خلال الثورة الثقافية، مما يعكس عزلة الصين كدولة ورغبات الماويين في استبدال العمالة البشرية الوفيرة برأس المال النادر كاستراتيجية للتنمية الاقتصادية. لقد كان الاقتصاد يتقدم بشكل أفضل مما اعترف به الإصلاحيون في حقبة ما بعد ماو، ولكنه لم يعمل وفقًا لأنماط تنموية روتينية؛ فقد كان معدل دخول الصينيين منخفضًا، ولكنهم حظوا بمستوى ثقافي ومتوسطات أعمار أعلى كثيرًا مما يوحي به مثل هذا المستوى من الفقر في العادة. فقد ارتبط الاعتماد على النفس للصين بتزمت أيديولوجي للحد من الاستهلاك الفردي في سبيل الاستثمار العام. في البداية تسبَّبت الثورة الثقافية في تعطيل الاقتصاد، ولكن النظام عاد إلى مدن الصين بعد عام ١٩٦٨، مع إرسال ملايين من أفراد الحرس الأحمر للعمل في الريف، الذي لا يزال موطنًا ﻟ ٨٠ بالمائة من السكان. وعلى الرغم من نمو الاقتصاد بشكل كبير، ظلت الفجوة بين المدينة والريف محل إشكالية. فقد كانت الثورة الثقافية هتاف تشجيع أخيرًا للمبادرات الاقتصادية الماوية المتميزة. غير أن الاستثمار الماوي في البنية التحتية ورأس المال البشري وفَّر أساسًا لا غنى عنه للانفتاح الاقتصادي اللاحق للصين على العالم الخارجي.
(١) الفقر والنمو الاقتصادي
كانت الصين دولة فقيرة؛ فكان معدل دخل الفرد الواحد ٨٥٩ دولارًا بقيمة الدولار في ٢٠١٠، غير أنه كان متساويًا نسبيًّا؛ فقد قللت الثورة من الفروق في الثروات من خلال القضاء على الطبقات التي كانت تعيش في بذخ وترف شديدين، فانتزعت الملكيات من ملاك الأراضي القرويين من خلال قانون الإصلاح الزراعي، وأضعفت المؤسسات العائلية الممتدة التي عزَّزت نفوذها بشكل هائل، وفقد أصحاب رأس المال الخاص سيطرتهم على أصولهم خلال حركة تأميم للملكيات قامت في عام ١٩٥٦، على الرغم من أن الحكومة قد استمرت في دفع سندات أصدرت على سبيل التعويض.
عززت الثورة الثقافية من مبدأ المساواة. وما كانت هجمات الحرس الأحمر على أساليب الحياة «البرجوازية» سوى مجرد تأكيد على سياسات حكومية قائمة. وقد خلقت القيود المتكررة على الشركات الصغيرة نقصًا حادًّا في السلع الاستهلاكية للجميع. وفي عام ١٩٥٢ كان لدى الصين مطعم واحد لكل ٦٧٦ شخصًا؛ وبحلول عام ١٩٧٨ كان هناك مطعم واحد لكل ٨١٨٩ شخصًا. وكانت القسائم التموينية أساسية لشراء الملابس القطنية، والحبوب، واللحم، والسمك، وزيت الطهي، والبيض، وهو ما كان محبطًا للبعض، إلا أنه كان يعوق تخزين السلع التموينية ويضمن توزيعًا أكثر مساواة للسلع النادرة. وحلَّت المكانة البيروقراطية محل الثروة في تسهيل الوصول إلى السلع والخدمات. ولكن فيما عدا الرفاهيات التي لم يكن يحظى بها سوى صفوة القادة، كان نطاق الامتيازات الرسمية محدودًا.
كان العمل اليدوي يُحتفى به في الأراضي، حيث اعتاد السادة التباهي بإعفائهم من العمل البدني بإطالة أظافرهم وارتداء ملابس طويلة. وسعى الماويون للتخفيف من حدة الفقر في الصين من خلال حملات ﻟ «تذكر مرارة الماضي»، حيث كان العمال والفلاحون الأكبر سنًّا يلتقون ليخبروا جماهير الشباب بمدى معاناتهم قبل ١٩٤٩.
هل ينبغي أن تكون الاشتراكية إطارًا للمساواة في الاستهلاك، أم ينبغي أن تكون محركًا لزيادة الإنتاج؟ من الصعب أن تكون الاثنين معًا في آنٍ واحد. وقد جاهدت الحكومات الاشتراكية لحسم هذا التوتر أو على الأقل إخفائه. وفي ظل معرفتهم بأن الصين لم تزل لا تستطيع تحقيق شيء سوى الفقر المتساوي، رفع الماويون التقشف الفردي ونمط الاستهلاك المتسم بالزهد والتقشف إلى مستوى المُثُل العليا لتحرير مزيد من الأموال للاستثمار العام. وغالبًا ما كان الثوار الثقافيون يخصصون هذه الاستثمارات بشكل يفتقر للكفاءة؛ فقد أشرفوا على نظام تخطيط تجاهل احتياجات القطاع العام، وتهاون مع الفجوات الإقليمية الكبيرة، ولم يسمح سوى بارتفاع بطيء في معايير المعيشة.
ومع ذلك، لم يكن الوضع الاقتصادي إبان الثورة الثقافية كارثيًّا كما يوصف في الغالب؛ فقد كان إجمالي الناتج المحلي للصين ينمو بمعدل يقارب ٦ بالمائة سنويًّا، وهو معدل أبطأ قليلًا مما كان عليه خلال السنوات الأولى للجمهورية الشعبية، ولكنه يظل أداءً يُحترم. ولا يظهر انخفاض الأرقام إلا بمقارنتها بالاقتصاد المنتعش في فترة ما بعد الثورة الثقافية. ومن الصعب تفسير هذه الأرقام ككارثة.
صمد معدل النمو في الصين خلال حقبة الثورة الثقافية أمام المقارنات خلال نفس الفترة بنظيرتها في عملاقين آسيويين آخرين، هما الهند وإندونيسيا. فتلك الدول الثلاث واجهت جميعًا مشكلات وقيودًا مماثلة في تحويل مجتمعاتهم الزراعية الكبيرة إلى مجتمعات صناعية. كان معدل النمو في الصين أبطأ منه في إندونيسيا إلى حد ما، ولكنه كان أسرع مرتين من الهند، وكان معدل النمو في الدول الثلاث أبطأ من تايوان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وهونج كونج. وقد أصبحت تلك المناطق الأربع الصغيرة تُعرف فيما بعد ﺑ «النمور» الآسيوية، نظرًا لنموها السريع (٨-٩ بالمائة)، متبعة في ذلك معادلة مزجت ما بين المساعدات الخارجية والاستثمار وبين تصدير السلع الاستهلاكية للدول الأكثر ثراء. لقد اندمجت هذه الخارجية والاستثمار وبين تصدير السلع الاستهلاكية للدول الأكثر ثراء. لقد اندمجت هذه الدول الصغيرة ذات الاستبدادية الحادة، بما أتيح لها من منافذ للنقل البحري، بيسر وسهولة بحيث شكَّلت سوقًا عالمية متنامية للنسيج، والكيماويات، والإلكترونيات، للمستهلكين في الغرب.
