الفصل العاشر

تبادل الأسرار في نُزُلٍ على الطريق

كان أول ما فكرت فيه هو الذهاب إلى ماكجيليفراي لأُخبره عن خاراما الذي كنت واثقًا من أنه يخطط لأمر شيطاني. شككتُ في تورطه في بعض المؤامرات السياسية، وإلا ما الغرض من طوافه بعواصم أوروبا والإقامة في فنادق باهظة؟ ولكن بعدما أعدتُ التفكير في الأمر، قررتُ ألا أخبر الشرطة بشيء. فلم أكن أستطيع شرح ما يفعله خاراما من دون أن أشي بأمر مِدينا، وكنتُ مصرًّا على عدم فعل أي شيء من شأنه أن يُثير الشبهات حوله. ولكني حصلتُ على مذكرة من طبيبي يُوصي فيها بأن أرتاح لمدة أسبوع، فذهبت لرؤية مِدينا في صباح يوم التاسع عشر. وأخبرته بأني أشعر بتعبٍ شديد منذ بضعة أيام وأن طبيبي أمرَني بالعودة إلى منزلي والراحة في الفراش. لم يبدُ عليه السرور، فعرضتُ عليه رسالة الطبيب، وقلت بضع كلمات مبالَغ فيها، كما لو أني كاره للأمر برمَّتِه ولكني مُمزق بين رغباتي وواجبي. أظن أنه أعجبه أني عرضتُ عليه مذكرة الطبيب، كما لو كنتُ ملازمًا يطلب إجازة من قائده، فاستغلَّ الموقف على أية حال، وتظاهر بالتعاطف الشديد. وقال: «يؤسفني أنك ستغادر المدينة، فأنا أحتاجك بشدة. ولكني مستعد للتضحية في سبيل صحتك، وإن ارتحت لأسبوعٍ ستعود في كامل لياقتك. متى ستعود؟» أخبرته أني سأعود إلى لندن في اليوم التاسع والعشرين من الشهر، إذا لم يحدُث شيء. قلت: «سأعتكف. لن أكتب خطابات، أو أتلقَّى خطابات، ولن أستقبل زوارًا في المنزل، سآكل وأنام فقط. وأؤكد لك أن زوجتي ستحرُسني مثل تنين.»

بحثت، بعد ذلك، عن آرتشي رويلانس، ووجدتُه بمعنويات مرتفعة للغاية. كان قد التقى هانسن، واكتشف أن جزيرة فلاكسهولم القريبة من منبع نهر ميردالفيورد، تحتوي على مهبط جيد للطائرات. كانت جزيرة كبيرة منبسطة تتوسطها بحيرة، ولم تكن مأهولة فيما عدا مزرعة واحدة توجد عند طرفها الجنوبي. كان آرتشي يملك طائرة من طراز سوبويذ، وقال إنه يثق فيها، ورتبت الأمور معه بحيث لا يتأخر في الوصول إلى جزيرة فلاكسهولم عن اليوم السابع والعشرين، وأن يُخيم هناك بأفضل طريقة ممكنة. كانت مهمته أن يراقب خلال النهار وصول أي قاربٍ بمحرك من نهر ميردالفيورد، وإذا ما رأى ضوءًا أخضر خلال الليل، عليه أن يستكشفه. أخبرته أن يأخذ معه مؤنًا كافية، فقال إنه ليس أحمقَ لكي يُهمل في المؤن. وقال إنه ذهب إلى متجر فورتنام آند مايسون، وأنه سيأخذ معه الكثير من الكحوليات والمعلبات. وأضاف قائلًا: «خذ معك جميع ملابسك يا ديك. سيكون البرد قارسًا في تلك الأنحاء في هذا الوقت من السنة.» كما رتب أن يُرسِل هانسن برقيةً إلى ستافانجر لتجهيز زورق بمحرك للسيد براند الذي سيصل على متن السفينة البخارية القادمة من مدينة هول في يوم الثالث والعشرين.

توجهت إلى فوسي تلك الليلة مرتاح البال إلى حدٍّ ما. كنت مرتاحًا لخروجي من لندن وإلى رائحة الهواء النقي، ولفكرة أني سأقضي أسبوعًا منخرطًا في أعمال أكثر اجتماعية من مجرد الطواف في أرجاء المدينة. وجدت بيتر جون في أتم صحة وجعلَتْ أزهارُ الربيع حديقةَ الضيعة في غاية الجمال.

أخبرتُ ماري أن الطبيب أمرني بالراحة في الفراش لمدة أسبوع وأن علاجي هو الراحة.

سألتني قلقة: «ديك، أنت لستَ مريضًا، ألست كذلك؟»

«لا، على الإطلاق، مجرد وعكة بسيطة. ولكن الرواية الرسمية ستكون أني بحاجةٍ إلى الراحة لمدة أسبوع، وليس مسموحًا لأحدٍ بالاقتراب مني. أخبري الخدم بذلك من فضلكِ، وأخبري الطاهي أن يطهو طعامًا للمرضى. سأخبر بادوك بما يجري، وسيُواصل التظاهر بأنه ينتظرني حتى أتعافى.»

«يتظاهر؟»

«نعم، سوف أقضي هذا الأسبوع في النرويج، إلا إذا عارض ساندي ذلك.»

«ولكني كنتُ أظن أن الكولونيل أربوثنوت لا يزال خارج البلاد، أليس كذلك؟»

«إنه كذلك بالفعل، من الناحية الرسمية. ولكني سأتناول الإفطار معه بعد غدٍ في نُزُل «المرأة الصموت»؛ لعلك تذكُرينه، النزُل الذي اعتدنا تناول العشاء فيه الصيف الماضي عندما كنتُ أصطاد السمك في كولن.»

قالت في كآبة: «ديك، ألم يحِن وقت أن تُخبرني المزيد عما تفعل؟»

وافقتها قائلًا: «أظن أنه قد حان»، وبعد العشاء في تلك الليلة، أخبرتُها بكل شيء.

طَرَحَت الكثير جدًّا من الأسئلة، أسئلة استقصائية، فكان ذكاء ماري ضعف ذكائي تقريبًا. جلسَتْ واضعةً ذقنها على يدِها تفكر لفترة طويلة.

