عودتي إلى العبودية
أطعمنا ميركوت اللحم المُعلب والبسكويت وقنينة جعة، وأكل طعامه كصبيٍّ صغير يتضوَّر جوعًا. الغريب في الأمر أن ذُعره زال فجأة. أظن أنه عندما رآني، الأمر الذي جعله يتذكَّر ماضيه، شعر بأنه لم يعُد مشردًا، وبمجرد أن أصبح واثقًا من هويته، عادت إليه رباطة جأشه الطبيعية. كان يرتاح كثيرًا للنظر إلى جاوديان، ولم أتخيَّل مُهدئًا أفضل من النظر إلى هذا الوجه المُسن العطوف الحكيم. أقرضتُه منامة، ولففتُه جيدًا بالغطاء لأمنع البرد من التسلُّل إليه، وجعلتُه ينام في فراشي، وشعرت بالرضا عندما رأيتُه يغطُّ على الفور في نومٍ عميق.
في صباح اليوم التالي، التقيتُ وجاوديان ببيتر بوير وأخبرناه أن صديقًا شابًّا إنجليزيًّا لنا قد تعرَّض لحادثٍ خلال نزهة سير وسيُقيم معنا ليومٍ أو يومَين. كان من المُستبعد أن يعلن نيوهوفر عما فقد، ولم يكن بيتر ممَّن يُثرثرون كثيرًا على أية حال، وأخبره جاوديان، الذي أعرفه منذ سنوات، أننا نريد إبقاء مسألة وجود ضيفٍ معنا سرًّا قدر الإمكان. ظل الفتى نائمًا حتى منتصف النهار، بينما ظللتُ أنا مستيقظًا أراقب الطريق. ظهر نيوهوفر مبكرًا، واتجه نحو قرية ميردال حيث قضى القسم الأكبر من فترة العصر. من المحتمل أنه كان يتقصى أمر الفتى، ولكن كان من مصلحته أن يتحرَّى بسرِّية. ثم عاد إلى تريسيل، ورأيت في وقتٍ لاحق خيالًا لشخص مغموم يسير على الطريق المؤدية إلى سناسِن. ربما فكر في أن جثمان الفتى الهارب يرقد في إحدى البرك التي صنعها الشلال أو ربما جرفه تيار نهر سكارسو إلى البحر، وتراءى لي أن هذا لا يتفق على الإطلاق مع ما تلقى من تعليمات.
عندما استيقظ ميركوت أخيرًا وتناولَ إفطاره، بدا مختلفًا. كان الخوف قد ذهب من عينَيه، وعلى الرغم من أنه كان يتلعثم كثيرًا وبدا أنه يُواجِه صعوبة في جمع شتات نفسه، ظهر جليًّا أنه بدأ يستعيد رباطة جأشه. كان أكثر شيءٍ يتوق إليه هو أن ينظف نفسه، وكان هذا الأمر يتطلب مجهودًا كبيرًا، فلم يكن قد استحمَّ منذ أسابيع. ثم أراد أن يستعير منِّي شفرتي للحلاقة ليحلِق لحيته، ولكني تمكنتُ من منعه عن فعل ذلك في الوقت المناسب؛ فقد كنتُ أفكر في الأمر، وتوصَّلت إلى أن حلاقته للحيتِه لن تُفيدنا. كانت وجهة نظري أنه قد استعاد ذاكرته، ولكن كانت لا تزال ثمة فجوات فيها؛ أي أنه تذكَّر على نحوٍ مثالي ماضيه كلَّه حتى غادر أوكسفورد في السابع عشر من فبراير، كما تذكر الأحداث التي وقعت خلال الأيام القليلة الماضية، ولكن الأحداث التي وقعت بين هاتَين المرحلتَين الزمنيتَين كانت لا تزال ضبابية.