ساهم الاضطراب الذي ساد العامين الأوَّلين من الثورة الثقافية في توقف النمو وتقليص الاقتصاد. وفي سبتمبر من عام ١٩٦٦، حاول كبار القادة منع المتمردين من عرقلة وتمزيق الاقتصاد بمطالبة الجميع بضرورة «التمسك بالثورة، ورفع الإنتاج». كان الشعار المصاحب لحركة تشتيت الحرس الأحمر بحلول عام ١٩٦٨ هو: «الطبقة العاملة ينبغي أن تمارس القيادة في كل شيء»، وذلك حينما أدى استعادة سلطة الحزب إلى عامين من النمو الاستثنائي. أما الفترة المتبقية من عمر الثورة الثقافية، فقد جلبت زيادات متوسطة، وإن كانت متفاوتة، عدا في عام ١٩٧٦، حين ساهمت الاضطرابات السياسية مرة أخرى في تدهور الإنتاج.
١٩٥٢–١٩٦٥ | ٦٫٨٥٪ |
١٩٦٦–١٩٧٦ | ٥٫٩٤٪ |
١٩٧٧–٢٠٠٩ | ٩٫٦٣٪ |
الصين | ٥٫٩٤٪ |
الهند | ٢٫٩٥٪ |
إندونيسيا | ٦٫٩٥٪ |
ربما لا يكون التناقض بين المثالية والبراجماتية مطلقًا مثلما قد يدركه البعض؛ فعلى مظهر المساواة الذي ظهرت به الصين خلال الثورة الثقافية، فقد احتفظت بأجندة تنموية بشكل عنيد. وقد شارك ماو هذه الأجندة مع غريمه ليو شاوشي وسياسات الأعوام السبعة عشر (انظر الفصل الأول). واستمرت نظرية تنموية مشابهة خلال برنامج دنج شياو بينج الإصلاحي. وعلى الرغم من الاختلافات في المنهج ونقطة التركيز، فقد اتفق قادة الصين على أن مهمة الحكومة هي جعل الصين دولة غنية وقوية بأسرع ما يمكن.
(٢) المُثل والبلاغة الاقتصادية
كانت الثورة الثقافية حركة سياسية أكثر منها اقتصادية؛ فقد فرض الراديكاليون الماويون سيطرة محكمة على وسائل الإعلام، والقطاع الثقافي والدعائي، ولكن هذه السيطرة كانت أقل إحكامًا على الوزارات التي تشرف على الإنتاج. لقد سيطر الراديكاليون على صوت الثورة الثقافية، دون أن يتمكنوا من السيطرة دائمًا على محركات الإنتاج. ونتيجة لذلك صار هناك بلاغة اقتصادية تعبر عن المثل العليا للثورة الثقافية، ولكنها لا تدرك بالضرورة حقائقها الاقتصادية. لقد ملأ الراديكاليون العالم ضجيجًا لكي تتجه الصين إلى اليسار. وقد فعلت على وجه العموم، إلا أن المصانع ظلت تُصنِّع المنتجات بالطرق المعتادة، واستمرت جهات التخطيط المركزي في تخصيص الموارد، وإن كان بحساسية أعلى للمثل العليا للحركة. فقد أعيد تأهيل دنج شياو بينج في عام ١٩٧٣، بعد أن أدين في بداية الثورة الثقافية باعتباره «ثاني شخص في السلطة يتبع الطريق الرأسمالي»، وتولى الحكومة من عام ١٩٧٤ وحتى الإطاحة به للمرة الثانية في عام ١٩٧٦. لقد كانت حقبة الراحل ماو عملية أكثر مما يوحي خطابها البلاغي.
كذلك تأقلم عصر «الاعتماد على النفس» الماوي على الانقطاع المفاجئ للمساعدات الخارجية، فحين احتدم النزاع مع الاتحاد السوفييتي في الستينيات، قامت موسكو فجأة باستدعاء ٦٠٠٠ مستشار، مما أدى لتوقف العمل في ١٦٥ مشروعًا اقتصاديًّا كبيرًا. واصطحب المستشارون السوفييت معهم مخططات المشروعات. وهكذا أصبح الاعتماد على النفس هو المسار العملي الوحيد للصين.
كان المروِّجون لسياسة الاعتماد على النفس في ريبة من أمرهم بشأن التقسيمات الحادة للعمالة، مما حدا بالماويين إلى تشجيع «التنمية الشاملة» داخل الوحدات الاقتصادية. فكان من المفترض بالأقاليم أن تصبح مكتفية ذاتيًّا، كوسيلة للوصول بتكاليف النقل والاختناقات المرورية إلى أدنى حد لها. فقد كان الاعتماد على النفس، بالنسبة للأمة بأسرها، يتطلب الاستعاضة عن الاستيراد بتعلم تصنيع السلع في الصين، من عربات القطارات إلى المضادات الحيوية التي كانت ستشترى من الخارج دون ذلك. وكان لتعزيز الصناعة المنزلية دوره في الحد من إهدار العملة الصعبة النادرة وتحفيز الابتكار المحلي. وقد كانت الاستعاضة عن الاستيراد شائعة في آسيا وأمريكا اللاتينية في الستينيات، قبل ظهور أساليب التجارة الحرة الليبرالية الجديدة. ومن ثم فبينما كان تشجيع الصين لهذه السياسة قويًّا متعنتًا، لم تكن هي في حد ذاتها غريبة في عصرها.
كان الماويون يغلِّفون تصريحاتهم الاقتصادية بالبلاغة الثورية من خلال الإشارة ضمنًا إلى أن البديل الوحيد المتوافر هو الرأسمالية، ولكن الصدام بين ماو وليو شاوشي لم يكن مواجهة بين الاشتراكية والرأسمالية، بغض النظر عن رغبة الكثير من المعلقين الحاليين في أن يكون كذلك. فقد كان الماويون وخصومهم متفقين على ضرورة أن يكون للدولة دور مسيطر على الاقتصاد، وإن كان بفوارق دقيقة مهمة في المضمون.
