التصالح مع الثورة الثقافية
بدأت الثورة الثقافية في الأفول بوفاة ماو في عام ١٩٧٦، واعتُقلت أرملة ماو وثلاثة قادة راديكاليون آخرون، فيما عُرف ﺑ «عصابة الأربعة»، بتهمة إثارة الفوضى، وقُدِّموا لمحاكمة علنية مع كبار جنرالات لين بياو في عام ١٩٨١. وقد أبرزت هذه الاعتقالات تصاعد نفوذ دنج شياو بينج، والرفض التدريجي والممنهج في الوقت ذاته لمعظم السياسات الاجتماعية والاقتصادية الماوية. ولا عجب في أن الصين قد واجهت صعوبة في التعايش مع ذكرى مثل هذه الفترة العصيبة، على الرغم من أن البلاد تبذل جهدًا جادًّا أكثر مما سيقدِّره الكثيرون في الغرب.
(١) إنهاء الثورة الثقافية
الأمر الآخر، كما تعرفون، كان إطلاق الثورة الثقافية، وهنا ليس لدي الكثير من المؤيدين ولدي بعض الخصوم. إن الثورة الثقافية شيء لم ينتهِ بعد. ومن ثم فإنني أمرر المهمة إلى الجيل القادم. قد لا يكون بمقدوري تمريرها بسلام، وفي هذه الحالة قد أضطر لتمريرها في أجواء من الاضطراب. ماذا سيحدث للجيل القادم إذا فشل الأمر كله؟ قد يكون هناك عاصفة وأمطار من الدماء. كيف ستواجهون ذلك؟ السماء وحدها أعلم!
كانت هناك مغالاة في مخاوف ماو بشأن الأمطار الدموية، وكان من شأن انقلاب بسيط ضد الطائفة التي كانت أكثر من استثمر في استمرار الثورة الثقافية أن يضمن نهايتها؛ فقد اتفق معظم قادة الحزب على أن الثورة الثقافية كانت مدمرة سياسيًّا، وأن سياساتها الاقتصادية قد استنفدت كل ما لديها، وأن رؤيتها الثقافية قد أصبحت خانقة.
وخلال عام من وفاة ماو، أعلن خليفته هوا جوفينج أن الثورة الثقافية قد انتهت، ولكن هوا، الذي كان رئيس الحزب بهونان ووزيرًا للأمن العام، كان بحاجة إلى استحضار إرث ماو لتقوية قاعدته السياسية الضعيفة، غير أن تزامن استحضار ماو مع إبعاد نفسه عن إرث ماو النهائي أثبت صعوبته. فقد تم إفشال هوا بفعل المد المتزايد للمسئولين الذين خضعوا لإعادة التأهيل، والذين فضَّلوا الإيقاع الأسرع في التغيير الذي وعد به دنج شياو بينج.
وبحلول ديسمبر من عام ١٩٧٨، كان دنج قد نجح في تجريد هوا من السلطة الحقيقية، وتبنَّى الحزب سياسة الإصلاح، وشرع في إعادة تقييم الثورة الثقافية بمزيد من الجدية؛ ففي الفن، عرض أدب «المجروحين» ما احتوته من ظلم وفساد، وفقدت النماذج الماوية التي كانت مقدسة يومًا شعبيتها، وكشف النقاد عن معونات حكومية كانت تُمنح لوحدة دازهاي الإنتاجية «ذات الاكتفاء الذاتي» في ظل حل الجمعيات التعاونية الزراعية. ونضب النفط من حقل داتشينج، وسقطت «مجموعته البترولية» من السياسيين في بكين حين غرقت منصة بترول ساحلية في عام ١٩٧٩، مما أسفر عن مصرع اثنين وسبعين عاملًا.
أظهرت التغييرات التي طرأت على السياسة الاجتماعية والثقافية مدى الرفض للثورة الثقافية؛ ففي غياب الضغط الماوي، لم يرغب أحد حقًّا في بقاء شباب المدن في الريف. وبحلول عام ١٩٨٠، كان معظمهم قد عاد إلى مدنهم الأصلية، واستؤنفت اختبارات الالتحاق بالجامعة على مستوى البلاد، وتم رفع حد السن إلى سبعة وثلاثين عامًا لتعويض عقد كامل من الفرص الضائعة، وخاض ما يقرب من ٦ ملايين شخص ما قد يعد أكثر الاختبارات تنافسية في التاريخ؛ وفاز ٥ بالمائة منهم بأماكن في الجامعة. ولا تزال «دفعة ٧٧» تلك تعتبر مجموعة استثنائية غير عادية.
شددت سياسات التعليم والفن على استعادة المؤسسات القديمة وإعادة تأهيل المسئولين المخلوعين، كلٌّ بهدف استعادة عصر ذهبي خيالي للشيوعية، ولكن دون ماو أو لين بياو. وقد صاحب الحفل التأبيني الذي أقيم في عام ١٩٨٠ لليو شاوشي موجة من عمليات إعادة التأهيل، رافقتها تكريمات لمن ماتوا وتعويضات لمن قضوا سنوات بعيدًا عن الحظوة السياسية.
ولمزيد من الهدم للماوية، على المدى الطويل، جاءت المبادرات الاقتصادية الجديدة لتشجيع الأسواق والصادرات؛ فعلى الرغم من أن الصين كان لها تراث راسخ في التسويق، فقد دمرت الثورة طبقتها الرأسمالية. ومن بين العديد من المفارقات أن أعضاء الحرس الأحمر السابقين استغلوا علاقاتهم الشخصية التي تكونت في الإطار السياسي للثورة الثقافية لبناء شبكات تجارية جديدة.