ثم قالت أخيرًا: «أتمنَّى لو أني التقيتُ السيد مِدينا. عمتي كلاير وعمتي دوريا تعرفانه. أنا أخشاه، أخشاه بشدة، ولكني أظن أن خوفي منه سيقلُّ لو رأيتُه ولو لمرةٍ واحدة. هذا أمر مُريع يا ديك، وأنت تقاتل بأسلحة غريبة. تكمن أفضليتك الوحيدة في أنك صلبٌ مثل خشب السنديان. كم أتمنى أن أساعدك. من الصعب عليَّ أن أجلس ها هنا انتظر والقلق عليك يُعذبني، وأن أفكر طوال الوقت في أولئك المساكين. لا يُمكنني إخراج الصبي الصغير من أفكاري. لقد استيقظتُ من نومي عدة مرات فزعة، وكنت أذهب إلى غرفة نوم الأطفال لأعانق بيتر جون. لا بدَّ أن المُربية تظن أنني مجنونة. هل ترى أن ذهابك إلى النرويج هو التصرُّف الصحيح؟»

«لا أرى سبيلًا آخر. لدَينا دليل على مكان إحدى الرهائن، ولكني لا أعلم من يكون. ولا بد أن أتتبَّع هذا الدليل، وإذا ما عثرتُ على أحدهم؛ فقد يمنحني هذا خيطًا يُوصلني إلى الآخرين.»

قالت ماري: «سيظل اثنان مفقودَين، والوقت يمر سريعًا. وما أنت إلا رجل واحد. ألا يُمكنك الاستعانة بمَن يساعدك؟ هل يمكنك الاستعانة بالسيد ماكجيليفراي؟»

«لا. لدَيه مهمة يؤديها، وإذا ما جعلته يشارك في مهمتي، سنقوِّض المهمتَين.»

«حسنًا، ماذا عن الكولونيل أربوثنوت؟ ماذا يفعل؟»

«ساندي مشغول بما فيه الكفاية، وقد عاد إلى إنجلترا، حمدًا للرب. سأعرف المزيد عن خطته عندما ألتقِيه، ولكن ثقي أنها ستكون خطة محكمة. عندما أرحل، سيواصل ساندي العمل طوال الوقت.»

«لم ألتقِ به من قبل كما تعلم. ألا يمكن أن أراه لبعض الوقت بينما أنتَ في رحلتك؟ سيكون من الرائع أن أجد من يُواسيني. ديك، ألا يُوجَد ما يمكنني المساعدة به؟ لطالما تشاركنا كلَّ شيء، قبل حتى أن نتزوَّج، وأنت تعلم جيدًا أنه يمكن الاعتماد عليَّ.»

قلت: «أعلم ذلك يقينًا يا حبيبتي. ولكني لا أعرف بعدُ كيف يمكنكِ المساعدة. إذا عرفتُ كيف يمكنكِ المساعدة، سأطلُبها منك على الفور، فأنتِ عندي أفضل من كتيبة كاملة.»

«إنه الصبي الصغير المسكين. يُمكنني تحمُّل كل شيء آخر، لكن التفكير فيه يقودني إلى الجنون. هل التقيتَ بالسير آرثر؟»

«لا، تجنبتُ لقاءه. يُمكنني تحمل لقاء فيكتور والدوق، ولكني أقسم لكِ أني لن أتمكن من النظر إلى وجه السير آرثر حتى أُسلِّمه ابنه بيدي.»

بعد ذلك نهضت ماري ووقفت فوقي كما لو كانت ملاك الولادة.

وصاحت: «ستتمكن من فعل ذلك. لا تستسلِم أبدًا يا ديك. أومِن من كل قلبي أننا سننتصِر. يجب أن ننتصر وإلا لن أتمكن من تقبيل بيتر جون مجددًا ببالٍ مرتاح. أوه، أتمنَّى … أتمنَّى لو كان بيدي شيء لأفعله.»

لا أظن أن ماري قد أُغمِضَ لها جفنٌ في تلك الليلة، وبدت في صباح اليوم التالي شاحبةً وظهرت في عينَيها تلك النظرة الشاردة الغريبة التي ظهرت فيهما عندما ودَّعتها في مدينة أميان في شهر مارس عام ١٩١٨، قبل الذهاب إلى الحرب.

قضيتُ يومًا رائعًا معها ومع بيتر جون متجوِّلَين في ضيعتنا الصغيرة. كان ذلك اليوم أحد أيام شهر أبريل التي تبدو وكأنه استعارها من نهاية شهر مايو، عندما يلتقي دفء الصيف مع بساطة الربيع وجمال ألوانه. كانت أزهار النرجس الكثيرة النامية في ظلال الأشجار شيئًا يُحمَد الربُّ عليه، وكانت ضفاف البحيرة الصغيرة سلسلةً واحدة من أزهار الحلحل الزرقاء والبيضاء، وكان كل وادٍ من أودية الغابة متألقًا بأزهار الربيع. قضينا فترة الصباح في تعميق البرك لتحويلها إلى مفرخة واحدة لأسماك السلمون الجديدة في البحيرة، وأظهر بيتر جون موهبة فذة كمهندس هيدروليكي. وأخيرًا تمكَّنَت مُربيته، التي كانت امرأة اسكتلندية في منتصف العمر من منطقة شيفيوت، من حملِه ليحصل على راحته الصباحية، وبعدما انصرفا، تركت ماري الحفر في المياه وجلست على إحدى الضفاف المكونة من الأصداف.

وسألتني: «ما رأيك بحقٍّ في المُربية؟»

قلت: «إنها أفضل ما يمكن الحصول عليه.»

«هذا ما أظنه أيضًا. أتدري يا ديك، أنا مُدققة للغاية فيما يتعلق ببيتر جون. أمنحه ساعاتٍ طوالًا من وقتي من دون أن يكون ذلك ضروريًّا. يمكن للمُربية أن تفعل كل شيءٍ أفضل مني. لا أجرؤ على تركه يغيب عن ناظرَي، ولكني واثقة من أنه يُمكنني تركه مع المُربية وبادوك لأسابيع دون أن أقلق على سلامته، والطبيب جرينسليد سيحضر على الفور في حال الاتصال به.»

وافقتها قائلًا: «بالطبع يمكنك ذلك، ولكنك تفتقدينه، مثلما أفعل أنا، فصحبتُه مُمتعة.»

قالت: «نعم، صحبته مُمتعة، ابني الحبيب.»

