الفصل الثاني

(غرفة في قصر باربو.)

المنظر الأول

كليمنسا وحدها
كليمنسا (لذاتها) : هذه أول مرة يعاملني بها زوجي تلك المعاملةَ القاسية؛ فإنه بعد غياب شهر قد دخل القصر، وخرج منه دون أن يكلِّمَني، فماذا يكون شأنه إذا علم بحُبِّي لألويزو؟ ويلاه لقد عاقبني اللهُ بصرامة من أجل هفوة بضع دقائق، ها هو آتٍ.

المنظر الثاني

باربو بملابس القضاة – كليمنسا
باربو : يا عزيزتي كليمنسا، تعالَي وعانقيني، ما لكِ لا تتقدَّمين؟ هل أنتِ متكدِّرةٌ مني؟
كليمنسا : أنا؟!
باربو : لقد علمتُ لماذا أنتِ متغيِّرةٌ عليَّ؛ ذلك لأني لم أقابلْكِ قبل ذهابي إلى المجلس، لكِ الحقُّ أيتها العزيزة، ولكن الواجب قبلَ كلِّ شيء؛ فإن منصبي كان يدعوني إلى الذهاب حالًا، وفوق ذلك فإن القضية التي نحن في صددها يَهمُّكِ شأنُها (هازئًا) أريد أن أقول إنها تَهمُّ خادمتَكِ آنلا؛ ولذلك أردتُ أن أحضُرَ بنفسي الاستنطاقَ، وقد كانت آنلا خائفةً جدًّا بمثولها أمام المجلس، ولكن كوني مطمئنة؛ فإنها لم تقل إلا ما يجب قولُه؛ لذلك ينبغي أن نصفحَ عن هفوتها هذه، على أن صاحبنا ألويزو قد نال جزاء ما جنَتْه يداه، والحقُّ عليه فلماذا يعشق خادمة؟! إن العوام لا يغفرون مثلَ هذه الأمور نظيرنا نحن الشرفاء، بل الرجل منهم يَقتلُ مَن يتعدَّى على شرفه.
كليمنسا : لا أفهمُ مرادَكَ مما تقولُ.
باربو : ذلك لأنَّكِ مضطربةٌ ومتكدِرةٌ مما حصل، وأنا ألتمسُ لكِ العذرَ؛ فإن قلبَكِ الرقيق قد أُصيبَ بضربة قوية، لا سيما وأن الحادثة قد وقعَتْ تحتَ نافذةِ قصرِكِ، ولكن هو الذي أراد ذلك، فما الذي دعاه إلى مطارحة خادمتِنا الغرامَ في الليل؟ إنه لو فعل ذلك من أجل امرأة شريفة لوجدنا له بعض العذر، أما أن يخاطر بحياته من أجل خادمة فذلك عين الجنون، ولكن ما لنا وله؟ فهو قد ذهب الآن؛ ليطارح غرامه سكَّان السماء.
كليمنسا : لماذا لا تنزعُ عنك ثوبَ القضاء؛ فإنك تخيفُني بمنظره.
باربو : أرجوكِ المعذرة، فإن رغبتي في أن أراكِ بعد هذا الغياب، قد أنستني ذلك، ولا أكتمُكِ إني لم أنبسطْ من مشاهدة البرية الجميلة؛ لأنكِ لم تكوني معي، وقد أخطأتِ بعدم مرافقتي إليها، فقد كنا أمضينا سويًّا ساعات هنا لا تعادَل بثمن.
كليمنسا : ليتني ذهبتُ معكَ، إذن لكنتُ سعيدة، على أني سأذهب معكَ في الغد — إذا أردتَ — لأتحقَّقَ إذا كان ما تقولُه صحيحًا.
باربو : كما تريدين أيتها العزيزة، ولكن ليس غدًا، بل في العيد القادم.
