الفصل الخامس
(غرفة مجلس العشرة.)
(إلى الشمال كرسي الرئيس بندوميني وعلى جانبيه في الوسط ستة كراسي، إلى اليمين طاولة أمامها أفوكاتو المجلس.)
المنظر الأول
الرئيس – لورنسو – وسكرتير المجلس – وباقي الأعضاء
السكرتير
(يقرأ ورقة الاتهام)
:
يا سعادة الرئيس، ويا حضرات الأعضاء، إن الفتى بترو
تاسكا، عمره عشرون سنة، وصنعته فرَّان، قد مثَل أمامكم منذ يومين؛ متهمًا بقتل
الشريف ألويزو جورو، وقد ثبتت تهمةُ القتل عليه كلَّ الثبوت بشهادة الشهود، وبآثار
الجريمة التي كانت باديةً عليه، فإنه فضلًا عن كونه مثَل أمامكم ملوَّثًا بدم
القتيل؛ فقد شهد الخمار فيلنشي، وبرتلو قندلفت الكنيسة وشاهدون آخرون أنهم
وجدوه على جثة القتيل عند ارتكاب الجناية، وقد ظهر من التحقيق أن قراب الخنجر
الذي بَقِيَ مغروزًا في صدر القتيل قد وُجد مع المتهم، وثبت أيضًا أن بين المتهم
والمجني عليه عداوة وأحقادًا قديمة، وأن المتهم كان مُغْرَمًا بالفتاة آنلا
الخادمة في بيت الشريف لورنسو باربو أحد أعضاء مجلس العشرة، وقد شهدَتْ هذه
الفتاة أنه كان يَغارُ عليها ويخاصمُها بشأن رجل كان يشاهده بعض الأحايين يرود
متخفِّيًا حول القصر الذي تخدمُ فيه، وقد صرَّح لها مرارًا بأنه ينوي قتلَه في أول
فرصة يلتقي به، وقد اعترفتْ آنلا المذكورة أن الشريف ألويزو كان يطارحُها الغرام،
وقد وُجد هذا الشريف قتيلًا منذ يومين في الظروف التي تَقدَّم شرحُها لكم، بعد
أن سبق تهديدُ المتهم للفتاة آنلا بأنه سيقتله عندما يلتقي به، وأن المتهم بعد
ارتكابه تلك الجنايةَ لجأ إلى بيت السنيور لورنسو باربو طالبًا الحماية، ولما
قُبِض عليه وأودع السجنَ حاول الهربَ منه، وقد أُلقي عليه القبضُ مرةً ثانية،
وأُعيد استنطاقُه، فأنكر، ولكنه أقرَّ أخيرًا بعد أن استُعمِلت معه وسائطُ التعذيب
فلم يَبقَ ريبٌ في كونه القاتل الحقيقي.
بندوميني
:
لقد اكتفى المجلس بما تقدَّم شرحُه، وهو يرى إدانة الجاني بترو تاسكا، والحكم
عليه بما يقتضيه القانون.
لورنسو
:
سادتي إن حياة الرجل مقدسة، فلا يليقُ بنا أن نتسرَّعَ بإصدار حكم لا نستطيعُ له
ردًّا فيما بعدُ.
بندوميني
:
لقد كانت حياة الشريف ألويزو مقدسة أيضًا، بل هي أولى بالاعتبار؛ لكون صاحبها
من الأشراف، وإني أرى الاكتفاء بما تقدم والانتهاء من هذه القضية.
لورنسو
:
وأية نهاية نجعلُها لها؟
بندوميني
:
أتسألني ذلك؟ إن القانون لا يُحابي، بل لا بدَّ من إجراء سنن العدل.
لورنسو
:
ولكن التهمة لم تثبت على المتهم بأدلة كافية، وإن صوتًا سريًّا يقول لي إنه
بريء.
بندوميني
:
هذا لا يكفي؛ فإذا كان لديك براهين على براءته فعليك أن تبديَها للمجلس، وهو
ينظر فيها.
