السياق العالمي للثورة الثقافية: أصدقاء في جميع أنحاء العالم
جذبت الثورة الثقافية الأنظار في جميع أنحاء العالم، من جانب كلٍّ من القادة المحافظين الذين كانوا يخشون احتمال أن تتسبَّب الصين في اضطراب في النظام العالمي، ومن الراديكاليين الذين أُعجبوا بتجربة الصين الجريئة وتحديها للقوى العظمى. زعمت الصين أن لديها «أصدقاء في جميع أنحاء العالم»، على الرغم من أن عزلتها كانت انعكاسًا لضراوة الحرب الباردة. وقد كسرت الصين تلك العزلة من خلال صلح حذر وحاسم في الوقت نفسه مع الولايات المتحدة. وكان من شأن تجدد المشاركة في النظام العالمي أن مهَّد الطريق للإصلاحات الاقتصادية. وكما هو الحال في كثير من المجالات، يخفي عنوان «الثورة الثقافية» توجُّهات شديدة الاختلاف؛ فقد كانت علاقاتها الدولية تشمل سياسات ترفض النظام العالمي وتتكيف معه على حد سواء.
(١) الخطاب البلاغي لثورة عالمية
تزامن عقد الثورة الثقافية مع حركة عالمية للسياسات الراديكالية. بالنسبة للأمريكيين، كان نفوذ السود، والحركة النسوية، والهيبز، ومناهضة الحرب الفيتنامية، هو عنوان تلك الحقبة، أما بالنسبة للأوروبيين، كانت أحداث الشغب في باريس، وربيع براغ عام ١٩٦٨ سمتين ميزتا نقلة ثقافية وسياسية واسعة. كافحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لاحتواء أي اضطراب يمس محيط نفوذهما، وراحتا تبحثان عن فرص لإحداث اضطراب في محيط خصومهما، مما أضاف بُعدًا عالميًّا مهمًّا للغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨، والانقلاب العسكري في شيلي عام ١٩٧٤، وحروب المقاومة في أفريقيا، والحروب الأمريكية في الهند الصينية.
كانت الصين رمزًا للمقاومة بالنسبة للإمبريالية، وبدت الثورة الثقافية تجربة جريئة في الهندسة الاجتماعية. كان المتحمسون لماو يعتبرون أن الصين بمثابة فتح لطريق بديل سواء للرأسمالية الغربية أو للسياسة السوفييتية في التخطيط من أعلى لأسفل. وأُعجب المعارضون الغربيون بطاقة وحيوية الحرس الأحمر، واستعار مناصرو مساواة المرأة الشعار الماوي «النساء يحملن نصف السماء». ربما تبدو مثل هذه الرؤى الآن رومانسية، ولكن الجوع الغربي الشعبي لنماذج سياسية جديدة إلى جانب عزلة الصين منحاها جاذبية حقيقية. بدت قضايا الثورة الثقافية جسامًا خارج الصين: الصراع الطبقي، معنى الاشتراكية، مستقبل الحركات الثورية. ولكن في داخلها، كانت الأمور العملية على أرض الواقع تشبه حال السياسة في كل مكان: الضغائن المتراكمة، وفرص التنفيس عن الغضب، وعقد صفقات سياسية جديدة.
كان الدخول إلى الصين صعبًا؛ فقد أطاحت حركات التطهير المكارثية في الخمسينيات بأرجح الخبراء الصينيين من وزارة الخارجية الأمريكية، وكممت أفواه منتقدي السياسات الأمريكية في الجامعات. كذلك حظرت الولايات المتحدة استخدام جوازات السفر الأمريكية للسفر إلى الصين «الشيوعية». وقد نجح الباحثان المستقبليان، نانسي وديفيد ميلتون، في التسلل إلى الصين عبر رحلة إلى سيرك في كمبوديا، فيما قفز الصحفي جوناثان ميرسكي من سفينة في مصب نهر يانجتسي في عام ١٩٦٩، إلا أنه فشل في الدخول. ولم يستطع جيلٌ من الباحثين الأمريكيين المتخصصين في شئون الصين من الاقتراب لأكثر من حدود تايوان أو هونج كونج. كان بإمكان الأوربيين السفر إلى الصين، ولكن تخوُّف الصينيين من الأجانب عمل على تحجيم التواصل.
أحيت الثورة الثقافية الاهتمام الغربي بالصين تحت إغراء الثمرة المحرمة، فظهرت المُثُل الماوية في مواقع غير متوقعة، مثلما حدث مع أستاذ جامعي كبير طالب متحدثًا بالحرم الجامعي بأن يُظهر يديه ليثبت أنه قد عمل بيديه، متسائلًا بأسلوب ناقد: «أين جلدك المتصلب؟» وعلى الرغم من أن السؤال بدا تافهًا آنذاك، فإنه يبدو اليوم أكثر غرابة، مع اتجاه العالم السياسي «الطبيعي» إلى اليمين. لقد كان الكثير من أهل الغرب يتمنون ثورة عالمية تمثل فيها الصين جزءًا حيويًّا. فيما كانت رؤية الآخرين للصين أكثر بساطة؛ إذ اعتبروها قوة معنوية في عالم مزَّقه الظلم.
كان الخطاب البلاغي العالمي للصين قويًّا. فقد درس معظم الصينيين مقال ماو «تذكروا نورمان بيثون»، الذي مجَّد فيه الجرَّاح الكندي الذي توفي في عام ١٩٣٩ بينما كان يقوم على مداواة جنود الحرس الأحمر، مشجعًا أعضاء الحزب على احترام الإسهامات الأجنبية بالثورة العالمية. كذلك رحَّبت الصين بانتفاضة باريس في عام ١٩٦٨، على الرغم من الحيرة التي انتابتها بشأن الجانب الثقافي المضاد منها. وبالتأكيد وجدت بكين ارتياحًا أكبر في الاحتفاء بالذكرى المئوية لكوميون باريس في عام ١٩٧١، والذي كان انقلابًا عماليًّا أكثر اتفاقًا مع القواعد.