كليمنسا : إذا أردتَ، فإني أسبقُكَ إليها؛ لأهيِّئَ لك معداتِ الراحة.
باربو : كلُّ شيء مهيأ هناك على ما نروم، فلا داع لأن تُتعبي نفسَكِ.
كليمنسا : ولكني في حاجة إلى تغيير الهواء، والطقس جيد.
باربو : صدقْتِ، ولكني أريد — بل أرجو — أن لا تتركيني وحدي مرة ثانية؛ إذ لا أحب أن يقولَ عنَّا الناسُ إننا لا نكاد نجتمعُ معًا، وإنَّ أحدنا يسأم الآخر.
كليمنسا لذاتها : يا إلهي ما أقسي كلامه! (لزوجها) كما تريد.
باربو : إن البرية جميلة، ويسرني أن نمضيَ إليها؛ لنقضي فيها بضعة أيام، ولكن قبل ذلك يجب أن تتمِّمي أمرًا لا بدَّ منه، فأنتِ عائشة هنا كراهبة لا تزورين ولا تُزارين، ولا أحبُّ أن يُقال عني إني شديد الغيرة عليكِ، فيجب تغييرُ هذه المعيشة.
كليمنسا : كما تشاء.
باربو : وعليه فسنبدأ بذلك هذا المساء، فاستعدِّي للذهاب معي إلى المرقص الذي يقيمه السنيور بندوميني — رئيس المجلس — هذا الليلَ في قصره، إني وعدتُه بالحضور معكِ، ولا بدَّ من القيام بالوعد.
كليمنسا : لا يا عزيزي، إني منحرفةُ المِزاجِ هذا المساء.
باربو : أرجو ألَّا يكونَ انحرافُكِ هذا مسبَّبًا عن مجيئي (بحدة) بل يجب أن تذهبي معي، وينبغي أن تظهري بأحسن مظاهر الجمال والسعادة، واعلمي أن المصوِّرَ روفائيل سيكون حاضرًا، فإذا رآكِ كما أنتِ عليه الآن، فلا يتأخرُ أن يجعلَ رسمَكِ كرسْمِ العذراء الحزينة على ولدها.
كليمنسا : بربِّكَ يا عزيزي أن تعفيَني من هذه السهرة؛ فإني تعبة جدًّا.
باربو : لا يمكنُ قَبولُ طلبِكِ مطلقًا.
كليمنسا : أرى أن كلماتِكَ كحُكْمٍ من مجلس العشرة، لا يُستطاع ردُّها. مساكين أولئك الناس الذين يقودهم سوءُ الطالع إلى الوقوع بين يدَيْكَ.
باربو : لا يجب أن نستعمل الرأفة مع المجرمين (ناظرًا إليها بقصد) على أنِّي لستُ الآن في موقف القضاء، بل أنا المذنب بإلحاحي عليكِ (مغيِّرًا لهجتَه إلى الحنوِّ).
كليمنسا : ولكنَّكَ تطلبُ مني ما هو فوق الاحتمال.
باربو : فوق الاحتمال؟! أظن أنَّكِ تمزحين (بقساوة) أتريدينَ يا سيدتي أن يقول جميعُ الناس إنك تبكينَ قريبَكِ ألويزو، نحن لا نحِدُّ على أقرباء من درجة بعيدة نظيره، دعي آنلا تبكيه وحدها فهي ذاتُ حقٍّ بذلك.
كليمنسا : كما تشاء، سأذهب.
باربو : هلمي إذن، والبسي أحسن ما عندك، إني أريد أن تكوني فتَّانة هذا المساء، أريدُ أن تستعملي عقلَكِ وذوقَكِ.
كليمنسا : سأعملُ ما أقدر عليه، ولكن آنلا ليست هنا، وهي التي تُلبسني.
باربو : إنها ستأتي قريبًا. ها هي.