ازدادت الإثارة الثقافية بإعادة اكتشاف أساليب وأعمال من تاريخ الصين الماضي ومن العالم الخارجي، وتهافتت الجماهير من أجل استيعاب الوفرة المفاجئة في الاختيارات الجمالية. وكانت المقاومة من جانب المسئولين الأكثر محافظة (وليس الماويين بالضرورة) تندلع من آنٍ لآخر، ودائمًا ما كانت تتمحور حول الموسيقى الشعبية الواردة من الخارج، بما في ذلك تيريزا تينج، وهي مطربة رومانسية تايوانية. وقد عبَّر دنج شياو بينج عن ذلك بأسلوب أهدأ من المسئولين الأدنى مرتبة حين قال: «حين تفتح النافذة، سوف يدخل بعض الذباب.»
كانت معظم الرقابة تطبَّق من جانب المتعصبين أو الخائفين، وما لبثت أن بدأت تخف. وظهرت رؤى تاريخية جديدة أتاحت نقاشًا أكثر تفصيلًا لتاريخ الصين، ومن ثم لم يعد عام ١٩٤٩ يمثل الخط الفاصل بين الجيد والسيئ. وفي النهاية تحررت عملية إعادة اكتشاف الصين الجمهورية من التهديدات العسكرية من قبل شيانج كاي شيك.
(٢) تحديد المسئولية
ليس صحيحًا أن السلطات الصينية لم تتعامل مع الثورة الثقافية قط، فقد ظل الغرب غير واعٍ بشكل عام بمدى ما أبداه الحزب الشيوعي من اعتذار، وتنديد، وتعويضات عن هذه الحركة الماوية، وهو ما شمل المحاكمات العلنية، وعمليات إعادة تأهيل الضحايا، وإعادة الوظائف، والملكيات المفقودة، والدخل.
وفي عام ١٩٨١، قامت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني بإصدار بيان عن تاريخ الحزب، تضمن رفضًا واضحًا للثورة الثقافية، وجاء فيه: «كانت «الثورة الثقافية» التي امتدت من مايو ١٩٦٦ إلى أكتوبر ١٩٧٦، مسئولة عن أكثر الانتكاسات حدة وأفدح الخسائر التي عانى منها الحزب، والدولة، والشعب منذ تأسيس الجمهورية الشعبية. وقد كان الرفيق ماو تسي تونج هو مطلقها وقائدها.»
وواصل البيان: «لقد أظهرت التجربة أن «الثورة الثقافية» لم تشكِّل ثورة أو تقدمًا اجتماعيًّا بأي حال، ولم يكن بالإمكان أن تفعل ذلك. لقد كنا نحن، وليس العدو، من ألقتهم «الثورة الثقافية» في مصيدة الفوضى والاضطراب.»
قدمت المحاكمة العلنية المتلفزة لأعضاء عصابة الأربعة وعصابة لين بياو في عام ١٩٨٠ خاتمةً رمزية لملايين من المشاهدين المنبهرين؛ فقد أُدين المتهمون العشرة باضطهاد ٧٢٧٤٢٠ شخصًا وقتل ٣٤٢٧٤. تحدثت جيانج تشينج بلهجة تحدٍّ، فيما رفض حاكم شنغهاي تشانج تشن شياو (الذي ربما كان أخطر القادة السياسيين المتهمين) الحديث نهائيًّا. وقد حُكم على الاثنين بالإعدام مع إيقاف التنفيذ لمدة عامين، لتعدَّل العقوبة بعد ذلك إلى سجن مدى الحياة. وحصل نائب رئيس الحزب السابق وانج هونج ون على حكم بالسجن مدى الحياة، بينما حُكم على مسئول الدعاية المخلوع ياو ون يوان بالسجن لمدة عشرين عامًا. أما تشن بودا، سكرتير ماو وقائد مجموعة الثورة الثقافية، وكبار القادة العسكريين الذين أدينوا باعتبارهم «أعضاء عصابة لين بياو»، فقد حصلوا على أحكام بالسجن لمدد تراوحت ما بين ستة عشر عامًا وثمانية عشر عامًا.
ظلت جيانج تشينج سجينة سياسية حتى انتحارها في عام ١٩٩١، وقد كانت تصنع دُمًى لبيعها بالخارج، ربما في إطار الاقتصاد الجديد الموجه نحو التصدير. وقد ألغيت هذه المهمة حين اكتشف حراس السجن أنها طرزت اسمها على كل دمية. وقام الحزب بفصل قائدَي الجهاز الأمني الراحلَيْن، كانج شينج وشيه فوشي، وذلك بعد وفاتهما؛ حتى خُطب التأبين التي كانت ستلقى خلال جنازتهما ألغيت رسميًّا. وصاحب حركات التطهير الواسعة على المستوى المحلي حوادث انتحار لبعض الناشطين اليساريين. وكانت محاكمة عصابة الأربعة إيذانًا بموجة ثانية من حركات التطهير المحلية، والتي شملت أشخاصًا كانوا من نشطاء الحرس الأحمر قبل حوالي عقدين، وكذلك «أبطال» الثورة الثقافية الراحلين، مثل منتقد اختبارات الجامعة شانج تيشينج، الذي حُكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا بتهمة التخريب.
وأعيد الكثير من المسئولين الذين كانوا مدحورين يومًا ما إلى مناصب عليا، تارة في أدوار شرفية فقط، وتارة بغرض الانتقام. وكوفئ كثيرون بالسفر للخارج. وعلى مستوى أقل رسمية، كان لأبنائهم في الغالب الأفضلية في الترقيات. وفي استخدام لمبدأ الرمزية العامة الأكثر تعميمًا، وُضع تصميم جديد لعملة الصين الورقية أضيف من خلاله مفكر ذو نظارات إلى ثلاثية العامل، والفلاح، والجندي الماوية، مما أضفى طابعًا رسميًّا على فكرة تجدد الاحترام للمفكرين والمثقفين.