انحازت الصين للحركات النضالية الشعبية في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وولَّدت سياسة تحرير السود حماسًا عظيمًا. فبعد اغتيال مارتن لوثر كينج الابن، أصدر ماو تصريحًا ناريًّا ضد العنصرية الأمريكية. كذلك قدمت الصين ملتجأ لروبرت إف ويليامز، وهو قائد انفصالي زنجي قامت الولايات المتحدة بنفيه لسعيه لتحويل خمس ولايات من الكونفيدرالية السابقة إلى «جمهورية أفريقيا الجديدة».
أصر الإعلام الصيني على أن الثوريين عبر كل أنحاء العالم قد درسوا كتاب «اقتباسات من الزعيم ماو». كانت حركة النمور السود قد اشترت نسخًا من الكتاب الأحمر الصغير لماو مقابل عشرين سنتًا، وأعادت بيعها مقابل دولار في حرم كلية بيركلي بجامعة كاليفورنيا، وأنفقت أرباحها في شراء بنادق رش. ولم يبدأ النمور فعليًّا في قراءة ما قاله ماو سوى بعد ذلك ببضعة أشهر.
هل كانت الصين مركزًا لثورة عالمية؟ بلاغيًّا، لا يوجد أدنى شك في ذلك، وقد كان للخطاب الرسمي الحماسي عن الانهيار التام للإمبريالية والانتصار الوشيك للاشتراكية على مستوى العالم أثره في تعطيل عملية التبادل الدبلوماسي الطبيعي؛ فقد كان الدبلوماسيون الأجانب غالبًا ما يلقون معاملة سيئة، ولعل أشهر الحوادث في هذا الشأن حين قامت جماعة من السوقة بحرق مكتب القائم بأعمال السفارة البريطانية في بكين. وثار رئيس الوزراء شو إن لاي في وجه هؤلاء الذين أخفقوا في السيطرة على المتظاهرين. وفي ظل عدم قدرتها على الحفاظ على وهم العلاقات الدبلوماسية الطبيعية، استدعت الصين جميع سفرائها عدا سفيرها في مصر.
فكَّر الماويون جدية في علاقات الصين بالعالم، وأشار ماو إلى أن لينين كان مخطئًا حين قال إن «كلما ازدادت البلاد تخلفًا، زادت صعوبة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.» فقد كان ماو يؤمن بأن الغرب يحظى بثراء فاحش، وأن الرأسمالية حكمت لزمن طويل حتى إن العمال كانوا يكدحون تحت تأثير برجوازي غاية في التعجيز. وفيما يشبه نظرية الحلقة الأضعف، اتضح أن الثورة الاشتراكية تقع في أراضٍ لم يتوقع ماركس أن تشهدها. فقد صارت مسئولية تحقيق ثورة عالمية ملقاة على كاهل العالم الثالث، بتعداده السكاني الضخم.
في خطاب حظي بترويج عالٍ عام ١٩٦٥، تحدث لين بياو عن تكرار ثورة الصين على نطاق عالمي من خلال «محاصرة المدن من الريف». ومثلما انتقل الحرس الأحمر من قواعده الريفية لتطويق المراكز الحضرية الكبرى في الصين، كذلك أدى صعود الدول البروليتارية إلى إيقاف نفوذ الدول الرأسمالية، وظهر نوع من عولمة الثورة العالمية في بكين قبل عقود من العولمة المضادة للرأسمالية العالمية.
كان نقد الصين للمذهب التعديلي السوفييتي خطيرًا لدرجة بالغة، وكان في تلقيب ليو شاوشي ﺑ «خروشوف الصين» سخرية منه لانصرافه المزعوم عن الثورة. وأصبحت معاهدة حظر التجارب النووية رمزًا لمهادنات السوفييت مع الإمبريالية، مما عزز الرمزية الثورية والقومية للقنبلة الصينية عام ١٩٦٤.
كانت الصين تزعم أن الرفيق إي إف هيل، زعيم الحزب الشيوعي الأسترالي (الماركسي اللينيني) كان رجل دولة بارزًا من الطراز العالمي، حتى إنها لم تكن ترسل أقل من كانج شينج، وهو أحد الأعضاء البارزين لمجموعة الثورة الثقافية الحاكمة، لاستقباله في مطار بكين. والواقع أن هيل لم يكن حتى قائدًا للشيوعيين الأستراليين الحقيقيين، ولكنه كان قائدًا لطائفة منشقة تلقى تشجيعًا من بكين. وقد كانت الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم منقسمة، وكانت الطوائف الماوية تسمي نفسها «الماركسيين اللينينيين» لتميز نفسها عن «التعديليين» الذين ظل ولاؤهم لموسكو.
(٢) حقائق الحرب الباردة
كان ماو يرفض الإمبريالية لكونها «نمرًا من ورق»؛ أي نمرًا يبدو خطيرًا من الخارج فقط، ولكنه تعامل معها بحذر. كان سلوك الصين تحت تأثير الخطاب البلاغي الراديكالي عبارة عن رد فعل دفاعي تجاه الحرب الباردة. لقد ساعدت الصين فيتنام، وسلَّحت مجموعة المتمردين، وأشادت بمن استفزوا الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وعكروا صفوهما. وكانت الصين تدعم ضحايا الظلم والاضطهاد في القضايا العالمية بنتائج رمزية في أغلب الأحيان، غير أن السياسة الخارجية للثورة الثقافية كانت حذرة ولاتوسعية. وكانت الاستراتيجية الماوية «للحرب الشعبية» دفاعية بشكل مبالغ؛ إذ شددت على المقاومة الشعبية للغزو، وكان الجيش غير مجهَّز بالشكل الذي يؤهله لبسط النفوذ في الخارج.