المنظر الثالث

مذكورون – الحاجب – آنلا
الحاجب : سيدي، إن القضاة قد سمحوا لآنلا أن ترجعَ إلى البيت حسبَ إشارتِكَ، وأطلقوا أيضًا سراحَ الشيخ ماركو كما طلبتَ.
باربو : حسنًا اذهب (يذهب الحاجب) تقدَّمي يا آنلا، إن سيدتَكِ في حاجة إليك.
آنلا (تركع أمام كليمنسا) : سيدتي.
كليمنسا : مسكينة.
باربو : انهضي ودعي عنكِ هذا الخوفَ فليس للأمر أهمية، وما هو إلا درسٌ صغير يُفيدُكِ في المستقبل (لزوجته) عِظيها، ولكن لا تجوري عليها، إنها بلا ريب قد أخطأَتْ بتسليم قلبِها لألويزو، بينما هي تحب بترو، ولكن بترو يستطيع أن ينسى جريمتَها؛ لأنها ليستْ زوجتَه بعدُ.
آنلا : ولكن بترو يا سيدي، ماذا يصنعون به؟
باربو : إن الأدلة كلَّها ضدُّه، ولكن هناك عينًا تَحرسُه، ولا بدَّ أن تُنقذَه، وعلى كل حال، فلا يبلغ بك القنوط إلى هذه الدرجة، فإنكِ تستطيعين أن تجدي في كل وقت رجلًا فرَّانًا تتزوجينه.
آنلا : أقسم لك يا سيدي، إنه بريء.
باربو (بقساوة) : وهل تعلمينَ شيئًا أكثر من ذلك؟ افتكري بنفسك أيتها الفتاة، واهتمِّي بشأنِكِ؛ فإن كلَّ كلمة تزيدينها على ما قُلْتِ تقع عاقبتُها عليك وعليه.

(يذهب بعد أن ينظر إليها بقساوة.)

