الفصل الأول
(ميدان في البندقية، إلى اليمين خط أول قصر لورنسو باربو، شباك يُطل على الملعب، وباب
أمامه مصباح منار، في الخط الثالث كنيسة، إلى الشمال خط أول خمَّارة على بابها لوحة مكتوب
فيها اسمها في مؤخرة الملعب قناة الماء.)
(عند فتح الستار ظلام دامس ينيره المصباح المعلَّق على باب القصر إلى اليمين، تصدَحُ
الموسيقى بلحنٍ منخفض.)
المنظر الأول
(تمثيل بدون كلام مصحوب بالموسيقى.)
(يدخل لورنسو باربو من الشمال من الخط الثاني، وينظر إلى بيته، ثم يتوارى وراءه، وإذ
ينفتح باب البيت، ويخرج منه رجل مقنَّع يشير إلى الداخل إشارة الوداع، ويمشي نحو الشمال،
فلمَّا يتوسط الملعب، يخرج باربو من مخبئه ويطعنه بسكين في صدره، فيقع قتيلًا، فينحني
عليه باربو؛ ليتأكَّد موتَه ثمَّ يقترب من الشاطئ، ويصفِّر فيأتي النوتي بقارب فيركب
به،
ويذهب، ويكون قد وقع منه قراب الخنجر على الأرض، ويبقى الخنجر مغروزًا في صدر
القتيل.)
المنظر الثاني
بترو وحده
(يسمع صوت بترو يغني من داخل الكوليس، ثم يظهر بلباس فرَّان وفي يده سلة فيها أرغفة،
فيتقدَّم جهة القصر فيعثر بالقراب فيأخذه، ويضعه في السلة، ثم ينظر إلى البيت مليًّا
ويُنشد):
بترو
:
سلامٌ أيها القصر الفخيمُ
سلامُ فتًي تساوره
الهموم
أتيتُ إليك مشتكيًا غرامي
وليس سِواكَ لي منه
غريمُ
أتراها لا تأتي قبل طلوع النهار؟ مسكينة آنلا، إن وقتها ليس لها بل لسيدتها.
أُفٍّ من الخدمة، ما أصعبَها! على أنَّني قد مَلِلْتُ هذه الحياة فلا نستطيع أن نجتمع
إلا تحت ستار الظلام؛ كأنما نحن لصوص نخاف أن يرانا أحد، ولا بدَّ لي من إقناعها
بتقريب ميعاد الزواج؛ فترتاح هي من هذه الخدمة، وأرتاح أنا من هذا العذاب، ها
هي.
المنظر الثالث
بترو – آنلا – ألويزو قتيلًا
بترو
(ينشد)
:
يا من هواها بقلبي ليس ينصرف
عطفًا على مغرم
أودى به الشغف
إن كان قلبُكِ صَخرًا في قساوته
فإن حالي عليها
الصخرُ ينعطف
آنلا
:
أحسنتَ يا حبيبي بترو، بمجيئك قبل الميعاد، ولو تأخرتَ قليلًا لضاع كلُّ غِنائك
سُدًى.
بترو
:
ولماذا؟
آنلا
:
لأسباب كثيرة؛ إنه لم يُغمَضْ لي جَفْنٌ طولَ الليل.
بترو
:
لعل بكِ ألمًا، فإني أراكِ مصفرَّةَ الوجه.
آنلا
:
كلَّا، ولكني اضطررتُ أن أسهرَ من أجل سيدتي؛ فإنها لم تكن تحب أن تنام.
بترو
:
إنها لمعيشة صعبة يا حبيبتي، وأمرُ الخلاصِ منها في يدكِ أنتِ، فقد قلتُ لكِ
مرارًا إن أبي راضٍ عن زواجي بكِ، ومتي صرتِ امرأتي فلا تُجبَرين بعدها على
السهر من أجل أحد، بل تنامين ساعةَ ما تريدين.
آنلا
:
مسكينة سيدتي، إنها طيبة القلب، وتحبني كثيرًا، فلا أقلَّ من أن أتعب قليلًا
من أجلها، أعطني السلَّةَ واذهب الآن؛ فإني في حاجة إلى الرُّقاد.
بترو
:
رويدكِ قليلًا. إني أريد أن أقول لك …
آنلا
:
تريد أن تقولَ لي أنك تحبني كثيرًا، ولا تفتكرُ إلا بي. هذا درس حفظتُه غيبًا؛
لأنك أعدتَه عليَّ مليون مرة.
بترو
:
ولكن لو كنتِ أنتِ تقولين لي ذلك مئة مليون مرة، لما شعبتُ من تَكْراره.