بعد ظهيرة ذلك اليوم، ركِبنا الخيل على مهَل في السهول، وعدتُ شاعرًا بالنشاط وكأني حصان سباق، وكنتُ جاهزًا لفعل أي شيء. ولكن في ذلك المساء، بينما كنا نسير في الحديقة قبل العشاء، عادت رغبتي في التحرُّر من تلك المهمة والعودة إلى حياتي الهادئة. وأدركتُ أن قلبي مُعلق بأرضي المبهجة، وأخافتني فكرة تعلُّقي الشديد بها. أظن أن ماري فهمت ما أشعر به؛ فقد أصرَّت على التحدث عن ديفيد واركليف، وقبل أن أخلد إلى الفراش، ذكرتني بذلك الغضب الصادق الذي يُعَد أفضل مقوٍّ للعزيمة. وراجعَت معي خططي بحرصٍ شديد. في يوم الثامن والعشرين، من المُفترَض أن أتمكن من العودة إلى المنزل، ولكن إذا داهمَني الوقت، سأرسل لها برقية وأتجه مباشرةً إلى لندن. وكان يجب الحفاظ على التظاهُر بأني طريح الفراش. ومراعاةً للأمن، كنتُ سأوقع كل برقيةٍ أرسلها باسم كورنيليوس.

في وقتٍ مبكر للغاية من صباح اليوم التالي، وقبل أن يستيقظ أحدٌ بفترة طويلة، أدرتُ السيارة الفوكسهول الكبيرة بمساعدة بادوك، وأخذت معي القليل جدًّا من الأمتعة، وتسلَّلنا بالسيارة بهدوءٍ في الطريق. كان بادوك، الذي يُمكنه قيادة السيارة، سيعود إلى المنزل في حوالي العاشرة، ويُخبر سائقي بأني أمرتُه بأن يأخذ السيارة الفوكسهول إلى أوكسفورد لأني أعرتُها إلى أحد أصدقائي لأسبوع. قدتُ السيارة مسرعًا إلى خارج الطرق الصامتة عبر التلال وعلى الطريق الروماني العظيم الذي يُشبه شريطًا مُمتدًّا عبر المُرتفعات. كانت الساعة قد تخطَّت السادسة بقليل عندما وصلت إلى نُزُل «المرأة الصموت» الذي كان رابضًا كبرج مُراقبة على حافة أحد المنحدرات عند تقاطُع أربع طرق. كان الدخان يتصاعد من مداخن النزُل، فخمنتُ أنَّ ساندي قد أمر بإعداد إفطار مُبكر. بينما كنتُ أوقف السيارة في أحد المباني المُلحقة بالنزُل، ظهر ساندي حاملًا حقائب قماشيةً مُرتديًا معطفًا صوفيًّا، وبدا مظهره مختلفًا عما اعتدت، ولوحت الشمس بشرته بصورة غريبة.

قال ساندي: «آمُل أنك جائع. صاحب النزُل رائع! إنه يعرف كيف يفتح شهية المرء. لقد طلبتُ بيضًا، وكلاوي، وسجق، ولحمًا باردًا، وبدا وكأنه كان يتوقع هذا الطلب. نعم. هذا هو مقر قيادتي حاليًّا، ولكن مقر القيادة العامة المُتقدِّم في مكانٍ آخر. بالمناسبة يا ديك، ثمة أمر آخر يجدُر بي أن أُنبهك إليه، اسمي هو: تومسون، ألكسندر تومسون، وأنا ناقد مسرحي يقضي عطلة عيد فصح متأخرة.»

كان الإفطار جيدًا مثلما قال ساندي، وبعد المضي بالسيارة في الهواء الطلق ورؤيته جالسًا أمامي، بدأتُ أشعر بحِملٍ ينزاح عن صدري.

فقلت: «وصلتني خطاباتك، ولكني أيقنتُ أن معرفتك بأسماء الخيول الفائزة في السباقات سيئة للغاية. كنتُ أظن أن النبلاء لا يصلحون لأن يكونوا نبلاء من دون هذا النوع من المعلومات.»

«أنا استثناء من هذه القاعدة. هل تصرفتَ بناءً على ما ورد فيها؟»

«أخبرتُ مِدينا أني قطعتُ علاقتي بك إلى الأبد، وأني لا أريد أن أراك ثانيةً. ولكن لماذا طلبتَ منِّي فعل ذلك؟»

«لأني كنتُ أريد أن أصرف انتباهه عني، وفكرت أنه إذا ما جعلناه يظن أننا تعاركنا وأنني رحلت إلى الأبد، فسوف يتركني وشأني. لقد كان يحاول جاهدًا أن يَغتالني.»

صحتُ قائلًا: «يا إلهي! متى حدث ذلك؟»

قال ساندي بهدوء وهو يَعُد على أصابع يده: «أربع مرات. مرة قبل أن أغادر لندن. أوه، لقد غادرتُ لندن بأعجوبة. وثلاث مرات في باريس، آخِرها منذ أربعة أيام. أظن أنه توقف عن مُراقبتي حاليًّا، فهو مُتيقن من أني قد أبحرتُ من مارسيليا أول أمس.»

«ولكن بحق السماء لِمَ يريد قتلك؟»

«حسنًا، لقد صدرت عني بعض التعليقات غير المناسبة عندما كنا نتناول العشاء في نادي الخميس. وهو يعتقد أني الرجل الوحيد على وجه الأرض الذي يُمكنه كشف أمره، ولن يغمض له جفن حتى يتأكد من أني خرجت من أوروبا ويقتنع بأني لا أشك في أمره. أرسلت إليك هذه الخطابات لأني كنتُ أريد أن يتركني وشأني؛ فقد كنت منشغلًا للغاية، ولا شيء يضيع الوقت مثل تفادي الاغتيال. ولكن كان هدفي الرئيسي هو حمايتك. ربما لا تُدرك ذلك يا ديك، ولكنك ظللتَ طوال ثلاثة أسابيع تسير على شفا هاوية وإحدى قدمَيك تكاد تزل لتسقط فيها. كنتَ عرضةً لخطر كبير، ولم أشعر براحةٍ في حياتي مثل التي شعرتُ بها عندما رأيتُ وجهك الكئيب العجوز هذا الصباح. لم تُصبح آمنًا من الخطر إلا بعدما اعتبر أن صداقتنا قد انتهت وأني انزحتُ عن الطريق وأنك أصبحتَ عبدَه الأعمى المطيع.»