لورنسو
:
إن أعظمَ أدلة الاتهام عليه وجودُه فوق جثة القتيل ملطخًا بدمه، ولكنَّ هذا غيرُ
كافٍ للحكم عليه؛ لأن العاقلَ يدرِكُ لأوَّلِ وهلة أن القاتل لا يلبثُ عَلى جثة قتيله،
بل أوَّلُ ما يعملُه أنه يهربُ ولا يدَعُ نفسَه يُؤخَذُ بسهولة.
بندوميني
:
أراك أيها الشريف، تفترض افتراضًا لا يثبتُ أمام الواقع الظاهر للعيان، فإذا
كان لديك غير هذا من الأدلة لتبرئته فأبْدِه فإن الوقت ضيِّقٌ، ولا ينبغي أن يُضاع
في سماع مثل هذه التخمينات.
لورنسو
:
إني لا أخمِّنُ تخمينًا، ولكني أطلب من هيئة المجلس أن تتروَّى قبل إصدار
الحكم النهائي؛ فإن حياة الإنسان مقدَّسة، ولا ينبغي المجازفة بها.
بندوميني
:
وهل يهمُّكَ كثيرًا حياة رجل من عامة الناس جنَى على حياة شريف من أكبر أشراف
البندقية؟
لورنسو
:
إني ألتمسُ تأجيلَ الحكم، وزيادة البحث والتحرِّي.
بندوميني
:
كلَّا لا فائدة من البحث، فإن التهمة ثابتةٌ ثبوتَ النهار، وللمجلس مهامٌّ أخرى يجب
الانتباهُ إليها.
لورنسو
:
أيها السادة، ينبغي عليَّ إذن أن أصرِّحَ لكم بأن القاتل الحقيقي هو غير بترو
تاسكا.
بندوميني
:
ومن هو؟ قل.
لورنسو
:
ليسمحْ لي المجلس بنصف ساعة فآتيه بالبيان الوافي.
بندوميني
:
لقد سمحنا لك بما تطلب.
لورنسو
:
حسنا (يخرج).
(يدق الرئيس الجرس فيدخل الحاجب.)
بندوميني
(للحاجب)
:
أدْخِل المتهم.
المنظر الثاني
بترو – مذكورون
(يدخل بترو مستندًا إلى ذراع الحاجب، وهو نصف ميت، فيُجلِسونه عَلى الكرسي المواجهة للرئيس.)
بندوميني
:
لا تُلجِئْنا إلى أن نستعمل معك القوة التي لا نريدها لك، بل أجب بالحقيقة
على كل سؤال يوجَّه إليك فذلك أوفق لك.
بترو
:
إني لم أكذب قط.
بندوميني
:
ألم يأتِ الشريف لورنسو باربو إلى سجنِكَ هذا الصباح؛ ليعرضَ عليك وسائل
الفرار؟
بترو
:
نعم، ولكني لم أقبلْ بما عرضه عليَّ لوثوقي ببراءتي وبعدالة المجلس.
بندوميني
:
مع ذلك فقد أُلقي عليك القبض، وأنت فارٌّ من السجن تحاول ترك المدينة.
بترو
:
نعم.
بندوميني
:
من الذي أقنعكَ بأن تهرب على هذه الصورة بعد أن رفضتَ ما عرضه عليك الشريف
لورنسو باربو؟
بترو
:
هل يفيدُ إخباري المجلس بذلك بينما أنتم مطَّلِعون على الواقع أحسن
مني.
بندوميني
:
لا تكن وقِحًا أيها الرجل، وأجِب بصراحة عما يوجَّه إليك، أليس الذين حملوك
على الفرار مرسَلين من قِبَل الشريف لورنسو باربو؟ أَوَ ليسوا من عائلته وممن يلوذُ
به؟
بترو
:
نعم.
بندوميني
:
كفى فخذوه.
بترو
:
بربِّكَ يا سيدي، أن تسمعَ لي رجاءً أخيرًا، ألتمس أن تُحضروا إليَّ أبي.
