نظريات الطبيب جرينسليد
أتذكر أنني كنت، في ذلك المساء، أشعر بالسعادة والغبطة بالذات أثناء عبوري ميل ميدو. كنا لا نزال في منتصف شهر مارس، في أحد أيام الربيع تلك التي تشعر فيها عند الظهيرة أنك في شهر مايو، ولا يُذكِّر المرء أن الشتاء لم ينتهِ بعدُ إلا ذلك الضباب اللؤلؤي البارد الذي ينتشر عند غروب الشمس. كان الموسم لا يزال في بدايته، فكانت أشجار الخوخ الشوكي لا تزال مزهرةً والشجيرات ملأى بأزهار الربيع. كانت طيور السمان في موسم التزاوج، والغربان أعدَّت أعشاشها بالفعل، وكانت المروج تعجُّ بأسراب رمادية لامعة من طيور دُج الحقول المُتجهة شمالًا. وضعت نصف دزينة من طيور الشنقب على الضفة السبخة للجدول، وتخيلت أني رأيت طائرًا من دجاج الأرض في جُمَّة في غابة ستيرن، وأملتُ أن تُعشش هذه الطيور في أرضنا هذا العام مثلما كانت مُعتادة منذ أمدٍ بعيد. كان من الرائع رؤية العالم يعود إلى الحياة مجددًا، وأن أستحضر أنَّ هذه البقعة من إنجلترا ملك لي، وأن جميع هذه الكائنات البرِّية هي، إن صح التعبير، أُسرتي الصغيرة.
كما ذكرت سابقًا، كنت مسرورًا للغاية؛ إذ كنت قد عثرت على شيءٍ كنت أتوق إليه طوال حياتي. كنت قد اشتريت ضيعة فوسي بعد انتهاء الحرب مباشرةً هدية زفاف لزوجتي ماري، واستقررنا فيها طوال عامَين ونصف منذ ذلك الحين. بلغ ابني بيتر جون الشهر الخامس عشر من عمره، غلام نبيه، صحيح البدن كمُهر صغير، ومُضحك كجرو كلب تِرْيَر. ولم تتمكن عين ماري القلِقة من رصد أي أعراضٍ تدل على وجود مشكلة به. ولكن كان المكان يحتاج إلى الكثير من الرعاية؛ إذ كان قد أصبح في حالٍ سيئة خلال الحرب، وأصبح من الضروري التقليل من كثافة أشجار الغابة، وإصلاح البوابات والأسوار، ووضع أغطية جديدة للبلاعات، وتركيب مضخة مياه لتُعوض نقص المياه في الآبار، وإصلاح قشِّ الكثير من الأسقف، وإعادة استزراع حواف الحديقة. كنتُ قد أنجزت القسم الأسوأ من هذه الأمور، وأثناء خروجي من غابة هوم وود وصولًا إلى المروج الأقل منها ارتفاعًا ورؤيتي للجملونات الحجرية التي بناها الرهبان، شعرتُ وكأني قد رسوت أخيرًا في أبهج مرفأ على الإطلاق.
كانت ثمة كومة من الخطابات موضوعة على منضدة في ردهة المنزل، ولكني تركتها في مكانها، فلم تكن لديَّ رغبة في التواصُل مع العالم خارج جدران منزلي. بينما كنت آخُذ حمَّامًا ساخنًا، استمرت ماري في سرد الأخبار على سمعي عبر باب غرفة نومِها. كان بيتر جون يُحدِث جلبةً كبيرة بسبب نمو سنِّه الأولى، وجفَّ ضرع البقرة الجديدة القصيرة القرن، واستعاد العجوز جورج وادون حفيدته من الخدمة الإلزامية، وثمة سرب جديد من البط العدَّاء، وكان طائر من طيور سمنة الدبق يبني عشًّا في السياج المربع بجوار البحيرة. قد تقول إنه حديث تافه، ولكني كنت مهتمًّا به أكثر بكثير مما كان يدور في البرلمان أو في روسيا أو في هندوكوش. في واقع الأمر، أصبحت مُسنًّا لدرجة أني توقفت عن قراءة الصحف. لم تَعُد جريدة التايمز تُفتَح لأيام، لأن ماري لم تكن تقرأ أي أخبار سوى الصفحة الأولى لتعرف مَن مات أو مَن تزوج. لا يعني ذلك أني لم أعُد أقرأ؛ فقد كنت معتادًا على تمضية أمسياتي في قراءة تاريخ المقاطعة، والتعرُّف على كل ما تقع عليه يداي عن القُدامى الذين كانوا أسلافي. أحببتُ فكرة أني أصبحت أعيش في مكانٍ ظلَّ مأهولًا دون انقطاع طوال ألف عام. تقاتَل كافالييه وراوندهيد على هذه المنطقة الريفية، وأصبحتُ أنا مَن يحكُم على معاركهما الصغيرة. كان هذا هو الاهتمام الوحيد الذي تبقَّى لي من الجُندية.
