رأيُ مهندسٍ ألماني في أساليب الصيد الغريبة
وصلت إلى مدينة هول في حوالي السادسة، وتركت سيارتي في مرآبٍ في مدينة يورك، وأكملت رحلتي بالقطار. وضعتُ متاعي في حقيبة سفر صغيرة وحقيبة ظهر، وانتظرتُ على رصيف الميناء حتى رأيتُ الطبيب نيوهوفر يصل ومعه الكثير من الأمتعة وصندوق صنارات كبير. وعندما اطمأننتُ إلى أنه سيكون في مقصورته يُرتِّب أشياءه، صعدتُ أنا أيضًا إلى سطح الباخرة، وتوجهتُ إلى مقصورتي مباشرةً، وكانت مقصورةً مريحةً ذات سريرَين تقع في مقدمة الباخرة. أكلتُ الشطائر التي أحضرتها معي، وهيأتُ نفسي للنوم والقراءة طوال ستٍّ وثلاثين ساعة.
هبَّت رياحٌ قوية طوال تلك الليلة واليوم التالي، فبقيتُ راقدًا في قُمرتي محاولًا قراءة كتابِ حياة صموئيل جونسون للكاتب بوزويل، وأشكر الربَّ على أني لم آتِ إلى الحياة قبل ألف عامٍ لأكون أحدَ الفايكنج. لم أتخيل نفسي أجوب تلك البحار العاتية على متن سفينةٍ مفتوحة. استيقظتُ صباح اليوم الثالث والعشرين من الشهر لأجد أن حركة الباخرة المُضطربة قد توقفت، وعندما نظرتُ إلى الخارج عبر كوة المقصورة، رأيتُ مساحةً من المياه الخضراء التي تعكس أشعة الشمس، وشاطئًا صخريًّا، ومدينةً صغيرةً مَبانيها باللونَين الأبيض والأحمر. توقفتِ الباخرةُ جودرون عند مدينة ستافانجر لحوالي ساعة، فمنحتُ الطبيب نيوهوفر وقتًا كافيًا حتى يصل إلى الشاطئ قبل أن أتناول إفطارًا سريعًا في حانة الباخرة ثم أتبعه. رأيته يُغادر بصحبة رجلَين، ويركب زورقًا بخاريًّا كان متوقفًا بجوار رصيف الميناء. بعدما أصبح الساحل خاليًا، اتجهتُ إلى المدينة، والتقيتُ العملاء الذين أرسل إليهم آرتشي رويلانس برقيةً، وعرفتُ منهم أن زورقي البخاري جاهز وينتظرني في المرفأ الداخلي حيث تُوجَد قوارب الصيد. صحبني موظف إلى هناك، وعرفني بيوهان، سائق زورقي، وكان نرويجيًّا ضخم الجثة مرحًا كثَّ اللحية لا يتحدَّث الإنجليزية جيدًا. اشتريتُ بعض المؤن، وبدأنا رحلتنا في تمام العاشرة. سألتُ يوهان عن الطريق إلى ميردال، فأشار إلى نقطةٍ صغيرة مُتحركة على بُعد بضعة أميالٍ أمامنا. وقال: «هذا قارب كريستيان إيج. إنه يُقلُّ صيادًا إنجليزيًّا إلى ميردال ونحن نتبعه.» أمسكتُ نظارتي المُقربة ونظرتُ نحو القارب، ورأيت نيوهوفر جالسًا في مؤخرته يدخن.
كان الجو رائعًا، مع تلك الأضواء الشمالية الغريبة التي تجعل الظُّهر يبدو وكأنه الصباح الباكر. استمتعتُ بكل لحظة من الرحلة، ويرجع هذا من جانبٍ إلى أنه قد أصبحت لدَي مهمة مُحددة، ومن جانبٍ آخر أني أتنشَّق الهواء الطلق الذي كنتُ أتوق له بشدة. لم أكن أمَلُّ مُطلقًا من مشاهدة الحياة البرية؛ طيور الغاق والعيدر على الجزر الصغيرة، والفُقمات برءوسها المستديرة، التي تُشبه رأس مِدينا، التي كانت تغطس في المياه من على الجزُر الصخرية الصغيرة بمجرد اقترابنا منها. كان الهواء باردًا ومُنعشًا، ولكن عندما انعطفنا حول حافة ميردالفيورد وابتعدنا عن نسيم البحر وتوسطت الشمس السماء، أصبح الهواء في دفء هواء شهر يونيو. مرَرْنا بجزيرة كبيرة منبسطة يُغطيها عشب قصير ونتوءات صخرية بالكامل، وقال لي يوهان إن اسمَها فلاكسهولم. سرعان ما وَلَّيْنا وجهَينا شطر الشرق إلى داخل خليجٍ مُحاط بتلال سوداء شديدة الانحدار غطَّى الثلج أخاديدها. كان معي كتابان من تأليف بوزويل؛ كنت قد قرأت الأول على متن الباخرة، وبدأت أقرأ الثاني على متن الزورق، ولكنه سقط من يدي في البحر عندما نهضت فجأة لأشاهد سربًا من البط. فأعطيتُ النسخة الأولى إلى يوهان وارتضيتُ أنا بالتدخين والتأمل.
في عصر ذلك اليوم، ضاق الخليج حتى أصبح مَضيقًا، وأصبحَت جوانب التلال أكثر انحدارًا. كانت التلال أشبَهَ بجبالٍ مهيبة ذات جوانب شديدة الانحدار مثل حافة سلسلة جبال دراكنسبرج، وكلَّلتْ قِمَمَها الثلوج، فبدت أشبهَ بكعكة مُغطاة بالسكر قُطِّعت إلى شرائح. كانت الجداول تنبُع من أكاليل الثلوج على القمم وتسقط هادرةً على المنحدرات وسط سحابةٍ لامعة من الضباب لتتحوَّل إلى سَيلٍ جارف من مياه خضراء تتقافز فوق الحصى حتى تختلط بمياه البحر. أشعرَني المنظر الطبيعي والطقس بهدوءٍ مُمتع أبى أن تُعكره أي «ذكرى أو استشراف»، كما يقول أحد الشعراء. كان نيوهوفر أمامي — لم يغب زورقه عن ناظرينا على الإطلاق — وكانت مهمتي أن أكتشف ما يهدف إليه من دون أن يراني. تركت كيفية تحقيق ذلك للقدر.