آنلا
:
ألم أقل لكَ مرارًا أني أحبُّكَ كما تحبني؟
بترو
:
القول سهل، ولكن …
آنلا
:
ولكن ماذا؟ (بتعنيف.)
بترو
:
لا شيء … لا تتكدَّري منِّي، إنما أريد أن أقول إن لكل شيء نهاية، ونهاية
الحبِّ الزواج، وبما أن والدي موافقٌ على زواجنا فأودُّ التعجيل به؛ فقد سئمتُ حياةَ
التخفِّي هذه؛ إذ أضطرُّ أن آتيَ تحت ستار الليل كاللصِّ؛ لكي أسرق نظرةً منك.
إنَّ دوام ذلك لا يُحتمَلُ، وأنا من طَبْعي أحبُّ الحرية والصراحة، فقولي إنَّكِ
قابلةٌ بي،
واهجري هذا القصر الكبير، وتعالَي إليَّ؛ إن القصور جميلة ولكن ليس لنا نحن
الفقراء.
آنلا
:
إنك مخطئ يا بترو، فليس لي ما أشكوه من خدمتي في هذا القصر، وأنا قابلة بك
كما سبق مني الوعدُ إليك، على أنه يجب أن تصبر إلى ما بعد عيد القديسة مريم؛ فإن
سيدتي قد وعدتني بهدايا كثيرة و…
بترو
:
إن المال والهدايا تغيِّرُ القلوب، وتُفسِدُ الأخلاق، ولكني لا أصدق ما تقولين
بل أنا أعلم من الذي يضعُ في نفسِكِ هذه الآمال.
آنلا
:
مَنْ؟ لا أحد إنما هو حبِّي لكَ الذي يُطمِّعُني بكل ذلك لأزيدَ سرورَكِ بي.
بترو
:
دعينا من هذا الآن.
آنلا
:
بل أريد أن أعرف مَن تعني بهذا القول؟ ومن هو هذا الذي يضعُ بنفسي هذه
الآمال؟
بترو
:
لا تُلجئيني لأن أُعيدَ عليكِ ما قلتُه لكِ ذلك اليوم.
آنلا
:
إنك يا بترو لسيئ الظن.
بترو
:
لستُ بسيئ الظنِّ، ولكني واثقٌ كلَّ الثقة بأن في هذه الليلة قد دخل رجل إلى القصر
سرًّا، فإذا لم يكن من أجلِكِ أنتِ، فمِن أجلِ مَنْ؟
آنلا
:
إنك واهم، وتظنُّ الخيالات والأشباح أشخاصًا حقيقية، أنت لا تستحقُّ محبَّتي؛ لأن
الذي يحبُّني ينبغي عليه ألَّا يشكَّ بي، هل فهمتَ؟
بترو
:
بل أنا أحبُّكِ، وأثقُ بكِ، ولا أعيشُ إلا لكِ يا آنلا، وكل ما أرجوه أن يعجل يوم …
آنلا
(تقاطعه، إذ تنظر إلى السلَّة فترى القراب)
:
ما هذا؟
بترو
:
هذا قراب خنجر وجدتُّه في الطريق.
آنلا
:
إنه لثمين، وبديع النقش.
بترو
:
إذا راق لكِ فإني مهديك إياه.
آنلا
:
لا، وأشكر لك؛ فإني لا أحب الهدايا التي تجرح.
بترو
:
إذن هاتهِ فإني صانع له نصلًا ينفعني عند الحاجة ولا يضطرني أن أطعن به
مرتين.
آنلا
:
ما مرادك من هذا القول؟
بترو
:
أريد أني إذا رأيت شبحًا يتردَّد حول هذا القصر أغرزه في صدره.
آنلا
:
أُفٍّ لك، ما هذه الأفكار التي لا تُنزعُ منك؟
بترو
:
سترَين.
آنلا
:
لا تكن رديئًا يا بترو، بل كن طيِّبَ القلبِ نظيري، أستودعك الله الآن؛ فإن الفجر
أوشك أن يلوح.
بترو
:
إلى الغد.
آنلا
:
إلى الغد أيها الحبيب (تدخل القصر حاملة سبَتَ الخبز، ويبدو النهار شيئًا
فشيئًا، يبقى بترو ناظرًا إلى الباب الذي دخلت منه).