آنلا : آه يا سيدتي، لقد فقدتُ بترو إلى الأبد.
كليمنسا : لا تخافي يا آنلا، فلم ينقطعِ الأملُ بعدُ من إنقاذه.
آنلا : آه يا مولاتي، إنني بشهادتي اليوم قد حكمتُ عليه؛ لأنني لم أكن أستطيع أن أقول إلا ما يريده مولاي.
كليمنسا : وماذا قلتِ في المحكمة؟
آنلا : إن أولَ فرضٍ عليَّ كان أن أخلِّصَكِ يا مولاتي، فأرجو أن لا تتخلِّي عني.
كليمنسا : قُصِّي عليَّ كلَّ شيء بالتفصيل.
آنلا : لما دخلتُ المحكمة كانت غاصَّةً بالناس، وكلُّهم سكوت كأنَّ على رءوسهم الطير، وكان مولاي بين القضاة، فلمَّا نظرتُ إليه رأيتُه محَدِّقًا بي، فما عُدْتُ أعرف ما أقول؛ لأنه سحرني ببصره، فسألني إذا كنتُ أعرف القاتل؟ فقلتُ نعم؛ لأني عالمة أنه مطَّلع على كل شيء.
كليمنسا : كيف تقولين مطَّلع على كل شيء؟
آنلا : لا يا سيدتي، إنه غيرُ مطَّلعٍ على شيء يسوءُكِ، ولكن عارف أن ألويزو كان يأتي إلى القصر ليلًا، فأحببتُ أن أخدَعه؛ لأنفي عنكِ الظنون.
كليمنسا : أحسنتِ يا آنلا، وأنا لستُ بناسية لكِ ذلك ما حييتُ، فما الذي جرى بعد ذلك؟
آنلا : إنهم سألوني إذا كان ألويزو يحبُّني؟ فأجبتُ: نعم، وأنه كان يأتي ليلًا يغنِّي تحت نافذتي، فسُرَّ سيدي من جوابي، وأمرني أن أعيدَه، وأمر الكاتبَ أن يسجِّلَه، حينئذٍ سألني قاضٍ آخر إذا كان لي عاشقٌ غيرُه؟ فاحمرَّ وجهي من الخجل، ولم أدرِ ما أقول، وفي الوقت نفسه فُتِح بابٌ صغير، ودخل منه بترو وهو أصفر كالموتى، فسألوني إذا كنتُ أعرفه؟ فأجبتُ: نعم، إنه يحبُّني وأحبُّه وقد تواعَدْنا على الزواج، فسألوني إذا كنتُ رأيتُه هذا الصباح؟ فقلتُ: نعم، ثم سألوني إذا كان يعلمُ بعلاقتي مع ألويزو؟ فأجبتُ: لا أعلم. فقيل لي لو كان بترو يعلمُ بمحبَّتِكِ لألويزو، هل كان يرضى عن ذلك؟ فقلتُ: لا، فقيل لي: إذن فقد كان غيورًا عليكِ، أجبتُ: بعض الأحيان، فسألوني إذا كنتُ رأيتُ معه قرابًا هذا الصباح؟ فقلت: إني وجدتُ قرابًا في سلَّةِ الخبز، وأنه أراد أن يهديَني إياه، حينئذ أروني القراب وسألوني: هل هذا هو؟ أجبتُ: نعم، وكان القرابُ موافقًا أتمَّ الموافقة للخنجر الذي كان على الطاولة أمام القضاة.