عندما عاد إلى شقته في تلك الليلة من شهر فبراير، كان قد عثر على رسالة تتعلَّق بحصان كان يُريد شراءه، كانت رسالة عاجلة تطلُب منه الحضور على الفور إلى إسطبل خيول مُعين. كان لدَيه الوقت الكافي ليفعل، قبل أن يرتدي ملابسه لحضور عشاء، فانطلق من فوره مُغادرًا المنزل، وشاء القدر ألا يلتقِيَ بأحد على الدرَج، ولم يرَه أحد أيضًا في الشارع لأن الليلة كانت ضبابية. لم يكن يذكر أي شيءٍ مما حدث بعد ذلك. فقد استعاد وعيَه في شقة في لندن، حسِبها دار رعاية، ورأى طبيبًا — يُمكنني تخمين من كان هذا الطبيب — ثم فقد وعيَه مجددًا. بعد ذلك، لم تكن ذاكرته سوى ظلام دامس يتخلله بضع نقاط مضيئة كانت عبارة عن أحاسيس جسدية. فقد تذكر أنه كان يشعر ببردٍ شديد وكان يشعر بالإعياء في بعض الأحيان، كما تذكر رائحة البرافين، ورائحة القش العَطِن، ورائحة شراب معسول كان يجعله يُصاب بالغثيان. كما تذكر وجوهًا؛ وجه امرأة عجوز عبوس كانت تسبُّه، ووجه رجل بدا وكأنه يضحك دائمًا، وكان يخشى ضحكته أكثر من السباب.
أظن أنه لا بد أن لعنة مِدينا كانت قد بدأت تنحسِر خلال تلك الأيام الأخيرة، وأن الحارس، جيسون، أو أيًّا كان اسمه، لم يتمكن من تقويتها. فلم يعُد ميركوت يرى جيسون رجلًا مرعبًا، بل تهديدًا؛ وغدًا شابًّا فظًّا يكرهه. ومع تشذيب الفروع المتشابكة أمام الذاكرة، بدأت الذاكرة نفسها تظهر جلية. رأى مَشاهد من حياته في ألسيستر، كانت تظهر في البداية على أنها مشاهد عامة، ولكنها سرعان ما بدأت تُظهِر أحداثًا شارك فيها. ثم بدأ الاشتياق، اشتياق شغوف بشيءٍ كان يُدرك يقينًا أنه يخصُّه. لم يمرَّ الكثير من الوقت قبل أن يُدرك أنه اللورد ميركوت رغم أنه كان يرتدي أسمالًا رثةً مثل المُتشردين وكان قذرًا مثل وقَّاد القطار. ثم بدأ يتوصَّل إلى استنتاجات مُذهلة. لقد حدث له شيء ما؛ كان في أرض أجنبية، أرض لم يكن يعرفها، أُسيئت مُعاملته وأُسِر، ولا بد أن يهرب ويعود إلى عالَمه القديم السعيد. كان يفكر في الهرب دون هدى، من دون أي خطة؛ إذا ما تمكن من الهرب من هذه المزرعة اللعينة، فسوف يتذكر بصورةٍ أفضل، ستحدُث له أمور، أمور سيتمكن من تذكرها.
ثم جاء جيسون، وجاء نيوهوفر، وكاد نيوهوفر يُصيبه بالجنون من فرط الخوف؛ فقد كان وجه الطبيب يختلط بصورة غير طبيعية بذاكرته المشوشة في الفجوات بين عالَمه القديم وعالَمه الجديد. كان من الجنون أن يفكر في الهرب الآن، ولكنه كان يُفضل الهرب من نيوهوفر حتى وإن لم يكن سيذهب إلى أي مكان. تحيَّن فرصته، وواتته الفرصة في حوالي الثامنة من الليلة السابقة، عندما كان بقية مَن في المنزل يتناولون العشاء. وقادته غريزته إلى ميردال. سمع صوت خطواتٍ تتبعه، فتوارى بين الأشجار. ثم ظهرتُ أنا، وحسبني عدوًّا، فهاجمني يائسًا من نجاته. ثم ناديتُه باسمه، الأمر الذي أصلح تخبُّط ذاكرته. ثم «استعاد نفسه» حرفيًّا، وأصبح مجددًا خريج كنيسة المسيح، وكان لا يزال مصدومًا وفزعًا، ولكنه عاقل.
السؤال الذي كان يؤرِّقني هو إذا ما كان الشفاء قد اكتمل، إذا ما كان نيوهوفر قد تولَّى مهمة نائب مِدينا وأعاد إحياء اللعنة. لم أكن أعتقد أنه قادر على فعل ذلك، ولكني لم أكن واثقًا. لم يكن ثمة مَناص من المخاطرة على أية حال.
كرَّر ميركوت طلبَه باستعارة شفرتي للحلاقة. كان يدخن سيجارة تركية كما لو أن كل نفخةِ دخانٍ يُخرِجها تُقربه أكثر من الفردوس. رغم أنه كان أشعث الشعر، رث الملبس، طويل اللحية، فكانت لا تزال ثمة لمحة من ذلك الشاب الثري الرياضي الذي كان. كان يريد معرفة متى ستُبحر السفينة، ولكن بدا أنَّ الذعر الذي كان يتخلَّل نفاد صبره كان قد اختفى.