أعادت الدولة الكثير من الممتلكات المصادَرة إبان الثورة الثقافية. وبحلول عام ١٩٨٥، قامت إدارة الآثار الثقافية ببكين «مكتب البضائع المنهوبة أثناء الثورة الثقافية»، بعرض ٣٠ ألف عمل فني لم تتم المطالبة بها، و١٧٠ ألف كتاب، حتى يتسنى للمواطنين تقديم مطالبات لاستردادها. وليس مستغربًا أن تكون أكثر المقتنيات جاذبية قد جذبت دعاوى مطالبة عديدة.
غير أن المنتقدين أرادوا المزيد؛ فلِمَ انتقاد الثورة الثقافية دون مشروع القفزة الكبرى للأمام؟ فأراد آخرون من الحزب التبرؤ من حملة ١٩٥٧ المضادة لليمينيين، فيما أراد آخرون تبرؤًا من الثورة ذاتها. ولم يستطع قادة الدولة والحزب إرضاء جميع المواطنين الصينيين، الذين تراوحوا ما بين العمال الذين تحسنت حياتهم والمثقفين الذين عانوا معاناة مريرة. وفي النهاية تعاملت الصين مع ماضيها المثير للجدل، مثلما فعلت المجتمعات الأخرى؛ بفرض قيود مخيبة للآمال.
في ظل هذه القيود، كانت الإشارات واضحة؛ فقد اتخذ الحزب موقفًا دفاعيًّا، ملقيًا أكبر قدر ممكن من اللوم على كاهل ماو وعصابة الأربعة، ثم حث الجميع على «الالتفات للمستقبل». ولكن إذا أدرجنا ضمن ضحايا الثورة الثقافية أي شخص لقي أحد أفراد عائلته معاملةً مجحفةً، فربما يكون ١٠٠ مليون صيني قد أصابهم الضرر. ومع تزايد أعداد المسئولين المخلوعين ممن حظوا بإعادة التأهيل واستعادوا مناصبهم السابقة، وجد كثيرون أنفسهم يتقاسمون مناصبهم مع من كالوا لهم الاتهامات في السابق بشكل مثير للتوتر. وأصبح النظر للمستقبل أكثر ضرورة وإلحاحًا، ولكنه أقرب للمستحيل.
بدأ الحزب في إزالة صفة التقديس عن الماوية. كان ماو قد دُفن في ضريح ضخم في وسط ميدان تيانامين، وهو الأمر الذي أثار بعض الجدل، وبدلًا من نقل المقبرة، اختار الحزب توسيع النصب التذكاري ليضم خمسة آخرين من قادة الحزب هم: ليو شاوشي، وشو دي، وشو إن لاي، وتشن يون، و دنج شياو بينج (فيما بعد). واستمر نشر كتاب «الأعمال المجمعة» لماو في أربعة مجلدات، ضمت كتاباته خلال ثورة عام ١٩٤٩. ونُشر مجلد خامس أحدث، تألَّف من المقالات التي كتبها ما بين عامي ١٩٤٩ و١٩٧٦، ولكنه بدا متطرفًا أكثر من اللازم وتم سحبه.
تم تفكيك المئات من التماثيل التي لم تعد مسايرة للعصر آنذاك، وكان الكثير منها منصوبًا في حرم الجامعات، حيث لم تحظَ بشعبية كبيرة بوجه خاص. وفي جامعة بكين في نهاية عام ١٩٨٧، عرض أحد الأساتذة الجامعيين قطعًا من تمثال محطم في مكتبه. ومثلما يقدِّم الصينيون الآخرون الشاي، أو الفاكهة، أو السجائر لضيوفهم، كان هذا الأستاذ الجامعي يرحب بضيوفه بإهدائهم قطعًا من تمثال ماو. وقد كان تمثال ماو المفكك رمزًا لحس الشجاعة الجديد الذي تولد لدى المثقفين، وانتصارهم على وجود كان متسلطًا يومًا ما وأحيانًا ما كان مصدر تهديد.
شمل رد فعل الحزب المضاد لماو حذف «الحقوق الأربعة الكبرى» من الدستور القومي في عام ١٩٨٠، فاختفت حرية إبداء الرأي، وإذاعة الآراء كاملة، وعقد مناقشات موسعة، وكتابة الملصقات ذات الأحرف الكبيرة كحقوق (إلى جانب حق الإضراب). وقد رأى ذوو الحنكة في الحزب في هذه التدابير الاحتياطية تشجيعًا لمنتقديهم. علاوة على ذلك، كانت الحقوق الأربعة الكبرى قد وُضعت لتوها موضع التنفيذ في مظاهرات ١٩٧٩ الشعبية عند حائط الديمقراطية ببكين.
ولكن لم يستطع دنج وأعوانه التأكد من إحكام زمام السيطرة؛ فقد كان من ضمن المتظاهرين الحرس الأحمر السابق العائد حديثًا من الريف والمتعطش لإيجاد وظائف وللإصلاحات السياسية، وكانت ملصقاتهم ذات الأحرف الكبيرة بشكل خاص مصدر رعب للقادة لما يحملونه من ذكريات عصيبة للتنديدات والاتهامات الماضية. واستغلوا الأزمة بنجاح للقضاء على الحركات السياسية الجماهيرية، والتي قد تعد أهم إرث سياسي تركته الماوية. غير أن الحقوق الأربعة الكبرى، حسب أسلوبهم، كانت تحمي أيضًا حرية التعبير في مواجهة السلطة. أما الحكومات الغربية، فقد نظرت في الاتجاه الآخر، إما لدعم نظام دنج الجديد، أو لأنها لم تستطع تخيل تراث ماو دون تداعيات سلبية على حقوق الإنسان.
شملت الكتب والمقالات عن الثورة الثقافية مذكرات وكتبًا هزلية، وكلا النوعين كانا غالبًا ما يستهدفان إعادة تأسيس الموقع الاجتماعي المنهار للمثقفين. وشملت الدعابات عن الثورة الثقافية العامل الذي تولى مسئولية مركز للفنون، والذي حين دمَّرت الأمطار غرفة التحميض، قام بتحميض الفيلم بالخارج، أو عامل عُين أمينًا لمكتبة وقام بتصنيف الرواية الروسية الشهيرة «كيف سقينا الفولاذ» تحت فئة كتب علم المعادن.