ربما تكون الولايات المتحدة قد أغضبت الصين لأقصى حد بدعمها لنظام «جمهورية الصين» المخلوع (الكومنتانج) في تايوان. فقد كان شيانج كاي شيك، من منفاه في تايوان، يحتفظ بحكومة منشقة لبر الصين الرئيسي، بدوائرها كاملة تحت اسم «مكتب الشئون المنغولية». وكان للضغط الدبلوماسي الأمريكي دوره في إبقاء بقايا النظام السابق في الأمم المتحدة حتى عام ١٩٧١، ليظل جاثمًا في مجلس الأمن محتلًّا مكان الجمهورية الشعبية.
لم يكن الوجود العسكري الأمريكي مجرد مصدر إزعاج، ولكنه كان تهديدًا مسلحًا. فقد بنت الولايات المتحدة قاعدة لقواتها وصواريخها في تايوان، ووفَّرت المعدات والتدريب لحكومتها العسكرية. وكانت الحكومة التايوانية دائمًا ما تتباهى بأنها «الصين الحرة» من أجل التودد للأمريكان المعادين للشيوعية. وكان الموقف التايواني استنساخًا لعلاقة الولايات المتحدة بالديكتاتوريات الآسيوية اليمينية الأخرى، ولكن وحدها تايوان هي التي شنت غارات عسكرية على بر الصين الرئيسي. وفي عام ١٩٧٠، كانت دور السينما التايوانية تبيع أكياسًا من الفول السوداني كُتب عليها «لنُعِد فتح البر الرئيسي.»
كان للحرب الباردة أبلغ الأثر على الاقتصاد الصيني؛ فعلى سبيل المثال، كان إقليم فوجان، وهو منطقة ساحلية لها باع طويل في التجارة الخارجية، بقعةً معدمة بالنسبة لبكين للاستثمار فيها، بينما كانت الضفادع البشرية التابعة لشيانج كاي شي تهاجم المدن الساحلية. وأعيقت مدينة شيامن (آموي) التي كانت يومًا مدينة مينائية كبرى، عن التنمية بسبب قواعد الكومنتانج العسكرية على جزيرة جينمن (كيموي) المجاورة. وفشلت الأزمات العسكرية في تغيير موقف جينمن في الخمسينيات. وعلى مدار الثورة الثقافية، كان الجيش الشيوعي وجيش الكومنتانج يتبادلان القصف بالقنابل حسب جدول غريب بمعدل ساعة في أيام متناوبة، وكان هذا كافيًا لإبقاء الحرب القديمة مشتعلة. وقد تسببت ضغوط الحرب الباردة في إظهار برنامج الجبهة الثالثة للتصنيع الذي كان مفتقرًا للفاعلية كبرنامج عملي، على الأقل من منظور استراتيجي؛ فمع عزوفها عن الاستثمار في المدن التي قد تتعرض للقصف، تحولت الصين بأنظارها إلى الداخل.
فرضت الولايات المتحدة حظرًا تجاريًّا على الواردات الصينية؛ حتى الكتب والمجلات الصينية كان من الصعب الحصول عليها، وكانت العديد من مكتبات الأبحاث لا يزال لديها مطبوعات صينية من تلك الفترة مدموغة بتحذيرات الحكومة الأمريكية من أن المحتويات تشمل دعاية شيوعية. كذلك قطعت الثورة الثقافية تلك الصلة المربحة عادة بمجتمعات الصينيين بالخارج، الذين كان أقرباؤهم داخل الصين غالبًا ما يُتهمون بالرأسمالية والجاسوسية. وأصبح النهوض بالصناعة الصينية أمرًا صعبًا في ظل صعوبة الوصول للتكنولوجيا الأجنبية، وهو ما قوَّى من الإصرار الماوي على اكتشاف تطبيقات جديدة للطرق المحلية. ومع محدودية حجم التجارة، حاول التقنيون الصينيون تنفيذ مشروعات صعبة في الهندسة العكسية، كان يتم من خلالها تفكيك السلعة المستوردة لكشف أسرار تصنيعها، وكان من الأمثلة المبالغة لذلك ما تم من تفكيك طائرة من طراز بوينج ٧٠٧، وكانت طائرة باكستانية تحطمت في الصين الشرقية في عام ١٩٧١. ولكن ظلت الصين مفتقرة للمقدرة التقنية التي تؤهلها لمضاهاة المنتج الأمريكي.
تسببت كبرياء الصين وعنادها في انتكاسات، مما جعلها أكثر من مجرد ضحية للولايات المتحدة الأقوى نفوذًا. وعندما شبَّ العداء بين الصين والاتحاد السوفييتي، وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، بإثارتها حنق كلتا القوتين العظميين على نحو متزامن، وهو ما لم يسفر عن نتيجة دبلوماسية مثالية تمامًا.
عانت الصين من الحروب القتالية الأمريكية بالقرب من حدودها في فيتنام وكوريا، وقامت الولايات المتحدة ببناء قواعد لقواتها لتدعيم حكومات الجناح اليميني العميلة لها في تايوان، واليابان، وتايلاند، والفلبين، بينما لم يكن للصين قواعد عسكرية أو عملاء في كندا، أو المكسيك، أو كوبا. لقد واجهت سياسات الصين الوحشية، واللاتوسعية في الوقت ذاته، حربًا قاسية ضد الشيوعية.