كيف اختلفت الصين عن الاقتصاد الشمولي للاتحاد السوفييتي؟ كانت الصين أكثر بعدًا عن المركزية إلى حد كبير (وهو ما يعود في جزء منه إلى سوء حالة نظام النقل)، بالنظر إلى ما لديها من شركات ذات نطاق أصغر بكثير. وكانت اللامركزية تسعى لاستقلال قومي وإقليمي بعيد تمامًا عن النظام السوفييتي. فكانت الصين تقدِّم مجموعة أضيق من الحوافز المادية وتؤكد على التقشف الذاتي، بما يؤدي إلى إبطاء النمو في الاستهلاك الفردي. وأخيرًا، شجعت الصين تنمية التقنيات المحلية إلى جانب التكنولوجيا المتقدمة، فيما أطلقت عليه «السير على ساقين»، مثل جهودها لمزج الطب الغربي مع طرائق الطب الصيني التقليدي من الأعشاب والوخز بالإبر.
لم يكن الماويون يثقون بالحوافز المادية، على الرغم من أنهم لم يحرزوا نجاحًا كبيرًا في تحجيمها، وكان الفلاحون يقسمون أرباح الحصاد الجماعي وفقًا لنظام حساب نقاط العمل، والذي يقيِّم مهارات الزراعة، والاجتهاد، والالتزام السياسي. أما العمال الحضريون، على الجانب الآخر، فقد ظلت أجورهم تحتسب بالنظام القائم لحساب مستوى العمل، فيما ظلت طريقة تصنيف المسئولين وتحديد أجورهم كما هي.
في غضون ذلك، تبنَّى الخطاب البلاغي للثورة الثقافية أسلوبًا نضاليًّا عاصفًا تنتصر فيه قوة الإرادة الثورية المحضة على القيود المادية. ويُعرف ذلك في النظرية الماركسية ﺑ «الطوعية»، التي تسرِّع قوى التاريخ بقوة دفع موجهة بشكل جيد. فكانت فِرق الغناء والرقص تسرِّي عن العمال وترفع الروح المعنوية، ويا حبذا لو ألهمتهم الأغنيات الثورية بالعمل بمزيد من الكد. وقد كانت جيانج تشينج راعية لإحدى قرى تيانجين، هي قرية شياو جين جوان، التي شددت على المشاركة الجماعية في الفنون لتحفيز معدل إنتاج أكبر. وقد سخر دنج شياو بينج من الرؤى المفتقرة للنضج الخاصة بشياو جين جوان والمتعلقة بتغيير العالم: «بإمكانك أن تقفز، ولكن أيمكنك أن تقفز عبر اليانجتسي؟»
كانت شياو جين جوان وحدة نموذجية، روِّج لها ترويجًا هائلًا بغرض تلقين البلاد درسًا بعينه. فقد كانت الوحدات النموذجية تُستكشف بعناية، وتُلمع، وتُدعم، وتُحمى. ولعل أشهر نموذجين من نماذج هذه الوحدات قرية تقع بإقليم شانسي، وحقل نفطي بإقليم هيلونج جيانج: «في الزراعة تعلَّمْ من دازهاي، وفي الصناعة تعلَّمْ من داتشينج.»
أصبحت وحدة دازهاي الإنتاجية نموذجًا للتوسع في الإنتاج الزراعي من خلال إبداعها الدقيق لمنازل على جوانب تلالها المنحدرة. وقد استخدم الحزب الحملات السياسية لتنظيم جداول الإنتاج. ومن خلال التخلي عن الحوافز النقدية لصالح الإقناع المعنوي، استعاض نموذج دازهاي بالقوة العاملة والإرادة السياسية عن رأس المال الذي كانت الصين تفتقر إليه. وتطوَّر نموذج دازهاي إلى موقع سياحي ثوري، حيث كان الزوار يأتون من أجل التعلم. فلم يكن واضحًا لهم دائمًا كيف يمكن لقرية مسطحة تعتمد على المياه الجوفية تقع على سهول يانجتسي السفلى أن تطوِّر نشاطها الزراعي، فضلًا عن الاقتضاء بروحها السياسية. وقد استغل تشن يونجوي، قائد دازهاي، شهرة قريته ليصبح نائبًا لرئيس الوزراء. وعلى الرغم من أنه لم يكن يومًا له أي ثقل سياسي، فقد كانت ترقية تشن رمزًا لرغبات الماويين في الارتقاء بمكانة الفلاحين.
أصبح حقل داتشينج النفطي في لياونينج نظيرها الصناعي كنموذج رائد يحتذى به في الإنتاج. كان القادة الأقوياء، أمثال «الرجل الحديدي» وانج جين جينجشي، يوصفون بالأبطال نظرًا للجهد الخارق الذي يبذلونه في بيئة قاسية. ففي داتشينج، كان العمال ينقِّبون عن النفط وسط أجواء الشتاء القارص في منشوريا، وقد عُرف عنهم قيامهم بإصلاح معاطفهم كدليل على التقشف الماوي ومن أجل منع الإهدار في أي مكان آخر، ولكن على الرغم من أوجه الشبه التي يروِّج لها بينها وبين دازهاي، كانت صناعة البترول من أكثر الصناعات كثافة في رأس المال، ولا تصلح للمحاكاة. ولكن حقل داتشينج كان يُنتج نصف بترول الصين، ولعب دورًا رئيسيًّا في الاقتصاد، وإن كان إنتاجه قد انهار بعد الثورة الثقافية. إن هذه النماذج تعيد إلى الأذهان مشروع القفزة الكبرى إلى الأمام في فترة الخمسينيات (العمالة إلى جانب الإرادة السياسية يمكنهما التغلب على كل القيود)، ولكن في حدود أكثر تواضعًا بكثير، وبدون ذلك الإحساس بأن عالمًا جديدًا يلوح في الأفق.
ثمة نموذج آخر على نفس القدر من الشهرة، ولكنه لم يكن مكانًا، بل شخصًا؛ هو الجندي لي فينج. كان فينج يتيم الأبوين، اللذين راحا ضحية اليابانيين والملاك، ووجد ملجأ له في الحزب، حيث أصبح نموذجًا للأعمال الطيبة، مثل رفو جوارب رفاقه العسكريين وهم نائمون. توفي لي فينج (إن كان له وجود من الأساس) قبل بداية الثورة الثقافية، ولكن دراسته المجتهدة لأعمال الزعيم ماو، واقتصاده في الإنفاق، وإخلاصه الخالي من أية أنانية للثورة جعلته نموذجًا شعبيًّا. لقد كان لي فينج بطلًا مألوفًا، وأصبح أقرب لقديس راعٍ للأخلاق المثالية.