خيَّم الظلام شيئًا فشيئًا، وضاق الخليج أكثر فأكثر، وهبط علينا الغسق، ولكن إن نظرت إلى الخلف نحو فم الخليج، كان يمكنك أن ترى شفقًا ساطعًا. افترضتُ أن نيوهوفر قد يذهب إلى ميردال والخليج الذي أمامنا، مُلتقى سكارسو مع البحر، ولكنه قرر التوقُّف عند هاوج، قرية تسبقها بمِيلَين تقع على الشاطئ الجنوبي. وصلنا إلى هاوج في حوالي الثامنة والنصف وكانت السماء مُضاءةً بغسق أرجواني جميل؛ فقد كانت القرية تقع تحت جرف عالٍ مباشرةً. أمليتُ على يوهان تعليماتي كاملةً: أن ينتظرني حتى أعود، وأن يحصل على ما يحتاج إليه من القرية. ويجب مهما حدث ألا يذهب إلى ميردال، أو أن يختفي عن الأنظار أو أن يحرك الزورق. بدا مرتاحًا لفكرة قضاء بضعة أيامٍ عاطلًا عن العمل؛ فقد رسا بي عند مرفأ خشبي صغير، وكان مرحًا للغاية، وتمنَّى لي التوفيق. لا يُمكنني تخيُّل ما ظن أنني أسعى إليه؛ فقد تركته حاملًا حقيبة ظهر على ظهري ومُمسكًا بعصًا متينة في يدي، ولم يكن مظهري يُوحي بأي مطاردة.
كانت معنوياتي أنا أيضًا مرتفعة أثناء سيري على الطريق التي تربط بين هاوج وميردال. كان الخليج الشمالي غارقًا في الظلمة عن يساري، والجبال ترتفع سوداء عن يميني، ورغم أني كنتُ أسير وسط الظلام، كنت قادرًا على رؤية شفَق أمامي حيث تلتقي التلال بوادي سكارسو، ذلك الشفق الجميل بلون التفاح الأخضر الذي يملأ سماء الليل الشمالية حتى في فصل الربيع. لم أكن قد رأيتُه من قبل، وأظن أن شيئًا في داخلي ارتبط بالمكان؛ فقد كان والدي يقول إن عائلة هاناي تنحدِر من النورديين. كنت أسمع صيحات طيور مبهجة قادمة من ناحية البحر، طيور البط والإوز وصياد المحار ودجاج الأرض، ثم كنتُ أسمع صوت ماء يتناثر بقوةٍ وكأن سمكة سلمون تتقافز فوق المياه الراكدة وهي في طريقها إلى سكارسو. تذكرت مُتحسرًا صناراتي التي تركتها حينما ظهرت أنوار ميردال أمامي بعدما انعطفنا مع الطريق عند مكانٍ ما، وبدا لي أنه من الأفضل أن أُفكر في خطوتي التالية.
لم أكن أعرف أحدًا من النرويج، ولكني اعتمدتُ على أن أعثر على بعض السكان المَحليين الذين يُمكنهم التحدُّث بالإنجليزية؛ فقد رأيتُ الكثير من النرويجيين في إنجلترا أو أمريكا. فكرتُ أن نيوهوفر قد يسكن في أحد الفنادق، وعليَّ أن أعثر على مكانٍ آخر للإقامة. بدأتُ أفكر في أن مهمة التجسُّس هذه قد تكون أصعب مما توقعت، فإن رآني سيتعرَّف عليَّ، ويجب ألا يحدُث ذلك. كنتُ، بلا شك، قد أعددتُ قصة رحلةٍ السياحة، ولكن من المؤكد أن الشك كان سيراوِده، ومن المؤكد أنه سيُخبر مِدينا. كان العثور على مكانٍ أقضي فيه ليلتي هو أولويتي الأولى، ويجب أن أبدأ البحث على الفور. كنتُ قد وصلت إلى رصيف ميردال البحري الصغير الذي يبعُد مسافةً قصيرة عن القرية نفسها. كان العديد من الرجال جالسين يُدخنون على براميل ولفائف حبال، وكان الرجل الواقف عند نهاية الرصيف يحرس المكان حيث يرسو زورق كريستيان إيج الذي حضر نيوهوفر على متنِه. استدرتُ واتجهتُ نحو الرصيف؛ فقد بدا لي أنه مكان يصلح لجمع المعلومات.
ألقيتُ تحية المساء على الرجال، وكنت على وشك طلب النُّصح منهم فيما يتعلق بأماكن الإقامة عندما التفتَ الرجل الذي ينظر إلى البحر نحوي عندما سمع صوتي. كان مُسنًّا محنيَّ الظهر يرتدي معطف صيدٍ قديمًا. كانت الإضاءة سيئة، ولكن مظهره كان يبدو لي مألوفًا، ولكني لم أتمكَّن من تذكُّر اسمه.
تحدثتُ إلى النرويجيين بالإنجليزية، ولكن بدا جليًّا أني التقيتُ بمجموعةٍ لا تهتمُّ بتعلُّم اللغات. كانوا يهزون رءوسهم علامة عدم الفهم، وأشار أحدُهم نحو القرية كما لو كان يقول لي إني قد أعثرُ هناك على مَن يُمكنه فهمي. ثم تحدَّث الرجل الذي يرتدي معطف الصيد.
قال: «ربما يُمكنني مساعدتك. ثمة نُزُل جيد في ميردال، وهو ليس مزدحمًا في هذا الموسم.»
تحدَّث بإنجليزيةٍ ممتازة، ولكن بدا جليًّا أنه ليس إنجليزيًّا. إذ كانت ثمة إطالة واضحة في الحروف الحلقية.
قلت: «لا أظن أن النزُل سيكون مناسبًا لميزانيتي. جئتُ سائحًا وأريد مكان إقامة رخيصًا.»
ضحك جذلًا. وقال: «ربما يُوجَد مكان إقامة آخر. ربما كان لدى بيتر بوير فراش خالٍ. أنا ذاهب في نفس اتجاهه يا سيدي، ويُمكنني إرشادك إلى مكانه.»
التفتَ نحوي، وظهرت لي تفاصيل هيئته تحت ضوء الزورق. رأيتُ وجهًا لفحتْه الشمس يحمِل تعبيرًا ودودًا للغاية، ولحيةً كثة غير مهذبة. ثم تعرفت عليه، وكدتُ أصيح من فرط دهشتي من المُصادفة التي جمعتنا مجددًا.
