الفصل الثالث
(مرقص في قصر بندوميني.)
(أشخاص، رجالًا ونساء، مقنعون وغير مقنعين، يمشون في مؤخر الملعب جيئة وذهابًا.)
المنظر الأول
لورنسو (متنكرًا والقناع بيده)
لورنسو
(يدخلُ وحده)
:
لقد تعبتُ من الرقص، فلْآخُذُ لنفسي قليلًا من الراحة، أُفٍّ ما أصعبَ
أن يَحمِلَ الإنسانُ في صدره سرًّا دمويًّا كهذا السرِّ! إني أخاف دائمًا أن يقرأ أحدٌ
في وجهي سرَّ جريمتي، ويكاد عاري يظهر بجلاء على جبيني، ولكن لا خوف من ذلك فهذا
الأمر لا يعلمه إلا الله وأنا، والحمد لله أن التهمة وقعَتْ على ذلك الفرَّان
المسكين الذي سيذهب ضحيةً من أجلي، فعليَّ أن أملِكَ رَوْعي، وأدورَ مع امرأتي دورةً
في القاعة؛ لأُبعِدَ عنها الظنون (يَهِمُّ بالخروج).
المنظر الثاني
باربو – المقنع
المقنع
(يدخل فيوقف باربو)
:
على رِسْلك أيها الشريف لورنسو باربو.
لورنسو
:
أتعرف اسمي؟ أما أنا فلا أعرفُ اسمَكَ يا هذا، فتفضَّلْ وعرِّفْني من أنتَ.
المقنع
:
من أنا؟! أنا ذاك الذي يَفهمُ نواياك، ويَسبقُ خطاكَ؛ ليحول بينك وبين مَقصدِكَ
الأثيم، ستعلم بعدُ من أنا.
لورنسو
:
ولكن اسمحْ لي فإني لا أكلِّمُ رجلًا لم يَسبقْ لي معه سابقُ معرفةٍ.
المقنع
:
ليس القصد أن تتكلَّم، بل أن تُصغيَ لما أقوله أنا، إنك يا لورنسو باربو، أحد
أعضاء مجلس العشرة، قد رحلْتَ عن فينيسيا منذ شهر، ثم عدْتَ إليها أول من
أمس.
لورنسو
:
كلا بل أمس.
المقنع
:
بل أول من أمس، وقد دخلتَ المدينةَ متخفِّيًا؛ لتبحثَ عن سرٍّ تخافُ أن تعرفَه، وقد
اكتشفْتَ ذلك السرَّ بنفسِكَ، إذ بصُرتَ برجل ملثَّمٍ خارجٍ من أحد أبواب قصرِكَ تحت
جُنحِ
الظلامِ فطعنتَه بخِنجرِكَ، وأرديتَه قتيلًا، هذا الرجل هو ألويزو جورو قريبُ امرأتِكَ
وعشيقُها، وقد كان خارجًا من قصرِكَ بعدَ أن سَلَبَ شرفَكَ فقتلتَه انتقامًا.
لورنسو
:
ويحَكَ مَن تكون أيها الرجل؟
المقنع
:
ستعلمُ ذلك بعد حين، إن الخنجر الذي طعنتَ به تلك الطعنة النجلاء قد بَقِيَ
مغروزًا في صدر القتيل، وأما القراب فوقع منك، والخنجر وقرابه موجودان الآن على
مائدة مجلس العشرة، فاسمح لي أن أقول لك أيها الشريف باربو، أنَّ غضبَكَ قد أعمى
بصيرتَكَ، نعم إنك انتقمْتَ لشرفِكَ المهتوك، ولكن ما كان ينبغي لك أن تقتلَ عاشقَ
امرأتِكَ تحت نافذة بيتِها؛ لكيلا تجلبَ عليها الظنونَ، ثم ما كان لك أن تستعملَ
لقَتْله خِنجرًا محفورًا على قبضته اسمُكَ ولقبُكَ. نعم، إن اسمَكَ مكتوبٌ عليه بأحرف
رفيعة جدًّا، ولكن يمكن لمن يُمْعِنُ النظرَ أن يستجليَها.
لورنسو
:
آه يا إلهي!
المقنع
:
وزيادة على ذلك أنك تركتَ الخنجرَ في صدر القتيل، ولم تحتفظْ بالقراب، وهي أمور
ثلاثة واحد منها يكفي لأن يُكشفَ سِرُّكَ للناس، ويُحكَمَ عليك.