كليمنسا : كان يجبُ عليكِ أن تُنكري هذا الأمر.
آنلا : نعم افتكرتُ بهذا ولكن بعد فوات الوقت؛ لأنهم باغتوني بالأسئلة، وضيَّقوا عليَّ، فوا حرَّ قلباه، لقد ألقَيْتُه إلى التهلكة بيدي (تبكي).
كليمنسا : هدِّئي رَوْعَكِ يا آنلا.
آنلا : آه يا مولاتي، لا أقدر.
كليمنسا : وهل ذُكِرَ اسمي في الاستنطاق؟
آنلا : كلَّا يا سيدتي.
كليمنسا : آه يا عزيزتي آنلا، كم أنا مَدينَةٌ لكِ، فقد خلَّصْتِ شرفي وحياتي.
آنلا : وهل أقدرُ أن أفعلَ غيرَ ذلك؟ ألم أكن يتيمةً فقيرة، فأخذتني إليكِ وربَّيْتني واعتنيتِ بي، عليَّ أن ألتمسَ منكِ مقابلَ ذلك خدمةً لا تستطيعينَ رفْضَها وهي السعي في تخليص بترو.
كليمنسا : لو كان الأمرُ بيدي لفعلتُ ذلك من زمان.
آنلا : بل تستطيعينَ يا مولاتي، فأنتِ تعرفين كلَّ أعضاء مجلس العشرة.
كليمنسا : وماذا يهمُّ أن أعرفَهم؟ فإنهم متي جلسوا على منصة القضاء لا يعرفون صديقًا ولا يرحمون أحدًا.
آنلا : إذن قد ضاع الرجاء.
كليمنسا : منْ يعلم؟ إنِّي أعدُكِ بأن أفعلَ كلَّ ما بوُسعي لإنقاذه كما لو كان أخي.
آنلا : أنا لا أشكُّ بطيبةِ قلبِكِ، وكَرَمِ عنصرِكِ يا سيدتي، وأثقُ بكِ بعدَ الله.
كليمنسا : بل قولي إني عادلة، وكلُّ ما أحتمله لأجلِكِ لا يقاسُ بما فعلتِه لأجلي، صه الآن فها زوجي قد أقبل.

المنظر الخامس

مذكوران – باربو
باربو : ماذا؟! ألم تلبسي بعدُ؟
كليمنسا : رويدًا فلم يفُتِ الوقتُ.
باربو : عجِّلي فإني أريد أن تجتمعي برئيس المجلس، وتلتمسي منه العفو عن بترو؛ لأني متأكِّدٌ أنه بريء.
كليمنسا : سأفعلُ ذلك، وقد وعدْتُ آنلا به.
باربو : هذا أقلُّ ما يمكنُكِ عملُه لأجلها، إنها — والحق يُقال — خادمةٌ أمينة مخلصة، وسأذكر دائمًا إخلاصَها لنا بما فعَلَتْه اليوم، اذهبا الآن، وعجِّلي بلبس ثياب الرقص (تذهبان).

