زيارتي لحقول عدن
كان ثمة تغيرٌ طرأ على مِدينا. لاحظتُ ذلك في اليوم التالي عندما تناولتُ الغداء معه، ولاحظتُ ذلك بشكلٍ خاص خلال العشاء التالي الذي تناولناه في نادي الخميس الذي حضرته بصفتي ضيفَه. كان تغيرًا طفيفًا لم يكن أحد غيري ليُلاحظه، لكنه كان واضحًا للغاية لي لأني كنت أراقبه مثلما يُراقب الوشق فريسته. أصبح تعامُله الواثق مع العالَم من حوله أقل مما كان بقليل، وعندما نكون وحدنا كان أكثر صمتًا من ذي قبل. لم أظن أنه بدأ يشك في وجود أي خطر مُحدِق بخُططه، لكن موعد تنفيذها كان يقترب، وحتى ثقته الباردة أصبحت تتخلَّلها بعض الاضطرابات العصبية. استنبطتُ أنه بمجرد حدوث التصفية الكبيرة للأعمال وإدراكه للأصول التي ستكون الأساس الذي تقوم عليها مسيرته المهنية الرئيسية، فلن يهمه ما يحدث للرهائن. ربما يطلق سراحهم، وربما يعودون ذاهِلين إلى حياتهم القديمة غير قادرين على قول أي شيء عن فترة غيابهم، وإذا ما تسرَّبت قصتهم، فستظهر مقالات في الدوريات الطبية عن حالات فقدان الذاكرة غير المسبوقة تلك. كنت واثقًا من أنهم لم يتعرضوا لأذًى دائم حتى الآن. ولكن إذا ما فشلت تصفية الأعمال، فالربُّ وحدَه يعلم مصيرهم. ربما لن يراهم أحد مُجددًا، لأنه إذا ما فشل أسرُهُ لهم في درءِ تعرُّض خُططه لكارثة، فسيسعى إلى تأمين نفسه، وفوق كل شيء، سيسعى إلى الانتقام. لعقليةٍ مثل عقليته، قد يُصبح الانتقام هوسًا.
جعلتني حقيقة أني تمكنتُ من حلِّ أحد الألغاز ووصولي إلى إحدى الرهائن في حالة دائمة من القلق. كان وقتنا ينفد سريعًا، وكان لا يزال هناك مِسكينان مُختفِيان في عالمه السفلي المظلم. كان الصبي الصغير هو أكثر من يشغل تفكيري، وربما جعلني انشغالي به أكثر غباءً في تناول أمورٍ أخرى. كانت أفكاري منصبَّةً دائمًا على لُغز «الغازلة الكفيفة» الذي لم أحرِز فيه أي تقدُّمٍ يُذكر. لم يتوصل مراقبو ماكجيليفراي إلى أي شيءٍ ليبلغونا به. ولم تكن ثمة فائدة من زيارة مدام بريدا مرة أخرى والمرور بنفس الهراء السابق مُجددًا. كان كل ما استطعت فعله هو ملازمة مِدينا وتمنِّي أن يحالفني الحظ. كنت قد قررتُ أنه إذا طلب مني مجددًا أن أُقيم معه في منزله في شارع هيل، فسأقبل، على الرغم من أنه قد يكون قرارًا عصيبًا من نواحٍ شتَّى.
كنت أشتاق إلى ساندي، ولكن لم يصلني أي خبر عنه، وكان قد شدد عليَّ ألا أحاول التواصل معه. كان الصديق الوحيد الذي التقيته خلال تلك الأيام الأولى من شهر مايو هو آرتشي رويلانس الذي بدا وكأنه نسي أنه اسكتلندي واستقر في لندن طوال الموسم. بدأ ممارسة رياضة البولو، التي لم تكن رياضةً آمنة لرجل مُقوس الساقَين، كما فتح منزله في شارع جروسفينور واستقر في جزءٍ منه. كان يعلم أني مُنشغل بمهمة عويصة، وكان يرغب بشدة في الاشتراك فيها، ولكن كان يجب أن أكون حذرًا في التعامُل مع آرتشي. كان من أفضل من أعرف، ولكنه لم يكن يستطيع أن يكتم سرًّا. فرفضتُ أن أخبره بأي شيءٍ حاليًّا، ونبَّهتُ توربين، الذي كان من أصدقائه القدامى، أن يفعل المثل. تناول ثلاثتنا العشاء معًا ذات ليلة، واستدرج آرتشي ذلك المسكين توربين ليقع في فخ اكتئابه.
فقال له: «أنت مغموم الليلة. سمعتُ أنك ستتزوج، وأظن أن هذا هو سبب غمِّك. ماذا تطلق على ذلك؛ حماية الذات؟ ابتهج يا بُني. إن الأمر ليس سيئًا كما يبدو. انظر إلى ديك.»