سِرنا متجاورَين على طريق المرفأ حتى وصلنا إلى الطريق الرئيسية.
فقلت: «أظن أننا التقَينا من قبل، يا سيد جاوديان.»
فتوقف عن السير فجأة. وقال: «هذا اسمي بالفعل … ولكني لا … لا أظن أننا …»
«هل تتذكَّر رجلًا هولنديًّا يُدعى كورنيليوس براندت كنتَ قد استضفتَه في منزلك الريفي ذات ليلةٍ يوم الخامس عشر من ديسمبر؟»
أخذ يُدقِّق في ملامحي.
ثم قال: «أتذكَّر هذا. كما أتذكَّر السيد ريتشارد هاناو، أحد مهندسي جوجنهايم، الذي تحدثتُ إليه في إسطنبول.»
قلت: «هذا أنا.» مرَّت لحظة لم أكن واثقًا خلالها من ردة فعلِه على هذا الكشف، ولكن طمأنني ما فعل تاليًا، وأدركتُ أني لم أكن مُخطئًا في تقديري للألماني الوحيد الذي أُعجبت بشخصِه من صميم قلبي. فقد بدأ يضحك، بودٍّ وسماحة.
صاح: «اللعنة! يا للرومانسية. لطالما تساءلتُ عما إذا كنتُ سأراك أو أعرف أخبارك مجددًا، ولكن ها أنت ذا! تخرج من وسط الظلام على شاطئ خليج نرويجي.»
قلت. «ألا تحمِل ضغينةً ضدي؟ كنتُ أخدم بلادي مثلما كنتَ تخدم بلادك. وتصرفتُ بشرَفٍ مثلما تصرفتَ أنت بشرف.»
ثم صاح: «ضغينة! إننا سيدان مُهذبان، كما أننا لسنا طفلَين. أنا سعيد أنك نجوتَ من الحرب. لطالما تمنيتُ الخير لك، فأنت رجلٌ جريء وشجاع.»
قلت: «لا، على الإطلاق؛ كنتُ محظوظًا فحسب.»
«بمَ أدعوك الآن؛ براندت أم هاناو؟»
«اسمي ريتشارد هاناي، ولكني حاليًّا أُطلق على نفسي كورنيليوس براندت، لسببٍ سأُخبرك به.» قررتُ فجأة أن أُسِرَّ إلى جاوديان بكل شيء. بدا لي وكأن القدَر قد أرسلَه لي لهذا الغرض بالتحديد، ولم أكن لأفوِّت هذه الفرصة.
جعلته كلماتي يتوقف عن السير فجأة.
وقال: «سيد هاناي، أنا لا أريد أسرارك. أظن أنك ما زلت منخرطًا في خدمة بلادك، أليس كذلك؟ لا أشكك في دوافعك، ولكن تذكر أني ألماني، ولا يُمكنني أن أشارك في مطاردة أحد أبناء بلدي، أيًّا كان الجرم الذي ارتكبه.»
حدقتُ في وجهه. وتلعثمت قائلًا: «ولكني لا أعمل في جيش بلادي. لقد تركت الجيش خلال الهدنة، وأصبحت مزارعًا.»
«هل يُسافر المزارعون الإنجليز إلى النرويج حامِلين أسماءً مستعارة؟»
«إنها مهمة خاصة أريد أن أشرحها لك. وأؤكد لك أنها لا تتضمَّن أي ألمان. أريد مُراقبة ما يفعله طبيب إنجليزي متأنق.»
قال بعد فترة صمت: «أنا أصدقك. ولكن وصل منذ ساعتَين رجل على متن زورق راسٍ في المرفأ هناك. قال إنه صياد وهو يُقيم في النزُل الآن. ولكني أعرف هذا الرجل؛ أعرفه حقَّ المعرفة. إنه ألماني خدم ألمانيا خلال الحرب سرًّا، في أمريكا وبلدان أخرى. لم أكن أُحبه، وأظن أنه سَبَّبَ لبلادي ضررًا بالغًا، ولكن هذا أمر بيننا نحن الألمانيين لنسويه، ولا يجب أن يتدخل فيه الأجانب.»
«ما أعرفه عن هذا الرجل هو أن اسمه الطبيب نيوهوفر من شارع ويمبول.»
قال: «حقًّا؟ لقد استعاد اسم والده مجددًا، والذي كان نيوهوفر. اسمه الأول هو كريستوفر. ماذا تريد منه؟»
«لا أريد منه شيئًا يرفضه ألمانيٌّ شريف مثلك»، وفي ذلك الوقت والمكان، قصصتُ عليه أمر مِدينا. صاح مرتعبًا.
وقال مترددًا: «سيد هاناي، هل أنتَ صادق فيما تقول؟»
«أُقسِم لك بكل ما هو مُقدس أني أخبرتك بالحقيقة المجردة، ولم أكذب في حرف واحد. ربما فعل نيوهوفر أمورًا تُحبذها خلال الحرب. ولكن كل هذا انتهى الآن. أنا أتبعه لأصِلَ إلى خيطٍ عن فعلٍ سيِّئ بدأ في إنجلترا. أريد أن أفسد خُطَط مُجرمين إنجليز، وأن أُنقذ أبرياء. علاوة على ذلك، نيوهوفر مجرد تابع. لا أريد منك أن تُساعدني في التغلُّب عليه، بل كل ما أريده هو معرفة ما يفعله.»
مدَّ الرجل يده لي. وقال: «أنا أُصدِّقك، وسأساعدك إن استطعت.»
أرشدني جاوديان عبر شارع القرية الطويل، ومرَرْنا بالنزُل الذي افترضتُ أن نيوهوفر ينام فيه الآن، ومنه إلى طريقٍ يمتدُّ حتى وادي سكارسو. أصبح النهر في مجال رؤيتنا، وكان ثمة تيار قوي مليء بالثلج الذائب، يهدر بانحناءاتٍ عظيمة عبر المرج تحت أضواء الشفَق البارعة الجمال. اتَّضح لي أنه يُقيم مع بيتر بوير الذي يملك سريرًا فارغًا، وعندما وصلنا إلى الكوخ الذي يبعد عن الطريق الرئيسية مسافة مائة ياردة على ضفة الجدول، وافق بيتر على منحي السرير الإضافي. أعدَّت لنا زوجة بيتر العشاء؛ بيضًا مخفوقًا، وسلمون مدخنًا، وبعضًا من البيرة النرويجية الممتازة، وبعد ذلك، أخرجتُ خريطتي واستكشفت المنطقة المُحيطة.