المنظر السادس

باربو وحده – جواني
باربو : مسكينة آنلا ما أطيب قلبَها! فقد شَكَتْ نفسَها؛ لتخلِّصَ سيدتَها، آه لا ينبغي أن يعرفَ أحدٌ هذا السرَّ، ولكن يجب أن أجتمعَ بالشيخ ماركو فإني أخاف أن يكون عالمًا بشيء من ذلك … جواني … (يدخل جواني) عليَّ بماركو في الحال (يذهب جواني ثم يعود بماركو).

المنظر السابع

ماركو – باربو – جواني
باربو : ادنُ مني أيها الشيخ، لقد بلغني أنَّكَ خرجتَ من هنا أمس مغضبًا بعد أن لفظْتَ كلامًا لا يليق، مع أن شيخًا نظيرك لا يجب أن يبدوَ منه مثل هذا الأمر، أنا لا أريدُ تبويخَكَ؛ لأني عالمٌ أن محبَّتَكَ لابنِكَ هي التي دفعتْكَ إلى أن تقولَ ما قلتَ.
ماركو : سيدي.
باربو : لم أقل إن ابنَكَ القاتلُ، بل العكس، أنا أرجِّحُ أنه بريء، ولكن من سوء الحظ أنَّ الأدلةَ كلَّها ضدُّه، آه من النساء، فكم ضيَّعْنَ الرجالَ بغرامهنَّ.
ماركو : أصبْتَ يا سيدي، فإن النساءَ علَّةُ كلِّ شرٍّ في العالم، ولكني واثق أنكَ تكونُ مدافعًا عن ابني قبل أن تكون قاضيَهُ.
باربو : قاضيه؟! أنا لو كنتُ قاضيَهُ وحدي لخلَّصتُه، ولكن نحن عشرة لا واحد، فإذا ثبتَتْ براءةُ ابنِكَ أيها الشيخ، فإنه سيُطلَقُ سراحُه ألا تظنُّ ذلك؟
ماركو : لا … بلى. عليَّ أن ألتمس منكَ أن تخبرني كيف كانت حالتُه أمام المجلس؟ آه يا سيدي، إنه وحيدي، ولا سلوى لي سواه في العالم، وهو عاقلٌ محبٌّ للشغل، ولو كنتَ تعرفُه كما أعرفه أنا؛ لحكمت حالًا ببراءته؛ لأن شابًّا نظيره لا يمكنُ أن تتغيَّرَ أخلاقُه بلحظة واحدة فيصبح جانيًا أثيمًا، إنَّ هذا غيرُ ممكن.
باربو : إن الغيرة والحقد يفعلانِ العجائب، وأنتَ تعلمُ ذلك أحسنَ مني، فَقُصَّ عليَّ بلا مواربة سببَ القضية الكائنة بينكم وبين ألويزو، فقد علمتُ أنه قد أساء إليكم فيما مضى.
ماركو : نعم، أساء إلينا إساءةً لا تُغفرُ ولا تُمحَى إلا بالموت، ولكن لم يخطر في بالِنا قطُّ أن ننتقمَ منه، غيرَ أن هذا الكلامَ لا يفيدُ الآن، والرجلُ قد مات وأصبح حسابُه مع خالقِه.
باربو : بل قُصَّ عليَّ الأمرَ فعسانا أن نهتديَ إلى وسيلة؛ لتخليص ولدِكَ، اجلس على هذا الكرسي فأنت شيخٌ تستحقُّ الإكرامَ.
ماركو : شكرًا لك يا سيدي فأنتَ طيِّبُ القلبِ أمَّا أولئك …
باربو : دعنا من الغير، ولنتكلم بمسألتنا، هاتِ لنرى.
ماركو : إن بيتي الحقير كان ملاصقًا لقصر ألويزو الفخيم، وهذا هو سبب العداوة بيننا؛ فإن هذا الشريف أراد أن يهدم بيتي؛ ليجعل أرضَه حديقةً لقصره، فبالله عليكَ يا سيدي، كن عادلًا. أرأيتَ لو أتى إليك أحدٌ قائلًا إن بيتَكَ يضايقُني فارحَلْ عنه؛ لأني أريد هدمَه، فبماذا كنتَ تُجيبُه؟
باربو : هذا مفهوم، ولكن ألويزو كان في استطاعته أن يدفعَ لكَ ثمنَ بيتِكَ أضعافًا مضاعفة؛ لأنه غنيٌّ وكريم.
ماركو : وكيف أقبلُ أن أبيعَ بيتي؟! وقد وُلدْتُ فيه، ووُلد فيه آبائي من قبلي إنني لن أرضى بديلًا منه حتى قصر الدوج نفسه.
لورنسو : وبعد ذلك؟
ماركو : لمَّا قَطَع الرجاء من إقناعي بترك بيتي، أرسل خدمَه فألقوا بأثاث بيتي إلى الماء، وهدموه برغم أنفي، فرفعت شكواي إلى القضاء فأنصفني منه؛ لأنه مهما بلَغَ الأغنياءُ من العتوِّ والجبروت، فإن يدَ العدلِ فوق الجميع، تأخذ للضعيف حقَّه من القوي العاتي.