ولكن القيود أبطأت من سرعة الحركة لانتقاد ماو والثورة الثقافية؛ أولًا: لأن الحزب كان لا يزال يعتمد على إرث ماو لاكتساب الشرعية أثناء سعيه لإعادة تعزيز سلطته. وكان مما يقال عن ماو إنه كان جيدًا بنسبة ٧٠ بالمائة وسيئًا بنسبة ٣٠ بالمائة، وهو ما يُعد تركيبة غامضة تركت أمورًا كثيرة غير محددة. ثانيًا: كانت الثورة الثقافية قد امتدت لتضم مئات الملايين من المواطنين بين ذراعيها، وكان هؤلاء المواطنون الكادحون يسعون ليكونوا على قدر مستوى المُثُل العليا للحركة في حياتهم اليومية، على الرغم من مكائد ودسائس النخبة السياسية. ولم يستطع الحزب أن يندد بالشعب الصيني، الذي كان مطلوبًا الدفاع عن حكمته وطيبته.
(٣) انتفاضة ١٩٨٩ والحنين للثورة الثقافية
تأكدت مخاوف الحزب خلال أزمة الصين السياسية الكبرى في عام ١٩٨٩، حين اندلعت مظاهرات شعبية ضخمة قامت في الأساس احتجاجًا على الفساد والتضخم، ثم امتدت لمطالبات بمزيد من الديمقراطية. وكان معظم المتظاهرين من أعضاء الحزب. وقد أشعلت هذه الحركة الاجتماعية الكبرى مظاهرات في كل أنحاء الصين حتى تم قمعها بعنف في الرابع من يونيو. تسببت هذه المظاهرات في انقسام الحزب الشيوعي، الذي فُصل أمينه العام، شاو زي يانج، ووُضع قيد الإقامة الجبرية في منزله حتى وفاته في عام ٢٠٠٥.
قامت الفرقة المنتصرة من الحزب بنشر ذكريات الثورة الثقافية لتشويه منتقديها الجدد والتشكيك فيهم. على سبيل المثال، نُشر مقال جانج هوا المليء بالندم والحسرة «تقرير عن تدمير الكتب» (انظر الفصل الثالث) في ١٨ أبريل من عام ١٩٨٩، قبل يومين من فرض الأحكام العرفية على بكين. ومن خلال هذه الذكريات استفاد الحزب من قلق في غاية الشدة بشأن الفوضى الاجتماعية. وخيَّم شبح الثورة الثقافية على مؤسسة الحزب، الذي استعاد سمعته ونفوذه قبل عقد واحد فقط، وخيم أيضًا على المتظاهرين الشباب، الذين اضطروا للاستعداد ليدفعوا عن أنفسهم الاتهام بأنهم لم يسعوا سوى لإحياء همجية الحرس الأحمر.
ميَّز المتظاهرون أنفسهم عن الحرس الأحمر تمييزًا حادًّا بانضباطهم، وتوحدهم، وتواضعهم. وكما كان الحال في الثورة الثقافية، كان الطلاب في طليعة الحركة، ولكنهم في عام ١٩٨٩ قدموا أنفسهم ليس كثوار، ولكن كطلاب، نخبة الأمة المستقبلية، يدفعهم حسهم الوطني للقلق بشأن مسار الصين. غير أنه لم يكن هناك بدٌّ من اعتماد متظاهري ١٩٨٩ الجدد على ذخيرة السياسات المتاحة من أجل تحرك جماعي، وهو العامل الذي اشتركوا فيه مع جيل الحرس الأحمر. قمع دنج منتقديه بالعنف، ثم شيطنهم من خلال الدعاية القومية، وكان رد فعله هذا مشابهًا نوعًا ما لرد فعل نخبة ١٩٦٨ السياسية المذعورة، حين تمت تصفية الحرس الأحمر.
بعد مذبحة ٤ يونيو في بكين، أعاد الحزب توطيد قبضته السياسية، ثم قاموا بتخفيف طريقة تعاملهم العلني مع الثورة الثقافية في موجة غير مسبوقة من الحنين الممزوج بالبهجة. فظهرت مطاعم الثورة الثقافية، وراحت تقدم أطعمة أعادت للأذهان ذكرى تلك الفترة التي قضيت في الريف، وإن كانت قد قدمت مع كثير من اللحوم للحرس الأحمر السابقين الذين نعموا بالرخاء مؤخرًا. وأصبح لتذكارات الثورة الثقافية شعبية، مثل شارات ماو، والملصقات، والتماثيل، وصارت المسرحيات التي كانت جيانج تشينج قائمة على رعايتها يومًا ما تعرض أمام جماهير حماسية، ووضعت الأغنيات الماوية على نغمات الديسكو الراقصة.
صاحبَ حمى ماو تلك التي اندلعت في بداية التسعينيات تعميقٌ شديد للإصلاح الاقتصادي؛ إذ شجع دنج المواطنين على «القفز في بحر» السوق لتحريك اقتصاد أصابه الركود بسبب أعمال العنف في عام ١٩٨٩. كانت «حمى ماو» مجرد حنين خلا من أية رسائل سياسية ماوية. لقد تم تسويق الثورة الثقافية للحقبة الإصلاحية الجديدة، مثلما كان كل شيء آخر في الثقافة الصينية يتحول إلى سلعة. إن حمى ماو تشبه حنين الثقافة الشعبية الغربية لحقبة الستينيات، بألوانها الصارخة، والشعر الكثيف، والاستكشافات الروحانية، والمعتقدات الحمقاء، ولكنها شهدت غياب النضال ضد العنصرية، أو الفقر، أو الحرب الإمبريالية، والذي لم يعد ملائمًا آنذاك.