قلت: «هذا صحيح. لم يكن يُوجَد عبدٌ يُشبهني منذ رواية كوخ العم توم.»

«جيد. هذا رائع، فهذا يمنحنا برج مُراقبةٍ داخل قلعة العدو. ولكننا لا نزال في بداية معركة كبيرة، ولا أحد يعرف مسارها. هل قيمتَ شخصية مِدينا؟»

«جزء بسيط منها فقط. هل قيَّمتَها أنت؟»

«ما زلتُ أحاول. فهو أكثر شخصية مُعقدة صادفتها في حياتي. ولكن علينا الآن أن نوحِّد معارفنا. هل أبدأ أنا؟»

«نعم. ابدأ بعشاء الخميس. ما الذي أثار غضبك حينئذ؟ أعتقد أن ثمة شيئًا قاله أغضبك.»

«يجدر بي أن أبدأ من قبل ذلك. لقد سمعت الكثير عن مِدينا في جميع أنحاء العالم، ولكني لم أتمكن من لقائه أبدًا. كان الجميع يكيلون له المديح، ولكن كان ينتابني دائمًا شعور غريب حيال الرجل. لقد أخبرتك عن لافاتر سابقًا. حسنًا، لم يكن ثمة شيء أثار غضبي حينئذٍ سوى شعوري بأن تأثيره على صديقي كان سيئًا. لذا، بدأتُ باستقصاء الأمور، وكما تعلم، أمتلك إمكانات في اكتشاف الأمور لا يمتلكها أغلب الناس. انتابني الفضول لأن أعرف ماذا كان يفعل خلال الحرب. تقول الرواية المعروفة إنه ضل طريقه خلال العامَين الأولَين من الحرب في آسيا الوسطى التي ذهب إليها في بعثة عِلمية، ثم أصبح بعد ذلك يعمل مع الروس، وأتم عملًا مهمًّا مع دينيكين. استقصيتُ صحة هذه القصة واكتشفت أنه ذهب إلى آسيا الوسطى بالفعل، ولكنه لم يقترب من أي جبهة قتال ولم يقترب من دينيكين ولو لمسافة ألف ميل. هذا ما كنتُ أعنِيه عندما قلتُ لك إني أعتقد أن الرجل كاذب كبير.»

«لقد جعل الجميع يُصدقون هذه القصة.»

«هذا هو مربط الفرس. لقد جعل العالم بأسره يصدق ما أراد. لهذا السبب، لا بد أنه شخص غير عادي، عبقري في الدعاية. كان هذا استنتاجي الأول. ولكن كيف تمكن من تحقيق ذلك؟ لا بد أنه مُنظم للغاية، ولكن لا بد من وجود شيءٍ آخر، وهو تلك الشخصية التي يمكنها أن تنشر نفسها مثل الهواء، أو مثل تيار كهربائي لا يضعف مهما طالت المسافة. ولا بد أنه يمتلك قدرةً فذةً على التنويم المغناطيسي. لقد أُجرِيَت دراسة عن هذا في الشرق، واكتشفت أننا هنا لا نعرف إلا القليل عن سيطرة النفس على النفس. ولطالما آمنت، وحتى يومِنا هذا، أن هذا هو السحر الحقيقي. هل تذكر أني قلتُ شيئًا من هذا القبيل في عشاء الخميس؟»

أومأت برأسي أن نعم. «أظن أنك قلتَ ذلك لتختبر ردةَ فعله، صحيح؟»

«نعم. ولم يكن تصرُّفي هذا حكيمًا، فكان من السهل أن أجعله يتوخى الحذر. ولكني كنتُ محظوظًا أكثر مما أستحق، واستخرجتُ منه اعترافًا مذهلًا.»

«الاقتباس اللاتيني؟»

«الاقتباس اللاتيني. Sit vini abstemius qui hermeneuma tentat aut hominum petit dominatum. كدت أُصاب بحالة هستيرية عندما سمعته. اسمع يا ديك. كنتُ دومًا مهووسًا بالغوامض، وعندما كنتُ أدرس في جامعة أوكسفورد، كنت أضيع وقتي عليها بدلًا من المواد الدراسية. صحيح أني حللتُ ثالثًا ضمنَ أوائل الطلبة، ولكني اكتسبتُ الكثير من المعارف غير المعتادة. كان مايكل سكوت من بين الموضوعات التي درستُها. نعم، الساحر، ولكنه لم يكن ساحرًا، بل كان مفكرًا مبدعًا وصبورًا للغاية. كان حدوديًّا مثلي، وكنت قد بدأت كتابة سيرته الذاتية. واصلتُ دراسته، وعندما كنتُ أعمل في سفارتنا في باريس، كنت أقضي وقتَ فراغي في تقصي أي معلومات عنه في مكتبات أوروبا. نُشر أغلب أعماله في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر، وكانت مُملةً للغاية، ولكن بعض أعماله كانت لا تزال مخطوطاتٍ لم تُنشر، ولطالما أملتُ في اكتشاف المزيد عنه؛ فقد كنتُ على يقينٍ من أن مايكل سكوت الحقيقي أكبر بكثيرٍ من المترجِم والمُعلق الذي نعرفه. كنتُ مؤمنًا بأنه علَّم الإمبراطور المجنون فرديناند بعض الأشياء الغريبة، وأن تعاليمه تتمحور حول كيفية سيطرة نفسٍ بشرية على أخرى. وتبين في نهاية المطاف أني مُحق. فقد عثرت على أوراق بخطِّ اليد في مكتبة فرنسا الوطنية كنت واثقًا من أنها تعود إلى مايكل. لعلك تذكر أن أحد أشهر أعماله هو كتاب «علم الفراسة»، ولكنه مجرد نقل عن أرسطو. كانت هذه المخطوطات جزءًا من كتاب «علم الفراسة» أيضًا، ولكنها كانت مختلفة عن الكتاب تمامًا، ففيها يدعي أنه يُقدِّم جوهر «سر الأسرار»، وهذا أمر يطول شرحه، وتعاليم طائفة «المعالِجين»، مع تعليقات مايكل عليها. كانت عبارة عن دليل للسيطرة الروحانية، وأؤكد لك أنها تناسِب العصر الحالي تمامًا، كما أنها أكثر تقدمًا بكثيرٍ من علوم المُحللين النفسيين الحاليين الأغبياء. حسنًا، جاء اقتباس مِدينا من هذه المخطوطات؛ فقد استرعَت انتباهي كلمة hermeneuma النادرة الاستخدام بمجرد أن تفوَّه بها. أثبت هذا لي أن مِدينا كان تلميذًا لمايكل سكوت، ومِن ثَم ظهرت لي مكنونات نفسه واضحةً جلية.»