أذكر أننا أثناء هبوطنا إلى الطابق السفلي، توقفنا أمام نافذة الدَّرَج الطويلة التي تُطل على جزء من المرج الأخضر، وأحد أركان البحيرة، ومشهدًا للسهول الخضراء عبر فُرجةٍ في أشجار الغابة. ضغطَت ماري على ذراعي. وقالت: «يا له من بلدٍ جميل. هل حلمتَ بِمثل هذا الهدوء يا ديْك؟ إننا محظوظون، محظوظون للغاية.»
ثم انقلبت قسمات وجهها بطريقتها المُعتادة وأصبحت جادةً جدًّا. وشعرتُ برجفةٍ خفيفة تسري في ذراعِها.
وهمسَت قائلة: «إن حياتنا جميلة ومُبهجة لدرجةٍ لا أُصدق معها أنها ستستمر. وأشعر بالخوف أحيانًا.»
ضحكتُ قائلًا: «غير معقول. ما الذي يمكن أن يحدُث ويعكر صفو حياتنا؟ لا أومن بالخوف من السعادة.» كنتُ أعرف تمام المعرفة أن لا شيء يمكن أن يُخيف ماري.
فضَحِكَت أيضًا. وقالت: «لديَّ تلك الخَصلة التي يُطلق عليها الإغريق اسم أيدوس. أنت لا تعرف ما تَعنيه هذه الكلمة، أيها البدائي المُسن. إنها تعني أن يشعر المرء بأنه يجب عليه أن يمشي على الأرض هونًا ويتواضَع ويرضى بما قُدِّر له. أتمنَّى أن أعرف كيف أفعل ذلك.»
مشت آنَّا على الأرض هونًا أكثر من اللازم؛ فقد زلَّت قدمُها عن درجة السُّلَّم الأخيرة وانتهى نزولنا بعرقلة مُخجلة أودت بها بين ذراعَي الطبيب جرينسليد مباشرةً.
كان بادوك، الذي كنتُ قد استعنت بخدماته بعد انتهاء الحرب وأصبح الآن رئيس خدَمي، يساعد الطبيب على خلع معطفه الفضفاض، وأدركت من النظرة الراضية المُرتسِمة على وجه الأخير أنه أنهى عمل يومِه، وأنه ينوي أن يبقى ليتناول العشاء معنا. الفرصة سانحة الآن لأن أُعرفكم بتوم جرينسليد، فمن بين جميع معارفي الجدد، كان هو أكثر من انجذبتُ إليه. كان رجلًا نحيلًا طويل القامة مَحنيَّ الظهر بسبب الانحناء للإمساك بمقبضَي دراجته النارية، أحمر الشعر ذا عينين زرقاوين يتخللهما اللون الأخضر، وبشرة ينتشر فيها النمش عادةً ما تُصاحب لون الشعر الأحمر. من عظام وجنته البارزة وألوان شعره وعينَيه وبشرته، قد تحسب أنه اسكتلندي، ولكنه في الحقيقة من ديفونشاير-إكسمور، على ما أظن، على الرغم من أنه طاف العالم كثيرًا لدرجة أنه كاد ينسى مكان نشأته. لقد سافرت كثيرًا، ولكني لا أُقارَن بجرينسليد. بدأ مسيرته المهنية كطبيبٍ على متن سفينة صيد حيتان. ثم شارك في الحرب الجنوب أفريقية، ثم قاضيًا مؤقتًا في مكانٍ ما شمالي ليدنبرج. وسرعان ما سَئِم من كل ذلك، فخرج في رحلةٍ طويلة في أوغندا وشرق أفريقيا الألماني، حيث أصبح خبيرًا في الأمراض الاستوائية، وكاد أن يقضي نحبَه عندما جرَّب اللقاحات على نفسه. ثم ذهب إلى أمريكا الجنوبية، حيث مارس الطب في مدينة فالباريسو، ثم ذهب إلى اتحاد ولايات الملايو، حيث جمع بعض المال من ازدهار تجارة المطاط. كانت ثمة فترة انقطاع عن العمل تبلغ ثلاث سنوات