لورنسو
(يحاول أن يقاطَعه)
:
ولكن …
المقنع
:
أعلمُ ما تريدُ قولَه. أنَّكَ عندما ارتكبتَ الجريمةَ ظننتَ أن لا أحدَ يراك غير اللهِ،
ومن حُسنِ حظِّكَ أن رجلًا مسكينًا عَثَر بالقراب فأخذه، ثم شاهد القتيلَ، فأخذ يَشتُمُه
ويَشمَتُ به؛ لأنه كان عدوًّا له أيضًا فقبضوا عليه، وقادوه إلى السجن؛ ظنًّا منهم
أنه القاتل، أما هو فلا يزال يصيحُ ببراءته، ولكن صياحه هذا سوف يخفت أمام آلة
التعذيب، وسوف يُقِرُّ برغم أنفه أنه القاتل؛ ليخلُصَ من العذاب، وبهذه الصفة يَحكمُ
عليه مجلس العشرة بالإعدام، نعم إنَّكَ حسبْتَ كلَّ هذا الحسابِ، وقلتَ في نفسِكَ إنَّ
سرَّ
عاري سيبقى بين امرأتي وبيني، لا أيها الشريف لورنسو باربو إن شخصًا آخر قد
اطَّلع على هذا السر.
باربو
:
ولكن من تكون يا هذا؟
المقنع
:
من أكون؟ … أنا عينٌ ترى في الظلمة، وأذن تسمع في الخفاء، أنا شيطان فينسيا
انظر إذا كنت تعرفني (يرفع قناعه).
باربو
:
ويلاه هذا جاسوس المجلس، لقد ضاع الأمل.
المقنع
:
إن لديك وسيلة للخلاص إذا أردْتَ.
باربو
:
قل ما يجبُ أن أفعلَ، فأَصدَعُ بما تَأمُرُ.
المقنع
:
بماذا يحكمُ القانونُ على رجل من عامة الشعب إذا قَتَلَ شريفًا؟
باربو
:
بالموت.
المقنع
:
ألا يوجد استثناءٌ فيما إذا كان لذلك المسكين ثأرٌ ضد ذلك الشريف.
باربو
:
قد تُخفَّفُ عقوبتُه ليس إلا.
المقنع
:
إذن لا يمكنُ تخليصُه مطلقًا، فعليك والحالة هذه أن تبحثَ عن وسيلةٍ لإعلان براءته؛
إذ لا خلاصَ له إلا بذلك؟ يجب أن تقول للمجلس مَنْ هو صاحب ذلك الخنجر الذي
استُعمِل للقتل.
لورنسو
:
ولكن لا يليقُ بي أن أذكرَ ذلك أمام المحكمة.
المقنع
:
بل يجبُ عليك أيها الشريف؛ لأنَّ القاضيَ العادل لا ينبغي له أن يحكمَ على
بريء، لا سيما وأنت أحدُ الأعضاء، فبأيِّ جرأةٍ تضعُ إمضاءَكَ على ذلك الحكمِ
الجائر؟
باربو
:
ولكن تلك شريعةٌ نَسنُّها نحن كما نشاء.
المقنع
:
إن الشريعة الحقيقية عادلة وأبدية، وهي موجودة في كل مكان، فالحكم على بريء
بالموت مع العلم ببراءته عارٌ على القاضي، وعارٌ على البلاد التي يَصدُرُ منها مثلُ
ذلك الحكم.
باربو
:
يوجد واسطة غير هذه لخلاصه.
المقنع
:
نعم، وهي الفرار، ولكن من أدراك أنه يقبلُ به؟ إن هذا الفرَّانَ المسكين أَبِيُّ
النفس، ولا أخاله يرضى أن يَحمِلَ على وجهه عارَ القتل، إنَّ له أبًا شيخًا
وصبيَّةً تحبُّه، كلُّ هذا يحبِّبُ إليه البقاء في وطنه، إن الجلاء عن الأوطان صعب، وقد
صدق شاعر الطليان إذ قال: الموت أصعب من ترك الوطن.
باربو
:
ولكن أيَّة أهمية لرجل مسكين كهذا إذا مات؟
المقنع
:
وهل الرجل المسكين ليس ذا نفسِ نظيرِكَ أيها الشريف؟! أو هل تظن أن الشرف لا
يوجد إلا في قصوركم أيها العظماء؟!
لورنسو
:
ولكني إذا صرَّحتُ بهذا القول للمجلس أُعرِّضُ نفسي للإهانة بانكشاف عاري
للناس.
المقنع
:
إذن فأنت تحاولُ غَسْلَ عارِكَ بدم هذا المسكين.
لورنسو
:
آه إنَّكَ لقاسٍ جدًّا.
المقنع
:
بل عادل، وأنا أطلبُ منك أن تسعى في خلاص هذا البريء، إنه في إمكانك، وأنت من
مجلس العشرة أن تعمل ما تريد.
باربو
:
إن لديَّ وسيلةً لا بدَّ من نجاحها.
المقنع
:
وإذا لم تنجح؟
باربو
:
أجدُ حيلةً غيرَها، ولكني متأكِّدٌ نجاحي في هذه.
المقنع
:
أَقْسِمْ بشرفِكَ لأُصدِّقَكَ.
باربو
:
أُقسِمُ بشرفي، إني ساعٍ لإنقاذ هذا البريء.