أعطاني جاوديان لمحة عن الأوضاع المُتردية في بلاده. بدا أن سقوط النظام القديم جرَّ معه الرجال الحكماء على شاكلته الذين عارضوا حماقاته، ولكنهم اصطفُّوا دعمًا له بدافع وطني عندما اندلعت الحرب. قال إن ألمانيا ليست بلدًا يصلح للمُعتدلين، وأن مقاليد السلطة مِلك يمين رجال الصناعة المترهِّلين الذين يكدسون الثروات خارج البلاد بينما يخربون وطنهم داخليًّا. وقال إن المُعارضة الوحيدة جاءت من قِبل الشيوعيين الحمقى، وأنصار الملكية الذين يبغون المستحيل. «لا أحد يستمع لصوت العقل، وجُلُّ ما أخشى ألا يأتي الخلاص إلا بعد أن يُلاقي أبناء شعبي المساكين الأمرَّين. لقد سرَّعتُم أنتم معشر القوى الغربية العظمى من دمارنا، على الرغم من أنه كان بأيديكم أن تُنقذونا. أظن أن نواياكم كانت حسنة، ولكنكم كنتم عميانًا، فلم تُناصروا الرجال المُعتدلين، وتسبَّب تسرُّعكم في أن تلعبوا دور المُدمِّرين بين صفوفنا.»
بدا أنه أصبح فقيرًا مُدقعًا حاليًّا، كحال جميع المُنتمين إلى الطبقات المهنية. فكرتُ أنه من الغريب أن رجلًا مثله يملك سمعةً عالمية كمهندس، لا يُمكنه أن يَجني دخلًا كبيرًا في أي دولة يختارها. ثم أدركتُ أن ذلك يرجع إلى فقدانه الرغبة في جمع المال. لقد أدرك كُنهَ زيف رغبات البشر، ولم يعُد طامحًا في أي شيء. كان غير مُتزوج، ولم يكن ينوي أن يفعل، ووجد مُتعته في عيشته البسيطة في المناطق الريفية المنعزلة ومشاهدة الزهور والحياة البرية. كان صيادًا ماهرًا، ولكنه لم يستطع تحمُّل تكلفة منطقة صيد خاصة به، فاستأجر بضع مئات من الياردات من النهر من أحد المزارِعين، والتي لم يكن يصِلها ما يكفي من الماء لتدرَّ عليه إيجارًا جيدًا، وكان يصطاد الكثير من أسماك السلمون من البِرَك الجبلية أعلى التلال ومن نهر سكارسو من المنطقة التي تسبق النهر الهادر. بينما كان جالسًا في مواجهتي على الجانب الآخر من الموقد بعينَيه البُنيتَين العطوفتَين اللتَين يملؤهما الحزن، فكَّرت في مدى قُرب الشبَهَ بينه وبين رعاة الأغنام في المروج الاسكتلندية. كان قد نما في قلبي إعجاب بهذا الرجل منذ رأيته للمرة الأولى في شركة ستام، وزاد إعجابي به أكثر حاليًّا لدرجة أني كنتُ على استعدادٍ لتغيير فكرتي عن جميع الألمان بسببه.
سألته عما إذا كان قد سمع بوجود أي إنجليزيٍّ آخر في الوادي؛ شخص يحمل اسم جيسون، على سبيل المثال. فأجاب بالنفي؛ كان قد ظلَّ مُقيمًا هناك طوال ثلاثة أسابيع، ولكن موسم الصيد لن يبدأ إلا بعد أسبوعَين آخرَين، ولم يصل السياح الأجانب بعد. ثم سألته عن مَزارِع المراعي الجبلية، فقال إن القليل منها كان يعمل حاليًّا، فمراعي الجبال لم تينع بعد. قد تكون مزرعة أو اثنتان على ارتفاعاتٍ أقل مسكونة حاليًّا، ولكن ليس الكثير، مع أن الشتاء لم يكن قارسًا هذا العام، وحل الربيع مبكرًا. قال: «انظر إلى نهر سكارسو. عادةً ما يكون منسوبُه منخفضًا في شهر أبريل، لأن حقول الجليد لا تكون قد بدأتْ في الذوبان بعد. أما اليوم، فمنسوبه عالٍ وكأننا في منتصف شهر مايو.»
مرَّر أصبعه على الخريطة، المرسومة بمقياس رسمٍ بوصة لكل ميل التي اشتريتُها من لندن، وأشار إلى مواقع الحظائر عليها. كانت الحظائر في أغلبها تقع في مكانٍ بعيد عند شمال النهر، ويمكن الوصول إليها عبر ممرَّاتٍ تتخلَّل وديان روافده. كانت تُوجَد طريق جيدة تمتد بطول الوادي، ولكن لم تكن تُوجَد أي طرق جانبية تصلها بالواديَين المُوازيَين لها، وادي يورادال ووادي بريمندال. عثرتُ بالفعل على طريق مُعلَّمة على الخريطة تؤدي إلى وادي يورادال عبر مكانٍ يُدعى سناسن. قال جاوديان: «نعم، هذه الطريق هي الشيء الوحيد الذي يعترِض ما تُسمُّونه أنتم يا معشر العسكريين، الاتصال الجانبي. لقد سرتُ على هذه الطريق، وسأكون آسفًا على أي شخصٍ يُجربِّها في طقس سيِّئ. يمكنك أن ترى بدايتها من هذا المنزل؛ ثم تصعد بجوار الشلال عبر الوادي. لا يسكن سناسِن الكثير من البشر طوال العام، وأظن أنه يمكنك أن تُطلق عليها حظيرة مرعى جبلي. إنها كوخ يُئوِي المسافرين على هذه الطريق، وفي الصيف تكون جنةً مليئة بالزهور. ستندهش من الطريقة التي يستطيع بها المحليون عبور التلال حتى في الشتاء. تتبع سناسن المزرعة الكبيرة التي تقع على بُعد ميلَين شمالي النهر، والتي تُوجَد عندها أفضل منطقة صيدٍ في نهر سكارسو. ويُقال إن موسمًا رائعًا لصيد طيور الترمجان سيبدأ في وقتٍ لاحق من العام، وقد يكون ثمة موسم غير دائم لصيد الدِّبَبة. بالمناسبة، أظنُّ أن أحدًا ما أخبرني أن المزرعة بالكامل مملوكة، أو مؤجرة، لرجلٍ إنجليزي. أنتم أثرياء، ولا تتركون شيئًا في النرويج للفقراء.»