بترو
:
لا يمكن أن تكونَ تغيَّرَتْ عن ودادي، بل هي لا تزال تحبُّني، ولا بدَّ أن تكون
ظنوني في غير محلِّها، (يذهب فيعثر بالقتيل) إيه يا صاح، ألم تجد فراشًا أليَن من
هذا؟ (لذاته) إنه سكران بلا شك (له)، انهض يا رجل. (يهزه بيده ثم يرفع يدَه فإذا
هي ملطَّخة بالدم) إلهي هذا دم! إنه ليس بسكران بل قتيل، (يرفع القناع عن وجه
القتيل) آه، هذا هو الكونت الشريف ألويزو، هذا عدوي اللدود هو بعينه، (يلتفتُ نحو
القصر) آه يا شقية أتنكرين بعد الآن؟ (للقتيل) أيها الظالم الغشوم، لقد انتقم
الله لي منك، إنه لم يكفك ما فعلته بشقيقتي المسكينة، فأردتَّ أن تسلُبَ مني
خطيبتي أيضًا، فذُق الآن جزاء ما جَنَتْه يداك، ولكن دمك هذا هيهات أن يغسل
العار الذي ألحقته بي وبوالدي، (يلمسه مرةً ثانية) إنه مجلد كتمثال من رخام.
(نحو القصر) آه آنلا آنلا، ماذا صنعت بي؟
المنظر الرابع
فيلنشي يخرج من الخمارة – بترو
فيلنشي
:
من تخاطب بهذا الصوت المرتفع؟ (ينظر القتيل) ماذا هل ظفرت به أخيرًا؟
بترو
:
أهذا أنتَ يا فيلنشي؟ انظر ألم أقل لكَ إن آخرة هذا الظلوم ستكون على ما
ترى؟
فيلنشي
:
نعم نعم، ولكن اهرب حالًا ابتعد عن هذا المكان فإنك ملطَّخ بدمه.
بترو
:
الحق معك، فإن الناس إذا رأوني على هذه الحالة يحسبونني القاتل.
فلينشي
:
هو ما تقول يا بترو، فالتمس الفرار في الحال، فلا يمضي قليل حتى يأتي الناس
للصلاة، وتمتلئ الساحة بالرجال.
بترو
:
أصبْتَ، ولكن من تراه القاتل؟
فلينشي
:
إذا كنتَ أنتَ لا تعرفُ القاتلَ، فكيف تريدُ أن أعرفه أنا؟ (لذاته) يريد أن يُخفيَ عليَّ
فَعْلَتَه، ولكن حيلته لا تنطلي عليَّ.
بترو
:
بماذا تحدِّثُ نفسَك؟
فيلنشي
:
بأنك لا شك مجنون؛ لبقائك هنا (يسمع خطوات أناس قادمين) هيا تعالَ معي؛ فإني أرى
قومًا قادمين (يقوده بيده، ويدخلان الحانة معًا).
المنظر الخامس
ألويزو قتيلًا – القندلفت
القندلفت
(يدخل من الشمال متجهًا نحو الكنيسة فيعثر بالجثة، ويقع فوقها)
:
مَنْ هنا؟
قتيل! آه هذا السنيور ألويزو، قد ذهب لملاقاة ربه، من الأسف أنه ليس من أهل هذا
الحي؛ وإلا لمَا حرمت كنيستنا فوائد الاحتفال بالصلاة عليه (يتجه نحو الكنيسة
وهو يُتمتِمُ صلاة، تدخل امرأتان من الشَّعب من الجهة المقابلة).
المنظر السادس
القندلفت – المرأتان – ألويزو
امرأة أولى
:
لقد تأخرتَ هذا الصباح عن فتح الكنيسة يا برتلو.
القندلفت
:
صلِّيا صلِّيا من أجل هذا الشريف الذي سيمثُل اليومَ أمام الديَّان.
امرأة ثانية
:
مسكين.
المرأة الأولى
:
هذا السنيور ألويزو جورو الشاب الجميل، فاحمله معك يا برتلو إلى
الكنيسة.
برتلو
:
لا يا ابنتي، إنه غير تابع لكنيستنا؛ لأنه ليس من أهل هذا الحي، وفوق ذلك
ربما تقع عليَّ الظنون بسببه (يدخل الكنيسة ووراءه المرأتان).
المنظر السابع
ماركو – فيلنشي – ثم مراكبي – ثم رجل وامرأة من الشعب – ثم القندلفت
فيلنشي
(على باب الخمارة)
:
ارجع يا عزيزي ماركو، ووفِّر عنك هذا المشهد المريع، لقد
قلتُ لكَ إنه هو بعينه فقد رأيته بنفسي.
ماركو
(يدفع فيلنشي عنه)
:
قلت لكَ إني أريد أن أراه.
فيلنشي
:
لم أرَ أكثرَ عِنادًا منك، ومن ابنِك.
ماركو
:
أريد أن أراه وجهًا لوجه (يدنو من الجثة) آه أيها الشريف، المدل بحسنه
المعجب بمقامه، ها قد وقعت أخيرًا، وانتقم الله لي منك.