وإذا كانت النماذج أدوات للمثل العليا للثورة الثقافية، فقد كانت العناصر الأساسية للسيطرة الاجتماعية للمواطنين في الحضر هي وحدات عملهم، والمكاتب، والمصانع التي توظفهم. فلم تكن أماكن العمل توفر وظائف آمنة فحسب، ولكنها أيضًا كانت تدعم الإسكان، والرعاية الصحية، والمعاشات، والمدارس، والإجازات، والترفيه، وتذاكر الحافلات، وغير ذلك من الخدمات. ولا عجب في أن هذه المجموعة الهائلة من الخدمات الحيوية شجَّعت على الاتكال، ووضعت الرؤساء في موقع يتيح لهم تخصيص إسكان مميز أو حتى المشاركة في ترتيبات الزواج. وتحول نظام تصاريح الإقامة، الذي أُدخل في البداية لتتبع حركة السكان، إلى أداة تحكُّم لمنع الفلاحين من غزو المدن بعد مجاعة ١٩٥٩. وأصبحت تصاريح الإقامة بالمدن شيئًا قيمًا إلى حد كبير، خاصة حين أُرسل ملايين الشباب من ساكني المدن إلى الريف. وغالبًا ما كان العمال البارعون والمحظوظون ينجحون في تمرير الوظائف الحضرية لأبنائهم. غير أن الفلاحين كانوا أعضاء في فرق ووحدات للإنتاج الزراعي، والتي كانت ذات ملكية جماعية (على عكس الملكية الحكومية أو الخاصة)، ومن ثم لم يكن الفلاحون موظفين، وكانوا يحظون بمميزات أقل من العمال الحضريين الذين يحظون بدعم مادي كبير، إلى جانب أن الفلاحين غالبًا ما كانوا أصعب في تهذيبهم.
(٣) فجوة ريفية-حضرية مزمنة
لم يستطع دفع الماوية في اتجاه المساواة القضاء على أوجه التفاوت المادي المزمنة في الصين، والتي كان بعضها إقليميًّا، مع تركُّز الصناعة في الشمال الشرقي والأقاليم الساحلية. وكانت استراتيجية الاعتماد على النفس تتطلب من كل مجتمع أن يحقق الاستفادة القصوى من موارده، وفي ظل مثل هذا النظام كانت المناطق التي تملك موارد تسير بشكل أفضل، ومن ثم فليس مستغربًا أن تكون القرى الجبلية قد ظلت فقيرة، أو أن تكون المناطق النائية التي يقطنها أقليات عرقية قد واجهت مشقة في تحسين أوضاعها.
ثمة تفاوت مزمن آخر، هو «الجدار العظيم» الذي فصل الفلاحين عن العمال الحضريين؛ فقد كان لزامًا تقديم وثيقة تسجيل أسري حضري للحصول على وظيفة بالمدينة. وقد كان أربعة أخماس السكان من الريف؛ بل إن المزارعين كانوا عالقين في الريف في الواقع. وجاءت الثورة الثقافية لتقود مزيدًا من الناس من المدن إلى الريف. والواقع أن كثيرين من الأفراد السابقين للحرس الأحمر قد آل بهم الأمر للعودة إلى المدن في خلال عامين إلى عشرة أعوام. وكان موظفو الدواوين الحضريون يرسَلون للعمل في «مدرسة ٧ مايو للكوادر»، ولكنهم استمروا فعليًّا في الحصول على رواتبهم من وظائفهم الحضرية فيما كانوا يقيمون مشروعات زراعية جديدة بعيدًا عن الفلاحين المحليين.
كانت الحياة الريفية فيما بين ١٩٦٢ حتى ١٩٨١ تنظَّم بواسطة مجموعات مكونة من حوالي ثلاثين أسرة، تؤلِّف معًا قرية أو حيًّا. وكانت وحدات الإنتاج تلك تستخدم نظم حساب نقاط العمل لتقسيم عائدات حصادها (بواقع موسم حصاد واحد في السنة في الصين الشمالية، وحتى ثلاثة مواسم في الصين الجنوبية). كانت وحدات الإنتاج تتبع كوميونات أكبر مؤلفة من قرابة ألفي أسرة، تقدم خدمات إدارية واجتماعية. لم يكن هذا النظام بالضرورة هو النظام الأكفأ في زراعة المحاصيل، ولكنه كان جيدًا في حشد مستلزمات الإنتاج (الأيدي العاملة، الأسمدة، الماء)، وتنظيم الأنشطة غير الزراعية، مثل الائتمان، والتعليم، والرعاية الصحية، والصناعات الريفية. وعلى كل هذا التنوع، شهدت القرى إحياءً للصراع الطبقي، والذي كانت فيه الطبقات في الأساس ماضيًا وليس حاضرًا. فقد كان أعضاء روابط الفلاحين المحليين من الطبقة الفقيرة والطبقة الدنيا المتوسطة تمثِّل الأساس لنفوذ الحزب الشيوعي المحلي، وكانت هذه الأغلبية تمحص في تاريخ أقلية صغيرة كانت تنتمي للفئات الخمس السوداء. قليل من القرى هو ما كان به يمينيون، وإن وجدوا، يكونون من المثقفين. ولكن جميع القرى كان بها عائلات تضم ملاك أراضٍ سابقين وفلاحين أثرياء، لم يكن منهم من يمثل أي تهديد للثورة إلا قليلًا، وظل معظمهم يضحى به حتى بعد نهاية الثورة الثقافية بالطرق الخطيرة والبسيطة على حد سواء، فلم يكن بإمكان ابنة أحد الملاك أن تنضم للحزب أو جيش الطوارئ المؤقت، ومن غير المحتمل أن تجد تزكيات للحصول على فرص للتعليم. وكان ابن الفلاح الثري يجد عرائس قليلات على استعداد لحمل وصمة طبقته. ولما لم يكن بإمكان الفلاحين الأكثر فقرًا قبل عام ١٩٤٩ الزواج، فقد كان كثير من الفلاحين على الأرجح يعتبرون النظام الجديد نوعًا من العدالة الخشنة. وفي بعض الأحيان كانت اللغة الطبقية للثورة الثقافية مجرد تعتيم على أشكال أقدم متأصلة للسياسة القروية، مثل الخصومات الممتدة. بعبارة أشمل، لقد شوِّهت العلاقات الطبقية الريفية وتحولت إلى شيء أقرب إلى نظام طبقي منغلق، أصبحت فيه الحواجز القائمة أمام العلاقات الاجتماعية والتزاوج بين الأقارب أعمق من فروق الثروة.