ظهر الاحتكاك الحتمي بين البلاغة الثورية والممارسة الحذرة في ماكاو البرتغالية وهونج كونج البريطانية، تلك المستعمرتان المتجاورتان في مصب نهر اللؤلؤ بإقليم جوانجدونج. وعلى عكس بعض التوقعات، لم تستولِ الصين على هاتين الجزيرتين اللتين تعتبران من أطلال الإمبريالية في عام ١٩٤٩، وشعرت الصين بالحرج حين زحفت القوات الهندية نحو مقاطعة جوا ذات الظروف المشابهة الخاضعة للحكم البرتغالي في عام ١٩٦١، إلا أن الصين كانت تتهاون مع المستعمرات كجزء من دبلوماسيتها العملية. ولم تكن ماكاو الخاملة، بما تحتويه من كازينوهات، على نفس القدر من الأهمية مثل هونج كونج الأكبر والأكثر ازدحامًا. وقد تضافر القانون البريطاني، مع الموهبة التجارية للاجئي شنغهاي، والتدفق المنتظم للعمالة الكانتونية، لتخلق معًا اقتصادًا منتعشًا موجهًا بشكل مكثف نحو التصدير. كانت هونج كونج مهمة للصين كنقطة اتصال مع الغرب، وحلقة وصل مع مجتمعات الصينيين بالخارج في جنوب شرق آسيا، ومجرى للتجارة الأجنبية، وقد كانت كلتا المستعمرتين ملاذًا لأعداد كبيرة من اللاجئين الهاربين من الثورة الشيوعية، بمن فيهم مؤيدو الكومنتانج، ولكنهما أيضًا ضمتا مجتمعات يسارية راسخة، متمركزة في محيط المدارس، والنقابات، والمحلات متعددة الأقسام.
زحفت التوترات القائمة داخل الصين إلى هاتين المستعمرتين، اللتين كان حكامهما يواجهون تحديات ممثلة في انتشار أعمال الشغب، والإضرابات، والتفجيرات. وكما في البر الرئيسي، عاد النظام بقمع الراديكالية التي انطلقت مع بداية الثورة الثقافية. وفي عام ١٩٧٤ أطاحت البرتغال بديكتاتوريتها الفاشية، وسرعان ما تخلَّت عن ممتلكاتها الاستعمارية في أفريقيا وتيمور. لكن الصين رفضت فيما يبدو قبول استرداد ماكاو، خوفًا من احتمال أن يُرغِم ذلك بكين على الاستيلاء على مقاليد هونج كونج فجأة دون أن يكون لدى الشيوعيين الجاهزية لاستيعاب اقتصاد رأسمالي ضخم. وظلت ماكاو تحت الإدارة البرتغالية حتى عام ١٩٩٩، بعد عامين من إعادة هونج كونج للصين.
استكشفت الصين الخيارات الاستراتجية المتاحة أمامها للإفلات من العزلة، وكان أحدها هو إحداث انشقاق بين حلفاء أمريكا. كانت الصين سعيدة بفرنسا تحت حكم ديجول لوقوفها في وجه الولايات المتحدة، وانسحابها من منظمة معاهدة شمال الأطلنطي، وتطوير سياسة نووية مستقلة. وحلمت الصين بظهور ثغرات أو منافذ تتيح لليابان استقلالية مماثلة، ولكن هذه الآمال تحطمت بفعل معاهدة التعاون الأمني المشترك بين اليابان والولايات المتحدة الموقعة عام ١٩٦٠.
كان الخيار الثاني للصين هو جمع التأييد من دول العالم الثالث الأخرى، وكانت الرابطة الأكثر متانة وثباتًا تلك التي جمعتها بباكستان، التي كانت تنظر للصين كثقل موازن ضد نفوذ الهند. ولكن علاقات الصين السيئة مع الهند بعد الحرب الحدودية في عام ١٩٦٢ أظهرت مدى صعوبة تضافر دول العالم الثالث معًا. وعملت الصين جاهدة لكسب أصدقاء في أفريقيا، من خلال توفير المساعدات لبناء خط سكة حديد تانزام الواصل بين زامبيا وتنزانيا من أجل تجنب الاعتماد على جنوب أفريقيا العنصرية. وأثبتت الجزائر أنها حليف دبلوماسي دائم في شمال أفريقيا.
علَّقت الصين آمالًا كبيرة على إندونيسيا، التي كانت آنذاك تحت إدارة حكومة سوكارنو ذات النزعة اليسارية، وتعاونت معها من أجل بناء وجود دولي للعالم الثالث، وهو ما شمل إقامة أولمبياد مضادة تحت اسم جانفو («دورة ألعاب القوى الصاعدة الجديدة»). وعلى أعتاب الثورة الثقافية، حدث انقلاب عسكري في إندونيسيا أعقبه مذبحة لليساريين الإندونيسيين، شملت أعدادًا كبيرة من الصينيين المغتربين. وقد قُتل ما يقرب من مليون شخص، بدعم أمريكي صامت، مما قضى على فكرة إقامة تحالف صيني إندونيسي.
وُضع برنامج الصين للأسلحة النووية بهدف توفير قدر من الحماية حين أخفقت الجهود الدبلوماسية في تقليل الضغط من جانب القوتين العظميين، وبدت الصين أمام العالم مثلما تبدو بيونج يانج أو طهران اليوم: دولة معزولة، محاصرة، تصنع قنابل من أجل مواجهة النقد من القوى النووية الحالية. كان الإعلام الغربي يصوِّر الصين كدولة موتورة ولا يمكن التنبؤ بأفعالها، ولكن أسلحة الصين النووية تتوافق إلى حد كبير مع سياسة «الواقعية السياسية». وتزايد القلق جراء مقترحات القيام بقصف اتقائي أمريكي سوفييتي مشترك للمنشآت النووية للصين، إذ عادت لذاكرة القادة الصينيين ما حدث لهيروشيما والتهديدات النووية الأمريكية المتكررة منذ الحرب الكورية.