فيلنشي
:
إنه مجنون كولده.
ماركو
:
ماذا تقول عن ولدي؟
فيلنشي
:
أقول إنكما بلا عقل؛ لأن تصرفكما هذا يبعث عليكما الظنون، ويوقعكما في يد
العدالة.
ماركو
:
أية عدالة؟ إن العدالة قد تمَّت اليوم في هذا الغشوم، وبضربة واحدة قد دفعت لي
قيمة كل الإهانات التي قد ألحقها بي.
فيلنشي
:
اذهب اذهب إذا كنت تحبني، والزم بيتك، وحافظ على ولدك.
ماركو
:
ولدي؟ وأي شأن لولدي في هذه المسألة؟!
القندلفت
(يخرج من الكنيسة)
:
إن ولدَكَ لا يخاف الله، فهو الذي قتل هذا الشريف، صحيح أنه
غير تابع لكنيستنا، ولكنه شريف على كل حال، وذو عائلة كريمة،كثيرًا ما أحسنتْ إلى
الكنائس.
ماركو
:
أرى أنكم جميعكم مجانين هذا الصباح؛ فإن ابني هناك في فُرنه، يشتغل طولَ
الليل.
القندلفت
:
نعم نعم يشتغل انظر ما أحسنَ شغلَه! (مشيرًا إلى الجثة.)
امرأة أولى
:
إنه قتلَه غيرةً منه على آنلا التي تخدم في هذا القصر.
ماركو
:
أية غيرة؟ وأية آنلا؟ تعالُوا انظروا بترو في فُرنِه (يطلُّ من الكوليس، ثم
يرجع خائفًا).
فيلنشي
:
مسكين هذا الوالد الشيخ؛ فإنه سيكون سببًا في توجيه التهمة إلى
ابنه.
ماركو
(يدنو من فيلنشي همسًا)
:
الفرن مقفل، وبترو ليس هناك، فإياك أن تبدر منك
بادرة بهذا الخصوص أمام أحد.
فيلنشي
:
لا تخف أيها الصديق، فإني لا أقول شيئًا ولكني نصحتُك فلم تسمع.
ماركو
:
تعالَ تعالَ معي، آه يا ربي إذا كان ما يُقال صحيحًا فما أشدَّ شقائي! (يخرج
بيَأْسٍ مع فيلنشي.)
(يدخل بترو بسرعة، ويقرع باب القصر فينفِرُ الموجودون خوفًا منه وهُم
يصيحون: القاتل، القاتل.)
(تغيير منظر بسرعة.)
المنظر الثامن
بترو – آنلا
(غرفة في قصر لورنسو باربو، لها بابان من كل جهة في الخط الأول، نافذة على شمال
الملعب.)
آنلا
(تفتح الباب، ويدخل بترو مذعورًا غضوبًا)
:
ماذا؟ أهذا أنت يا بترو؟!
بترو
:
نعم.
آنلا
:
أراك مضطربًا أصفر الوجه فيا الله، ماذا جرى لك؟
بترو
:
ما جرى لي؟! اسمعي ما جرى. إن الناس في الخارج يشكونني بأنني قتلتُ أحدَ
الشرفاء، وهذا الشريف القتيل … هل تعلمين من هو يا آنلا؟
آنلا
:
كيف تريد أن أعرف ذلك؟
بترو
(بهيئة غيظ وتهديد)
:
إنه ألويزو جورو، هل عرفتِهِ الآن؟
آنلا
:
ماذا تقول؟ الشريف ألويزو؟ آه يا مسكين ماذا فعلت.
بترو
:
أتستطيعين أن تقولي الآن أني كنتُ واهما وأنَّ عيني كانت ترى الأشباح،
والخيالات أشخاصًا حقيقية؟ فما عليكِ إلا أن تجتازي هذه العتبة؛ لتتأكدي بعينيك
صحة ما أقول.
آنلا
:
ويلاه.
بترو
:
إيه لا تجزعي فإن الشرفاء كثيرون، وإذا كنتِ قد فقدْتِ واحدًا فستجدين آحادًا
غيره.
آنلا
:
آه يا قاسي، إنك لتقتلني بهذا الكلام.
بترو
:
إن هذه هي المرة الأخيرة …
آنلا
:
بربك ارحمْني، ولا ترفع صوتَك؛ لئلا تسمعك سيدتي.
بترو
:
ماذا تهمُّني سيدتُكِ، وأنتِ وكلُّ العالم؟ أني أقول إنكِ خائنة ناكثة العهد،
وأؤيد قولي بالبرهان.
آنلا
:
بل أنت مخطئ يا بترو، آه يا ربي، أي أمر جنيت اليوم؟!