بندوميني
:
ينبغي عليك الآن أن تفكِّرَ بتسوية حسابِك مع أبِ الجميع.
بترو
:
أجَل، وإني أنتظركم لديه أيها السادة، وهو سيحاكمكم على محاكمتكم إيَّاي وأنا
بريء.
بندوميني
:
إن القول بأنَّكَ بريء لا يكفي، بل يجب إثبات ذلك، ألم تكن تكره المجني عليه من
زمان طويل؟
بترو
:
نعم، لا يسعُنِي الإنكار، غيرَ أني لم أسعَ قطُّ لإيصال الأذيَّةِ إليه.
بندوميني
:
مع ذلك فقد صرحْتَ مرارًا أمام الفتاة آنلا أنَّكَ ستقتله إذا رأيتَه.
بترو
:
قد يجوز ذلك، ولكني بريء من هذا القتل.
بندوميني
:
ألم تكن شديدَ الغيرة على آنلا؟
بترو
:
بلى، ولكني كنتُ مخطئًا بغيرتي هذه؛ لأنها كانت في غير محلها، ويجب أن تعلموا أن اﻟ…
بندوميني
:
إننا نعلمُ ما يكفي، فقد أخبرتَ آنلا أنَّكَ ستقتل خصمَكَ أينما وجدتَه، وقد اعترفَتْ
هي بقولك هذا.
بترو
:
نعم، قلتُ لها ذلك؛ لأني كنتُ أظن أنه يهواها، ولكن ظهر لي بعدَ ذلك أنه لم يكن
يأتي من أجلها بل من أجل سواها.
بندوميني
:
اسكت يا شقي، ولا تَزدْ جرمَكَ بالكذب (يدق الجرس) أعيدوه إلى سجنه.
بترو
:
أقسم برب السماء والأرض يا سادتي، أني بريء من دم هذا الرجل، وأن غيري هو
القاتل لا أنا، اسألوا أبي اسألوا لورنسو باربو، فتبدو لكم الحقيقة، وحذارِ أن
تحكموا عليَّ قبل أن تبحثوا وتتأكَّدوا، وإلا فإن دمي يسقط عَلى رءوسكم.
بندوميني
:
خذوه (يذهبون به) فليَمُتْ؛ فإن جريمته ظاهرة كالشمس، أما الشريف لورنسو باربو
فسنحاسبه فيما بعدُ عَلى اشتراكه بتسهيل وسائل الفرار له (يكتب بندوميني الحكم
ثم يسلمه للحاجب) اذهب ونفِّذ هذا الحكم، ولنشتغل الآن بغير هذه القضية.
المنظر الثالث
لورنسو – مذكورون
لورنسو
:
سادتي إن مجلس الكهنة يعترض على تنفيذ حكمٍ غير قانوني؛ فقد ظهرت أدلة
جديدة.
بندوميني
:
إن مجلس الكهنة يمكنه أن يوقف أحكام مجلس الأربعين، ولا سلطة له على حكم
يصدره مجلس العشرة، هذا ما أجيبك به أيها الشريف.
لورنسو
:
أهكذا تقوم بوعدك لي أيها الرئيس؟
بندوميني
:
إن الوقت الذي أعطيناك إياه قد مضى، وقد قرر المجلس بغيابك تنفيذ
الحكم.
لورنسو
:
ولكني أعترض على هذا الحكم.
بندوميني
:
إن اعتراضك جاء بعد الأوان، فالحكم قد صدر، وصار موضع التنفيذ وربما يكون قد
نُفِّذ الآن، وانتهى الأمر.
لورنسو
(ينهض)
:
أظن يا سيدي أنكَ تتكلم بدون رويَّة.
بندوميني
:
أنا لا أمزح في مسألة يتعلَّق بها موت أو حياة.
لورنسو
:
ولكني أراك تحكمُ حكمًا لا أساس له، فأرجوك أن تُصغيَ إليَّ قليلًا (يسمع جَلَبة
من الداخل، وماركو يقول دعوني أدخل، إني أريد أن أرى القضاة).