فشلت جهود الصين للإفلات من الحصار بشكل حاسم بحلول عام ١٩٦٩، وانتهاء المرحلة الراديكالية من الثورة الثقافية، وانطلقت حاملة طائرات عسكرية عبر سماء الصين (خاصة جزيرة هاينان) ومعها حصانة في طريقها لقصف فيتنام، على الرغم من إسقاط الصين للعديد من طائرات التجسس. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية تدفع أجرًا سنويًّا للدالاي لاما من أجل ضمان استمرار الضغط على الصين من قِبل المنفيين التبتيين، على الرغم من أن إمدادات الأسلحة للمتمردين في التبت انتهت على ما يبدو في عام ١٩٦٥. وظلت ذكريات الغزو الأخير لتشيكوسلوفاكيا حية حين تقاتلت القوات الصينية والسوفييتية على حدود نهر أشوري في مارس عام ١٩٦٩. وقد ساهمت هذه المعركة في ارتفاع أكبر لهيبة واعتبار لين بياو والجيش، ولكنها دفعت ماو نحو إعادة النظر في موقف الصين الجريء المشوب بالعزلة. وبحلول عام ١٩٧٠، لم تحصِ الصين سوى بضع حكومات صديقة إلى جانب فيتنام، وكوريا الشمالية، وباكستان، والجزائر، وألبانيا، فاعتمدت الصين على حب «شعوب» العالم، وليس حكوماتها، ولكن الشعوب ليس لها سيطرة على الجيوش أو التجارة.
(٣) ميل ماو نحو الولايات المتحدة
تراءت لماو خطوة جريئة، تمثَّلت في إحداث تقارب مع الولايات المتحدة من شأنه أن يُحدث مزيدًا من الانقسام بين القوتين العظميين. كانت الولايات المتحدة قد مُنيت بهزيمة في فيتنام؛ فعرضت الصين الصلح من أجل مواجهة الاتحاد السوفييتي بشكل أفضل، وأرسلت الصين إشارة بذلك من خلال دعوة الصحفي الأمريكي إدجار سنو للوقوف بجانب ماو في العرض العسكري بمناسبة العيد القومي في ١ أكتوبر عام ١٩٧٠. كان سنو قد قام بتأليف الكتاب الأكثر مبيعًا «نجمة حمراء فوق الصين» في عام ١٩٣٧، وهو كتاب ساهم في تقديم الحركة الشيوعية الصينية للعالم، ولما اتُّهم بالشيوعية وتعرض للنفي إلى سويسرا في الخمسينيات، رحَّب سنو بالدعوة بداعي تبرئة ساحته والدفاع عن نفسه، ولم يكن يدرك أن ماو كان يعتقد أنه عميل لوكالة الاستخبارات المركزية. وفي إطار اتباع دبلوماسية «الشعب للشعب»، جاءت تلك الزيارة التي قامت بها إحدى فرق تنس الطاولة الأمريكية، والتي سبقت رحلة هنري كيسينجر السرية كمستشار للأمن القومي في يوليو عام ١٩٧١. وكان كيسينجر، الذي ادعى أنه مريض وفي باكستان، قد تفاوض من أجل رحلة ريتشارد نيكسون لبكين في فبراير من عام ١٩٧٢.
فازت بكين بمقعد الصين في الأمم المتحدة، مما عزَّز ما قام به ماو من إعادة تنظيم استراتيجية لأوراقه، وقادت دولُ العالم الثالث حملات في الجمعية العامة لطرد ممثلي شيانج كاي شيك. تسببت هذه الإجراءات في إحراج الولايات المتحدة، لكنها فشلت في حصد عدد كافٍ من الأصوات حتى أكتوبر من عام ١٩٧١.
لم تكن العلاقة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة لتتحقق دون بعض الصعوبات؛ فقد كان لزامًا إقناع المعادين الدائمين للإمبريالية والشيوعية بتنحية القناعات الأيديولوجية جانبًا من أجل الحصول على مكاسب استراتيجية. ولم يكن لأحد أن يستطيع تصميم هذا التقارب الذي حدث دون مخاطر سياسية سوى معادٍ حماسيٍّ للشيوعية مثل نيكسون، والملحوظة نفسها تنطبق على ماو، أبرز المعادين للإمبريالية.
لم يكن لين بياو داعمًا لما يحدث، ولكن أية مقاومة من قِبَل الجيش انتهت بالنهاية العنيفة التي لاقاها لين بياو. انبثقت معارضة أمريكية أيضًا من تلك القوى التي كانت تستثمر في وضع الحرب الباردة الراهن. وأصر جيمس جيسوس أنجلتون، رئيس المخابرات المضادة بوكالة الاستخبارات المركزية لفترة طويلة، على أن الشقاق الصيني السوفييتي الذي استمر على مدار العقد من الزمان كان خدعة دبرتها موسكو لحمل الغرب على التخلي عن حذره.
كانت صفقة الصين مع الولايات المتحدة غامضة في تفاصيلها، ولكنها كانت مفيدة لكلا الطرفين؛ فقد انصرفت الولايات المتحدة والصين عن حلفائهما في حرب فيتنام، واتحدتا معًا للتصدي للاتحاد السوفييتي، ووافقت الولايات المتحدة على سحب قواتها والاعتراف الدبلوماسي من تايوان. وعلى الأرجح أن الصين كانت تعتقد أن التوحد السياسي مع تايوان سيأتي عما قريب، ولكنها ظلت محبطة، غير أن سحب القواعد العسكرية الأمريكية من تايوان مكَّن الصين من إعادة توجيه الاستثمارات نحو المناطق الساحلية وإنهاء برنامج الجبهة الثالثة المكلف تدريجيًّا. وفي نتيجة غير متوقعة، أدى إنهاء الدعم العسكري الأمريكي لحكومة الأحكام العرفية الكومنتانج إلى فتح الطريق للتحول الديمقراطي لتايوان، مما باعد أكثر بين الجزيرة وبين التوحد.