بترو
:
أنا لستُ بالجاني ولكن غيري الذي انتقم لي وقد قلتُ لك مرارًا إنَّ البغي
مصرعه وخيم. (يشير إلى النافذة) ها هو هناك ملقًى بلا حراك، فاذهبي إذا شئتِ إلى
الكنيسة، وصلِّي لأجل نفسِهِ الخاطئة.
آنلا
:
وأنت ماذا تفعل؟
بترو
:
ماذا أفعل؟ لا أدري فإن الجماهير الواقفة خارجًا تتهمني بقتله؛ لما يعلمون
من سابق حقدي عليه، فاسعَيْ إذا قدَرْتِ وأقنعيهم بأني لستُ القاتل، إنهم إذا لم
يجدوا الجاني فقد قُضي عليَّ وهذا مما يسرُّكِ (يَهُمُّ بالذهاب).
آنلا
:
قف يا بترو، اختبئ هنا قليلًا (تشير إلى الباب).
بترو
:
ولماذا أختبئ؟ إن القانون لا يعاقب على الفكر بل على العمل، وأنا وإن كنت
أتمنى لألويزو القتل، فلستُ بالقاتل؛ ولذلك فإني لا أخاف.
آنلا
:
قلت لك ابقَ هنا فإنك في بيت الشريف لورنسو باربو أحد أعضاء مجلس العشرة،
فلا يمكن ليد أن تنالَك بسوء ما دمتَ هنا (يقرع الجرس من الداخل) آه هذه مولاتي
إياكَ أن تلفظَ أمامها اسمَ القتيل.
بترو
:
ولماذا؟
آنلا
:
كيف لماذا، ألا تعلم أنه … (لذاتها) آه، يا إلهي، كيف يمكنني أن أصرِّحَ له
بهذا الأمر؟
بترو
:
ما شأنُ سيِّدتِكِ وهذا القتيل؟ … قولي فإني أريد أن أعرفَ ذلك.
آنلا
:
اخفض صوتك، ويلاه إنك لا تعلم أنه … ابن عمها، اختبئ هناك ولا تأتِ بحركة
فقد جاءت مولاتي (يدخل بترو وراء الباب) ويلاه ماذا أقول لها الآن؟
المنظر التاسع
آنلا – كليمنسا
كليمنسا
:
ما هذه الجلبة من الخارج؟ أفٍّ إني لم أستطع أن ارتاح دقيقة في هذا الليل،
فإذا كانوا قد وجدوا قتيلًا فليحملوه إلى بيته، ولا يزعجوا الناس بأصواتهم، ألم
تقولي لجواني أن يخرج ويأمرهم بالابتعاد من هنا؟ (تجلس.)
آنلا
:
لقد أرسلتُه يا سيدتي، حسبَ أمرِك، على أن لي رجاءً أريد أن أقولَه لك.
كليمنسا
:
دعيني مما تريدين قوله، فإني لا أحبُّ أن أسمع الآن شيئًا مكدِّرًا، وستقولين
ذلك لمولاكِ عند عودته من البرية.
آنلا
:
ولكن الأمر عظيم الأهمية يا سيدتي، إنكِ ما زلتِ شديدة العطف والحنو
عليَّ.
كليمنسا
:
ما هو هذا الأمر يا آنلا؟
آنلا
:
إن شابًا مسكينًا يتهمه الناس بأنه القاتل، وهو بريء، وقد لجأ إلى هنا
فخبَّأْتُه.
المنظر العاشر
مذكوران – جواني
جواني
:
لقد نفذت أمركِ يا مولاتي، وقد نقلوا القتيل إلى بيته.
كليمنسا
:
حسنًا اذهب.
جواني
:
ولكن يوجد بالباب …
كليمنسا
:
مَنْ؟
جواني
:
حاجب مجلس العشرة، وهو يطلب شخصًا مختبئًا هنا.
كليمنسا
:
أرأيتِ يا آنلا؟
آنلا
:
آه يا مولاتي، أستحلفك بالله أن تردي طلبه.
كليمنسا لجواني
:
وبماذا يشكون هذا الرجل؟
جواني
:
بأنه قاتل السنيور …
آنلا
:
كلَّا هذا غيرُ صحيح، رحماكِ يا سيدتي خلِّصيه، فإنه بريء مما يُعزَى إليه.
كليمنسا
:
أتقولين إنه بريء. فلو كان ذلك صحيحًا لَما لجأ إلينا لنحميَه.
آنلا
:
بل أنا على ثقة من براءته يا مولاتي، فقد اجتمعتُ به منذ هنيهة وكلمتُه، ولا
يمكن أن يكون هو الجاني.