«هو من كشف نفسه لك إذن، ولم تكشفه أنت.»

«بل أنا الذي كشفتُه. هل تذكر عندما سألتُه إن كان يعرف المرشد الروحي الذي كان يعيش عند قاعدة مَمرِّ شانسي وأنت في طريقك إلى كيكاند؟ كان طرح هذا السؤال خطأً فادحًا، لهذا السبب كان يُحاول أن يمحوني من على وجه الأرض. فقد كان هذا الاقتباس من المُرشد الروحي الذي علَّمه أغلب فنونه.»

سألته. «هل يُدعى هذا المرشد الروحي خاراما؟»

حدق ساندي في وجهي كأنه رأى شبحًا.

ثم قال: «بحق السماء كيف عرفت ذلك؟»

«ببساطة لأني قضيتُ معه ومِدينا ساعةً كاملة منذ بضع ليالٍ.»

«يا للهول! خاراما في لندن! ديك، يا إلهي، هذا رائع. أسرع، أخبرني بكل ما حدث بالتفصيل المُمل.»

أخبرته بكل ما تمكنت من تذكره، وبدا وكأنه نسي مخاوفه وظهر الرضا على وجهه. وقال: «هذا أمر على جانب كبير من الأهمية. هل تُدرك المغزى من حديث مِدينا؟ إنه يريد فرض سيطرته على هؤلاء المساكين الثلاثة، ولكي يتمكن من ذلك نُصِحَ بأن يؤكد سيطرته في بيئة مُماثلة للتي عاشوا فيها خلال حياتهم السابقة. وهذا يمنحنا فرصةً ذهبية لتتبُّعهم. ولا يمكن لأحد أن ينهي تلك السيطرة إلا مَن فرضها في المقام الأول! كنتُ أعرف ذلك مسبقًا، ولكني لم أكن واثقًا مما إذا كان مِدينا يعرف ذلك أم لا. مِن المُهم للغاية أني اكتشفتُ ذلك.»

رجوته قائلًا: «أنهِ قصتك. أريد أن أعرف ماذا كنتَ تفعل في الخارج؟»

«واصلتُ دراساتي في مكتبة فرنسا الوطنية، واكتشفت صحة ما توقعته، وهو أن مِدينا، أو شخصًا مِثله، قد وصل إلى مخطوطة مايكل سكوت وحصل على صورة طبق الأصل منها. وسَّعتُ نطاق بحثي، فلم يكن مايكل هو الوحيد الذي كان يعمل في هذا المجال، وإن كان أبرزَهم. يا إلهي، ديك، من الغريب أن نُضطر إلى التنقيب بحثًا عن عَونٍ في ركام العصور الوسطى. عثرتُ على شيءٍ ما، ليس على جانبٍ كبير من الأهمية، ولكنه شيء مُفيد على الأقل.»

«ثم ماذا؟»

«كنتُ أتقصى ماضي مِدينا طوال الوقت، ولم يُثمر هذا عن الكثير، وقد أخبرتُك بأغلب ما توصلتُ إليه. ثم ذهبت للقاء رام داس؛ لعلك تذكر حديثي معك عنه. كنتُ أحسبه في ميونخ، ولكني وجدتُه في وستفاليا يُراقب رجال الصناعة الألمان. لا تذهب لقضاء عطلتك في ألمانيا أبدًا يا ديك، إنه بلد كئيب وغير مريح. كنتُ مُضطرًا للقاء رام داس؛ فقد تصادف أنه شقيق خاراما.»

سألته. «ما مدى أهمية شخصٍ مثل خاراما؟»

أجابني ساندي قائلًا: «فيما يتعلق بالمعرفة النظرية فهو لا يُضاهى، ولكن على مستوى المُمارسة العملية يأتي في المرتبة الثانية»؛ وكان هذا بالضبط ما قاله مِدينا.

«أخبرني رام داس بأغلب ما أردتُ معرفته. ولكنه لا يعرف أن شقيقه في أوروبا. بل وأظن أنه يَحسبه قد مات. هذا كل ما تحتاج إلى معرفته حاليًّا. هيا يا ديك، قصَّ عليَّ كل ما حدث معك بدقة.»

وصفتُ له، بقدْر الإمكان، التغيُّرَ التدريجيَّ في أسلوب تعامل مِدينا معي من الصداقة إلى التملُّك. وأخبرتُه أنه بدأ يتحدث معي بانفتاح، كما لو كنتُ تابعًا له، وأخبرتُه بتلك الأمسية الاستثنائية في شارع هيل عندما التقيتُ والدته.

صاح ساندي مذهولًا: «والدته!» وجعلني أقص عليه جميع التفاصيل عدة مرات؛ الصفعة على الوجه، والبصق، وفقداني الوعي في نهاية المطاف. بدا وكأنه يستمتع بالقصة كثيرًا. ثم قال: «رائع. إنك لم تؤدِّ عملًا بهذه الكفاءة من قبلُ أيها المُسن.»

قلت: «لقد عثرتُ على الغازلة الكفيفة على أية حال.»

«نعم. كنتُ قد خمنتُ ذلك إلى حدٍّ ما. لم أذكر لك ما سأقوله تاليًا، ولكن عندما دخلتُ ذلك المنزل في جوسبل أوك متنكرًا في هيئة الكهربائي، عثرتُ على عجلةِ غزلٍ في الغرفة الخلفية، وكانوا يحرقون فحمًا نباتيًّا في المدفأة. حسنًا، هذه هي النقطة الأولى.»

قلت: «أظن أني بصدد اكتشاف النقطة الثانية»، وأخبرته بالحوار الذي سمعتُه يدور بينهما حول الشخص «الثاني» وحول إرسال «الطبيب» إلى مكان ما، وكيفية اكتشافي أن الطبيب نيوهوفر في طريقه اليوم إلى جزيرة سكارسو. قلت: «هذا هو خيطنا الموثوق الأول، وأظن أنني يجِب أن أتبعه.»