غيرتُ دفةَ الحديث إلى موضوعاتٍ أخرى، وأخذنا رأيه في المسرح المعاصر. كان آرتشي يُدرِّس التمثيل المسرحي، وكانت له آراء قوية عن الدراما. فقال إنه لا بد من وجود أحداثٍ تُثيره وإلا سيغطُّ في النوم منذ الفصل الأول، ولكن المسرحيات التي أثارت اهتمامه كانت نادرة، لذا، كان يظلُّ نائمًا في هدوءٍ حتى يُوقِظه الحضور ويُوجِّهونه إلى خارج المسرح. كان يُحب المسرحيات التي تتضمَّن إطلاق نارٍ وأحداثًا هزلية صاخبة؛ أي شيءٍ فيه ضوضاء. ولكنه شاهدَ عددًا من المسرحيات الجادة التي وجد أنها تُساعده على النوم. كانت ثمة مسرحية استهجنها على وجه الخصوص؛ وكانت تتحدَّث عن المصاعب التي واجهتها امرأة خمسينية وقعت في حُب ابن زوجها.
قال شاكيًا: «كانت مُريعة. مَن ذا الذي يمكن أن يهتمَّ بما فعلته تلك العجوز الشمطاء؟ أؤكد لك أن جميع من كانوا يجلسون حولي استهجنوا القصة أيضًا. قال لي أحدُهم إنها إحدى الروائع التي تتحدَّث عن المفارقات التراجيدية الساخرة. أي مفارقة يا ديك؟ دار في خلدي أنها تُشبِه تلك النبرة التي كان يتحدَّث بها قائدك في الجيش عندما كنتَ تُقْدِم على فعلٍ أحمق يُبرِزه بأن يُطري على ذكائك. آه، بالمناسبة، هل تذكر تلك الفتاة التي كانت ترتدي ثوبًا أخضر التي رأيناها في المرقص؟ لقد رأيتُها في المسرح، أنا واثق من أنها هي نفس الفتاة، وكانت تجلس في إحدى المقصورات مع رفيقها المُلتحي. لم يبدُ عليها أنها كانت مُستمتعةً بالعرض. هل تعلم مَن تكون وماذا كانت تفعل هناك؟ أتظن أنها روسية؟ أعتقد أن تلك المسرحية السخيفة كانت مترجمة عن الروسية. أودُّ أن أرى تلك الفتاة ترقص مجددًا.»
كان الأسبوع التالي خاليًا بالكامل من أي أحداث، فيما عدا القلق الذي كان يعتريني. أبقاني مِدينا على مقربةٍ منه طوال الوقت، وكان عليَّ أن أتخلَّى عن أي فكرةٍ تتعلَّق بذهابي إلى فوسي لقضاء ليلةٍ مع أُسرتي. كنت مشتاقًا بشدةٍ إلى المكان وإلى رؤية بيتر جون، ولم تُرِحني خطابات ماري، لأنها كانت تزداد سوءًا في كل مرة. كنتُ آمُل في أن يتصرَّف مِدينا طبقًا لنصيحة خاراما التي نَصَّت على أنه لكي يُحْكِم سيطرتَه على ضحاياه، عليه أن يأخذهم إلى مكان مفتوح ويُمارس طقوسه عليهم في بيئةٍ اعتادوا عليها. لن يُساعدني هذا كثيرًا مع الصبي الصغير، ولكنه قد يمنحني خيطًا يُوصلني إلى الآنسة فيكتور. كنت آمُل أن أراه يصرُّ في إحدى الحفلات الراقصة على الرقص مع امرأةٍ ما، أو أن يدعوها للذهاب معه إلى منزله، أو أي شيءٍ من هذا القبيل، فحينئذٍ قد أمتلك سببًا للشك. ولكن لم يحدُث ذلك أبدًا. لم يتحدَّث مِدينا إلى أي امرأةٍ غير معروفة في حضوري. بدأتُ أظن أنه رفض الأخذ بنصيحة الرجل الهندي لأنها تنطوي على مخاطرة كبيرة.
علاوة على ذلك، عاد خاراما إلى المدينة مجددًا، وأخذني مِدينا معه لزيارته. كان الرجل قد ترك فندق كلاريدج وأصبح يعيش في منزلٍ صغير في إيتون بلايس، ومن دون أناقة وبهرجة الفنادق الكبيرة، بدا أكثر شرًّا وقُبحًا. ذهبنا لزيارته في منزله ذات ليلة بعد العشاء ووجدناه جالسًا القرفصاء على الأريكة المُعتادة في غرفة مضاءة بمصباحٍ وحيد تعبقها رائحةٌ غريبة. بدا أنه تخلى عن لباسه الغربي؛ فقد كان يرتدي ثوبًا فضفاضًا، واستطعتُ أن أرى قدمَه الحافية القذرة من تحته عندما تحرك ليُعَدِّل الستائر.