كليمنسا
:
آنلا، إني صانعةٌ كما تريدين، اذهب يا جواني، وقل للرسول إن زوجي متغيبٌ عن
القصر، فليرجع من حيث جاء الآن، وإننا إذا تحققنا جريمةَ اللاجئِ إلينا فسنسلِّمه
إلى العدالة؛ لتقتصَّ منه (يذهب جواني).
آنلا
:
شكرًا لكِ يا سيدتي.
كليمنسا
:
آنلا آنلا، إنَّكِ كثيرة الطيش، وأراكِ لا تحافظين على حُرْمة البيت الذي
تخدمينه، ولا أدري إذا كنتُ أقدرُ أن أُبقيَكِ بخدمتي بعدَ اليوم، إني لم أُرِدْ تسليمَ
هذا الرجلِ إلى الحكومة، مع أنه قد يكون القاتلَ لذلك الرجل القتيل وربما قتَلَه ليسلُبَه
ما معه؛ إذ لا غايةَ له غير هذه.
آنلا
:
مولاتي أقسمُ لكِ بالله، إنه شاب عاقل، وقد وعدني أن يتزوَّجَ بي، وأنتِ تعرفينه،
فهو بترو الفران.
كليمنسا
:
أفرَّانٌ هو! إن مهنته حقيرة جدًّا، فهو غير كفءٍ لكِ، مع ذلك إذا أحبَّ أن يتركَ
مهنتَه، فإني سأدخله في خدمة ابن عمي ألويزو، وسأكلِّمه بشأنه في الغد.
آنلا
:
آه. لا يا سيدتي …
كليمنسا
:
ما لكِ تصيحين هكذا؟!
آنلا
:
عفوًا يا مولاتي فإن الرجل الذي (لذاتها) إلهي لا أعلم كيف أقول لها
هذا؟!
كليمنسا
:
الرجل الذي … ما لكِ لا تتمِّين كلامَكِ؟ ادعي لي الفران فإني أريد أن
أراه.
آنلا
:
أمرُكِ يا سيدتي (لذاتها) آه يا ربي أَنْقِذه من هذه الورطة (بصوت عالٍ أمام
الباب) تعالَ يا بترو، فإن مولاتي كريمة، وطيبة القلب، فهي تحميك في القصر حتى
المساء (همسًا) لا تَفُهْ أمامها باسم القتيل (يدخل بترو).
المنظر الحادي عشر
مذكوران – بترو
كليمنسا
:
تقدم يا هذا، إن آنلا تؤكِّدُ أنك بريءٌ مما يتهمك الناس.
بترو
:
أجل يا سيدتي إني بريء.
كليمنسا
:
أحبُّ تصديقَكَ، فقلْ لي: هل كان بينك وبين القتيل عداوة من قبلُ؟
بترو
:
نعم يا سيدتي ولكن … (تنظر إليه آنلا فيقفُ عن الكلام.)
كليمنسا
:
حسنًا إنك في حاجة إلى حماية رجل عظيم، وإني أعرف شريفًا يستطيع أن يستخدمَكَ
عنده، ولكن الذي فهمتُه من آنلا أنك ربما لا ترضي أن تكون في خدمة السنيور
ألويزو جورو.
بترو
:
منذهلًا ألويزو جورو! … ولكن ألا تعلمين يا سيدتي، أنه هو …؟
كليمنسا
:
أنا عالمة أنه أساء إليك فيما مضى، وأنك تبطِنُ الحقدَ عليه، ولكن هذه فرصة
موافِقة لمحو هذه الإساءة فإني سأرسل وراءه، وأوصيه بك فيأخذك إلى خدمته
ويحميك.
آنلا
(بصوت منخفض لبترو)
:
اقبل بما تعرضه عليك؛ لتكسب الوقت.
بترو
:
كلَّا يا سيدتي لا أستطيع أن أقبلَ بما تعرضينه عليَّ (حركة استياء من آنلا)
فإني وإن تكن مهنتي حقيرة، فأنا أحبها، وأفضِّلها على سواها؛ لأني قد ورثتُها عن
آبائي وأجدادي وسأحافظ عليها طولَ عمري.
آنلا
(بصوت منخفض لبترو)
:
أهكذا تجيب؟!
كليمنسا
:
إنك وإن تكن فرَّانًا فتعجبني منك حريةُ ضميرك، على أني أظن أن الخادم في بيت
أحد الشرفاء، يربح أكثر من فرَّان، مع ذلك فاقبلِ الآنَ بما قلتُه لكَ لتدرأ عنك
الرِّيَب، ومتي عاد زوجي فهو قادر على إنقاذك؛ لأنه أحد أعضاء مجلس العشرة
يمكنك أن تذهب الآن، وأنا أعِدُكَ بأن لا يَصِلَ إليك أحدٌ بأذًى ما دمتَ في هذا
القصر.