نزح سبعة عشر مليون شاب إلى الريف، بعضهم كمتطوعين قبل عام ١٩٦٦، ولكن معظمهم كانوا ضمن الحرس الأحمر الذي تم تفكيكه والذين لم يكن لديهم فرصة للاختيار، وبدا ظاهريًّا أنهم سيتعلمون من «فلاحي الطبقة الفقيرة والطبقة الدنيا المتوسطة»؛ أي هؤلاء الذين استفادوا من الإصلاح الزراعي الشيوعي. وقد ساعد برنامج النزوح إلى القرى على التخفيف من غطرسة الحرس الأحمر، مع معالجة مشكلة البطالة في الحضر في الوقت ذاته. كان هناك سخط حتمي ضد البرنامج، ولكنه أُخرِس علنًا، ليقتصر في معظم الأحيان على بعض التذمر من جانب الشباب ومضيفيهم من الفلاحين. ولكن عندما برَّر نجل لين بياو مخطط الاغتيال الذي دُبِّر ضد ماو، تناولت إحدى شكاواه مسألة إرسال الشباب إلى الريف، وهو إجراء كان حقًّا شكلًا من أشكال البطالة المقنعة حسب تأكيده.
رحَّبت بعض القرى بالوافدين المتعلمين الجدد، وتعاملوا معهم باحترام، فيما اعتبرهم آخرون مصدر إزعاج، وعمالة زراعية غير ماهرة، وأفواه إضافية تحتاج لمن يُطعمها ولا يساهمون بالكثير في العمل. وسرعان ما راح بعض الحضريين يفكرون في طُرق للهرب، فيما أنشأ البعض روابط أبدية مع القرويين استمرت حتى الوقت الحاضر، بل إن بعضهم تزوَّج من المحليين، وقطعوا عهدًا على أنفسهم بالبقاء مدى الحياة. وقد صُدم معظمهم حين اكتشفوا مدى الفقر المدقع الذي عاش فيه المزارعون. وحين رأى أفراد الحرس الأحمر السابقون مدى النقص الذي يعانيه مضيفوهم في المأكل والملبس، أدركوا أن حياة المدينة كانت أكثر رخاء مما كانوا يدركون. والحق أن نسبة الدخول في الحضر إلى نسبة الدخول في الريف كانت نحو واحد إلى ثلاثة.
حتى الماويون لم يستطيعوا جعل مكانة الفلاحين مرغوبة؛ إذ كان الشباب الصينيون يتسابقون من أجل شغل وظائف العامل والجندي. فكانت كلتا الوظيفتين بمثابة درع واقٍ من العمل في الزراعة، إلى جانب كونها تعريفًا لبوابة جديدة للترقي. كانت الجامعات مغلقة في المرحلة الأولى الراديكالية للثورة الثقافية، وحين استأنفت قبول طلاب جدد بعد عام ١٩٧٠، لم يتم اختيار المتقدمين عن طريق اختبارات الالتحاق القومية، وإنما بتزكية مكان العمل والخلفية العائلية. حين ينقل صحفيو اليوم أن المثقفين أو المسئولين كان عليهم العمل في أحد المصانع إبان الثورة الثقافية، عادة ما يغفلون الفكرة الأساسية، وهي أن العمل بالمصانع كان يُعتبر بشكل عام حركة ترقي إلى أعلى وليس انحدارًا لأسفل. لقد كانت الصين تتبع تقليدًا قديم الأزل يضفي طابعًا مثاليًّا على الحياة الريفية كحياة نقية ورائعة، ولكنه كان يحتقر الفلاحين. لقد كان عصر الثورة الثقافية مناصرًا للفلاحين أكثر من معظم العصور الأخرى، ولكنه لم يستطع تجنب تلك النزعة الحضرية المتغطرسة، على الرغم من ضخامة الدَّين الذي كان الحزب الشيوعي يدين به للفلاحين الثوار.
واصلت الثورة الثقافية الاستغلال الحكومي للزراعة من أجل تمويل حركة التصنيع، فكانت الحكومة تحدد أسعار التوريد الإجباري لمخزون الدولة من الحبوب، ولكن المزارعين كانوا يضطرون لشراء السلع المصنعة بأسعار مرتفعة نسبيًّا. وهكذا لم تكن الزراعة مجزية، ولكن القيود المفروضة على سهولة وحرية التنقل الجغرافي ربطت المزارعين بالأرض. ومع نمو الصناعة بمعدلات أسرع من الزراعة، تزايدت الضغوط لزيادة الإنتاج الغذائي، وكانت الإنتاجية الزراعية دائمًا قيدًا على ساسة الثورة الثقافية، الذين كانوا يسعون لزيادة الكفاءة الإنتاجية من خلال تمهيد حقول جديدة، وتسخير عمالة جديدة، وتوسيع نطاق التشجيع الأيديولوجي.
فيما بين ١٩٦٦ و١٩٧٦، زادت مساحة الحقول المروية بحوالي الثلث. لم تكن جميعها ذات كفاءة، إذ كان نموذج دازهاي أحيانًا ما يطبَّق بلا تفكير على أنواع الأراضي الخاطئة، ولكنه ساعد على زيادة المحاصيل من خلال تسوية الأرض، التي سهَّلت الري، وكانت ستصبح مستحيلة لولا حشد الثورة الثقافية للفلاحين من أجل حفر قنوات خلال موسم الشتاء الذي كان فيما مضى موسمًا راكدًا. وازداد استخدام الأسمدة، وإن كانت رديئة الجودة نسبيًّا ولا تقارَن بالأنواع التي استخدمت خلال فترة الإصلاح الزراعي فيما بعد. وطرأت تجديدات مهمة في أنواع البذور موازية لتطويرات «الثورة الخضراء» في أي مكان آخر في آسيا.
(٤) تحسين العمالة
يكمن النجاح الاقتصادي الأعظم للصين في تحسينها لرأس المال البشري، فقد كان الماويون يستعيضون عن رأس المال النادر بالعمالة الوفيرة كلما أمكن؛ وتوسعوا في هذا النظام من خلال تحسين صحة العمال ومستواهم التعليمي، وأيضًا ضم مزيد من النساء إلى القوة العاملة.