المقنع
:
حذارِ يا لورنسو باربو، ولتعلم أنه إذا خطر في بالك — ولو هنيهة — أن تحنثَ
بيمينك، ففي غدِ ذلك اليوم تعلمُ كلُّ فينسيا اسمَ القاتل الحقيقي، وحينئذ يُنزَعُ
اسمُ لورنسو باربو من مجلس العشرة؛ لأنه بصفتِكَ عضوًا في المجلس لكَ أن تقتلَ مَن
تشاءُ لأيِّ حقٍّ كان، أما إذا كان القتلُ من أجْلِ محوِ عار كما هو شأنُكَ، فهذا كافٍ
لإقالتِكَ من مجلس العشرة، وحرمانِكَ كلَّ الِامتيازات.
لورنسو
:
حسنًا (يذهبُ المقنَّعُ بعد أن يشيرَ إلى لورنسو إشارةَ تهديدٍ).
المنظر الثاني
لورنسو وحده
لورنسو
:
هذا هو ضميري الذي تجلَّي لي الآن، فما ينفعُني أن أكونَ من مجلس العشرة، وأنا
لا أقدرُ أن أفعلَ ما أريدُ، لم يبقَ أمامي إلا يومٌ واحد، أو بعضُ اليوم، فإذا مضى
من غيرِ أن أتمكَّنَ من خلاص البريء، فقد قُضِيَ على شرفي إلى الأبد، إن امرأتي
ترقصُ الآن ولا تعرفُ أنها ترقص على شفير الهاوية فلأَبْحَث عنها.
المنظر الثالث
باربو – كليمنسا
كليمنسا
:
علمتُ أنَّكَ تبحثُ عني فأتيتُ.
لورنسو
(لذاته)
:
يظهرُ أن الجميعَ يقرءونَ أفكاري هذا اليوم (لكيمنسا) نعم، كنتُ أقصدُ
الاجتماعَ بكِ؛ لأسألَكِ إذا كنتِ نجحتِ في التماسِكِ من رئيس المجلس العفوَ عن ذلك
المتهم؟
كليمنسا
:
كلَّا لم أنجحْ، وتَراني شديدةَ القلقِ على هذا المسكين.
لورنسو
:
لا تقلقي من أجله يا سيدتي، بل من أجلِكِ ومن أجلي أنا، فإن الحالةَ قد تغيَّرَتْ
منذ دقائق.
كليمنسا
:
لا أفهمُ ما تقولُ يا سيدي.
لورنسو
:
ينبغي لي إذن أن أقولَ لكِ كلَّ شيء.
كليمنسا
:
نعم، ولكن ليس هنا فما هذا وقته.
لورنسو
:
أرى يا كليمنسا أنَّنا لم يَعُدْ يحبُّ أحدُنا الآخرَ كما فيما مضى، وأن شخصًا قد
حال بين قلبَيْنا.
كليمنسا
:
ومن هو هذا الشخص الذي تعنيه؟
لورنسو
:
هو رجل ماثلٌ الآن بين يدي الديان العادل، هو ألويزو جورو الذي قتلناه نحن
الاثنين، أنتِ بقُبلةٍ وأنا بخِنجرٍ. أنتِ أحببْتِه، وأنا انتقمتُ.
كليمنسا
:
آه أأنتَ هو القاتل؟ لقد صَدَقتْ إذن ظنوني.
لورنسو
:
نعم، أنا القاتل. إنَّ ظنونَكِ لم تخدَعْكِ، وإنما أنتِ خُلِقْتِ لتخدعي، وينبغي
عليكِ اليومَ أن تُتْمِمِي ما خُلِقْتِ له، فتخدعي الناسَ وتدرئي عنك الشبهات، هَلُمِّي
تأبَّطي زراعي، ولندُرْ دورةً حول القاعة، يجب أن تُظهِري على شفتَيْكِ أجملَ
ابتساماتِكِ، وأن ترفعي رأسَكِ تيهًا، فمن يدري؟ ربما تكونُ هذه آخرَ مرةٍ تستطيعينَ،
أن
تمشيَ مرفوعةَ الرأسِ من غيرِ أن تسمعي من حولِكِ كلمةً تضطرُّكِ أن تُنَكِّسي هذا الرأسَ
الجميلَ إلى الحضيض.
كليمنسا
:
رحماك أشفِق عليَّ.
لورنسو
:
دعي الرجاءَ والتوسلَ إلى الغد، أما الآن فأنتِ زوجتي الحبيبة أمام الجمهور،
فتمتَّعي بآخرِ احترامٍ يقدِّمُه لك هؤلاء الناسُ الذين لا يزالون يَحسبونَ أنَّكِ طاهرة
عفيفة، فاجتهدي بإخفاء حُزنِكِ ودَمعِكِ كما أُخفي أنا عاري، هيَّا.
(ينزل الستار.)