استكشف فيلم شهير بعنوان «في حر الشمس» (١٩٩٤) الثورة الثقافية من خلال قصة صبي في الخامسة عشرة ترك منزله بمفرده وأسرته التي تتكون من ضباط عسكريين لاستكشاف بكين في عام ١٩٧٥. كانت مغامراته المراهقة استكشافًا لشعور الإثارة الذي ينتاب شابًّا مراهقًا حين يفلت من رقابة الكبار، بما في ذلك المشاركة في مشاجرات مجموعات المراهقين، واستكشاف الجنس، والتلذذ بالطعام، واكتشاف نفاق الكبار، وقد كان هذا الحنين المتلهف يتعارض بشكل حادٍّ مع موجة القمع الشرس في الرابع من يونيو.
كان اتساع السوق الثقافية يعني أن مسئولي الدعاية قد ناضلوا من أجل تنظيم مناقشة الثورة الثقافية، فلم يكن الموضوع محظورًا على النقاش بشكل صريح، ولكنه في الواقع حفَّز ظهور الكثير من الكتب والكثير من الأعمال الفنية. ولكن في عام ١٩٩٠ قامت إدارة الدعاية بالحزب بمنع قاموس للثورة الثقافية تم التقدم به؛ فقد اعتُبر هذا المشروع شديد الخطورة، وقد يعيد فتح خلافات ومنازعات قديمة من خلال تعريف كلمات وعبارات قديمة. غير أن مشروعات مماثلة تم استكمالها للنهاية، مما عكس جهدًا لفهم ماضي الصين القريب بما يشوبه من اضطرابات.
ويظل التعامل مع الثورة الثقافية حقل ألغام سياسيًّا بشكل واضح ومفهوم. وقد اشتدت المخاطر الآن بفضل توجهات الحزب المتناقضة؛ فعلى سبيل المثال، تم سحب سيرة ذاتية لوزير الثقافة الأسبق يو هوي يونج — وهو ملحن عمل في عروض الأوبرا الثورية — من التداول في عام ١٩٩٤؛ لأنها كانت «موضوعية» بشكل مبالغ. لم تكن القيادة مستعدة لنقاش نزيه ليس من شأنه أن يحقر من أعدائه القدامى. غير أن هذا الموقف كان مضادًا للحنين الذي كانوا يروجون له، وهو ما أدى إلى استمرار أداء عروض الأوبرا النموذجية. فالاقتصاد التجاري يضمن أن سوق الحنين لموسيقى الستينيات سوف تُستغل، إلا أن الحكم السياسي الصارم والمتعنت على الحركة يعني أن أي استجواب جاد إنما هو مجازفة بإحداث جدل ونزاع مؤلم.
(٤) إرث مربك
يمكننا بالكاد أن نعتبر أسلوب الصين في التعامل مع ماضٍ مثير للجدل أسلوبًا غير مألوف؛ فذكريات الحركات السياسية الراديكالية شائكة ومعقدة بشكل خاص حين تقترن أهداف نبيلة بسياسات عنيفة. فلم تكن الولايات المتحدة تشعر بالارتياح تجاه المناضل في سبيل حرية العبيد جون براون، والذي أُعدم لقيادته تمردًا مسلحًا ضد الرق، فيما افتقر الروس لإجماع آراء سهل بشأن البلاشفة. وعلى عكس ثورة الصين الثقافية، لا يشمل أي من المثالين مشاعر المشاركين الذين لا يزالون على قيد الحياة.
يبدو جيل الثورة الثقافية في عيون العديد من الصينيين جيلًا ذا صلادة متميزة، تدرب على يد الخبرات والتجارب الصعبة من أجل اكتساب حنكة سياسية وعزيمة شخصية. ولما كانت تلك الحقبة ساخرة، ومحسوبة، ووحشية، فإن كلًّا من الحرس الأحمر السابق وضحاياهم يفخر بقوته الشخصية. الفنان المنشق آي ويوي هو ابن الشاعر آي تشينج، وهو ثوري قديم وقع في صراع مع قيادات الحزب، مثلما كان الحال مع آي ويوي في عام ٢٠١١. وعلى الرغم من علاقة آي تشينج الشخصية بماو تسي تونج، يذكر آي ويوي أن والده قد خُفضت مرتبته ليصل إلى تنظيف دورات المياه. «كانت دورات مياه عامة محطمة ومتسخة وقذرة. وفي بعض الأحيان كان يعود إلى المنزل تغطيه القاذورات. فلم يكن لديه ملابس احتياطية، ولكنه كان هادئًا وقال: «على مدى ستين عامًا لم أكن أعرف من كان ينظف لي حمامي.» وكان هذا مقنعًا لنا للغاية.»
ولكن ذكريات الاكتشافات والهزائم الشخصية نادرًا ما تجد لها مكانًا في الأحاديث العامة، وغالبًا ما تظل بالفعل بلا ذكر بين العائلات. وقد أدهش زوجان من المثقفين ابنهما ذا الاثني عشر عامًا أثناء تناولهما العشاء مع أحد الأجانب في عام ١٩٨٩ حين ذكرا أن والديه قد التقيا باعتبارهما من الحرس الأحمر. غير أن الزوجين يعتقدان أن جيل ما بعد الثورة الثقافية مدلل؛ إذ يفتقد الخبرة العملية بمشكلات الصين. لقد وصل جيل الحرس الأحمر إلى السلطة داخل المؤسسات الصينية، ولكن البلاد غير منفتحة بعدُ على مناقشة النطاق الأوسع لخبراتها وتجاربها. وعلى الرغم من أنه من الخطأ القول بأن الموضوع مغلق، فإن الحوار قد تحول إلى خليط غير مرضٍ من الحنين، والجهل، والشعور بالذنب.
بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على بداية الثورة الثقافية، كان الظالمون والضحايا على حد سواء قد فارقوا الحياة أو تقاعدوا. والقيادة السياسية الحالية تتجنب البحث في السياسات الشابة لنخبة اليوم والتي تزداد قدمًا مع الوقت. ولكن لماذا يكون هذا سببًا في إثارة المتاعب أكثر من إثارة تساؤلات بشأن هوية القادة الأمريكيين الذين حاربوا في فيتنام، ومَن تهرب من أداء الواجب العسكري؟
إن القيادة الصينية تتوق للاحتفاظ بتكتيكات التعبئة الجماهيرية خارج نطاق السياسة، ولا شك أن هذه الاستراتيجية تساعد على وضع حد للمناقشات الخاصة بالثورة الثقافية. والمدهش أن هناك احتجاجات اجتماعية عاصفة تندلع عبر أنحاء الصين، ارتكزت بقوة على توترات حقبة الإصلاح الاقتصادي. وتحظى صورة ماو بجاذبية مستمرة بين المحتجين الجدد، والذين من بينهم العمال الحكوميون، والمشردون، والمتقاعدون، والمهاجرون، والعاطلون. ويريد الحزب أن يثنيهم عن انتهاج أسلوب تفكير واستجابات الثورة الثقافية. ولا يوجد قيود تمنع الشباب الذين تم ترحيلهم إلى الريف فيما سبق من تنظيم أنشطة ولقاءات للم الشمل بشكل غير رسمي، ولكن يوجد عوائق أمام السلوك الرسمي الأكثر تنظيمًا.
ثمة عائق مثبِّط آخر لمناقشة الثورة الثقافية، وهو أن كبار القادة قد يختلفون في وجهات النظر، ومن ثم فإن تجاربهم الشخصية والعائلية، وكذا مشاعر أنصارهم، من شأنها أن تحول دون توافق الآراء، فالأفضل ألا نناقشها عن أن نختلف.
ومن شأن هذا التحفظ أن يضاعف من قلق الحزب إزاء المناقشة العامة لأية كوارث كبرى، بما في ذلك حركة ١٩٥٧ ضد اليمينيين، ومشروع القفزة الكبرى للأمام عام ١٩٥٨، ومذبحة بكين عام ١٩٨٩. هناك قضايا معينة من قضايا الثورة الثقافية يتضح أنها مقبولة، ولكن لا أحد يعلم أيها سيكون منطقة محظورة، ومن ثم يتجه الحذرون إلى موضوعات أخرى. فهناك شيء متغير بشأن السماح بانتقاد ماو تسي تونج، وفي نفس الوقت تجاهل المطالبات بإنشاء نصب تذكارية ومتاحف عامة تخليدًا لذكرى الثورة الثقافية. فقد دعم الروائي با جين، على سبيل المثال، مشروع إنشاء متحف، ولكنه وصل للاشيء.
لم تظل التفسيرات الخاصة بالثورة الثقافية راكدة في مكانها، بل تطورت استجابة لضرورات سياسية حتمية أوسع؛ فعلى سبيل المثال، ظهر اهتمام جديد بطبيعة الحياة الجنسية خلال عقد الثورة الثقافية؛ إذ يتذكر الحرس الأحمر الطاعنون في السن شبابهم الذهبي، مثلما يفعل جيل البيبي بومر في الولايات المتحدة. كذلك تثير الحياة الجنسية قضايا سياسية أقل من تلك التي يثيرها، مثلًا، إعادة النظر في دور الجيش، أو دنج شياو بينج، أو تجارب القادة الحاليين. إن الحركة التحررية للصين تسير قدمًا على مستوى المجتمع، ولكنها لا تُحدث إلا تغييرًا بطيئًا في المؤسسات المركزية والخرافات.
ولا يزال تبادل الاتهامات الشخصية مستمرًّا؛ فلا يزال كهول المثقفين يهاجم أحدهم الآخر بسبب الإبلاغ عن أصدقائهم. وبقدر ما تبدو هذه الذكريات والتعريضات محبطة، فإنها تغذي انجذابًا عامًّا نحو نشر فضائح من كانوا يومًا رموزًا بارزة.
مع توسع الاقتصاد التجاري، يجد الأشخاص الذين يملكون «محتوى» ثقافيًّا فرصًا جديدة، فاندلعت نزاعات بشأن من له الآن حقوق امتلاك الأعمال الفنية للثورة الثقافية، والتي كانت تُنتج في الغالب تحت رعاية جماعية. فقد كانت منحوتة «ساحة جمع الإيجارات» — وهي منحوتة تتألف من مائة شكل لإقطاعي بإقليم سيشوان يسيء معاملة فلاحيه — قِبلةً للسياح خلال الستينيات، وعُرض أحد رسومات المفرقعات لساي جوو تشيانج في بينالي فينيسيا عام ٢٠٠٠، وقام نحاتو الستينيات الذين لا يزالون على قيد الحياة بمقاضاة خلفائهم غير الثوريين لرفضهم احترام حقوقهم في أعمالهم. كذلك سعى ورثة الملحن لي جيفو، الذي وضع كلمات ماو في أغنية، للحصول على تعويض حين أعيد استخدام موسيقاه خلال فترة حمى ماو في التسعينيات. واندلعت معركة قضائية طويلة على حقوق اللوحة الزيتية «الزعيم ماو في طريقه إلى أنيوان» لليو تشون هوا (١٩٦٨). كان ليو قد قام في عام ١٩٩٥ ببيع اللوحة إلى أحد البنوك، الذي لا يزال يمتلكها على الرغم من تقديم مطالبات باستردادها من قبل المتحف الوطني في بكين واعتراف الدولة به كأثر ثقافي.
ولا يزال لي فينج، الجندي الماوي المثالي، حيًّا ويحظى بالاحترام في الخيال العام، ولكنه لم يحظَ باحترام كالذي حظي به خلال فترة الثورة الثقافية. وكان طرح ماركة الواقيات الذكرية لي فينج سببًا في فضح الكثير، ومن ثم مُنعت من التداول في عام ٢٠٠٧. بعد ذلك بعامين اختار أحد الممثلين تجسيد لي فينج في مسلسل تليفزيوني، واضطر لتفادي الاتهامات بأن أفعاله الطائشة الخاصة قد جردته من أهليته للعب مثل ذلك الدور الجليل.