باربو : وهل هذا كل شيء؟
ماركو : كلَّا، فإنه بعد أن أجبرتْه الحكومة أن يعيدَ بناء منزلي كما كان، وأن يَرُدَّ إليه أثاثَه أخذ يضايقني بكل الوسائل؛ ليُكرِهَني على الرحيل فإنه سعى فأبعد عني كلَّ زبائني، وأمر خدَمَه فثقبوا قاربي؛ ليُغرقوه، وقد أرادوا أن يُصلحوا جدار القصر فألقوا بقصدٍ جسرًا كبيرًا على سقف بيتي، فوقع السقفُ على ابنتي التي كانت نائمة في سريرها فكادت تُقتل، ويا ليتها قُتلت ذلك الحين فقد كان أوفقَ لها ولنا (يبكي) أرجوك معذرة يا سيدي، فهذا جرحٌ آخر لم يندمل بعد.
باربو : أراك تتكلم عن ابنتِكَ؟
ماركو : نعم يا سيدي، ولو كان ولدي كبيرًا إذ ذاك لما تأخر عن قتل هذا اللئيم الذي ألحق بنا العارَ.
باربو : ولكن سمعتُ أنهم أعطوا ابنتَكَ دوطة، وزوَّجوها بأحد خدَمِهم.
ماركو : نعم، ولكنهم فعلوا ذلك بقصد الانتقام مني، وقد ماتت تلك الابنةُ المسكينة، لشدة خجلها بدون أن تراني، صحيح أننا فقراء يا سيدي، ولكن لنا شرف ونخوة، وإني لا أستطيعُ أن أصفَ لك كلَّ العذاب الذي قاسيناه من تلك الإهانة التي لحِقَتْ بنا.
باربو : ألم ترفعْ شكواك إلى الحكومة؟
ماركو : وماذا تستطيعُ الحكومةُ أن تفعلَه؟ فإن ابنتي لم تلبثْ أن ماتَت من قهرها، وما تفيدُ شكواي إلا إعلان عاري بين الناس، وهل تقدر الحكومة أن تردَّ إليَّ شرفي، وحياةَ ابنتي؟
باربو : ألا تظن أن بترو بَقِيَ حاملًا هذا الحقدَ في صدره إلى اليوم … وأنه ربما التقى بألويزو في ذلك الصباح فلم يستطيع إخفاءَه في صدره؟
ماركو : لا أظن ذلك؛ فإن ولدي يحب أن ينسى هذا الأمر نظيري، ولا يريد أن يشهر عارنا بين القوم.
باربو : ولكن الانتقام لا بدَّ أن يتمَّ عاجلًا أو آجلًا، لا سيما وأنَّ غَيرتَه على آنلا معلومة، وقد كان ألويزو يحبُّها أيضًا.
ماركو : إني أصدِّقُ كلَّ شيءٍ عن هذا الرجل، فقد يجوز أنه أراد أن يسيئَه في غرامه كما أساءه في عرضه، ولكن …
باربو : صحيح، وقد وجدوا الخنجرَ في قلبه.
ماركو : لا لا يا سيدي ليس لولدي في ذلك علاقة قطُّ، وإن ألويزو لم يكن يهتمُّ بآنلا، ولا ينظرُ إليها.
باربو : أتظن ذلك؟! ولكن آنلا أقرَّتْ أمام المحكمة أن بترو كان يغارُ عليها، وما حصل في الليل الفائت يؤيِّدُ كلامَها.
ماركو : ألا يوجد غير آنلا في هذه الناحية إن النساء كثيرات.
باربو : ماذا تريدُ أن تقولَ؟
ماركو : أريد أن أقولَ إنَّ أحد الأزواج قد انتقم من هذا الرجل لنفسه وللجميع.
باربو (لذاته) : أتراه يعنيني بهذا القول؟ (لماركو) ولكن المحكمة تعلم الواجب عمله، ومن سوء الحظ أنَّ كلَّ الأدلة ضدُّ بترو؛ فإنهم وجدوا يدَيْه ملوَّثتين بدم القتيل.
ماركو : ولكن القاتل يا سيدي، لا يلبثُ بقُرب قتيلِه، بل يركب القارب ويفرُّ، أو يُلقي بنفسه إلى الماء، ويصعد إلى الشاطئ الأخر نظيفًا من دم الجناية.
باربو : أراك تتكلَّمُ بلهجةِ مَن يعرفُ أشياءَ كثيرةً.
ماركو : أنا عالم أن ابني بريء، وأنه عاجلًا، أو آجلًا ستظهر براءتُه للجميع.
باربو : ابقَ هنا أيها الشيخ، فأنتَ في حمايتِنا، وإني ذاهبٌ هذا المساء مع امرأتي إلى المرقص الذي يقيمه رئيسُ المجلس، وسأتكلَّمُ معه بخصوص ولدِكَ.
ماركو : إلى المرقص؟! لقد كنتُ أظنُّ أن القتيلَ قريبٌ لها.
باربو : ماذا تجسرُ أن تفتكرَ يا هذا؟ (بقساوة.)