عندما كان يَهيم على غير هُدًى في آسيا الوسطى، فتارةً يصطحب رجلًا يُدعى دوكيت في استكشاف منغوليا الشمالية، وتارةً أخرى يذهب إلى التِّبت الصينية لاكتشاف أنواع جديدة من الزهور؛ فقد كان مهووسًا بعلم النبات. ثم عاد إلى وطنه في صيف عام ١٩١٤، منتويًا إنشاء مُختبرٍ بحثي، إلا أن الحرب دمَّرت خُططه، فاستُدعي إلى فرنسا برتبة ضابط طبي في إحدى الكتائب الإقليمية. وبالطبع تعرض لإصابة، وبعد فترة مؤقتة في المستشفى، ذهب إلى بلاد ما بين النهرين وظلَّ فيها حتى كريسماس عام ١٩١٨، وكان مُجدًّا في عملِه للغاية، ولكن لم يمنعه ذلك من المشاركة في الكثير من المغامرات المتنوِّعة؛ فقد كان في باكو رفقة الجنرال دونستيرفيل، ووصل حتى طشقند حيث حبسه البلشفيون لأسبوعين في حمام عمومي. وأُصيب خلال الحرب بالكثير من الأمراض، ومن ثَم اختبر كل شيء، ولكن يبدو أنها لم تترك تأثيرًا دائمًا على جسدِه القوي كالسوط. أخبرني ذات مرة أن قلبه ورئتَيه وضغط دمه في حالة جيدة وكأنه في الحادية والعشرين من عمره، رغم أنه في ذلك الوقت كان قد تخطى الأربعين من عمره.
ولكن بعدما وضعت الحرب أوزارها، أصبح يتوق لحياةٍ هادئة، فاشترى عيادة في المنطقة الوسطى من إنجلترا والأكثر خضرة. قال إن دافعه هو الدافع نفسه الذي حمل الرجال في العصور الوسطى الصاخبة على الانعزال في الأديرة؛ كان يحتاج إلى الهدوء والراحة لينظر في داخل روحه. ربما عثر على الهدوء، ولكن الراحة نادرة، فلم أرَ في حياتي طبيبًا حكوميًّا يكدح في عمله مثله. كان يزور المرضى التابِعين للتأمين الصحي ثلاث مرات كل يوم، ما يكشف لك أي نوعٍ من الرجال كان، وكان يُهرع من بيته في ساعات الصباح الأولى إذا ما أُبلِغ بأن امرأة غجرية تضع طفلها في العراء. كان طبيبًا من الطراز الأول، وكان مواكبًا لجميع مستجدَّات المهنة، إلا أن الطب كان واحدًا من بين اهتماماته العديدة. لم أرَ في حياتي رجلًا نهمًا لمعرفة كل ما على الأرض وفي السماء مثله. كان يسكن في بيت ريفي من غرفتَين يبعد عن منزلنا مسافة أربعة أميال أو نحوها، وكان يمتلك عدة آلاف من الكتب. كان يقضي النهار بأكمله، ونصف الليل تقريبًا، يجوب الريف في سيارته الخفيفة، ولكن عندما كان يأتي لزيارتي وتناوُل مشروب معي بعد حوالي عشرين زيارة، كان لا يزال مُفعمًا بالحيوية كما كان قد استيقظ من النوم لتوِّه. كان بارعًا في الحديث عن كل شيء — الطيور، والحيوانات، والزهور، والكتب، والسياسة، والدين — كل شيء في العالم ما عدا نفسه. كان أفضل صحبة قد يحصل المرء عليها، فبِغضِّ النظر عن ذكائه وألمعيَّته، ستشعر وكأنك قد عثرت على كنز. لولاه كنتُ سأصبح ساكنًا كنبتةٍ مغروسة في الأرض، وأنا أميل بطبيعتي إلى تلك الحياة الساكنة. أُعجبَت به ماري كثيرًا، وكان بيتر جون يعشقُه.