قلت له: «اسمع. لا أظن أنه يجدُر بك المغادرة بعد. هناك الكثير من الأمور التي أريد أن أُخبرك بها بعدما أصبحتَ قادرًا على تحمُّل سماعها.»
قصصتُ عليه ملخَّصًا لقصة ماكجيليفراي، وقصة الرهائن الثلاث. وأظن أنه شعر ببعض الراحة عندما أدرك أن ثمة آخرين واقعِين في نفس الورطة مثله. فقال: «يا إلهي! يا لها من مسألة لعينة! وأنا الوحيد الذي تمكنتَ من معرفة مكانه. ألا يوجد أي خيط يدلك على مكان الفتاة والصبي؟»
«لا شيء على الإطلاق!»
قال: «يا لهما من مِسكينَين» ولكني لا أظن أنه استوعب الموقف حقًّا.
«أصبحتَ تُدرك الآن مدى صعوبة موقفنا. حدد ماكجيليفراي موعد القبض على العصابة في العاشر من يونيو. ولا يمكننا أن نُحرِّر الرهينتَين قبل يوم التاسع من يونيو وإلا قد تشك العصابة في الأمر. لقد أعدوا كل شيءٍ كما أخبرتُك من أجل تصفية أعمالهم. علاوة على ذلك، لا يمكننا تحرير أحد الرهينتَين من دون الآخر، إلا إذا فقدنا، في يوم التاسع من يونيو، الأملَ في تحرير الرهينتَين معًا. هل تفهم ما أعنِيه؟»
لم يبدُ عليه أنه فعل. قال: «كل ما أريده هو العودة إلى المنزل في أسرع وقت.»
قلت: «من المؤكد أنك تريد ذلك. ولكن لا بد أن تُدرك أن هذا مُستحيل، على الأقل حتى نُحْكِم قبضتنا عليهم.»
حدَّق في وجهي، ورأيتُ الخوف يُعاود الظهور في عينَيه.
وقال: «هل تعني أنك تريد منِّي أن أعود إلى ذلك المكان اللعين؟»
«هذا ما أعنيه تمامًا. إذا ما أمعنتَ التفكير في الأمر، ستجد أنها الطريقة الوحيدة لنجاح مهمتنا. لا يجدُر بنا أن نفعل شيئًا من شأنه إفساد فرصة تحرير الرهينتَين الأُخرَيين. أنت رجل نبيل، وأصبحتَ ملزمًا بمجاراتنا في لعبتنا.»
صاح قائلًا: «ولكني لا أستطيع فعل ذلك. يا إلهي، لا يمكنك أن تطلب مني ذلك.» ظهرت نبرة باكية في صوته واتَّسعت عيناه.
فقلت: «أعرف أنني أطلب منك الكثير، ولكني أعلم أنك لن ترفُض. لم يعد ثمة خطر مُحدِق بك الآن؛ فقد استعدتَ ذاكرتك، وأصبحت تعرف أين تكون. ويرجع إليك أمر إذا ما كنت ستخادع سجَّانك. لقد أصبح هو المخدوع الآن. ستؤدي دور الفتى القروي الساذج وستسخر منه طوال الوقت في سريرتك. سيظل السيد جاوديان هنا ليُراقبك، وعندما يحين الوقت — ولن يزيد عن خمسة أسابيع — سأمنحك إذنًا كاملًا بأن تفعل في الطبيب نيوهوفر أي شيء تريد.»
قال مولولًا وسقط فكُّه السُّفلي وكأنه طفل مذعور: «لا أستطيع، لا أستطيع.»
ثم تكلم جاوديان. وقال: «أظن أنه من الأفضل أن نؤجِّل الحديث في هذا الموضوع. سيفعل اللورد ميركوت ما يراه صائبًا من وجهة نظره. لقد فاجأته بطلبك هذا. أرى أنه من الأفضل أن تخرج للتمشية يا هاناي. جرب الجزء الجنوبي من النهر، ثمة الكثير من الأشياء التي يُمكنك رؤيتها هناك.»
ثم تحدَّث معي عند الباب. وقال: «الفتى المسكين مُحطم تمامًا. لا يمكنك أن تطلب منه أن يتخذ قرارًا صعبًا مثل هذا بينما أعصابه لا تزال هشة. هلَّا تركته معي؟ لديَّ بعض الخبرة في التعامُل مع مثل هذه الحالات.»