رحتُ في سباتٍ عميق كلَوح من الخشب، على فراشٍ صلبٍ غير مريح، مثل لوْح من الخشب، واستيقظتُ على ضوء الصباح الأزرق المُبهر، وصخب الطيور في غابة الصنوبر، وضوضاء طيور الشنقب في المروج السبخة، وجريان مياه نهر سكارسو الهادر وكأنه بحر. رأيتُ أن مياه النهر أوشكت على الوصول إلى الطريق المؤدية إلى الجسر الخشبي الطويل المؤدي إلى المزرعة الكبيرة التي تحدَّث عنها جاوديان. نظرت بمنظاري نحو الجهة المقابلة للشلال، ورأيتُ أن الطريق المؤدية إلى سناسن تمتد بجواره حتى تختفي مع انعطافة للوادي. وفوق هذه المنطقة، مسحتُ قمة التل التي كانت أقل ارتفاعًا بكثير من التلال على جانبَي الخليج. لم أرَ ثلجًا، وأدركتُ غريزيًّا أني إذا صعدت إلى هذه القمة، سأجد أرضًا مُنبسطة من المراعي الطينية مع تكدُّس الركام الثلجي القديم في الفرجات والمسارات بين أشجار القضبان القزمة.
بينما كنتُ أنتظر الإفطار، سمعت ضوضاء قادمة من ناحية الطريق الرئيسية، ورأيتُ عربتَين صغيرتَين، من تلك التي يُطلقون عليها اسم ستولكيار، تمُران. رأيت عبر منظاري الطبيبَ نيوهوفر يركب العربة الأولى، وكانت العربة الثانية مُحملةً بالكثير من الأمتعة. سلكَت العربتان الطريق التي تعبر الجسر الخشبي المؤدِّي إلى المزرعة الكبيرة، ورأيتُ الماء المُتناثر بفعل عجلاتهما عند الطرف البعيد منه، حيث تمر مياه النهر فوق الطريق. هذا يعني أن الطبيب نيوهوفر، أو صديقًا له، هو من استأجر منطقة الصيد الشهيرة تلك، والتي تقع ضِمن نطاقها منطقة صيد الطيور في المُرتفعات التي تقع خلفها. فكرتُ في أنه يجدُر بي أن أقضي اليوم في اكتشاف المزيد عن سناسِن، ورأيتُ أنني محظوظ بحصولي على مركز قيادة في برج المُراقبة الممتاز هذا المُتمثل في كوخ بيتر بوير.
لن أقترب من الطريق المؤدية إلى سناسِن قبل أن أرى بنفسي ما يفعله نيوهوفر، فجلستُ وجاوديان ننتظِر بصبرٍ خلف نافذة كوخ بيتر بوير. في حوالي العاشرة، ظهر مُهران مُحمَّلان بعدة الصيد يقودهما صبيٌّ ذو شعر أشقر عند بداية الطريق وسلكوا الطريق الصاعدة عبر الوادي ببطء. بعد ساعة، ظهر الطبيب نيوهوفر مُرتديًا بدلة خاكية اللون وعليها عباءة من قماشِ الماكنتوش المطاطي. سار خارجًا من المزرعة بثقةٍ وواجه الطريق الشديدة الانحدار بمهارةٍ تُماثل سكان الجبال. أردتُ أن أنطلق أنا أيضًا في إثره، مع الحفاظ على مسافةٍ كافية بيننا، ولكن جاوديان وضَّح لي بتعقُّل أن عدد أماكن الاختباء ضئيل للغاية، وإذا ما رأى رجلًا يسير على هذه الطريق المُنعزلة، فمِن المؤكد أنه سيرغب في معرفة مَن يكون.
جلسنا في الهواء الطلْق بعد الغداء تغمُرنا أشعة شمسٍ مُمتعة، وجاءتنا المكافأة على صبرِنا تدريجيًّا عندما رأينا المُهرَين يعودان مُحمَّلَين بعدة من مختلف الأحجام والأنواع. ولكنهما لم يتوقفا عند المزرعة الكبيرة، بل عبرا الجسر الخشبيَّ وسلكا الطريق الرئيسية نحو ميردال. استنتجتُ أن هذه أمتعة الرجل الذي استأجر نيوهوفر المزرعة بعده، الذي سيعود إلى مدينة ستافانجر على متن زورق كريستيان إيج. بحلول وقت العصر، ظهر الرجل نفسه؛ جيسون، أو أيًّا كان اسمه. رأيتُ شخصَين يهبطان من أعلى الوادي عبر طريق سناسِن، ثم يتوقَّفان عند نهاية الطريق ويُودِّع أحدهما الآخر. استدار أحدهما ليعود أدراجَه، ورأيتُ أنه نيوهوفر، سائرًا على الطريق المنحدِرة إلى أعلى بخطًى واسعة كما لو كان معتادًا على العيش وسط التلال. أما الآخر؛ فقد عبَر الجسر، وكان قريبًا منَّا بشكلٍ كبير؛ ورأيتُ عبر منظاري أنه شابٌّ متأنِّق يرتدي سروال ركوب خيول أنيقًا ومعطف مطر فاخرًا.
كنتُ في غاية الرضا عما توصلتُ إليه. رأيت نيوهوفر يُعفي سلفه من خدمته، مثلما خطَّط مِدينا تمامًا، وعرفتُ أين يُقيم. أيًّا كان سِرُّه، فهو مَخفي في سناسِن، ومن ثَم أصبحت سناسِن هي وجهتي. نصحَني جاوديان بأن أنتظر إلى ما بعد العَشاء، عندما يكون ثمة ضوء يكفي لأن نرى طريقنا، ولكن من دون أن يكشف عن وجودنا. فاضطجع كِلانا ونِمنا أربع ساعات، وانطلقنا في حوالي العاشرة والنصف نشيطَين وكأننا طفلان في عمر سنةٍ واحدة.