كانت روحه المعنوية عالية للغاية في تلك الأمسية، وكانت تلك من المرَّات النادرة التي يُخبرنا فيها لمحاتٍ عن ماضيه. أخبرنا عن الأشخاص الذين تمنَّى من كل قلبه أن يراهم مرة أخرى؛ رجل أيرلندي من أصل إسباني يعيش في شمال الأرجنتين يوظف أخطر رعاة الأبقار من أهل المنطقة الذين يعيشون في الجبال، والذين يحافظ على سعادتهم عبر تنظيم مباريات ملاكمةٍ كلَّ يومِ أحد، وكان يُلاكم الرجل الذي ينتصِر على الجميع بنفسه، وكان دائمًا ما ينتصر عليه، وتاجر اسكتلندي من هانكو تحول إلى كاهنٍ بوذي أضفى لكنةَ أهل جلاسجو الحادة على صلواته، وكان أكثر من يتمنَّى رؤيته قرصان من الملايو والذي، كما قال، كان مُحبًّا للحيوانات كما لو كان القديس فرانسيس مع وحوشِ البرِّية، على الرغم من مُعاملته القاسية مع البشر كما لو كان نيرون. ثم انتقل للتحدث عن وسط آسيا، وقال إنه إذا ما غادر إنجلترا مرة أخرى، فسيذهب إلى هناك، فهذه المنطقة هي ملاذ جميع الأوغاد. وكان يعتقد أن ثمة أمرًا غريبًا للغاية قد يحدث هناك على المدى الطويل. صاح قائلًا: «فكر في الأمر! جميع تلك الأماكن التي تشبه أسماؤها التعويذات السحرية — بُخارى، وسمرقند على سبيل المثال — تديرها عصابات صغيرة قذرة من اليهود الشيوعيين. ولكن لن يستمر الحال على هذا المنوال إلى الأبد. ذات يوم، سيُولَد من رحِم هذه الفوضى جنكيز خان أو تيمور لنك جديد. إن أوروبا مُضطربة بما فيه الكفاية، أما آسيا ففي فوضى منذ القِدَم.»
جلسنا بعد العشاء حول نار المِدفأة في غرفة المكتبة، التي صممتُها على غرار غرفة السير والتر بوليفانت في منزله في كينيت، بارًّا بالوعد الذي كنتُ قد قطعتُه على نفسي منذ سبع سنوات. عندما أنشأتُ هذه الغرفة، كنتُ أنوي أن أجعلها مساحتي الخاصة للكتابة والقراءة والتدخين، إلا أن ماري احتلَّتها ومنعتني عن فعل ذلك. لدى ماري غرفة جلوس معروشة رائعة في الطابق العلوي نادرًا ما تدخلها؛ ورغم أني كنتُ أطردها من غرفة المكتبة، فإنها كانت تعود دائمًا كما لو كانت دجاجةً في حديقة، ومِن ثَم، اغتصبَت لنفسها مساحةً على الجانب الآخر من مكتبي. كنتُ دومًا مهووسًا بالنظام، ولكن كانت محاولةُ إقناع ماري بالنظام بلا طائل، ومن ثَم أصبحت خطاباتها وأعمال حياكتها مُتناثرة على مكتبي، وأصبحت ألعاب بيتر جون وكتبه المصورة مكدسةً في الخزانة التي كنتُ أحتفظ فيها بصناديق طعوم صيد الأسماك، وكان بيتر جون نفسُه يتظاهر كلَّ صباحٍ بأنه داخل قفصٍ في كرسي بلا ظهرٍ مقلوب على سجادة المدفأة.