ضاعفت القيود المفروضة بشكل غريب على قنوات النقاش والحوار من جاذبية استخدام الثورة الثقافية كوسيلة للهجاء والتهكم، وتصف رواية يان ليانك «اخدموا الشعب»، علاقة ملتهبة بين زوجة أحد القادة العسكريين الماويين وخادمه؛ تستبد بهما مشاعرهما بينما يدمران رموزًا ثورية، منها كتابات وتماثيل ماو، لتختلط بذلك الخطايا الجنسية بالخطايا السياسية. وقد نُشرت الرواية في مجلة أدبية بارزة، على الرغم من أن نسخة الكتاب قد مُنعت. ويان، الذي كان في الثامنة من عمره عام ١٩٦٦، هو روائي حاصل على جوائز، ولا يبدو أنه قد عانى في مشواره المهني، ويستمتع بلا شك بالعمولات التي يحصل عليها من مبيعات أعماله بالخارج.
(٥) مستقبل الثورة الثقافية
لقد أصبحت الثورة الثقافية في عداد الموتى ودُفنت، لدرجة أن المحاولات والجهود لاستيعابها إنما تخاطر بأن يساء فهمها إما كتمويه أو فشل في إظهار سخط كافٍ تجاه الجثة. غير أن الأفكار بشأن الثورة الثقافية سوف تكون جزءًا من مشهدنا السياسي والثقافي لفترة قادمة.
لا يُظهر الشباب داخل الصين اهتمامًا كبيرًا بالأمر، ولم يعد القادة الحاليون مدفوعين بالعداء الذي يجمع جيل دنج شياو بينج. ومن المحتمل أن تقل قيمة ذكريات الثورة الثقافية بمرور الزمن، ليجعلها تبدو أشبه بانفجار لا نظير له، ويواريها ثرى قرن من التغيير المضطرب العنيف بمزيد من القوة.
وقد ظهرت بعض الإشارات لهذا التحجيم من قدر الثورة الثقافية، إذ إن سرعة التغير الاجتماعي منذ وفاة ماو يسيطر على الوعي الشعبي؛ فالصينيون الذين نضجوا في الحقبة الإصلاحية يمكنهم أن يعرفوا المزيد عن العالم عن نظرائهم في الستينيات، والتعبير عن آراء أوسع، ويعانون بشكل أقل من مزيج من استئساد الحزب والحركة النضالية للغوغاء ممن يعدمون الناس دون محاكمة. ومع خروج الضحايا الفرديين من المشهد، ينحسر الاهتمام بتصحيح أو تخليد قضيتهم. وقد تم التجاوز الآن عن فضائح أخرى، تسببت يومًا في إشعال ذعر كبير، مثل التدمير السياسي للثقافة التقليدية، نظرًا لظهور دمار آخر مدفوع بالسوق؛ فهناك أحياء كاملة تتمزق بفعل الوسطاء العقاريين. وصار ممارسو الفن القديم الذين لا يزالون على قيد الحياة بلا جماهير تقريبًا. بالمثل، بقدر ما كان تدمير البيئة الماوية من خلال الحملات الجماهيرية غير المدروسة صادمًا، فقد تفوق عليه الانتشار غير المنظم للسيارات الخاصة والصناعات الملوِّثة للبيئة.
ويظل ميراث الثورة الثقافية من جنون الاضطهاد، والانتهازية، وتدمير القيم، ولكن النقد الأخلاقي لها تقلص بفعل التطورات اللاحقة؛ فقد كان البعض يقول إن ماو كان مسئولًا عن ازدياد السلوكيات السيئة، ولكن حقبة ما بعد الثورة الثقافية تكشف الكثير من الشذوذ، والجريمة، والعنف. كذلك أثار الرخاء المتزايد في العقود الثلاثة الماضية مشكلات التفكك الاجتماعي، والكوارث البيئية واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والتنمية الاقتصادية غير العادلة، والصراع العرقي، واعتقاد واسع الانتشار بأن النسيج الاجتماعي للصين يتعرض لضغط كبير.
أحيانًا ما تثير القسوة الساذجة لحقبة الإصلاح حنينًا للماوية يضيف طابعًا رومانسيًّا على الثورة الثقافية، مما يضع الاهتمام الماوي بالصالح العام، والقانون، والنظام في مقارنة مع الطمع والفساد الحاليَّيْن. ويتلهف الحزب، الذي يقوده الآن أصناف من السياسيين سبق أن حذَّر ماو منهم، لإخراج تحليلات ومناهج الثورة الثقافية من نطاق النزاعات العمالية. وقد تم التعامل مع النداءات الماوية للعمال بخشونة وفظاظة في عام ٢٠١٠ في إقليم هينان، أحد المعاقل التقليدية للفكر اليساري. فذكرى الثورة الثقافية تعمل بمثابة شبح وهمي لتكميم أفواه المحتجين على مجتمع لا يزال يواجه تناقضات حادة. وبهذه الطريقة تساعد الثورة الثقافية مستثمري النخبة على الحفاظ على النظام. وتتصاعد مخاوف الحزب إلى أقصى مدى لها حين يصبح النمو الاقتصادي مهددًا، فيما يعد تذكيرًا لنا بأن صورة الثورة الثقافية لا تُستخدم فقط ضد المشاركة الجماهيرية في الحياة العامة، ولكن أيضًا ضد الديمقراطية.
غير أن جيل الثورة الثقافية يقوم حاليًّا على إدارة الصين، ليس فقط على الصعيد السياسي، بل أيضًا في التجارة، والثقافة، والجيش. وعلى الرغم من تجارب وخيبات أمل هؤلاء القادة التي غالبًا ما تتسم بالمرارة، فلا يزال الكثير منهم يتأثرون بالمثالية التي كانت تلهمهم باعتبارهم منتمين للحرس الأحمر. وهذه الرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية، إلى جانب حقائق ووقائع السياسة، تغذي إحباطًا مستمرًّا من كون النمو الحالي قد أغفل الكثير من أهل القرى.