عندما عدتُ على موعد العشاء، بعد جولة تسلُّقٍ درَّبَت كل عضلةٍ في جسدي، وجدتُ جاوديان يُعَلِّم ميركوت لعبة صبر جديدة. قضَينا أمسيةً مُمتعةً للغاية معًا، ولاحظتُ أن جاوديان يُوجِّه دفة الحديث نحو موضوعات يمكن للفتى المشاركة فيها، وتجعله يتحدَّث عن نفسه. تحدث معنا عن طموحاته في مجال السباقات، ورغبته في امتطاء حصان في السباق الوطني الكبير، وآماله في رياضة البولو. علِمنا أنه كان سيلتحق بالحرس الملكي، ولكنه مُنِح عامًا واحدًا ليجوب العالَم بعدما أنهى دراسته الجامعية، ووضعنا معًا برنامجًا لرحلته. أخبرَه جاوديان، الذي سافر إلى جميع أنحاء العالم تقريبًا، عن أماكن في آسيا لم يذهب إليها سائحٌ من قبل، حيث تُنَظَّم رحلات صيد مُذهلة في غاباتٍ بِكر، وشاركته تَوقي إلى بضع مُقاطعات في أفريقيا لم يُفسدها البشر بعد. بدا عليه الحماس الشديد؛ فقد كان يملك في داخله روحَ مُستكشِف، وسأل في تواضُع عما إذا كنا نظنُّ أنه قادر على تنفيذ بعض الخطط التي اقترحناها عليه. فأخبرناه بأنه لا شك في ذلك. قلت له: «إنها ليست في مثل صعوبة ركوب الخيل في السباق الوطني.»
عندما تركناه لينام، ابتسم جاوديان في سرور. وقال: «لقد بدأ يستعيد ثقته.»
ظلَّ الفتى نائمًا اثنتَي عشرة ساعة، وعندما استيقظ، كنتُ قد انصرفت؛ فقد فكرتُ في أنه من الأفضل أن أتركه مع جاوديان. كان يجدُر بي أن أنجز مهمتي في ذلك اليوم؛ فقد كان اليوم السابع والعشرين من أبريل. سِرت بمحاذاة الخليج نحو هاوج، وأخبرت يوهان بأن يستعدَّ للانطلاق صباح اليوم التالي. سألته عن حالة الطقس الذي كان لا يزال صافيًا، فحدَّق في السماء وتشمَّم الهواء، وقال إنه يظن أنه سيظل على هذه الحال ليومٍ أو يومَين آخرَين. وأضاف قائلًا: «ولكنَّ السماء ستُمطر قريبًا، وستهب رياح. وضوضاء النهر عالية للغاية.»
عندما عدت، استقبلني جاوديان عند الباب. وقال: «لقد تعافى الفتى. وسيتحدَّث إليك بنفسه. إنه فتًى شجاع وسيؤدي تلك المهمة العصيبة على الوجه الأمثل.»
حياني ميركوت بخجلٍ واستحياء.
وقال: «يؤسِفني أن أقول إنني تصرفتُ بطريقةٍ سيئة بالأمس يا سيدي. كنت خائفًا للغاية، وأشعر بالخِزي من نفسي، فلطالما اعتقدتُ أني شجاع.»
قلت: «يا بُني العزيز، لقد مررتَ بأمورٍ من شأنها أن تُحطم أعصاب ثور.»
«ما أريد قوله لك إنني بالطبع سأفعل ما تُريد منِّي فعله. لا بد أن أستمر في تأدية دوري من أجل الآخرين. ذلك الصبي الصغير المسكين! كما أني أذكر الآنسة فيكتور جيدًا؛ أقمتُ في نفس المنزل الذي تُقيم فيه ذات مرة. سأعود إلى المزرعة عندما تأمُرني بذلك. وثِق في أني أتطلع لذلك بكامل إرادتي. وأعِدك بأني سأؤدي دور الساذج حتى يظن الطبيب نيوهوفر أنني أصبحتُ لقمة سائغة. كل ما أطلبُه منك هو أن تسمح لي بتصفية حسابي معه عندما يحين الوقت. فثمة حسابٌ كبير أودُّ أن أُصفِّيَه معه.»
«أعِدُك بذلك بالتأكيد. اسمع يا ميركوت، إذا كنتَ لا تُمانع ما سأقول، أظن أنك تُحسِن التصرف بصورةٍ رائعة. أنت شابٌّ شجاع.»