«نعم. ما الذي فعله؟»

«سأسافر مساء اليوم على متن الباخرة جودرون، وسأتبع الرجل حتى أكتشف ما يُخطط له. يجدُر بي أن أتحرك وفقًا للمعلومات المحدودة التي نمتلكها.»

«أنت محق. ولكن هذا يعني أنك ستغيب لفترة طويلة عن لندن، والشخص الثاني مجرد شخص واحد من بين ثلاثة أشخاص.»

قلت: «سأغيب لأسبوع واحد فقط. لقد حصلتُ من مِدينا على إجازة مرضية لمدة أسبوع، ومن المُفترَض أني طريح الفراش في فوسي، ولا تسمح ماري لأحد بزيارتي. ورتبتُ مع آرتشي رويلانس أن يُقلَّني بطائرة في يوم الثامن والعشرين ويُعيدني إلى الوطن. لا أملك الكثير من الوقت، ولكن يمكن لرجل نشط أن يفعل الكثير خلال أسبوع.»

صاح: «أحسنت! لقد عادت روحك المُغامِرة مجددًا!»

«هل توافق على خطتي؟»

«بالطبع. وبغض النظر عما قد يحدُث، هل ستعود إلى مِدينا في يوم التاسع والعشرين؟ هذا لا يترك لنا سوى ستة أسابيع لإتمام باقي المهمة.»

قلت في كآبة: «بل أقرب إلى خمسة أسابيع»، وأخبرته عن الكيفية التي علمتُ بها أن العصابة تنوي تصفية أعمالها بحلول منتصف الصيف، ولهذا السبب قدَّم ماكجيليفراي تاريخ تحرُّكِه عشرة أيامٍ للقبض عليهم. «لعلك تُدرك الوضع الذي أصبحنا فيه. يجب عليه أن يقبض على جميع أفراد العصابة في الوقت نفسه، وعلينا أن نُحرِّر الرهائن الثلاث جميعهم، إن استطعنا، في الوقت نفسه. ويجب أن يتمَّ تحرير الرهائن في أسرع وقتٍ وإلا قد تعرف العصابة ما نُخطط له. لهذا السبب، إذا كان ماكجيليفراي سيضرب ضربته في العاشر من يونيو، علينا أن نكون مُستعدِّين بحيث لا تسبق ضربتنا التاسع من يونيو، وبالطبع، ليس بعده.»

قال: «فهمت»، ثم صمت قليلًا. ثم قال: «هل ثمة أي شيء آخر تريد أن تُخبرني به؟»

اعتصرتُ ذاكرتي فتذكرتُ أوديل. فدَوَّنَ اسم الملهى الليلي الذي رأيتُ فيه ذلك الخادم الذي لم أتمكن من تكوين انطباعٍ عنه. وذكرتُ أني طلبت من ماكجيليفراي أن يجمع معلوماتٍ عنه.

سألني قلقًا: «هل أخبرت ماكجيليفراي بأكثر من اللازم؟» وبدت الراحة على وجهه عندما أخبرتُه أني لم أذكر له موضوع مِدينا مطلقًا.

فقال أخيرًا: «حسنًا إذن، إليك ما سنفعله. ستسافر لمدة أسبوع بحثًا عن الدليل رقم اثنين. أنا على يقينٍ من أننا عثرنا على الدليل رقم واحد. أما الدليل رقم ثلاثة — ذلك الهراء عن حقول جنة عدن واليهودي ذي اللحية المصبوغة في متجر التُّحف في ماريلبون — فلا يزال يُراوغنا. وبالطبع، لم نعرف أي شيءٍ بعدُ عن الرهائن الثلاث. هناك الكثير مما لا يزال علينا فعله. كيف تتخيَّل الأمر برمَّته يا ديك؟ هل تفكر في أن الرهائن الثلاث، الفتاة، والشاب، والصبي، محبوسون في مكانٍ ما يحرسه أتباع مِدينا؟ هل تتخيل أننا إذا عثرنا على الأماكن التي تُخفيهم فيها العصابة، سنكون قد أتممْنا مهمتنا؟»

«هذا ما فكرت فيه.»

هز رأسه نفيًا. وقال: «الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك. ألم يُخبرك أحد من قبل أن أفضل طريقة لإخفاء شخصٍ ما هي سلب ذاكرته؟ ألم تسأل نفسك لماذا يكون من الصعب العثور على شخصٍ فَقَدَ ذاكرته؟ تنشر الصحف باستمرار قصصًا شبيهة بتلك. حتى المشاهير، إذا ما فقدوا ذاكراتهم وهاموا على غير هدًى، لا يُعثَر عليهم إلا بمحض الصدفة. يرجع ذلك إلى أن الشخصية البشرية تتحدَّد بعاداتها وعقلها أكثر بكثيرٍ من مظهرها. ويعني فقدان الذاكرة فقدان جميع المُحدِّدات الحقيقية للشخصية، ويتغير شكل الشخص بناءً على ذلك. لقد سلب مِدينا هؤلاء المساكين الثلاثة ذاكراتهم، وتركهم يَهيمون على غير هدًى مثل المُشردين. ربما كان ديفيد واركليف في هذه اللحظة يلعب في أحد مصارف لندن مع عشراتٍ آخرين من أطفال الشوارع، وقد لا يتمكن والده من التعرُّف عليه وسطهم. وربما أصبح ميركوت عاملًا في ميناءٍ أو معاونًا بحريًّا، ولن يُمكنك التعرُّف عليه إذا ما التقيتَه، على الرغم من جلوسك أمامه في ردهة الكلية كلَّ ليلةٍ طوال عام كامل. وربما أصبحت الآنسة فيكتور إحدى فتيات الجوقة أو بائعة قبعات أو إحدى مرافقات الرقص. انتظر لحظة. هل رأيتَ أوديل في أحد الملاهي الليلية؟ ربما كان لهذا علاقة بمهمتنا.» رأيتُ عينَيه تشردان في تفكير عميق.

فقلت: «ثمة أمر آخر نسيت أن أخبرك به. خطيب الآنسة فيكتور هنا، يقيم في فندق كارلتون هاوس تيراس. إنه من عائلة توربين، وكان ضمن جنود فرقتي في الجيش؛ ماركيز دو لا تور دو بين.»