المنظر الثامن

مذكورون – كليمنسا
باربو (مغيرًا لهجته) : إن امرأتي أرادتْ أن تصحبني إلى المرقص؛ لكي تُكَلِّمَ رئيسَ مجلس العشرة بشأن ابنِكَ.
كليمنسا : أيها الشيخ يمكنُكَ أن تتَّكل عليَّ وعلى زوجي فاطمئنَّ بالًا.
ماركو : أنا أضع اتِّكالي عليكِ يا سيدتي، وأسأل الله أن يكافِئَكِ عنِّي.
باربو : هيا بنا يا كليمنسا (يذهبان).
ماركو (يهجم على آنلا) : تعالَي أيتها الشقية.
آنلا : سيدي ماركو (ترتجف).
ماركو : ويلك أصحيح إنك كنتِ تخونين ولدي؟
آنلا : أنا؟
ماركو : نعم، أنتِ. إنَّكِ قد تعلمْتِ في هذا القصر فنَّ محبةِ اثنين في وقت معًا.
آنلا : لا يا سيدي، أقسم لك …
ماركو : كم مرة في النهار تحلفين بالكذب، لقد أقسمتِ هذا الصباح أمام المحكمة أنَّكِ كنتِ تُحبِّينَ القتيل، وأن ولدي كان شديدَ الغيرة عليك، أما أنا فأعلم الصواب من كلِّ هذا.
آنلا : ماذا كان يمكنني أن أفعلَ؟ فإنهم باغتوني بالأسئلة، واحتاطوا بي من كلِّ جهة، وجعلوني أقول بحسب ما يريدون، وإني فعلتُ ما فعلتُه من أجل سيدتي.
ماركو : آه … من أجْل سيدتِكِ، فلأجلها إذن قد كان يأتي ألويزو، لا لأجلك، لقد اعترفتِ الآن بالصواب، ولا يمكنُكِ أن تكذبي.
آنلا : ويلاه إني شديدةُ الندم على ما فُهْتُ به أمام المحكمة، وأودُّ لو أقدر على ردِّ ما قلتُ.
ماركو : إن الأمر سهلٌ جدًّا ويمكنُكِ أن تقولي الحقيقة كما هي، فإذا كان المجلسُ مقفلًا الآن، فإن القره قولٌ قريب من هنا، وتقدرين أن تُصرِّحي أمام البوليس بما تعلمين، تعالَي معي.
آنلا : ولكن سيدتي وشرفها؟!
ماركو : شرفها؟! وهل اهتمَّت هي به قبل أن تغْرَم بألويزو؟ وهل شرف امرأة هو إله لتضحِّي من أجله حياة رجل بريء؟ … تعالَي تعالَي قلتُ لكِ، ولا تكوني شريكتَها في هذا الجُرم الكبير.
آنلا : آه يا ربي، ولكنَّه سيقتُلُها بلا شكٍّ.
ماركو : عمن تتكلمين؟!
آنلا : عن مولاي لورنسو باربو، فإنه إذا عَلِمَ بعشقها لألويزو فهو قاتلها بلا ريب.
ماركو : إذا عَلِمَ بعشقها؟ ويحَكِ إنه يعلمه (بصوت قويٍّ كمن أفاق على شيء) نعم، إنه عالم بكلِّ شيء … آه، أي نور قد اخترق بصيرتي الآن … نعم نعم إن ابني ليس القاتلَ، بل القاتل لورنسو باربو بعينه (يشير حيث خرج باربو) آه يا سنيور لورنسو باربو، قد ابتدأتُ أن أفهمَ الآن احتيالَكَ عليَّ، وسيكون بيني وبينك حسابٌ.
آنلا : أني لا أفهم ما تقول.
ماركو : إن مولاكِ الشريفَ لورنسو باربو بعينه هو الذي قتل ألويزو.
آنلا : كيف تقولُ ذلك، وهو قد كان غائبًا في البرية؟
ماركو : إنه القاتل بيده، أو بيد غيره، إن الوقت لم يَفُتْ بعدُ، فهيَّا بنا لنُطلِعَ الحكومة على حقيقة الواقع (يدنو من الباب فيجده موصدًا) ماذا؟ الباب موصد من الخارج؟! (يدنو من باب آخر) وهذا أيضًا.

المنظر التاسع

مذكوران – جواني
جواني : ماذا تريد أيها الشيخ ماركو؟
ماركو : أريد الخروج في الحال مع آنلا.
جواني : لا يمكنك الخروجَ لا أنت ولا هي، فقد صدر إليَّ الأمر بذلك من مولاي.
ماركو : إذن نحن في سجن، ويحَكَ من يجبرني على البقاء هنا؟
جواني : قلت لكَ لا تستطيعُ الخروج وكفى (يخرج جواني).
ماركو : أقفلوا الأبواب عليَّ فإنه لا يزال لي منفذ، هذه النافذة (يهجم نحو النافذة).
آنلا (صائحة) : آه يا أبي لا تُعرِّض بنفسك للخطر.
ماركو (راكبًا النافذة) : أبوكِ أبوكِ! مَن يعلمُ إذا كنتُ بسببك لا أزال أبًا إلى الآن؟
(ينزل الستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