فقال وقد تورَّدت وجنتاه: «أوه، لا بأس. متى تُريد منِّي أن أبدأ؟ أودُّ أن أقضي ليلةً أخرى في فراشٍ نظيف، إذا أمكن.»
«لك ما طلبت. في ساعةٍ مبكرة من صباح الغد، سأصحبك إلى بوابة السجن. وأُريدك أن تثرثر كثيرًا عندما ترى نيوهوفر، وأن تتظاهر بأنك غير قادر على التحدُّث عن أيٍّ من أفعالك. وسأتركك لتواصِل خداعه. ستكون الأسابيع الخمسة القادمة مُملَّة للغاية بالنسبة لك، ولكن يجب عليك أن تكظم غيظك وتلتزم بما اتفقنا عليه. وتذكَّر، سيظل جاوديان هنا طوال الوقت وعلى تواصل دائم مع أصدقائك، وعندما يحين اليوم الموعود، ستتلقى تعليماتك منه. وبالمناسبة، سأترك لك مُسدسي. وأريد منك أن تُخفيه جيدًا، فمن المُستبعَد أن يفتش نيوهوفر جيوبك. بالطبع لا أريد منك أن تستخدمه، ولكنك قد تكون مرتاحًا لفكرة أنه في حوزتك.»
أخذ الفتى المُسدَّس مسرورًا. وقال: «لا تخشَ من أن أستخدمه. ما أُضمِره لنيوهوفر هو أسوأ ما يمكن أن يُضمره رجل على الإطلاق. إنه أثقل مني وزنًا بقليل، ولكن هذا لن يُعيقني.»
في ساعةٍ مبكرة للغاية من صباح اليوم التالي، أيقظنا ميركوت، وبينما كانت السماء تتحوَّل من الأزرق إلى الفيروزي، سلكنا طريقنا عبر المروج الغارقة في الضباب وصعدنا نحو الطريق المؤدية إلى سناسن. خرجنا من الطريق عندما وصلنا إلى قمة التل، وبحثنا عن مسارٍ دائري يوصلنا إلى مؤخرة المزرعة، ولكننا، قبل ذلك، جعلنا ميركوت يتجوَّل بين أشجار الدغل حتى أصبح وجهه قذرًا وعلقت الكثير من فروع الأشجار والتراب في شعره الأشعث. ثم صافحه كلانا، وعثرنا على مخبأ داخل أجمة من أشجار العرعر، وراقبناه وهو يمضي قدمًا.
كان يبدو بائسًا في ذلك الصباح البارد المعتم أثناء اقترابه من باب المزرعة. ولكنه كان يؤدي دوره ببراعة؛ فقد تعثر من فرط التعب، واصطدم بالباب بقوة، وطَرَقَه بوهَن. بدا وكأنه قد مرَّ دهر كامل قبل أن يُفتَح الباب، ثم بدا وكأنه تراجع إلى الخلف في رُعب. صاحت المرأة التي فتحت الباب بصوتٍ أجش مُستدعيةً شخصًا ما من الداخل، ثم ظهر نيوهوفر مرتديًا ملابس النوم. أمسك نيوهوفر ميركوت من كتفَيه وبدأ يهزه، وأدى الفتى الشجاع دور المجنون ببراعة واضعًا يدَيه على رأسه ليحميها ويئنُّ كأنه أرنب. ثم رأيناه يُجَر إلى الداخل. كان من المؤسِف أن نترُكه هكذا، ولكني طمأنتُ نفسي بالتفكير فيما سيُفعَل بنيوهوفر في خلال خمسة أسابيع.
أسرعنا عائدين إلى كوخ بيتر بوير، وبعدما تناولنا إفطارًا سريعًا، انطلقنا نحو هاوج. اتفقتُ مع جاوديان على أن يُبلغني بأي تطوراتٍ باستخدام البرقيات، وسأفعل المِثل. وعندما يُحدَّد يوم تحرير الرهائن، عليه أن يتَّجِه إلى سناسن مباشرةً ويتصرف مع الطبيب كما يحلو له، وعليه أن يتأكد من أن الطبيب لن يتمكَّن من التواصُل مع مِدينا ليوم أو يومَين. وسيكون ثمة زورق بخاري مُنتظرًا في ميردال ليُقلَّهما إلى ستافانجر، لأنني طلبت منه أن يصحب ميركوت ويضعه على متن سفينة إنجليزية. كما رتَّبتُ معه أن يمنحه ما يكفي من المال، فلم يكن ميركوت يملك بنسًا واحدًا.