كانت ليلة صافية معتدلة ساكنة، وعلى الرغم من زحف الظلام على أدغال التل وثناياه، كانت السماء مضاءةً بوهَج أرجواني فاتح. شعرت وكأني خرجت في رحلة صيد وكنتُ أستمتع بكل لحظة أثناء سيري تَصحبني تلك المتعة المدهشة المُترقِّبة التي يشعر بها المرء خلال أي مطاردة. كان الشلال يعزف موسيقى هادرة على يسارنا، ومياهه تدمدم عند اصطدامها بالحُفَر والنتوءات بصوتٍ يُشبِه صوت الانهيارات الثلجية. كانت تُحيط بنا أنواع شتى من الطيور، ولكن كان عليَّ أن أخمِّن أنواعَها عبر أصواتها وأحجامها، فلم يكن من المُمكن رؤية أي ألوانٍ في عالَم الظلال ذاك الذي كنَّا نسير فيه.
شيئًا فشيئًا اقتربنا من القمة وضرَبَت وجوهنا ريحٌ خفيفةٌ باردةٌ قادمة من ناحية الشمال من الجبال التي تُغطيها الثلوج. بدت المنطقة وكأنها سهلٌ وعرٌ شاسعٌ وكانت كلُّ حفرة فيها تلمَع وكأنها مليئة بالثلج أو الماء. كانت ثمة أشكال ضخمة مُعتمة أمامنا، خمنتُ أنها التلال التي خلف وادي يورادال. لم يكن من السهل حاليًّا البقاء على المسار الذي أصبح متشابكًا لتفادي حفر المُستنقعات، وتكرَّر انحرافي وجاوديان عنه أكثر من مرة للقفز من فوق جذوع أشجار العرعر. وفجأة، وجدتُ نفسي أمام عمود حديدي، ودُهشت عندما رأيتُ أسلاكًا تمرُّ فوقي. أومأ جاوديان برأسه. وقال: «يوجد هاتف في سناسن.»
كان يحدوني الأمل في أن أرى ضوءًا في المنزل حتى أستدلَّ إليه من بعيد. ولكننا لم نُدرك اقترابنا منه إلا بعد أن أصبحنا قريبين للغاية منه، فتوقفنا على مسافةٍ قصيرة من الطريق المؤدية إليه، والتي كانت مظلمة كقاع بئر. لا بدَّ أن سكان المنزل كانوا قد آوَوا إلى الفراش مبكرًا، فلم تكن تُوجَد أي دلالةٍ على وجود حياة في داخله. كان مبنًى خشبيًّا من طابقَين، وكان متين البنيان يُحيط سقفه أفريز عريض. بجوار المنزل، انتصبت حظيرة أو جرن كبير، ومن خلفه مبانٍ مُلحقة أخرى ربما كانت زرائب أو معامل ألبان. سِرنا خلسةً حول المكان، وأدهشَنا سكونه التام. لم يكن هناك صوت لحيوانٍ واحد يتحرك في المزرعة، وعندما طار سِرب من البط البري فوق رءوسنا أجفلنا من الصوت، مثلما يجفل اللصوص من صوت صرير ألواح الأرضيات.
نظرًا لعدم وجود أي حياةٍ أو نشاط واضح، لم يكن هناك أي شيءٌ يُمكننا فِعله في تلك اللحظة، فسلكنا الطريق عائدين أدراجنا نحو المنزل وهبطنا إلى الوادي الضيق بسرعةٍ كبيرة؛ فقد كان البرد قارسًا على قمة التل المُنبسطة. قبل أن نخلد إلى النوم، اتفقنا أن يذهب جاوديان صباح اليوم التالي إلى سناسن وكأنه سائح عادي ويتحجَّج بأي حجةٍ لكي يدخل المنزل، بينما آخُذ أنا جولةً طويلة حول الهضبة مع مُراعاة البقاء على مسافة معقولة من المنزل للتأكد من عدم وجود أي تهديدٍ في هذه المنطقة المقفرة.
كان صباح اليوم التالي صافيًا كسابقه، وانطلقنا في حوالي العاشرة. أمضيتُ يومًا رائعًا لكنه لم يكن مثمرًا على الإطلاق. اتجهتُ نحو شمال نهر سكارسو إلى المنطقة الهادئة منه، ثم تسلقتُ جدار الوادي الشمالي عبر أخدود مُحاط بدغل انتهى قبل أن أصل إلى القمة بمسافة طويلة وتركني لأكمل تسلق المسافة المُتبقية متعلقًا بركامٍ صخري مُتقلقل للغاية وألواح مؤذية من الجليد. بلغتُ الهضبة المُنبسطة في مكان أقرب لاتجاه الشرق حيث كانت الهضبة أكثر ارتفاعًا، وكنتُ أُطِل على قاع الوادي حيث تمرُّ الطريق المؤدِّية إلى يورادال. اتجهت نحو الشمال عابرًا المروج الطينية وبقايا الركام الثلجي، الذي كانت الزهور تنمو عبر فجواته، حتى أوشكتُ على الوصول إلى الحافة المطلة على وادي يورادال، ونظرتُ عبره إلى مجموعة القمم الصخرية المُخطَّطة والملطخة بالجليد. كان وادي يورادال عميقًا للغاية فلم أتمكن من رؤية أي شيءٍ فيه، فتحركتُ غربًا ورأيت الطريق نحو ميردال شمالي سناسن. ثم مسحت المنطقة خلف سناسن، وحصلت على رؤية جيدة للمنزل من على بُعد حوالي نصف ميل. كانت اثنتان من مداخنه تطلقان الدخان، ووصلتني أصوات أعمال المزرعة الصادرة من الفناء. لم تكن تُوجَد أي دلالة على وجود ماشية، ولكن بدا أن شخصًا ما كان يُجهز السقائف لموسم الصيف. انتظرتُ لما يزيد على الساعة، ولكني لم أرَ أي إنسانٍ طوال هذه الفترة، فاستدرت عائدًا أدراجي، وهبطتُ جدار الوادي الضيق بحذَر، مُستكشفًا كل ركنٍ منه تحسبًا للقاء نيوهوفر مصادفةً.
وجدتُ أن جاوديان قد عاد قبلي. وعندما سألته عما إذا كان الحظ قد حالفه، هز رأسه نفيًا.