كانت ليلة باردة، وكان من الرائع الجلوس بالقُرب من المدفأة التي كانت تُصدِر رائحةً عطرةً بسبب أخشاب شجرة الكُمثرى القديمة التي تحترق فيها. أمسك الطبيب روايةً بوليسيةً كنتُ أقرأها، ونظر إلى عنوانها.
وقال: «أحِبُّ قراءة أغلب الموضوعات، ولكني لا أعلم لِمَ تُضَيِّع وقتك على مثل هذه الكتب. تلك الألغاز سهلة الحل للغاية يا ديك. يُمكنك أن تبتكر بعضها بنفسك.»
«لا، ليس أنا. أرى أنها حبكةٌ روائية رائعة. لا أعلم كيف يتمكن المؤلِّف من ابتكارها.»
«الأمر بسيط. يكتب المؤلِّف القصة استقرائيًّا، ويتتبعها القارئ استدلاليًّا. هل تفهم ما أعنيه؟»
أجبته قائلًا: «لم أفهم أي شيء.»
«اسمع. أُريد أن أؤلف لغزًا، فأبدأ بتثبيت بضع حقائق لا يُوجَد رابط واضح بينها.»
«هل يُمكنك أن تُعطيني مثالًا على ذلك؟»
«حسنًا، تخيل أي شيءٍ يحلو لك. دعنا نتناول ثلاثة أمور لا يُوجَد أي رابط بينها …» صمت للحظاتٍ مفكرًا، ثم قال: «مثلًا، امرأة عجوز كفيفة تغزل في منطقة المرتفعات الغربية، وحظيرة في أحد المراعي النرويجية الخضراء، ومتجرًا صغيرًا للتُّحَف في شمال لندن يديره يهودي ذو لحيةٍ مصبوغة. لا تُوجَد أي صِلة بين الأمور الثلاثة، أليس كذلك؟ ثم تبتكر صِلة؛ الأمر بسيط للغاية إذا كانت لدَيك مخيلة، ومن ثَم تَحبِك الأمور الثلاثة في حبكةٍ روائية واحدة. فيشعر القارئ بالحيرة والافتتان لأنه في البداية لا يعرف شيئًا عن الأمور الثلاثة، وإذا كانت القصة مُنسقةً على الوجه الأمثل، يشعر بالرضا في النهاية. ويُسَر بعبقرية حلِّ اللغز، لأنه لا يُدرك أن المؤلف قد أعدَّ الحلَّ منذ البداية، ثم ابتكر مُعضلةً تُلائمه.»
قلت: «فهمت. لقد أزلتَ المتعة من كتُبي الخفيفة المُفضلة. لن أنبهر مجددًا ببراعة المؤلِّف.»
«لديَّ اعتراض آخَر على هذه الكتب؛ أنها ليست ألمعيَّة بما يكفي، أو لا تراعي تعقيدات الحياة. ربما كان لا بأس بها منذ عشرين عامًا، عندما كان أغلب الناس يتناقشون ويتصرفون بمنطقية. ولكنهم لا يفعلون ذلك الآن. هل تُدرك يا ديك الجنون الصارخ الذي خَلَّفته الحرب في العالم؟»
رفعت ماري، التي كانت جالسةً تَحيك في ضوء المصباح، رأسها وضحكت.
ارتسمت الجدية على وجه جرينسليد. وقال: «يُمكنني التحدُّث بانفتاح معكما، فأنتما الشخصان العاقلان الوحيدان اللذان أعرفهما. حسنًا، بصفتي مُختصًّا في علم الأمراض، أنا مصدوم. لم ألتقِ أحدًا لم يُصَب بتغيُّرٍ ولو بسيطًا في عقلِه نتيجةً لما حدث خلال السنوات السبع الأخيرة. في حالة أغلب الناس، كان هذا التغيُّر جيدًا؛ فلم يعُدِ الناس راضِين بأوضاعهم الراهنة، وأصبحوا يرَون الجانب المرح من الأمور بسرعة أكبر، وأصبحوا أكثر استعدادًا لخَوض المغامرات. ولكنه، في حالة بعض الناس، جاء في صورة جنونٍ صارخ، وهذا يعني ارتكاب جرائم. والآن، كيف يُمكنك أن تؤلِّف قصصًا بوليسية عن هذا العالم الجديد بناءً على النهج القديم نفسه؟ لم تعُدِ المُسَلَّمات الحالية هي نفسها التي كانت في الماضي، ولم يعُد ذلك المؤلِّف الخبير ذو العين الثاقبة والعقل المتوقِّد يملك أرضًا راسخة يُرسي عليها دعائمه.»