وعلى نحو أقل مثالية، تعاود الماوية الظهور في أماكن مثيرة للاهتمام؛ فتقوم دورات في استراتيجية الأعمال بتدريس كتابات الزعيم عن الثورة لصغار رواد الأعمال، ناصحة إياهم بمحاصرة الأسواق الكبرى من المدن الصغيرة، مما يضفي لمسة رأسمالية على نظرية ماو عن الثورة ضد المدن من الريف. وتلعب الثورة الثقافية دورًا محدودًا في هذا المنهج الدراسي، إلا أن نداء ماو حتى لنخبة عالم الأعمال يذكرنا بأن القومية الصينية لن تتخلص من ماو الوطني ومؤسس الدولة. فالصين مرتبطة بماو، أيًّا كانت الظروف، مع نشوب مزيد من الأزمات بشأن كيفية التعامل مع الثورة الثقافية.
أما خارج حدود الصين، فلم يتوصل الغرب بعدُ إلى تصالح مع الثورة الثقافية. فمع تصارع الغرب مع صعود نجم الصين في المجتمع الدولي، تظل الثورة الثقافية نقطة دعاية مفيدة وربما لا تقاوَم؛ فالتفوق الأخلاقي للغرب يُبرَّر من خلال رواية نمطية ومغلوطة عن الثورة الثقافية عن خراب الاقتصاد ودمار التعليم، ولكن دنج شياو بينج أنقذ الصين عن طريق استنساخ سوقنا الحرة. إن النهش في جسد ماو يدعم موقف العولمة، ويثبت أن الاشتراكية لا تجدي، ويُظهر الصين ككيان مزعزع وخطير. وإن بقي ماو رمزًا قوميًّا للصين، لكانت عواقب ذلك أسوأ على الصين.
أحيانًا ما يتسرع المراسلون الغربيون ويقومون بتعريف أي شخص تقريبًا من فئة سنية معينة بأنه من «الناجين من الثورة الثقافية». وكلمة «ناجٍ» تشمل الجميع، من الأشخاص الذين تحملوا محنًا وفجائع يندى لها الجبين إلى كثيرين ممن اكتفوا بالتكيف مع الحياة اليومية. وبذلك يصبح الجميع ضحية، وهو ما يُعتبر صحيحًا بالمعنى الأعم. ولكن رواية الضحايا تلك تتجاهل أن البعض قد جُني عليه أكثر من الآخرين، وتتغاضى عن الأشكال العديدة للمعاناة، ومن شأنها أن تغذي أكذوبة وقوع هولوكوست، وتثبِّت فكرة لدى الغرب عن أنفسهم باعتبارهم منقذي الصين.
لقد عاود هذا التعبير المجازي العتيق الذي يعود للعهود التبشيرية الظهور مرة أخرى، يدعمه سلسلة مؤثرة من المذكرات من مبعدين جدد؛ فتجد شابًّا من عائلة موسرة يتم القبض عليه خلال إحدى العواصف الماوية، ولكن يتم إنقاذه بواسطة منحة دراسية إلى إحدى الجامعات الغربية. وينطلق المسار من حياة في صين كئيبة بائسة، كان الشباب الصينيون من السذاجة بما لم يمكِّنهم من إدراكها كدولة استبدادية، فتتفجر عواطف الثورة الثقافية، يصاحبها في بعض الأحيان اكتشاف للذات، يعقبه رحلة (غير محددة الوجهة) إلى الغرب. وغالبًا ما تكون هذه المذكرات تثقيفية للغاية، ومصاغة بشكل جيد، ومحبوبة من قبل العديد من القراء؛ إذ يحقق كُتابها شديدو الموهبة، والاجتهاد، والطموح، ببراعة ارتباطًا يصعب تحقيقه مع الجماهير في الغرب. ولكن هذه المذكرات تداعب بشكل ملحوظ حس التفوق والأفضلية لدى القراء الغربيين، من خلال إفراطها في تبسيط الصين.
إن التأكيدات المتكررة بأن الصين قد فشلت في التوصل إلى مصالحة مع الثورة الثقافية ليس لها أي نفع، فهذا الحكم غير الإنساني يسفِّه من الصعوبات التي يواجهها أي مجتمع معقد عند التعامل مع أجزاء بغيضة من ماضيه. قد يذهب أحدهم إلى أن أداء الصين في مواجهة الثورة الثقافية كان مضاهيًا لما فعلته الولايات المتحدة مع غزوها لفيتنام. لا شك أن تزيين العملة الرسمية بوجه ماو تسي تونج يغضب الكثيرين، ولكن تسمية المقر الرئيسي لمكتب التحقيقات الفيدرالية بمبنى جيه إدجار هوفر يغضب الكثيرين أيضًا.
وتستمر الصين في أسر انتباه الغرب. لقد كان الافتتان الغربي بالصين إبان الثورة الثقافية ساذجًا في الغالب، ولكنها مثَّلت نقطة تحول بدأ فيها الغرب في دراسة الأفكار القادمة من آسيا بجدية. كذلك كانت الثورة الثقافية محطة لأعظم انفصال أيديولوجي للصين عن الغرب، والتي ضخَّمت (وعتَّمت على) إغراء وجود بديل محتمل للحداثة، يخلو من الاستعمارية والرأسمالية. والنقاش المعاصر بشأن الصين يرى فيها أيضًا بديلًا للغرب، ولكنه هذه المرة ليس ماويًّا، بل كونفوشيًّا بشكل غامض، ويرى فيها منافسًا اقتصاديًّا غير متوقع. إن الغرب الآن ينظر إلى الصين بجدية مطلقة، وخداع وتضليل الستينيات تحول إلى خليط مضطرب من الخوف، والسخط، والانتهازية المالية.