استمرت الصين في مهاجمة الإمبريالية، إلا أنها ربطتها باستنكار لسياسة «الهيمنة» للاتحاد السوفييتي، وارتجل ماو تعريفًا جديدًا أخرق «للعوالم الثلاثة» للسياسة العالمية؛ فشكلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي العالم الأول، وتألَّف العالم الثاني من «العناصر المتوسطة مثل اليابان، وأوروبا، وأستراليا، وكندا»، وهي الدول التي «لا تملك الكثير من القنابل الذرية وليست في ثراء دول العالم الأول، ولكنها أكثر ثراء من العالم الثالث.» أما العالم الثالث، فكان يضم أفريقيا، وآسيا (دون اليابان)، وأمريكا اللاتينية؛ أي الشعب. كان اقتصاد ماو سيئًا، ولكن حسَّ الاستراتيجية العالمية لديه كان قويًّا. لقد كانت الصين بحاجة إلى إزاحة الحلفاء بعيدًا عن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
(٤) تعديلات خرقاء
لم تكن النقلة الدبلوماسية الصينية الأمريكية الرائعة ديمقراطية ولا تشاركية؛ فقد اتُّخذ هذا القرار النخبوي في سرية بعيدًا عن الدول الأخرى، وبعيدًا حتى عن الساسة في كل من الصين والولايات المتحدة. وفيما رحَّب الكثير من الصينيين والأمريكيين بالتغيير، انزعج آخرون؛ فقد كانت جميع الأطراف بحاجة لمناقشة ممتدة لتنفيذ هذا التعديل الأيديولوجي الكبير، الذي حول عدو الأمس اللدود إلى حليف اليوم ضد الاتحاد السوفييتي.
صُدم القادة اليابانيون، الذين كانوا مؤيدين مخلصين للخط الصارم الذي اتبعته الولايات المتحدة في شرق آسيا، حين وجدوا السياسة تنقلب رأسًا على عقب دون التشاور معهم. وعرفت الحكومة الأمريكية الصورية في جنوب فيتنام أن نهايتها باتت قريبة، فيما واجهت تايوان الأنباء بإنكار مصحوب بالذهول.
على صعيد السياسة المحلية في الولايات المتحدة، كان المحافظون الغاضبون دائمًا ما يدعمون الكومنتانج على الرغم من نجاح نيكسون في استقطاب معظم الجمهوريين، وحاول مثقفو أمريكا شرح الثورة الثقافية، وشمل ذلك تقديم تحليلات ساذجة نوعًا ما للثورة الثقافية.
أما في الصين، فقد جدَّدت المرحلة المبدئية من الثورة الثقافية خوفًا قديمًا من الأجانب، تارة عن عمد، وتارة بسبب إسكات معظم الأصوات الكوزموبوليتانية، غير أن جيانج تشينج ذات النزعة اليسارية تعهدت بتحديث الثقافة الصينية بتطويع الأساليب الغربية، تطبيقًا لنداء ماو «استغلوا الأجانب في خدمة الصين.» وقد أبرزت إحدى عروض الأوبرا النموذجية بعنوان، «على أرصفة الميناء»، معاناة عمال الميناء لتصدير بذور الأرز إلى أفريقيا، في سياق موجة عالمية من معاداة الإمبريالية. كانت هذه السياسة في التعاون الدولي مختلفة عن استيراد المنتجات الثقافية الغربية، ولكنها لم تكن معادية للأجانب.
وعلى الرغم من ذلك، كانت الثقافة الأجنبية على الأرجح متورطة حتميًّا في سياسات حزبية مريرة؛ فقد كان القلق بشأن التدنُّس بثقافة الخارج منتشرًا بين الكثير من اليساريين، خوفًا من إضعاف الثورة بدفع الصين للاعتماد على الدول الأجنبية. وفي لفتة أكثر سخاء، ناقش القادة كيفية تنظيم الانفتاح الجديد على الغرب.
حين كوَّن شو إن لاي مجموعة من الفنانين لزخرفة الفنادق من أجل موجة جديدة من الزوار الأجانب، استنكر الراديكاليون اللوحات بوصفها ﺑ «السحر الأسود». وحين أعيد أداء الموسيقى الكلاسيكية الغربية مرة أخرى، ظهرت حملة لانتقاد «الموسيقى التي لا تحمل عناوين»؛ إذ كانت السيمفونيات والسوناتات المجردة (مثل سيمفونية موتسارت رقم ٤٠ في مقام صول الصغير) تُعتبر أكثر برجوازية من الموسيقى التصويرية التي تحمل عنوانًا (مثل مقطوعة «دون كيشوت» لشتراوس، أو «السيمفونية الرعوية» لبيتهوفن). فقد كانت الرسائل المعنونة فيما يبدو أكثر شفافية، وكانت أكثر تلاؤمًا مع التقاليد الصينية للموسيقى والسرد. وبعد عودة وفد صناعي صيني من رحلة إلى نيويورك حاملًا معه مجموعة من الحلزونات الزجاجية أُهديت لهم من شركة كورنينج للأعمال الزجاجية، اتهمتهم جيانج تشينج بعبادة الأشياء الأجنبية وطالبت بإعادتها، وحين قدَّم المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني فيلمًا وثائقيًّا لإعادة تعريف الغرب بالصين، شهَّرت به بكين لتركيزه الزائد على الأشياء القديمة، والمناظر الغريبة، والآلات التي تدار بالطاقة البشرية، بدلًا من التركيز على الإنجازات الصناعية الجديدة التي تفخر بها الصين.