دَوَّنَ ساندي الاسم. وقال: «خطيبها. قد يُفيدنا. ما انطباعك عنه؟»

«شجاع كأسد، ولكنه يحتاج إلى مَن يُراقبه، فهو يُحب التفاخر قليلًا.»

خرجنا بعد الإفطار وجلسنا في تعريشة تُطل على وادٍ فرعي غير عميق يمتد حتى جداول ويندراش القادمة من المرتفعات. كانت أصوات الصباح بدأت تصلنا من القرية الصغيرة في قاع الوادي، اهتزاز عربة، صوت «طَرقات» مطرقة حداد، ضجيج أطفال يلعبون. سيحل موسم شهر مايو لصيد الأسماك خلال أسبوعين، وأزهرت جميع أشجار القصاص والرباطية الدرهمية الأزهار. لم يتحدث ساندي، الذي ظلَّ بعيدًا عن إنجلترا لسنوات، لفترة طويلة، ولكنه كان غارقًا في هدوء المكان المُعبق برائحة الزهور. ثم قال أخيرًا: «يا للمسكين. لا يملك منظرًا مثل هذا ليقع في حُبه. إنه لا يشعر بشيءٍ سوى الكراهية.»

سألته عمن يقصد، فقال: «مِدينا.»

«أحاول فهم شخصيته. لن يُمكنك قتال رجلٍ إلا إذا فهمتَ شخصيته، وأشعر بالتعاطف معه إلى حدٍّ ما.»

«لا يُمكنني القول إني أتعاطف معه، ومن المؤكد أني لا أفهم شخصيته.»

«هل تذكر عندما قلتَ لي إنه لا يُوجد أي غرور في نفسه؟ كنتَ مخدوعًا تمامًا. إنه مغرور لدرجة الهذيان.»

واستطرد قائلًا: «هكذا رأيته. بادئ ذي بدء، ثمة عِرق لاتيني عتيق فيه، لكنه أيرلندي في الأساس، وهذا عادةً لا يكون خليطًا جيدًا. إنه أيرلندي مُقتلَع من جذوره، مثل أولئك الذين هاجروا إلى أمريكا. أعتقد أنه تشَرَّب من تلك المرأة المريعة — لم أُقابِلها في حياتي، ولكن يمكنني تخيلها بكل وضوح، وعلى يقينٍ من أنها مريعة — تشَرَّب منها تلك الكراهية المتَّسمة بالحقد للأشياء الخيالية؛ إنجلترا الخيالية، الحضارة الخيالية، ما يُطلَق عليه حُب الوطن. لا يُوجَد حُب في ذلك. ولكنهم يظنون أن ثمة حبًّا، ويتوقون إلى بساطة الماضي، وعجلات الغزل وحرق الفحم النباتي والتحدُّث بلغةٍ غريبة، ولكن كل هذا لا معنى له. ثمة الكثير من الأشخاص المُحترمين في أيرلندا، ولكن الأناس من نوعية المُجتثين من جذورهم تلك يتوقون بشدة إلى أمور لا تجِدها إلا في فجر التاريخ، كما أنهم تافهون وقساة مثل الآلهة الخيالية المذكورة في أساطيرهم. كل شيء يبدأ بتلك الكراهية الراسخة.»

«أتفق معك فيما يتعلق بالسيدة العجوز. إنها تُشبه الليدي ماكبث.»

«ولكن سرعان ما تتحول الكراهية إلى غرور. فإذا غزت الكراهية قلبك، تبدأ باحتقار الجميع، وعندما تحتقر الجميع فإنك تبالغ في تقدير النفس التي تحتقر الجميع. هكذا أرى الأمر، ولكن تذكر، لا تزال جوانب كثيرة من شخصيته غامضة لي، وليس هذا إلا تحسُّسًا لطريقي نحو فهمها بالكامل. يمكنني تخيُّل مِدينا في طفولته — لا أعرف البيئة التي نشأ في كنفها — مُدركًا لمواهبه العظيمة ووسامته الهائلة، وظل المُحيطون به يُطرون عليه حتى أصبح يظن نفسه إلهًا. لا تموت كراهيته، بل تتحول إلى عجرفة وغرور هائلَين، يَظهران، بالطبع، في صورة كراهية. ثم يكتشف في سنٍّ مبكرة قدرته الاستثنائية على التنويم مغناطيسيًّا؛ قد تسخر من ذلك؛ فقد تصادف أنك منيع ضد التنويم المغناطيسي، ولكن العالَم بأسره يعتبرها قدرة عظيمة. ويكتشف أمرًا آخَر؛ أنه يمتلك جاذبية استثنائية في أعين الناس ويمكنه أن يجعلهم يؤمنون به. لقد امتلك بعضُ أسوأ المحتالين في التاريخ هذه الموهبة. والآن، لنَعُد إلى غروره. إنه يجعله راغبًا في مزاولة لعبته على أعلى مستوًى من الصعوبة. إنه لا يريد أن يكون ملكًا ضِمن منبوذين، بل يرغب في أن يسيطر على أكثر الأشياء الغريبة عنه، الأشياء التي يكرهها وفي الوقت نفسه يُعجَب بها مرغمًا ومتألِّمًا. لذا، يهدف إلى غزو مركز كل هذا، الجزء الأصح من مجتمعنا. وفوق كل هذا يريد أن يحتفي به الجميع وأن يكون جزءًا من أرفع الدوائر الاجتماعية.»

قلت: «لقد نجح في ذلك بالفعل.»

«لقد نجح، وهذا أكبر دليل نملكه على مهارته الهائلة. إن كل شيء فيه متميز؛ ملابسه، أسلوبه، تواضعه، إنجازاته. لقد حول نفسه إلى صياد طرائد مُمتاز. هل تعرف لِمَ يُمكنه استخدام البندقية بمهارةٍ يا ديك؟ بسبب الإيمان، أو القَدَر إن شئتَ القول. غروره لا يسمح له بأن يعتقِد أنه قد يُخطئ هدفه. لكنه يُسيطر على نفسه جيدًا. إنه يعيش حياة النسَّاك، ورغم أن النساء يعشقنه، فإنه لا يُعيرهن أي اهتمام. لا تُوجَد أي شهواتٍ جسدية في شخصيةٍ من هذه النوعية. ثمة شغف واحد يتملَّكه يُنحِّي كل شيءٍ آخر جانبًا؛ ما أطلق عليه صديقنا مايكل سكوت «الرجل المُهيمن».»