انطلقنا من فورنا؛ فقد كان عليَّ أن أصل إلى فلاكسهولم سريعًا، ومع مرور فترة الصباح، لم أعُد مُتيقنًا من حالة الطقس. كانت الريح التي ظلَّت تهبُّ علينا خلال الأيام الماضية عبارة عن نسيمٍ خفيف قادم من الغرب، أما الآن، فبدا أنها تُغير اتجاهها نحو الشمال، وتزيد من قوَّتها. كان الوضع هادئًا داخل الخليج الذي يقع عميقًا بين التلال، ولكن عندما وصلتُ إلى ناصية الأرض المُنبسطة عند الساحل الشمالي، رأيتُ أن الرياح تهب بقوة؛ فقد رأيت عبر منظاري عاصفة ثلجية صغيرة. كما شعرت فجأة ببردٍ شديد. جعلت يوهان يزيد من سُرعته، وبعد الظهر مباشرةً، كنا قد خرجنا عبر فمِّ الخليج من بين الجدران الصخرية التي تحمينا إلى المنطقة التي يُصبح عندها الخليج أكثر اتساعًا. كانت الريح تهبُّ في هذه المنطقة قوية إلى حدٍّ ما، كما أن أمواج البحر كانت عالية للغاية. كانت ثمة عواصف ماطرة تضربنا من جهة الشمال، وظلَّت الرؤية منعدمة طوال خمس دقائق أو نحوها. كان يومًا عاصفًا عاديًّا من أيام شهر أبريل، مثل تلك الأيام الربيعية عندما تذهب لصيد أسماك السلمون في اسكتلندا، وكان شُغلي الشاغل أن أَلحق بالسفينة التي ستُغادر ستافانجر لدرجة أني لم ألتفت لذلك الطقس العاصف على الإطلاق. ولكن لم يكن ثمة وقتٌ كافٍ للسفينة، فبعد أقلَّ بقليلٍ من أربع وعشرين ساعة، كان يجب أن ألتقي مِدينا. وتساءلت عما إذا كان آرتشي رويلانس قد وصل. وتساءلتُ أيضًا عما إذا كان بمقدور طائرة أن تُحلق في رحلة عودة فوق هذه الفراسخ من البحر العاصف.
بعد قليل ظهرت الخطوط الخضراء لجزيرة فلاكسهولم عبر رذاذ الماء المُتناثر، وعندما بدأ يُوهان يتَّجِه نحو الجنوب الغربي في اتجاه ستافانجر، أمرتُه أن يستمرَّ في المُضي إلى الأمام ويهبط بي على الجزيرة. أخبرتُه أن صديقًا لي يُخيم هناك، وأن يختًا إنجليزيًّا سيأتي لأخذنا بعد يومٍ أو يومَين. بدا جليًّا على وجه يوهان أنه يظنُّني جُنِنت، ولكنه نفذ ما أمرتُه به. وقال: «لن تجد أحدًا على الجزيرة في هذا الوقت من السنة. فالمُزارعون من روزماير لا يأتون إلى هنا إلا في شهر يونيو، عندما يبدأ موسم صناعة القش. كما أن مراعي الشتاء فقيرة وشحيحة.» كان ما أخبرَني به يصبُّ في صالحي، فلم أكن أرغب في أن يرى أحد الأمر الجنوني الذي سنُقْدِم عليه.
عندما اقتربنا من الجزيرة، لم أرَ أي دلالةٍ على وجود حياة على ساحلها، سوى عددٍ كبير من طيور العيدر، وعقاب جميل جالس على صخرة ناتئة وكأنه كائن جريفين مرسومٌ على شعار نبالة. كنتُ أحدِّق في الطائر، فلم أكن قد رأيتُ عقابًا سوى مرتَين فقط من قبل، وعندئذٍ انحرف يوهان بالقارب إلى داخل خليج صغير تُجاور مياهه العميقة حاجزًا مرجانيًّا مسطحًا. وقال لي إن هذا هو مكان الرسو العادي للوصول إلى البر الرئيسي. ألقيتُ حقيبة الأمتعة وحقيبة الظهر على الشاطئ، وودَّعت يوهان ودفعت له ببذخ، وراقبت الزورق الصغير يُبحر جنوبًا حتى اختفى وسط عاصفة. وبعد ذلك، شاعرًا بحمق ما أفعله، حملتُ أمتعتي وواصلت السير إلى عمق الجزيرة، كما لو كنت روبنسون كروزو.