بترو
:
أسألُ اللهَ أن يكافئَكِ عنِّي أيتها السيدة (يخرج).
آنلا
:
لقد ارتاح بالي الآن.
المنظر الثاني عشر
مرتي – مذكورون
مرتي
:
هل علمتِ يا كليمنسا بما جرى؟ آه يا ربي، إن فرائصي لا تزال ترتعد من هَوْل ما
رأيتُ.
كليمنسا
:
ماذا جرى يا والدتي؟
آنلا
:
ويلاه.
مرتي
:
كيف! ألم يبلغْكِ الخبرُ؟ إن فينسيسا كلَّها تضجُّ به الآن، ألم تعلمي مَن وجدوه
قتيلًا هناك؟
كليمنسا
:
بلى، إنه رجل من الناس …
مرتي
:
رجل! … بل هو أحد الشرفاء، أحد أصدقائكم.
كليمنسا
:
من هو بربِّكِ قولي؟
مرتي
:
ألويزو جورو.
كليمنسا
:
ماذا تقولين يا والدتي؟
مرتي
:
لقد شاهدتُه بعيني.
كليمنسا
:
ألويزو؟ يا إلهي أيمكن ذلك؟
مرتي
:
نعم، وإن مجلس العشرة قد أرسل الجنود للتفتيش عن القاتل في كل ناحية.
كليمنسا
(لآنلا)
:
آه يا شقية، لقد كنتِ عارفةً بذلك، وقد طلبتِ مني أن أحميَ قاتلَه.
مرتي
:
كيف؟ ومَن قاتِلُهُ؟
آنلا
:
أقسمُ لكِ بالله يا سيدتي، إنه بريء.
مرتي
:
لا أحدَ بريءٌ هنا، أين هو القاتل؟ فيجب أن يُسلَّمَ إلى الجنود.
آنلا
:
آه يا مولاتي، اشفقي عليَّ.
كليمنسا
:
ولكن قولي يا والدتي، ألم يبقَ من أمل في نجاته؟
مرتي
:
أيُّ أمل؟! لقد رأيتُ بنفسي الخِنجرَ مغروزًا في قلبه.
كليمنسا
:
آه يا ربي، من أين حلَّتْ بنا هذه المصيبة؟ (تفتكر.)
مرتي
:
لقد أتيتُ هذا الصباح باكرًا إلى الكنيسة فرأيتُ الناس متجمهرين، يتحدَّثون
بهذه الجناية (بصوت منخفض) قولي لي ألم يكن هنا هذا الليل؟ أنا عالمة أنه
يتردَّد على هذا القصر كثيرًا لا سيما في غياب لورنسو.
كليمنسا
:
آه يا والدتي، ارحميني بالله.
المنظر الثالث عشر
مذكورون – جواني
جواني
:
مولاتي، إن رسول مجلس العشرة في الباب يلتمس مقابلتَكِ.
كليمنسا
:
إن زوجي لم يأتِ بعدُ.
مرتي
:
أَدخِلْه علينا في الحال (يخرج جواني).
المنظر الرابع عشر
مذكورون – رسول المجلس
الرسول
:
إني أتأسَّف يا سيدتي لإزعاجك في هذا الوقت، غير أن للضرورة أحكامًا، ولا بدَّ
لي من إتمام ما تتطلَّبه وظيفتي.
آنلا
(لذاتها)
:
قُطِع الأملُ.
الرسول
:
يُقال إن القاتل قد لجأ إلى هذا القصر، وأرجو أن سيدتي لا تحمي أثيمًا
نظيره.
كليمنسا
:
أأنتَ متأكِّدٌ أن هذا الرجل هو القاتل؟
الرسول
:
لا شيءَ مؤكَّدٌ حتى الآن، غيرَ أن جميع الناس يَشْكونَه.
كليمنسا
:
لا أستطيعُ رفضَ طلبِكَ، فأحضري يا آنلا هذا الرجل.
المنظر الخامس عشر
مذكورون – بترو
بترو
:
ها أنا ذا.
كليمنسا
:
إني أقسمتُ بشرفي أن أحميَ رجلًا بريئًا، ولكنك لستَ ببريء.
بترو
:
لا تحكمي عليَّ يا سيدتي قبلَ أن يَنظرَ القضاةُ في دعواي، فقد قلتُ لكِ إني بريء،
ولم أكذِب.