كانت الإنجازات في مجال الصحة العامة ملحوظة وبارزة؛ فقد ازداد متوسط العمر المتوقع عند الميلاد من خمسة وثلاثين عامًا فقط في عام ١٩٤٩ ليصبح خمسة وستين عامًا بحلول عام ١٩٨٠، بزيادة اثني عشر عامًا عن الهند وإندونيسيا. وكان مصدر معظم هذه الزيادة هو التحسين الغذائي، وانخفاض وفيات الأطفال، والسيطرة على الأمراض المعدية. وتدرَّب ما يقرب من مليوني فلاح للعمل ﮐ «أطباء حفاة» في إطار شبكة إسعاف ريفية طموحة. لم يكن هؤلاء الأطباء الحفاة مجهزين بشكل خاص أو متمرسين، ولكنهم كانوا متاحين، وكانت خدماتهم شبه مجانية؛ إذ كانوا يعملون جنبًا بجنب مع رفاقهم القرويين. وقد كانوا الجزء الأشهر من زيادة ضخمة في الرعاية الطبية الريفية على مدار الفترة السابقة. وبنهاية الثورة الثقافية، كان الريف يضم ثلثي أسرَّة المستشفيات في الصين.
ضغط القادة من أجل دمج الطب الغربي مع الممارسات الطبية التقليدية والأقل تكلفة مثل طب الأعشاب والوخز بالإبر، ولم تسفر الجهود الأولى لدمج الطب الصيني والطب الغربي معًا عن الكثير؛ نظرًا لرفض المتخصصين الطبيين، الذين اعتبروا طب الأعشاب جهلًا قرويًّا. ونجحت الثورة الثقافية في كسر قدرة الخبراء على مقاومة الشيوعيين في الطب وفي المجالات التقنية الأخرى؛ فقد عهد إلى العلماء باختبار وتطوير أفضل الممارسات الطبية الشعبية، ودخل الوخز بالإبر المستشفيات، فيما دخلت الأدوية المصنعة ذات التكلفة الزهيدة حقيبة أدوات الأطباء الحفاة. وكانت النتيجة مطابقة تقريبًا لما أسفرت عنه برامج الثورة الثقافية للفنون، والتي عالجت الأفكار الصينية من خلال أساليب وُجدت في الرسم بالزيت والموسيقى السيمفونية الغربيين. أما في الطب، فقد عكس المزيج كلًّا من الحداثة والقومية الصينية، إلى جانب بحث عن برامج فعالة ومنخفضة التكلفة في نفس الوقت.
ثمة إنجازات مماثلة في التعليم كان لها بالغ الأثر؛ فقد كانت نسبة محو أمية الكبار (في سن الخامسة عشرة فأكثر) في الصين ٤٣ بالمائة في عام ١٩٦٤، ولكنها ارتفعت إلى ٦٥ بالمائة في عام ١٩٨٢. ولعل تلك النسب لا تعبر عن الواقع كما ينبغي؛ فقد كان ٩٠ بالمائة من الصينيين فيما بين سن الخمسين إلى التسعين متعلمين في عام ١٩٨٢، في مقابل ٦٥ بالمائة من نفس الفئة في الهند في عام ١٩٨١، فيما وصلت نسبة تعليم الكبار إجمالًا ٤١ بالمائة. وكانت النهضة السريعة للصين في مجال محو الأمية انعكاسًا لزيادة غير مسبوقة قدرها خمسة عشر ضعفًا في المدارس الريفية الإعدادية فيما بين عامي ١٩٦٥ و١٩٧٦ (فالإلمام باللغة الصينية يتطلب عامين إضافيين من التعليم المبكر إلى جانب القواعد المعمول بها في تعلم اللغات الأبجدية).
وكما هو الحال مع إصلاحات المنظومة الصحية، لم يكن خبراء التعليم المطاح بهم ليوافقوا على برنامج التعليم الجديد؛ فقد قامت المدارس بمزج التعليم بالعمل، في محاولة لربط الفصول بحياة الطلاب. وكانت برامج الدراسة-العمل مضادة لتقاليد التعليم الكونفوشية مثل الحفظ والتعليق على النصوص الكلاسيكية، ولفكرة أن الهدف من التعليم هو إنتاج نخبة مثقفة. كذلك لم يكن النظام الجديد يشجع عمل الأطفال عن طريق استخدام نظام نقاط العمل لتقسيم المحصول الجماعي، مما قلل من الدافع لمنع الأطفال من المدرسة من أجل تعزيز دخل الأسرة.
تتعارض تلك الرؤية الإيجابية للتعليم في عصر الثورة الثقافية مع المنطق السائد، والذي عادة ما يستنكر غلق الماويين للمدارس، على الرغم من أن المدارس الابتدائية ظلت مفتوحة. والواقع أن المدارس الثانوية قد استأنفت نشاطها بحلول عام ١٩٦٧؛ إذ كان الماويون في أشد الحاجة إلى طرق لإبعاد الحرس الأحمر عن الشوارع. كانت المدارس المغلقة هي الجامعات التي توقفت عن قبول طلاب جدد حتى عام ١٩٧٠. وهكذا توسعت الثورة الثقافية بشكل ضخم في المستويات التعليمية الأدنى لمن هم في القاع، ولكنها قلصت الجامعات بشكل حاد. ويمكن النظر إلى نقص الجامعات كتعليق مؤقت لرأس المال الثقافي الذي ميز العائلات الراقية.
ومنذ عام ١٩٧٢ إلى عام ١٩٧٦، سجلت الجامعات طلابًا جددًا ليس على أساس اختبار قومي، ولكن من خلال تزكية المسئولين المحليين المبنية على الخلفية العائلية للمتقدم وأدائه في العمل. وغالبًا ما كانت الاختبارات المحلية تساعد في فرز طلبات الالتحاق. وقد تعرضت طائفة الطلاب من «العمال – الفلاحين – الجنود» للاحتقار والاستهانة بعد عام ١٩٧٨، ولكنها جسدت جهدًا جادًّا لإعادة تشغيل جامعات الصين مرة أخرى.
كان الرفض السياسي لإعادة فتح الجامعات شرسًا؛ ففي عام ١٩٧٣، قام جانج تي شينج، وهو طالب ثانوي سابق كان يبحث عن مهرب من الريف بعد خمس سنوات من العمل رغمًا عنه في الزراعة، بالتقدم للالتحاق بالجامعة في إقليم لياونينج. وفي أثناء اختبار كان أداؤه فيه دون المستوى، ترك جانج الأسئلة الرسمية وانخرط في كتابة مقال يشجب فيه «ديدان الكتب» الذين كانوا لا يفعلون أي شيء نافع بينما كان هو يكدح في الحقول. ولعل هذا التصرف الغريب يشبه ما يفعله الطلاب اليائسون في جميع أنحاء العالم (إذا لم تستطع الإجابة على السؤال، اكتب شيئًا آخر). ولكن في أواخر الثورة الثقافية، أصبح جانج بطلًا يساريًّا لتجاسره على السباحة ضد المد النخبوي، وحظي بمسيرة قصيرة ولكنها ممتازة في مجال السياسة.