كانت الأمطار تهطل بمعدل ثابت، مطرًا خفيفًا، وكانت تهبُّ من وقتٍ لآخر عاصفةٌ قوية تضرب وجهي وتُثير البحر. فكرتُ أنه طقس لا يصلح للطيران، خاصةً لو كنتَ ستطير لمئات الأميال فوق المُحيط! عثرتُ على المزرعة التي كانت تتألف من بضع مبانٍ خشبية وشيء يُشبه حظيرة ماشية حجرية، ولكن لم يكن بها بشر. عندئذٍ أخرجتُ خريطتي، واستنتجتُ منها أنه من الأفضل أن أتَّجِه نحو منتصف الجزيرة حيث يبدو أن هناك أرضًا منبسطة عند أحد أطراف البحيرة. كنتُ أشعر باكتئابٍ شديد؛ فقد كنت أسير مثل بائعٍ متجولٍ مُمسكًا بحاجياتي في يدي في جزيرة نرويجية غير مأهولة، وكان عليَّ أن أكون في لندن في مساء اليوم التالي. بدت لي لندن في تلك اللحظة بعيدة المنال بنفس قدْر القمر.
عندما وصلتُ إلى حافة البحيرة المركزية، حدثت انفراجة وجيزة في حالة الطقس، وأطللتُ من مكاني على بحيرةٍ رماديةٍ صغيرةٍ تُحيطها مروجٌ شديدة الخضرة. وسط المروج عند الطرف الشمالي من الجزيرة، سُررت برؤية شيء يبدو وكأنه طائرة رابضة، وشيء يبدو وكأنه خيمة صغيرة بالقرب منها. كما رأيتُ حلقاتٍ من الدخان تتصاعد من بين مجموعةٍ من الصخور المجاورة. لقد وصل آرتشي الشجاع، وارتفعت معنوياتي. هبطتُ التل مسرعًا، وأثناء ما كنت أصيح رأيتُ شخصًا يُشبه المُستكشفين القطبِيِّين يخرج من الخيمة.
صاح: «مرحبًا، ديك. هل حالفك الحظ؟»
قلت: «حظ وافر. ماذا عنك؟»
«رائع. وصلت إلى هنا بعد رحلة عصيبة كانت الحافلة خلالها تتصرف وكأنها حَمَل. وقضيتُ ليلةً رائعةً بين الطيور؛ يا إلهي! هذه الجزيرة أرضُ صيدٍ ممتازة للطيور. كنتُ أخرج في دوريات مُراقبة من فوق قِمم التلال طوال فترة الصباح بحثًا عنك، ولكن الطقس ساء للغاية، فعُدت لأحتمي داخل الخيمة. الغداء يوشِك على أن يكون جاهزًا.»
سألته بقلق: «ماذا عن حالة الطقس؟»
قال وهو يشمُّ رائحة الهواء: «لا تكُن سخيفًا. أنا واثق من أن العاصفة ستهدأ عند غروب الشمس. هل تخشى السفر ليلًا؟»
أبهجتني روح دعابة آرتشي وهدوءُه كثيرًا. يجدُر بي القول إنه خُلِق لهذه الحياة؛ فقد هيأ لنفسه سُبل الراحة، وأطعمَني وجبةً من أشهى ما أكلتُ في حياتي؛ حساءً مُكونًا من أطعمة مُعلبة مع الكاري، وبودنج الخوخ، وتشكيلة مما أطلَق عليه «مُقَبِّلات». ولكي نُحافظ على دفء جسمَينا، شربنا النبيذ البندكتيني في أكوابٍ مصنوعة من قرون الحيوانات. لم يتمكن من الحديث عن أي شيءٍ سوى الطيور التي عَشِقَها، وقال إنه سيعود إلى جزيرة فلاكسهولم ويُخيم فيها لأسبوع كامل. كان قد رأى تشكيلةً مُتميزةً من الطيور، نوعًا من طيور المِخطاف، التي أثلجت رؤيتها صدرَه. عندما سألته عن الرحلة التي نحن بصدد القيام بها، لم يُكلف نفسه عناء الإجابة؛ فقد كان منشغلًا للغاية في تفكيره في الطيور التي تعيش في النرويج.