وقال: «تقمصتُ شخصية مسافر مُتعَب، وطلبت بعض الحليب. فأعطتني امرأةٌ قبيحةٌ جعةً. وقالت إنه ليس لدَيها أي حليب حاليًّا، وإنها تنتظِر عودة الماشية من الوديان. لم يكن من السهل حملُها على الكلام، كما أنها صماء. قالت إن سيدًا إنجليزيًّا استأجر منطقةَ صيد طيور الترمجان، ولكنه يسكن مزرعة تريسيل. هذا هو اسم المزرعة الكبيرة المطلة على نهر سكارسو. ورَفَضَت الإفصاح عن المزيد، ولم أرَ أي أحدٍ آخر في المزرعة. ولكني لاحظت أن مزرعة سناسِن أكبر مما ظننت. ثمة غرَف ملحقة بخلفية المنزل، تلك التي ظننا أنها حظائر. ثمة مساحة كافية لإخفاء إنسان.»
سألته عما إذا كان لدَيه أي خطط، فقال إنه يفكر في الإقدام على خطوة جريئة في اليوم التالي بأن يذهب إلى المزرعة مباشرةً ويسأل عن نيوهوفر، وسيقول إنه رآه يمرُّ أمام كوخ بيتر بوير. لم يكن يُحِب الرجل، ولكنه لم يتشاجر علنًا معه من قبل. وافقتُ على هذه الخطوة، ولكني قررتُ في الوقت نفسه أن أفعل شيئًا ما بنفسي هذه الليلة. كنتُ قد بدأت أشعر بالقلق؛ فقد شعرت بأن الوقت المُتبقي لي أصبح قصيرًا للغاية؛ إذ كنا وقتئذٍ في الخامس والعشرين من أبريل، وكان يجِب أن أعود إلى لندن في اليوم التاسع والعشرين، وإذا لم أعُد، فسيذهب مِدينا إلى فوسي ليسأل عني، وسيراوِدُه الشك. قررتُ أن أذهب الليلة بمفردي إلى سناسِن وأقوم بعملية سطو وُدِّية صغيرة.
تحركت في حوالي الساعة الحادية عشرة، ووضعت مُسدسي في جيبي بجوار قنينتي وبعض الشطائر ومصباح كهربي؛ فقد فكرت في أنه من غير المُستبعَد حدوث أي شيء. عبرتُ الجسر والجزء الأول من الطريق سريعًا؛ فقد كنت أرغب في توفير أطول وقتٍ مُمكن لمهمَّتي. كادت عجلتي تتسبب في هلاكي، فبدلًا من استكشاف مُحيطي والإنصات لأي شيءٍ خارج عن المألوف، كنت أُهرول صاعدًا التل كما لو أني أريد تحقيق رقم قياسي في المشي. ومن عناية الرب بي أني كنتُ قد وصلت إلى منطقة شَكَّلَت فيها صخرةٌ ناتئةٌ منعطفًا حادًّا عندما أدركتُ فجأةً أن شخصًا آتيًا على الطريق في اتجاهي. تمددتُ متواريًا في الظل، ورأيتُ أن الشخص القادم هو نيوهوفر.
لم يرَني أو يسمعني؛ فقد كان هو أيضًا مشغول البال. كان يهبط نحو الوادي بسرعةٍ معقولة، وبدا أنه انطلَق في عجلةٍ من أمره، فلم يكن يرتدي قبعةً. وكان شعره الأشقر الطويل أشعث، وكانت ملامح وجهه تبدو أكثر حدة بفعل القلق.
تساءلت في نفسي عما حدث، وكان أول ما فكرت فيه هو أن أتبعه نحو سفح التل. ثم فكرتُ أن عدم وجوده في سناسِن يمنحني فرصةً ذهبيةً لدخولها. ولكن إذا كان بقية القاطنين في المزرعة مُستيقظين، فربما كان ثمة مسافرون آخرون على الطريق ويجدُر بي أن أمضي بحذر. عندما أصبحت قريبًا من قمة جدار الوادي، تحت حافة الهضبة المُنبسطة مباشرةً، كانت ثمة رقعة كبيرة من الأشجار — أشجار القضبان والعرعر والصنوبر التي أمالَتْها الرياح — ففي هذا المكان كان الشلال ينساب بطريقةٍ تُشبه الكوب، بعد أن يسقط من على حافة الهضبة وقبل أن يندفِع بقوة نحو الوادي. كان مُمكنًا في هذا المكان أن أعثر على طريقٍ بديلة نحو الطريق المؤدية إلى المزرعة، فدخلتُ بين أشجار التوت المُتشابكة والصخور المُغطاة بالطحالب.
ولم أكن قد تقدمتُ عشر ياردات عندما أدركتُ أن شخصًا آخر أو شيئًا آخر في الدغل. سمعتُ صوت انغماسٍ في الماء أمامي، ثم صوت تكسر جذع شجرة مهترئ، ثم جلبة سقوط حجر. ربما كان حيوانًا، ولكني خَطَر لي أن لا حيوان بريًّا سيتحرك بمثل هذه الرعونة. وحدَها أحذية البشر هي القادرة على إصدار مثل تلك الانزلاقات الخرقاء.
إذا كان هذا الشخص من مزرعة سناسِن، فماذا يفعل خارج الطريق؟ هل يُراقبني؟ قررتُ أن أُجري بعض المراقبة أنا أيضًا. فجثوتُ على أربع وزحفت متواريًا في اتجاه الصوت. كان الظلام دامسًا في ذلك المكان، ولكني تمكنتُ من رؤية ضوء خافت حيث كانت الأشجار أقل كثافة حول الجدول.
ولم يمرَّ وقت طويل حتى وصلتُ إلى حافة المياه الثائرة. توقفت الأصوات، ولكنها عادت فجأة مُجددًا على مقربةٍ مني، وسمعت صوتًا عنيفًا كما لو أن جزءًا من ضفة النهر قد انفصل. يبدو أن الرجل، أو أيًّا كان، كان يُحاول عبور النهر. كانت محاولة عبور النهر مخاطرة؛ فقد كان النهر عريضًا وماؤه يتدفَّق بسرعةٍ كبيرة. زحفتُ بضع ياردات عكس اتجاه التيار، وعندئذٍ رأيتُ ما كان يحدُث عبر فُرجة بين الأشجار.