كان لزيادة حق الانتفاع بالخدمات الصحية والتعليمية الأساسية أثره في تحسين نوعية العمالة، وازداد حجم التوسع في التوظيف مدفوع الأجر للنساء. فقد كانت الثورة الثقافية تصر على أن «النساء يحملن نصف السماء» عندما وقفت ضد حواجز التمييز الجنسي التقليدية أمام العمل. وانضمت جميع النساء الشابات في المدن إلى القوى العاملة، ما أدى إلى ارتفاع دخول الأسر في فترة كانت فيها الأجور الفردية ثابتة بلا أي زيادات، الأمر الذي حمل أفراد الأسر من الذكور على تقبل ازدياد تمكين المرأة.
كذلك اتجهت النساء العاملات بمعدل الإنجاب في الحضر نحو الانخفاض، بعد أن وصل إلى معدل قياسي في الستينيات. كان حماس ماو لتوريد أكبر للأيدي العاملة قد أدى في البداية إلى إحباط خطة تحديد النسل، ولكن هذا الحذر انتهى بحلول عام ١٩٧١، مع بدء سياسة سكانية جديدة، مما أدى إلى خفض معدلات الخصوبة إلى النصف بحلول عام ١٩٧٨. وقد ساعد ترحيل الحرس الأحمر إلى الريف في الانخفاض السكاني بإزاحة فئة ذات قدرة إنجابية خصبة من موقعها الاجتماعي الطبيعي. كذلك طالبت الحكومة المواطنين بتأخير الزواج، وإنجاب عدد أقل من الأطفال، وترك فترات زمنية أطول بين كل طفل، وهي التدابير التي أجبرت الأزواج على تنظيم النسل، ولكنها كانت أخف كثيرًا من سياسة الطفل الواحد لكل أسرة الأكثر شهرة، والتي لم تبدأ حتى عام ١٩٨٠. ألغت إصلاحات دنج شياو بينج في حقبة ما بعد الثورة الثقافية نظم الزراعة، والتعليم، والصحة، والنظم الاجتماعية الجماعية في الريف، بما في ذلك نظام «الضمانات الخمسة» للطعام، والملبس، والوقود، والتعليم، وإقامة جنازة. ونظرًا لما تعرضت له الأسر الريفية من إهمال، عادوا مرة أخرى لاعتبار أبنائهم كنوع من نظم تأمين الحياة في الكبر. وردًّا على ذلك، بدأت الدولة في اتخاذ تدابير أكثر صرامة لتقييد الزيادة السكانية.
تحمَّلت النساء عبء سياسات ما بعد الثورة الثقافية تلك، وكنَّ أيضًا أول من فقدوا وظائفهم عن طريق إغلاق الصناعات الحكومية. وقد صاحب كلتا الحزمتين من «الإصلاحات» موجات هجوم على جيانج تشينج، كانت تحمل قدرًا بالغًا من الكراهية للنساء، مع تراجع التطورات التي أتت بها الثورة الثقافية للمرأة.
أدى توسع الثورة الثقافية في الرعاية الصحية، وزيادة التعليم الابتدائي، وضم النساء للقوى العاملة إلى تعزيز نوعية القوة العاملة في الصين. وأية استراتيجية اقتصادية كانت ستستفيد من زيادة الإنتاجية التي أسفر عنها ذلك، بما في ذلك برنامج دنج شياو بينج الإصلاحي القائم على التصدير. ولم يكن من النخبة المثقفة، التي غالبًا ما كانت تفتقر للتعاطف مع العامة والتعساء في ظل التآكل الذي طال امتيازاتهم، سوى مقاومة سلبية لهذه التغييرات الهادفة إلى المساواة خلال الثورة الثقافية، والتي وجهوا لها انتقادات عنيفة بعد ذلك.
(٥) الاستثمار الصناعي
شجَّعت سياسة الاعتماد على النفس الاستقلالية الإقليمية، وهو ما يعود في جزء منه إلى خفض تكاليف النقل، غير أن التطويرات الكبيرة ساهمت في تعزيز البنية التحتية لمنظومة النقل. ففي عام ١٩٦٨ افتُتح جسر نهر يانجتسي في مدينة نانجينج، وباكتمال هذا المشروع، الذي كان ضمن مشروعات المساعدة السوفييتية التي لم تكتمل، صار من الممكن للسكك الحديدية لأول مرة عبور نهر الصين الأعظم في شرق الصين، ومن ثم القضاء على الحاجة إلى مرور القطارات على المعديات النهرية. وتم الانتهاء من أول خط مترو أنفاق في بكين في عام ١٩٦٩، إلى جانب بناء آلاف الجسور والطرق الجديدة التي عملت على تحسين حركة الخامات والبضائع الريفية.
أصبحت الصناعة الريفية جزءًا ديناميكيًّا من القطاع الصناعي، مع ظهور مشروعات جديدة قائمة على نظام الكوميونات لإنتاج سلع مثل الأسمدة الكيماوية، وماكينات الزراعة، ومعدات الري، والأسمنت، والمحركات الكهربائية، والطاقة الهيدروكهربائية. وقد تلقَّت هذه المشروعات استثمارات حكومية وإعفاءات ضريبية كبيرة. وقد نمت مشروعات القرى والمقاطعات التي مثَّلت أهمية قصوى لإصلاحات ما بعد الثورة الثقافية من رحم هذه الصناعات الريفية.
كان لسياسة الاعتماد على النفس جوانبها الإيجابية فيما يتعلق بالبيئة؛ فقد أدى الفقر إلى تقليل النفايات، فيما أدى استهلاك السلع المحلية إلى الحد من التلوث الذي تسببه وسائل المواصلات. ولكن الأجندة التنموية المتواصلة كانت شاقة على البيئة؛ إذ دفعت سياسة الاعتماد على النفس كل مجتمع لزراعة الحبوب، حتى في المناطق التي لا يصلح فيها ذلك بيئيًّا. فقد كان اتِّباع شعار «الحبوب هي الرباط الأساسي» مضرًّا بالأراضي العشبية، وكانت طبقات المياه الجوفية في سهول شمال الصين مضغوطة بشكل خطير، وانكمشت البحيرات مع امتداد رقعة الأراضي الزراعية. وفي مقابل هذا الاتجاه، ساهم التشجير في زيادة الكتلة البيولوجية في السبعينيات. وسرعان ما تفاقم مستوى الضرر البيئي، بقدر ما كان ضارًّا بالفعل، بعد الثورة الثقافية، مع انتقال التنموية الصينية إلى نموذج سوقي للنمو السريع.