المنظر الرابع
ماركو – مذكورون
بندوميني
:
كيف تجرأْتَ أن تدخلَ إلى مجلس العشرة من أجل مجرم قد قُبِض عليه.
ماركو
:
كلَّا لم يُقبضْ عليه بعدُ. الحمد لله أن براءته ظهرت كالشمس. تكلَّمْ يا سنيور
لورنسو. أثبِت ما وعدتَ به بشرفِك.
لورنسو
:
نعم، يجب التصريحُ بالحقيقة، اسمع أيها الشريف بندوميني، إن أحدَنا القاتل لا
بترو تاسكا. انظر مليًّا إلى هذا الخنجر الذي أمامك.
بندوميني
:
لقد نظرتُ إليه كفاية.
لورنسو
:
بل افحصْه جيِّدًا، أليس عليه علامة الشرفاء محفورة في قبضته؟
بندوميني
(يفحص الخنجر)
:
أجَل.
لورنسو
:
وهذه العلامة ألا يجب أن تكون هي علامة القاتل؟
بندوميني
:
بلى، ولكنها علامتك أنتَ أيها الشريف.
(سكوت.)
ماركو
:
آه أرأَيتم الآن أيها السادة، أن ابني ليس القاتل؟
بندوميني
:
ولكن لماذا تأخرتَ إلى الآن بهذا التصريح؟
لورنسو
:
لأني كنتُ أحاول خلاصَه بواسطة أخرى من غير أن أشكوَ نفسي، نعم، أنا بيدي أيها
السادة ارتكبت هذه الجناية التي عُزيَت ظلمًا لهذا المسكين، أنا الذي انتقمتُ
لشرفي بالقتل.
ماركو
:
ولدي ولدي. أين هو؟
بندوميني
:
وا أسفاه ربما يكون قد مثَل الآن أمام الديان العادل يطالبه بدمٍ سفكناه
ظلمًا (يدق الجرس للحاجب) اركض حالًا، وأَوْقِف التنفيذ (صوت من الداخل جهوري
يقول: لقد نُفِّذ الحكم بالإعدام بموجب أمر مجلس العشرة عَلى بترو تاسكا
الفرَّان لارتكابه جريمة القتل).
(ذهول عمومي.)
(يرمي ماركو نفسَه عَلى النافذة بلا حراك، ثم يرجع ويصيح بأعلى صوته.)
ماركو
:
وا ولداه لقد قتلوا ولدي (يقع مغمًى عليه).
(سكوت.)
لورنسو
:
أأرضاكَ الآن ما فعلتَ أيها الرئيس، إنكَ تستطيع اليوم أن تجهرَ بحكمك العادل في
كلِّ الأرض، من منكم يستطيع الآن ردَّ ما فات؟
بندوميني
:
إن الذنب عليك أيها الشريف.
لورنسو
:
الذنبُ عليَّ وعليك أيضًا.
بندوميني
:
إني إذا كنتُ قد أخطأتُ فسأُصلح خطئي.
ماركو
:
وكيف؟ (ينهض.)
بندوميني
:
سأعيدُ لولدِكَ شرفَه بإعلان براءته.
ماركو
:
ولكن حياته، حياته هل تعيدها إليَّ؟
بندوميني
:
إنه ما دام في البندقية حجر على حجر سيبقى اسم بترو تاسكا مقدَّسًا في عيون
الناس، وسيشاد له في الموضع الذي قتل به مقام يُنارُ ليلًا نهارًا، ويظل محجًّا
للناس إلى الأبد.
ماركو
:
ولكنه مات، ولكنه مات.
بندوميني
:
إني أعاهدُ الله ألَّا أُمضيَ فيما بعدُ حكمًا بالإعدام حتى يقول لي ضميري
تذكَّر، تذكَّر الفرَّان المسكين.
ماركو
:
بصياح هائل: ولكن ولدي مات أيها القاضي، فمن يردُّ عليَّ ولدي؟
(ينزل الستار، وبه تتمُّ الرواية.)