مرتي، وكليمنسا، وجواني
:
إيه؟
بترو
:
كلَّا إني لم أكذب أيها السادة، وإليكم ما توقع لي بالحرف الواحد؛ إنني بينما
كنتُ خارجًا من فُرني هذا الصباح، عثرتُ بهذا الشريف مُلقًى على الأرض، فظننتُه لأول
وهلة سكران؛ لأنه كان ملقًى على مقربة من الحانة، فأردتُ أن أساعده على النهوض،
فوجدتُه جثةً باردةً، ولمَّا أعدتُ يدي إذا بها ملطخة بالدم فنظرت إليه مليًّا فعرفتُه،
ولم أتأسَّفْ عليه كثيرًا؛ لأني لم أكن أحبُّه نظيرَ غيري (ناظرًا إلى آنلا)، غيرَ أنه
في وقتٍ كهذا تذهب الضغائن والأحقاد؛ ولذلك لو كان في إمكاني إنقاذُه لفعلتُ، هذه
حكايتي وإني متأكِّدٌ بأن مجلس العشرة سيبرِّئُني؛ لأن قضاتَه مشهورون
بالعدل.
الرسول
:
استعدَّ يا هذا للمثول أمام المجلس.
آنلا
(راكعة أمام كليمنسا)
:
بالله يا سيدتي، أن تشفقي عليه.
بترو
(ينهضها مغضَبًا)
:
ماذا تعملين …؟ (للرسول) هيا يا سيدي.
ماركو
(من الداخل)
:
دعوني أدخل دعوني أدخل؛ فإني أخدمُ هذا البيت منذ ستين
سنة.
المنظر السادس عشر
مذكورون – ماركو
بترو
:
أبي أبي ماذا أتيتَ تفعلُ هنا؟ لا تخَفْ يا والدي؛ فإني بريء.
ماركو
(لكليمنسا)
:
أنتِ يا سيدتي تمثِّلين الآن زوجَكِ الشريف الغائب، فأرجوك أن تحمي ولدي؛ فإنه
بريء، فلا تدعيه يذهب مع الجند؛ لأنكِ تعلمين أنَّ من يدخل الحبس لا يخرجُ منه
إلا فيما ندر.
بترو
:
اسكت يا أبي، بالله؛ إن السيدة لا تقدرُ أن ترفض طلبَ المجلس.
ماركو
:
بلى، تقدر، لا يستطيعُ أحدٌ أن يردَّ رجلًا لجأ إلى بيته، وطلب حمايته.
الرسول
:
هيا بنا يا هذا.
ماركو
:
صبرًا بالله. سيدتي، أرجوكِ بل أتضرَّعُ إليكِ أن تأمري هذا الرجل أن يذهب،
وأن تنظري عودةَ زوجِكِ، آه يا سيدتي، إنَّكِ لا تُدركين مقدار محبة الأب لولده، فلَيْتَكِ
تضعين نفسَكِ موضعي؛ لتدركي كم أتعذَّبُ، وأنتِ طيبة القلب يا سيدتي، لا يمكن أن
تسمحي بأن يُكسرَ قلبُ شيخٍ نظيري.
كليمنسا
:
اذهب أيها الشيخ، اذهب، فإن كان ابنُكَ بريئًا كما تزعمُ، فالمجلس سيُطلِقُ سراحَهُ
عاجلًا، أو آجلًا، أما أنا فلا أستطيع أن أفعل لأجله شيئًا؛ إنَّكَ لا تعلمُ الرجلَ
الذي قُتِل اليوم.
ماركو
:
كيف لا أعلم؟! بل من يستطيع معرفته أكثر مني؟ آه، يجب أن يكون هذا القتيلُ
الشريف عزيزًا على بعض الناس في هذا القصر …
آنلا
:
بربِّكَ اسكت.
ماركو
:
لا أسكتُ حتى ولو حُكِم عليَّ بالحبس مع ولدي، فلا بدَّ من التصريح (بقوة) إنكم
أيها الشرفاء منافقون، فما أقلَّ عقلي أن أذكر أمامكم محبة الآباء للأبناء؛
فأنتم لا أبَ لكم إلا المال، ولا ولدَ إلا محبة الذات، قد جرَّدكم الله من كل
عاطفة كريمة، وَيْحَكُم، أيلجأُ إليكم رجلٌ بريء فتسلمونه (بزعمكم) إلى العدالة؟! إن
العدالة لفظٌ لا معنى لها عندكم.
بترو
:
اسكت يا أبي اسكت، أتريد أن يُحكَمَ عليك أنت أيضًا؟
الرسول
:
هيا بنا.
ماركو
:
فليكن غضبُ اللهِ عليكم إلى الأبد.
(ينزل الستار.)