قلت: «آرتشي، هل أنت واثق من أنك قادر على عبور بحر الشمال؟»
«لن أقول إني «واثق». فدائمًا ما تنطوي هذه الرحلات على مقامرة، ولكني آمُل أن يُحالفنا الحظ في عبوره. ستهدأ الرياح، كما أنها رياح أرضية، وستكون أهدأ عندما نرتفع فوق سطح الأرض لبضع مئاتٍ من الأقدام. علينا أن نرسُم مسارًا باستخدام البوصلة على أية حال حتى لا يُمثل لنا الظلام مشكلة.»
سألته: «ماذا عن حالة الطائرة نفسها؟» كنتُ أشعر بعصبيةٍ شديدة لم أجد لها سببًا.
«إنها رائعة. ولكن لا يمكن للمرء أن يعرف ما قد يحدُث بالطبع. إذا ما انحرفنا عن مسارنا المُستقيم لمسافة كبيرة؛ فقد ينفدُ منَّا الوقود».
«وماذا سيحدث في هذه الحالة؟»
«هبوط اضطراري.»
«ولكن ماذا سيحدث، بافتراض أننا لم نكن قد وصلنا إلى اليابسة عند حدوث ذلك؟»
قال آرتشي جذِلًا: «أوه، عندئذٍ سنكون في ورطة.» ثم أضاف وكأنه يحاول تهدئتي: «ربما تلتقِطُنا سفينة عابرة أو قارب صيد. عرفت أشخاصًا كانوا مَحظوظين لهذه الدرجة».
«ما هي احتمالات وصولنا بأمان؟»
«خمسين بالمائة. لا يُوجَد احتمال له أفضلية خلال السفر جوًّا. ولكننا سنكون على ما يُرام. لا تقلق، إن دجاج الأرض يقوم بهذه الرحلة دائمًا دون توقف.»
لم أطرح عليه أي أسئلة أخرى؛ فقد كنت أعلم أني لن أتمكن من حملِه على تجاوز موضوع دجاج الأرض. لم أكن سعيدًا، ولكن جعلني هدوء آرتشي أشعر بالخجل من نفسي. شربنا كوبَين رائعَين من الشاي، ثم بدأت الريح تهدأ بالفعل، وتبددت الغيوم كاشفةً عن سماء صافية. أصبح البرد قارسًا، وكنت مُمتنًّا لكل قطعة ملابس تُغطي جسدي، وكنتُ أحسد آرتشي على معطفه الجلدي الثقيل. أصبحنا جاهزَين في حوالي التاسعة، وتحرَّكنا بالطائرة في هدوء تام، وانطلقنا على مساحةٍ عشبية مفتوحة، وطِرنا فوق البحيرة حتى نتمكَّن من تجاوز التل، وانحرفنا نحو الغرب، وكان الأُفُق يبدو وكأنه غلافٌ من الذهب يهبط على بحرٍ من الذهب الذائب.
كان الحظُّ حليفَنا تلك الليلة، وتبدَّدت جميع هواجسي. بغضِّ النظر عن البرد، الذي كان قارسًا للغاية، استمتعتُ بكل لحظة من هذه الرحلة، وفي ساعة مبكرة من الفجر، رأينا خطًّا أسود تحتنا، والذي كان ساحل أبردين. تزوَّدنا بالوقود في مكانٍ ما في كينكاردين، وتناولنا إفطارًا رائعًا في الفندق المحلي. سار كل شيءٍ بسلاسة، وكنا لا نزال في ساعة مبكرة من الصباح عندما أدركتُ أننا نعبر مرتفعات شيفيوت. هبطنا في مدينة يورك عند الظهر، وركب آرتشي قطار لندن، بينما آخُذ أنا سيارتي من المرآب وانطلقتُ نحو أوكسفورد. ولكن قبل أن أفعل، أرسلتُ برقيةً إلى ماري أطلب منها أن تُرسِل برقيةً إلى مِدينا تُخبره فيها أني سأصل إلى لندن في السابعة والربع. كانت رحلتي نحو الجنوب مُمتعة، وتركتُ السيارة في أوكسفورد، ووصلتُ إلى رصيف محطة بادينجتون في الوقت المُحدَّد لأجد مِدينا في انتظاري.
كان يتعامل معي بلُطف.
قال: «صديقي العزيز، هل أصبحتَ بخير، كما آمُل؟»
«بخير حال، شكرًا لك. مُستعد لأي شيء.»
«تبدو بشرتُك وكأن الشمس لوَّحتها أكثر مما كانت عندما غادرت المدينة».
«كان الطقس رائعًا في منزلي. وقضيتُ أغلب وقتي راقدًا في شُرفتي تغمرني أشعة الشمس.»