لم يكن إحياء العلاقات مع الغرب يسير كله على طريقة حرب الخنادق؛ فقد كانت الصين تشتري واردات ذات أهمية، أبرزها مجموعة من وحدات تصنيع الأسمدة لتعزيز الإنتاجية الزراعية، ورحبت الصين بقيام وكالة الاستخبارات المركزية بإقامة مراكز تنصت ضد العدو السوفييتي الذي أصبح عدوًا مشتركًا الآن. غير أن الجبهة الثقافية ظلت أكثر شعبية وأكثر حساسية.
كانت معظم الخلافات والنزاعات التي تنشب تتعلق باستقبال الصين للثقافة الأجنبية، فيما قلَّت الاضطرابات التي صاحبت الدبلوماسية الثقافية الجديدة للصين، والتي كانت أفضل تنظيمًا وأكثر تركيزًا؛ فقد حافظت الصين على علاقاتها بأصدقائها القدامى، وصدَّرت الأوبرا الثورية إلى الجزائر وألبانيا، وأسست وزارةُ الثقافة فرقتها عالية المهارة «للغناء والرقص الشرقي» لأداء عروض لجماهير العالم الثالث. ورأى الغرب أن الصين قد فتحت صفحة جديدة، مما صرف الانتباه عن فوضى الثورة الثقافية ووجَّهه نحو أمجاد الصين في الماضي التي كانت أقل تسييسًا. وجاء اكتشاف «جيش التيراكوتا» المكوَّن من آلاف التماثيل لمحاربين يحرسون قبر إمبراطور الصين الأول الذي يرجع تاريخه إلى ألفي عام، ليجذب أنظار العالم، إلى جانب معرض متجول لآثار تم اكتشافها خلال الثورة الثقافية. والمفارقة أن كثيرًا منها قد اكتشف أثناء حملة الدفاع المدني من أجل «حفر أنفاق عميقة، وتخزين الحبوب في كل مكان.»
استعانت الصين بالغربيين لتقديم نفسها للعالم؛ فقامت الروائية الصينية البلجيكية هان سويين بتقديم الجمهورية الشعبية لجماهير جديدة، وأنتج المروِّج النيوزيلندي ريوي آلي كتبًا وقصائد حماسية ولكنها بلا معنى. كذلك اكتشفت جيانج تشينج كاتب سيرتها الذاتية الأمريكي روكسان ويتكي، وهو أكاديمي شاب كان يُجري معها حوارات ولقاءات مكثفة في عام ١٩٧٢. وقد واجهت جيانج تشينج وويتكي فيما بعد انتقادات بسبب مشروعهما التعاوني، وإن كانت جيانج وحدها هي من اتُّهمت بخيانة بلادها.
شكَّلت اليابان حالة خاصة؛ إذ تودَّدت الصين لعدوها السابق بحماس أكبر مما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة، وافتُتن الصينيون بفرقة رقص يابانية قامت بتقديم باليه «الفتاة ذات الشعر الأبيض». ولكن الذكريات العالقة ظلت قائمة. وكان هناك جندي ياباني، انفصل عن وحدته خلال الاستسلام المحير في عام ١٩٤٩، واستقر في قرية بشمال الصين، وبدافع الخوف من انتقام الفلاحين الصينيين، اندمج داخل مجتمعه بالتظاهر بأنه أصم وعاجز عن الكلام. وجاءت إعادة العلاقات بين اليابان والصين لتحيي قدرته على الكلام والسمع، وعاد إلى وطنه بعد ثلاثة عقود من الفراق.
(٥) وضع أسس الليبرالية الجديدة
ما العلاقة بين الثورة الثقافية والصين التي حققت طفرة جديدة في اقتصادنا العالمي المعاصر؟ تشير الروايات التقليدية إلى أن الثورة الثقافية كانت الطرف المقابل للعولمة، وأن فوضى الخوف من الأجانب والدمار الاقتصادي اللذين استمرا على مدى عقد كامل لم يصححا إلا حين أدرك دنج شياو بينج الواقع بحكمة وحصافة، وأعاد دمج الصين في الاقتصاد العالمي.
أما علاقتها بالإصلاحات، فهو أمر أكثر تعقيدًا. فقد كانت الثورة الثقافية، خاصة في مرحلتها الراديكالية المبكرة، قد سجلت ارتفاعًا في حدة التعصب والحماس في مقاومة الرأسمالية العالمية. وبالطبع سوف يحتفل المنتصرون الغربيون بدحر هذه المقاومة، غير أن تفسير التغيرات في الصين بأنها مجرد استجابات للغرب يظل تفسيرًا غير دقيق ونرجسيًّا.
وعلى كل أخطائهم الفادحة، فقد أقام الماويون منشآت تحتية وموارد بشرية كانت أساسية ولا غنى عنها للنمو السريع الذي حدث لاحقًا. والتقليل من شأن إسهامات الثوريين الذين جرُّوا أمتهم للاندماج في العالم الحديث، وقضوا على الأمية، وكافحوا الأمراض المزمنة، ووضعوا البنية التحتية للتصنيع، هو ضرب من الحمق والضلال؛ فعلى الرغم من العيوب الكثيرة التي شابت الصين الماوية، فإن الانتعاش الاقتصادي اللاحق يبني أيضًا على إنجازاتها، بما في ذلك التحرر القومي والاجتماعي.
وعلى الرغم من أن الثورة الثقافية كان من الممكن أن تبلي بلاءً أفضل في الاقتصاد، فمن التضليل أن نعتبرها مجرد عقد ضائع بالنسبة لتطور الصين. وقد وجدت الصين فرصًا دولية أعظم بعد الثورة الثقافية عن ذي قبل، وعاد التكامل والاندماج بين الصين والرأسمالية العالمية حين طلبت الأخيرة الاستعانة باحتياطيات الصين الهائلة من العمالة، وهو ما لم تفعله في النطاق الأصغر للاقتصاد العالمي في منتصف الستينيات.