شَكَّلَت شجرة صنوبر ساقطة جسرًا صاخبًا يؤدي إلى صخرة ضخمة أصبحت بقية مياه النهر تقفز من فوقه. كان رجل راكعًا على الجذع ويبدأ التحرك عليه. ولكني رأيت الجذع المُهترئ يسقط في النهر، وكان ما رأيته تاليًا هو الرجل وهو يُصارع التيار. حدث كل ذلك في جزءٍ من الثانية، ولم أدرِ بنفسي إلا وأنا أنحني فوق الحافة وأُمسك بذراع الرجل. جذبتُ الذراع، وثبتُّ إحدى ساقَي في صخرة، وجررتُ الرجل نحو الحافة خارج تيار النهر الهادر. لم يبدُ مُصابًا؛ فقد عثر على موطئٍ لقدمِه، ولم يحتج إلَّا لمساعدةٍ بسيطة مني حتى يتمكن من الوقوف بجواري.
ثم أصابني الذهول عندما هاجمني بضراوة. كان هجومه يُشبه هجوم حيوان بري، وكان مفاجئًا لدرجة أني سقطت على ظهري. شعرت بيدَيه تضغطان على عنقي، فتأجَّج غضبي، وأمسكتُ بمِعصمَيه ولويتُهما. ثم وضعتُ ساقًا فوق ظهره وأصبحتُ فوقه، ومن ثَم أصبح هو تحت رحمتي. بدا أنه أدرك ذلك أيضًا؛ فقد رقد في هدوءٍ ولم يُحاول المقاومة.
قلت غاضبًا: «بحق اللعنة، ما الذي دفعك لفعل هذا؟ كنتَ ستغرق لولاي، ثم تحاول أن تخنقني.»
أخرجتُ مصباحي ونظرت إلى وجهه. كان شابًّا هزيلًا يرتدي ملابس خشنة مصنوعة منزليًّا مثل الملابس التي يرتدِيها الفلاحون النرويجيون. كان وجهه شاحبًا ونحيلًا تُزينه أسخف وأخف لحيةٍ رأيتها في حياتي، وكان شعره مقصوصًا بطريقة سيئة كما لو أنه قُص باستخدام مقص أشجار. كانت العينان اللتان تنظران إليَّ مليئتَين بالذُّعر والضراوة وكأنهما عينا غزال.
كررت قولي: «ما الذي دفعك لفعل هذا؟» وأدهشني أنه أجابني بالإنجليزية.
قال: «دعني أنهض، فأنا مُتعب ولا أقوى على العراك. سأعود معك.»
سقط الضوء على وجهي.
وقلت مهدئًا إياه: «لا تقلق يا فتى. ستعود معي، ولكن ليس إلى تلك المزرعة اللعينة. لعلك تذكر أننا التقَينا من قبل. أنت اللورد ميركوت، ورأيتُك العام الماضي تمتطي حصان «الأمير الأحمر» في مهرجان «البرلمان».»
كان جالسًا يُحدِّق في وجهي وكأنه رأى شبحًا.
ثم سألني: «من أنت؟ أخبِرني أرجوك، من تكون؟»
«اسمي هاناي. أعيش في ضيعة فوسي في كوتسوولد. دعوناك ذات مرة على العشاء قبل حفل هايثروب الراقص.»
كرر متلعثمًا: «هاناي! أتذكر … أظن … أنني أتذكر … أتذكر الليدي هاناي. نعم … وضيعة فوسي. إنها تقع على الطريق بين …»
ثم نهض بسرعةٍ واقفًا.
وقال: «أرجوك يا سيدي، أخرجني من هنا. إنه يطاردني؛ الشيطان الجديد ذو الوجه الطويل، الرجل الذي أحضرني هنا في الأساس. لا أعلم ماذا حدث لي، ولكني أُصبتُ بالجنون لفترةٍ طويلة، ولم أسترد عقلي إلا منذ بضعة أيام. ثم تذكرتُ، وهربت. ولكنهم يُطاردونني. أوه، أسرع، أسرع! فلنختبئ.»
قلت شاهرًا مسدسي: «اسمع يا فتى. سأطلق النار على أول رجل يَمَسُّك، وأنا لا أُخطئ الهدف. أنت في أمانٍ الآن وكأنك في منزلك. ولكن هذا المكان لا يصلح للحديث، ولديَّ الكثير الذي أريد أن أُخبرك به. سأصحبك معي إلى مسكني في الوادي. ولكنهم يُطاردونك، لذا لا بد من أن نتصرَّف بتعقل. هل أنت قادر على السير؟ حسنًا، نفِّذ ما آمُرك به بالضبط، وقبل أن تمرَّ ساعة ستكون جالسًا تشرب كوبًا كبيرًا من الشراب وتتصفَّح مواعيد انطلاق السفن من هذه الجزيرة.»
في تقديري أن رحلةَ العودة هذه مِثالٌ جدير بالثناء على التوجيه الدقيق واتخاذ القرارات اللازمة لضمان إرشاد الصبيِّ إلى برِّ الأمان. كان الفتى المسكين مُصابًا بسوء تغذية شديد وكان يرتجف من فرط الانفعال، ولكنه تقدم بشجاعة، وأطاعني كحمَل وديع. تعمَّدنا التحرُّك خارج الطريق لكي نخفي آثار أقدامِنا بين العشب، وسلكنا كلَّ منعطف وكأننا جنديَّا استطلاع في مهمةِ استكشاف. قابلنا نيوهوفر عائدًا إلى المزرعة، ولكننا سمعناه قادمًا قبل أن يصِلَنا بوقتٍ طويل، وكنا متواريَين جيدًا عندما مر بنا. كان يسرع الخُطى للغاية لدرجة أني سمعتُ صوت لهاثه. بعد ذلك، أصبح الطريق عبر المرج آمنًا، ولكننا عبرنا الجسر بحذَرٍ شديد بعدما تأكدنا من أن لا أحد حولنا. في حوالي الواحدة والنصف، كنتُ أفتح مصراع نافذة غرفة نوم جاوديان، وأوقظه، وأرجوه أن يُعِد بعض الطعام والشراب.
سألني ناعسًا: «هل دخلتَ سناسِن؟»
قلت: «لا، ولكني عثرتُ على ما كنتُ أبحث عنه. أحد الرهائن الثلاث جالس الآن في غرفتك.»