لاحظتُ أن اللَّوم، في الكثير من تلك الأمور التي تعلمتُ في صغري أنها ترجع إلى الخطيئة الأصلية، أصبح يُلقى على الحرب المسكينة.
«أوه، أنا لا أشكك في اتِّباعِك للمذهب الكالفيني. الخطيئة الأصلية دائمة الوجود، وجاءت الحضارة لكي تُجبِرها على طأطأة رأسها، ولكنها عادت الآن لترفعها من جديد. ولكنها ليست الخطيئة الوحيدة. إنه تَفَكُّك آلية المنطق البشري، تفسخٌ عامٌّ لجميع أوصاله. الغريب في الأمر أنه على الرغم من تكرار الأحاديث عن صدمة القصف، فإن نسبة الإصابة بها بين الرجال الذين شاركوا في الحرب تقِلُّ عن غيرهم. وأكثر مَن يُعانون من هذه الصدمة هم أبناء الطبقات الاجتماعية التي تهربت من المشاركة في الحرب — وترى ذلك جليًّا في أيرلندا. أصبح على جميع الأطباء حاليًّا أن يكونوا مُلمِّين بالأمراض العقلية ولو قليلًا. وكما قلتُ سابقًا، لم تعُدِ المُسَلَّمات هي نفسها، وإذا كنتَ تريد قراءة قصص بوليسية لا تبدو كخيالٍ طفولي، سيكون عليك أن تبتكِر نوعًا جديدًا. لا ضَير من أن تكتب قصصك الخاصة يا ديك.»
«لا، ليس أنا. أنا من هواة الحقائق دون تجميل.»
«مهلًا يا رجل، لم تعُدِ الحقائق تُعرَض كما هي. يُمكنني أن أقول لك إن …» صمت للحظات توقعتُ خلالها أن يقصَّ عليَّ قصة، ولكنه عدل عن ذلك.
وقال: «خذ كلَّ هذه الأحاديث عن التحليل النفسي مثالًا. لم يدخل عليه أي شيء جديد، ولكن بدأ الناس يهتمُّون أكثر بالتفاصيل، وأصبحوا يُجْرون الكثير من التقييمات لأنفسِهم خلال ذلك. من المؤسِف أن تُصبح الحقائق العلمية مَرتعًا للجُهلاء. ولكني أؤكد أن الذات الباطنة حقيقة مؤكدة مثل وجود الرئتَين والشرايين.»
قالت ماري: «لا يُمكنني تصديق أن ديك يملك ذاتًا باطنية.»