تبلورت الليبرالية الجديدة في جزء منها كرد فعل للمقاومة ضد الرأسمالية العالمية في فترة الستينيات والسبعينيات، وكان الاتجاه إلى العمالة الصينية المنظمة، والمتعلمة، وغير المكلفة مثيرًا للسخرية؛ فقد استخدمت الشركات في الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان الإنتاج الخارجي في الصين لتأديب العمال في بلادهم عن طريق التهديد بفقدان وظائفهم، في ظل ركود الأجور وضعف النقابات العمالية.
وبغض النظر عن مدى التحرر الذي طال الاقتصاد جراء برنامج الإصلاح، فقد ظل مغامرة موجهة من قبل الدولة وليس فتحًا ساذجًا لأبواب الصين أمام الرأسمالية. لقد كوَّنت ثورة الصين، بما فيها الثورة الثقافية، حركة طويلة المدى لتقوية الصين من أجل المنافسة في العالم الأوسع، وكان تأجير ذخيرتها من العمالة الرخيصة للرأسمالية العالمية استراتيجية محسوبة، مثلما كان الحال مع الجهود الماوية الأولى لتسخير نفس هؤلاء العمال من خلال الحملات السياسية.
استفادت الصين بقوة من هزيمة الفيتناميين للولايات المتحدة؛ إذ أُجبر الأمريكيون على إعادة تقييم استراتجيتهم الآسيوية، مما خلق ثغرة لماو لتخفيف عزلة الصين. كانت إصلاحات دنج شياو بينج في حقبة ما بعد ماو ضخمة، لكنها خرجت من رحم سياسات ماو، وشو إن لاي، ودنج شياو بينج ذاته خلال الثورة الثقافية. ومع مشارفة الثورة الثقافية على الانتهاء، أتاح انفراج التوتر مع الولايات المتحدة القيام بتجارب اقتصادية أكبر، وارتفاعًا منتظمًا في التجارة الخارجية.
إن هذا لا يعني أن ماو كان يقود دفة الصين بدراية على المسار الذي اتبعته منذ وفاته. لقد كان ماو في شدة الوجل والقلق من ممثلي الرأسمالية الذين «تسللوا» إلى مواقع السلطة، كما أوضح في إعلان ١٦ مايو الذي أعلن عن بداية الثورة الثقافية: «بمجرد أن تكون الظروف مهيأة، سوف يستولون على السلطة السياسة ويحولون ديكتاتورية البروليتاريا إلى ديكتاتورية البرجوازية. لقد كشفنا بعضهم بالفعل، ولكن لم نكتشف البعض الآخر. لا يزال البعض منهم يحظى بثقتنا ويدرَّبون ليكونوا خلفاءنا؛ فلا يزال أشخاص، مثل خروشوف على سبيل المثال، قابعين بجوارنا.»
خلال زيارة للصين إبان الثورة الثقافية، استقلَّ أكاديمي أمريكي ومستشار تجاري القطارَ من هونج كونج بصحبة صحفيين من إحدى المجلات الأمريكية الراديكالية، ولدى وصوله إلى الصين، ابتهج كثيرًا حين رأى صحفيي الجناح اليساري يُقتادون لاستقلال حافلة صغيرة، بينما اصطُحب هو في سيارة ليموزين، فيما اعتبر مؤشرًا لتغيير وشيك.
كان الاستثمار الأجنبي، بالنسبة للصين، يتطلب وضع قيود على المؤسسات الاشتراكية، وكان شعار «الاعتماد على النفس» أقرب لرونالد ريجان أو مارجريت تاتشر منه لماو. وقد أُسقط الشعار، ولكن المفهوم طبِّق على العمال الصينيين بشكل فردي، وتم تفكيك النظام الجماعي في الزراعة بحلول عام ١٩٨٣، وبعدها بفترة قصيرة، استعانت بعض المصانع بأجانب لأداء العمل «التطوعي» الذي طلبته الدولة، مما أظهر الخواء المتزايد الذي أصاب الاشتراكية. وأصبحت سياسة «صحن الأرز الحديدي» التي تضمن الوظيفة مدى الحياة، والتي اعتُبرت يومًا ما أحد إنجازات دولة العمال، عقبةً أمام المنافسة في الاقتصاد العالمي. وأسفر الانفتاح على التجارة الخارجية، والخصخصة، والاستثمار الأجنبي عن نمو سريع في الدخول، وأصبحت الصين أقل فقرًا إلى حد كبير، ولكنها أيضًا صارت أقل مساواة وسلبية سياسيًّا.
خلال الأزمة المالية عام ٢٠٠٨، انتشرت شائعات عن أن الصين بصدد إنقاذ بنك ليمان براذرز من الإفلاس، وهكذا تحولت الصين، التي كانت يومًا ما مصدرًا للخوف لدعمها للثورة، إلى الصين التي جعلت العالم مكانًا آمنًا للرأسمالية العالمية.
إن التفكر في الثورة الثقافية يشبه النقاش حول تغير المناخ، حيث الأسئلة البسيطة تؤدي سريعًا إلى قضايا كبيرة ومعقدة. كيف يجب أن تقلل من انبعاثات الكربون؟ تنطوي إجابة هذا السؤال على قضايا تاريخية معقدة: الحمولة الكربونية المناسبة للمصنِّعين الأوائل، والطموحات الواقعية للدول الأكثر فقرًا، وعلاقة الصناعة الصينية بأماكن مثل أفريقيا. بالمثل، يمكن بالتأكيد مناقشة الثورة الثقافية كقضية محلية من قضايا السياسة المحلية، ولكننا نريد أيضًا أن نفهم كيف تتلاءم مع بقية العالم؛ فلا يمكننا فهم الصين دون دراسة سياقها العالمي، ولن يكون للعالم معنى إذا لم ندرج فيه الصين.