«فهمت. ولكن كيف تُفسر الجانب الآخر من شخصيته؟»

«إنه يتعلَّق بالكامل بالكراهية الموروثة. بادئ ذي بدء، يجب بالطبع أن يكون ثريًّا، ومن ثَم فهو يكسب المال بالطريقة التي يعرفها ماكجيليفراي. ثانيًا، يريد أن يُنشئ جماعةً من العبيد المُخلِصين. وهنا يأتي دورك يا ديك. لطالما كانت هناك تلك الكراهية اللاإنسانية تختفي خلف غروره. إنه يريد الغزو بهدف التدمير، فالدمار هو أفضل غذاء لغروره. ستجد الأمر نفسه متأصلًا في حياة الطغاة الشرقيِّين، فعندما يطمح الإنسان لأن يكون إلهًا، يُصبح تجسيدًا للشيطان.»

قلت في حزن: «إنها فرضية صعبة.»

«وقد تكون فرضية مُستحيلة، ولكن بشرطٍ واحد. إنه مُعرَّض دائمًا لخطر فضح نفسه بسبب غروره. هل قرأتَ الفولكلور الأيرلندي القديم؟ إنه رائع، ولكن ستجد دائمًا شيئًا خياليًّا وسخيفًا يُشوِّه أجمل قصصه. إنهم يفتقدون ذلك الحسَّ السليم الجاد الذي تجده في الملاحم النوردية والإغريقية بالطبع. إنه يمتلك هذا العنصر الفظيع في دمِه. لهذا السبب أرسل تلك القصيدة التي تتحدث عن الرهائن الثلاث التي بدأت تَسلسُل الأحداث التي أوصلتُك إليه. وأمَلُنا هو أن يؤدي به غروره إلى المزيد من الطيش، وإن كنتُ أظن أنه أمل واهٍ.»

قلت: «لا أعلم شعورك حيال ذلك، ولكنِّي أكره هذا الرجل كراهيةً مُبرَّرة. إنني أتوق إلى حياةٍ هادئة، ولكني أُقسِم لك إني لن أهدأ حتى أردَّ له الصاع صاعَين.»

قال ساندي في أسف: «لن تتمكَّن من فِعل ذلك أبدًا. لا تدعنا نُطري على أنفسنا ونقول إننا سنقضي على مِدينا. لن نفعل. ذات يومٍ قال لي رجل حكيم جدًّا إن المرء غالبًا ما يُمكنه تحقيق النجاح في هذه الحياة إذا لم يكن راغبًا في الانتصار. في حالتنا هذه، هدفنا الوحيد هو النجاح. نريد تحرير الرهائن. نصر لا يُمكننا أن نأمُل أبدًا في تحقيقه. والسبب في ذلك، يا رجل، أننا حتى وإن حققنا كلَّ ما نهدف إليه، فلن يُمكننا ربط مِدينا بكلِّ ما حدث. إن أتباعَه مُخلصين؛ فقد سرق أرواحهم وأصبحوا يعملون تحت إمرتِه دون تفكير. لنفترِض أن ماكجيليفراي قبضَ على العصابة الكبيرة بالكامل ولفَّ حبلَ المشنقة حول أعناقهم. لن يُوافق أيٌّ منهم على أن يكون شاهد ملك ويشي بمِدينا. لماذا؟ لأن لا أحد منهم يعرف أي شيءٍ يُدينه. إنهم عملاؤه غير الواعِين، ومن المُحتمل جدًّا أن أغلبهم لم يرَه من الأساس. وثِق أن حساباته المصرفية مرتبة بمهارة فائقة بحيث لا يمكن لأحدٍ أن يحصل منها على أي شيء.»

قلتُ بعناد: «لا فارق، أشعر بأني سأستطيع إفساد خُططه.»

«أكاد أجزم بأننا قادرون على إثارة الشبهات حوله، ولكني أعتقِد أنه أقوى منَّا بكثير. سيتقدَّم في مسيرته المِهنية العظيمة أكثر، وربما يُصبح رئيسًا للوزراء، أو نائب الملك في الهند — ويا لها من فرصة ثانية ستسنح له! — وينشر دواوين شعرية صغيرة راقية، كاملة وحزينة بقدْر مجموعة قصائد فتى شروبشاير. في الواقع، عادةً ما يكون التشاؤم أحد أشكال الغرور.»

كان منتصف النهار هو الموعد الذي يجب أن أنصرف فيه، إذا ما أردتُ أن أصل إلى مدينة هول في تمام السادسة. سألتُ ساندي عن اقتراحه لما يجدُر بي فِعله تاليًا، فقال إنه لا يعرف. ثم قال: «وضعي الحالي سيِّئ للغاية. إذا ما عرف مِدينا أني في إنجلترا، سيحلُّ الخراب؛ خرابٌ لك ولي. يجب أن يختفي السيد ألكسندر تومسون. يجب أن أتواصل مع ماكجيليفراي بطريقةٍ ما لأسأله عما إذا كان قد توصَّل إلى أي شيءٍ بخصوص أوديل. إني أتخيل أوديل. ولكن لن يكون ثمة ما يمكن فعله حتى تعود، وأظن أني سأذهب لصيد السمك.»

«وكيف سأتمكن من التواصل معك لو احتجت إليك؟»

«لا تُحاول فعل ذلك. يجب ألا تُحاول التواصُل معي على الإطلاق. هذا من أجل سلامة كِلَينا. وإذا أردتُ أن آتي إليك، سأفعل.»

عندما هممتُ بالرحيل، قال فجأة: «لم ألتقِ زوجتك من قبل يا ديك. هل تسمح لي بالذهاب إلى فوسي وأُعرِّفها بنفسي؟»

صحتُ قائلًا: «بالطبع. إنها أيضًا تتوق إلى لقائك. ولكن تذكَّر أنه من المُفترض أن أكون طريح الفراش في الطابق العلوي.»

عندما نظرت خلفي، كان واقفًا يُلوِّح لي بيده، وارتسمت على وجهه ابتسامته الشقية المُعتادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