وفي ظل المقاومة الماوية للسلع الاستهلاكية، ضغطت التنمية الصناعية بشدة على الصناعات الخفيفة، مثل صناعة الملابس. كان معدل النمو جديرًا بالاعتبار، ولكن الاستثمارات غالبًا ما كانت دون فاعلية. وقد كان ما يُسمى ﺑ «الجبهة الثالثة»، وهو برنامج سري للتصنيع تحت قيادة عسكرية لبناء مصانع جديدة في أعماق الصين من الداخل، مثالًا ممتازًا لذلك (كانت الجبهة الأولى والثانية عبارة عن خطوط ساحلية ومركزية للدفاع العسكري). فقد تم بناء مصانع عدة في الكهوف أو بين جبال الجنوب الغربي.
كانت هذه القاعدة الاقتصادية الخفية ضد الهجوم الأمريكي أو السوفييتي تتطلب رأس مال ضخمًا، ربما كان من الأفضل لو أُنفق في مناطق أخرى، حيث تكاليف البناء أقل، والمهارات المحلية أكثر وفرة. ولكن الاستثمار الساحلي كان معرضًا لقصف أمريكي محتمل أو هجمات من جانب الكومنتانج في تايوان. كذلك أراد الماويون مكافأة المناطق القديمة التي شكَّلت قاعدة للثورة، والتي كانت لا تزال فقيرة لخدماتها السابقة، إلى جانب نشر المهارات الصناعية بمزيد من المساواة عبر البلاد. صارت مصانع الجبهة الثالثة تبنى في مواقع أقرب للساحل، في المناطق الجبلية النامية في إقليمَي جيجيانج وفوجان، وعلى قلة عددها، إلا أنها ظلت ذات أهمية، وكانت هذه المصانع أيضًا تنتج الأسلحة الحربية، والصلب، والكيماويات.
طغى هذا الجانب الدفاعي، الذي أحيانًا ما كان يصل لدرجة الجنون، على السياسة الاقتصادية للثورة الثقافية. فقد كانت سياسة الاعتماد على النفس مستوحاة من قلق واقعي من وقوع غزو أجنبي. وفي مرحلة ما، ضمَّ الحزب مواطنين من أجل «حفر أنفاق عميقة، وتخزين الحبوب في كل مكان». كانت الفكرة وراء ذلك تكمن في الصمود أمام هجمات السوفييت على منظومة النقل في الصين، وكانت النتيجة المباشرة لذلك اكتشاف تحف أثرية لم تكن معروفة فيما سبق عن طريق المصادفة. وكان لوفاة لين بياو وتدهور النفوذ العسكري أثرهما في إضعاف التأييد للجبهة الثالثة الانعزالية، لتنتهي تمامًا في النهاية بتصالح الصين مع الولايات المتحدة.
في عام ١٩٧١ — وهو العام الذي توفي فيه لين بياو — وصل إجمالي التجارة الخارجية للصين إلى معدل منخفض يقدر ﺑ ٥ بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، إلا أن التجارة الخارجية تضاعفت ثلاث مرات بحلول عام ١٩٧٥. ومع انتهاء الجبهة الثالثة، أحدث شو إن لاي ودنج شياو بينج، بدعم من ماو تسي تونج، نقلة كبيرة في السياسة الاقتصادية، كان مما ميزها قرار باستيراد أحد عشر مصنعًا واسعي النطاق للأسمدة من الغرب. وكان خطاب شو إن لاي الذي أعلن فيه عن «التحديثات الأربعة» من أواخر مشروعات الثورة الثقافية. وقد بدأت النقلة الاقتصادية من ماو إلى دنج فعليًّا إبان الثورة الثقافية، وليس بعدها، وكانت أكثر تدرجًا أيضًا من الرفض الماوي الكلي الذي نسمع عنه عادة.
ولولا التنمية الماوية، لما وجدت «معجزة» دنج. وكان من بين الأساسات التي وضعتها الثورة الثقافية لإصلاحات دنج شياو بينج الاقتصادية ارتفاع نسبة التعليم والصحة الجيدة، والأنواع عالية الإنتاجية من الأرز، ومشروعات الري والنقل التي أقيمت بأيدي العمالة الماوية بأسرها. ربما تكون البنية التحتية قد بُنيت بلا كفاءة، ولكنها قدَّمت إرثًا لنمو لاحق؛ فقد ورث دنج اقتصادًا خاليًا من الديون للدول الأجنبية، كذلك فإن اللامركزية الماوية، إلى جانب الضربات العنيفة التي وجهتها الثورة الثقافية ضد البيروقراطية، قللت من التحصن الاقتصادي الذي أعاق الإصلاحات في الاتحاد السوفييتي.
بالطبع تعامل إصلاحيو ما بعد الثورة الثقافية مع العديد من العقبات الصعبة بينما يقومون بخصخصة الشركات الحكومية، وتحسين توريد السلع الاستهلاكية، وتطوير نظام شرس للتجارة الخارجية، وتوسيع نطاق المنظومة الائتمانية، وتجاوز التخطيط المركزي. وكانت الأساليب الماوية قد وصلت إلى حد تناقص العائدات، بالإضافة إلى تكاليفها السياسية الباهظة.
إن التساؤل عما إذا كانت الإصلاحات قد بدأت بالفعل في عام ١٩٧١ بدلًا من عام ١٩٧٨ ليس تساؤلًا سخيفًا، فقد أصر دنج شياو بينج على تاريخ ١٩٧٨؛ إذ كان بحاجة لأن يجعل عقد الثورة الثقافية بأكمله يبدو سيئًا (بما في ذلك تلك السياسات التي طبقها)، لكي يبرر بعضًا من القبح الذي صاحب الاتجاه إلى الإصلاحات السوقية. إضافة إلى ذلك، كانت الليبرالية الجديدة، خارج الصين، تحظى بجيل من الدعاية المستمرة التي تخبرنا بأن السوق هو الوسيلة الوحيدة لتنظيم شئون البشر. ولعل في ذلك ما يعوق إدراك حقيقة أن مسيرة إصلاحات «ما بعد ماو» قد بدأت في منتصف الثورة الثقافية.