«بل لدَيه واحدة. إلا أن الناس الذين عاشوا حياةً كحياته تكون ذواتهم العادية خاضعة للسيطرة والالتزام بشكلٍ كامل — يزدهرون في المواقف العصيبة، كما يُقال — حتى إنه نادرًا ما يظهر العقل الباطن للعلن. ولكن، إذا تأمَّل ديك ذاته، الأمر الذي لا يفعله مُطلقًا، فسيجد بعض الجوانب الغريبة. فلنأخُذ حالتي مثالًا.» استدار ليُواجهني حتى أتمكن من رؤية عينَيه الصادقتَين ووجنتَيه البارزتَين بوضوحٍ تامٍّ في ضوء نار المدفأة الذي جعلها تبدو هائلة الحجم. «كنتُ مثلك في الماضي، ولكني أدركتُ منذ أمدٍ بعيد أني أمتلك عقلًا باطنًا من نوعٍ شديد الغرابة. لديَّ ذاكرة قوية وقدرات ملاحظة معقولة، ولكنها لا تُقارن بقدرات ذاتي الباطنة. فلنأخذ أي حدثٍ يَومي مثالًا. أرى وأسمع نحو واحدٍ على عشرين من التفاصيل، ويمكنني تذكُّر نحو واحدٍ على مائة منها، بفرض عدم وجود أي شيءٍ مُميز يُثير اهتمامي. ولكن ذاتي الباطنة ترى وتسمع كلَّ شيء، وتتذكَّر أغلبَه. كل ما في الأمر أني لا أستطيع استخدام هذه الذاكرة، لأنني لا أعلم أني أمتلِكها، ومن ثَم لا يُمكنني استدعاؤها وقتما أريد. ولكن من وقتٍ لآخر يحدُث شيء يفتح سدادة العقل الباطن، وتسيل منه بعض الذكريات. أجد نفسي أحيانًا أتذكر أسماءً لم أكن أُدرك أنني سمعتُها، وأحداثًا وتفاصيل دقيقة لم أُدرك أنني لاحظتُها بعقلي الواعي. قد تقول إنها تهيُّؤات، ولكنها ليست كذلك، فكلُّ ما تعرضه الذاكرة الباطنة حقيقي تمامًا. لقد اختبرتُ الأمر. وإذا استطعتُ أن أعثر على طريقةٍ تُمكنني من تشغيلها متى شئت، فسأكون خارقًا للطبيعة. وربما أُصبِح أفضلَ علماء العصر، فمشكلة البحث والاختبار تكمُن في أن العقل العادي لا يلاحظ بالدقة الكافية ولا يتذكَّر البيانات بالدقة الوافية.»
قلت: «مذهل. لا أظن أني لاحظتُ ذلك في نفسي. ولكن ما علاقة ذلك بالجنون الذي تقول إنه ينتشر في العالم كالوباء؟»
«الأمر بسيط. دائمًا ما كانت الحواجز بين العقل الواعي والعقل الباطن قويةً لدى البشر العاديين. ولكن الآن مع تزعزُع دعائمها، أصبحت واهية وصار العالَمان يختلطان. يُشبه الأمر حاويتَين تحتويان على سائلَين، وأصبح الجدار الفاصل بينهما باليًا ومليئًا بالثقوب ما جعل السائلَين يختلطان. والنتيجة هي الارتباك، وإذا كان السائلان من نوعٍ مُعين، تحدث انفجارات. لهذا السبب أقول إنه لم يعُد مُمكنًا أخذ علم النفس المعروف لأكثر البشر تحضرًا على أنه من المُسلَّمات. فثمة شيء ما يصعد من أعماق البدائية ليُلطخه.»
قلت: «لا أُعارضك في ذلك. لقد بالغْنا في التحضُّر، وأنا من أكبر المناصِرين لوجود بعض الهمجيَّة. أرغب في عالمٍ أبسط.»
قال جرينسليد: «لن تحصل عليه إذن.» كان حينئذٍ قد بدا جادًّا للغاية، وكان ينظر نحوَ ماري وهو يتحدَّث. «إن العالَم المُتحضر أبسط بكثير من العالم البدائي. ما التاريخ برمَّته إلا مُحاولات لتعريف الأمور، ووضع قواعد فكرية واضحة، وقواعد تعامُل واضحة، وعقوبات صارمة، يُمكننا أن نتعايش وفقًا لها. هذا من أعمال الذات الواعية. أما الذات الباطنة فشيء بدائي لا يتقيَّد بأي قواعد. وإذا ما غزا حياةً، فثمة نتيجتان حتميتان. ضعف في القوى العقلية، التي تجعل مرتبة البشر تدنو من مرتبة الآلهة. وانهيار عصبي.»
نهضتُ لأتنشَّق بعض الهواء؛ إذ كنتُ قد بدأتُ أشعر بالاكتئاب من تشخيص الطبيب لعصرِنا الحالي. لم أكن أعلم إذا ما كان جادًّا تمامًا فيما كان يقوله؛ فقد بدأ كلامَه بالحديث عن صيد الأسماك الذي كان إحدى هواياته الكثيرة. كان النهر الصغير في أرضِنا مناسبًا تمامًا للصيد بالشراشيب، ولكني استأجرتُ وآرتشي رويلانس غابة غزلان لموسم صيد الغزلان، وسيَصحبني جرينسليد ليُجرب صيد أسماك السلمون. لم تكن ثمة أسماك سلمون بحْري العامَ السابق في منطقة المُرتفعات الغربية، وبدأنا نتناقش في أسباب حدوث ذلك. كان لدَيه الكثير من النظريات، ونسِينا كلَّ شيءٍ عن عِلم النفس البشري أثناء بحثنا في عِلم نفس الأسماك الغريب. بعد ذلك، غنَّت لنا ماري؛ إذ كنتُ أعتبِر أن أي أمسيةٍ لا تُغنِّي فيها أمسية فاشلة، وفي العاشرة والنصف، ارتدى الطبيب مِعطفه الفضفاض وانصرف.
بينما كنتُ أدخن غليوني للمرة الأخيرة ذلك اليوم، جلست أفكر في حديث جرينسليد. شعرت وكأني عثرت على مرفأ مُريح، إلا أن البحر خارجه بدا ثائرًا وأمواجه مُتقلبة! تساءلت عما إذا كان التنعُّم بالراحة في هذا العالم غير المُريح يُعَد هروبًا من الواقع. ثم فكَّرتُ في أني أستحِقُّ القليل من السَّكينة؛ فقد عشتُ حياةً صاخبة. ولكن عادت كلمات ماري عن «المشي هونًا» تغزو أفكاري. واعتبرتُ أن أحوالي الحالية خير مثال على ذلك؛ فقد كنتُ راضيًا شاكرًا على نِعَمي، ولم أكن أنوي اختبار صبر القدَر بتقاعسي.
رأيتُ الخطابات التي لم أرُد عليها بعدُ موضوعةً على طاولة الردهة وأنا في طريقي إلى غرفة نومي. قلَّبتُ الخطابات بين يدَي ورأيتُ أن أغلبها فواتير وإيصالات أو منشورات دعائية. كان عنوان أحدِها مكتوبًا بخطٍّ أعرفه، وعندما نظرتُ إليه سقط قلبي فجأةً في هوةٍ سحيقة. كان الخطابُ من اللورد أرتينسويل — السير والتر بوليفانت سابقًا — الذي كان قد تقاعد من عملِه في وزارة الخارجية، ويَعيش حاليًّا في منزله في كينيت. كنا نتراسَل أحيانًا للحديث عن الزراعةِ وصيد الأسماك، ولكنِّي انتابني هاجس بأن هذا الخطاب مُختلف. انتظرتُ بضعَ ثوانٍ قبل أن أفتح الخطاب.
عزيزي ديك
أُرسِل إليك هذه الرسالة على سبيل التحذير. في خلال يومٍ أو يومَين، سيُطلَب منك، بل ستُجبَر على أن تتولَّى مهمةً عسيرة. لستُ مسئولًا عن هذا الطلب ولكنِّي على عِلم به. إذا وافقتَ على الطلب، فسيعني هذا نهاية حياتك السعيدة كمُزارع. لا أُريد أن أؤثِّر عليك بأي شكلٍ كان؛ فكل ما أُريده هو أن أُنبهك لما هو قادم حتى تكونَ مُستعدًّا ذهنيًّا وألا تؤخَذ على حين غرة. مع خالص حُبي لماري وابنكما.
كان هذا كل شيء. تحول الذعر الذي كنتُ قد شعرتُ به إلى غضب عارم. لماذا لا يتركني هؤلاء الأغبياء وشأني؟ وأثناء صعودي إلى الطابق العلوي، قطعتُ على نفسي عهدًا ألا أنحرِف عن المسار الذي حددتُه لنفسي قيد أنملة أيًّا كانت المُغريات. لقد أديتُ ما عليَّ للخدمة العامة ومصالح الآخرين، وحان الوقت لأن أهتمَّ بمصالحي الخاصة.