لم يُولِياني الكثير من الاهتمام كما لو كنتُ ساعةً قديمة في الغرفة، وما أثار حفيظتي أنهما ظلَّا يتحدَّثان طوال الوقت بلغةٍ شرقية. لم أفهم أي شيءٍ مما قيل، ولكني استنبطتُ أنهما يتحدَّثان عن حالة مِدينا الذهنية. كانت ثمة نبرة عصبية واضحة في صوت مِدينا. وبدا أنه يطرح تساؤلات ملحَّة، وكان الرجل الهندي يُجيبه في هدوءٍ مُطَمْئِنًا. هدأ صوت مدينا تدريجيًّا، وأدركتُ فجأة أنهما كانا يتحدَّثان عنِّي. ارتفعت عينا خاراما نصف المُغمضتَين نحوي لثانية واحدة، والتفت مِدينا نصف التفاتة نحوي. طرح الرجل الهندي بعض الأسئلة عني، وأجابه مِدينا في لامبالاة وهو يهزُّ كتفَيه، مُطلِقًا ضحكة خفيفة. أثارت الضحكة غضبي. بدا أنه كان يقول إني أصبحتُ مستعدًّا ومُؤَمَّنًا وجاهزًا لاستخدامي.
لم تُبهجني هذه الزيارة، وفي اليوم التالي، عندما أخذتُ إجازة من صحبة مِدينا، لم يكن يوجَد ما أفعله أفضل من التجوال في أرجاء لندن بعقلٍ مزدحم بأفكار كئيبة. ولكن، كان لهذا التجوال دون هدًى نتائجه، لحُسن الحظ. كان اليوم هو الأحد، وعند حافة مُتنزَّه باترسي، صادفتُ مجموعةً صغيرةً بائسةً من أعضاء جيش الخلاص تؤدي طقسًا تحت زخَّات المطر. توقفتُ لأسمع، دائمًا ما أفعل، فأنا ذلك الرجل العادي الذي يجِب أن يقف ليُشاهد أي عرضٍ يجري في الشارع، سواء كان حادث سيارة أو عرضَ دُمى. استمعتُ إلى نهاية خطبةٍ كان يُلقيها رجلٌ بدينٌ يُشبه موظفًا عموميًّا تخلَّى عن الفساد، وبضع كلمات من سيدةٍ ذات نظارات تبدو عليها الجدية. ثم غنَّت المجموعة نشيدًا صاحَبَه عزفُ آلة الترومبون، ويا للعجب! كان النشيد الذي كان صديقي القديم توم جرينسليد يُدندن لحنَه في غرفة نومِه في فوسي. كانوا يُغنون قائلِين: «هناك حيث يعثر المُتعَب لنفسه على ملاذٍ ومأمن.»
شاركتهم الغناء بحماسة، وتبرعت بكراونين إلى صندوق التبرعات؛ فقد بدا لي ما حدث منذ لحظات بُشرى خير.
لقد كنتُ أتجاهل هذا الجزء من اللُّغز، وفي ذلك المساء، وفي تلك الليلة، ظللتُ أُقلِّبه في عقلي حتى كدت أُجن.
«حيث ينثر الزارع بذوره في أخاديد جنة عدن.»
كان هذا هو نص البيت المذكور في القصيدة، وطبقًا لما تَذكَّره توم جرينسليد، فإن المكافئ لهذه الصورة هو متجر صغير للتحف في شمال لندن يُديره يهودي ذو لحية مصبوغة. لا شك في أنه يجب أن تكون ثمة صلة بين الصورتَين، ولكني لم أتمكن من العثور عليها. كان اللغزان الأوَّلان واضِحَين للغاية لدرجة أنه كان من المنطقي أن يفترض المرء أن الثالث سيكون مثلهما. لم أرَ أي بارقةِ أمل، وسقطتُ أخيرًا نائمًا وعبارة «حقول جنة عدن» تُغرد في ذهني.
استيقظت ووجدتُ أن الهوس نفسه لم يُفارقني، بل أُضيفَت إليه عباراتٌ أخرى. كانت إحدى العبارات «ساحات اللعب في إيتون»، التي قال شخصٌ ما شيئًا ما عنها، وتساءلتُ للحظاتٍ عما إذا كنتُ لم أتمكَّن من الإمساك بالخيط الصحيح. كانت إيتون مَدرسة كاد بيتر جون أن يلتحِق بها، لذا فلها علاقة بالصِّبية، وقد يكون لها علاقة بديفيد واركليف. ولكني تخليتُ عن هذه الفكرة بعد الإفطار، فلم تكن لتُفضي إلى أي شيء. كانت الكلمة «عدن» وبقية البيت «نثر البذور». ثمة حقول أخرى تشغل فكري لها أسماء على غرار حقول توتهيل وحقول بانهيل. كانت هذه أسماء أماكن في لندن، وكان هذا ما أريد. لم تَرِد في الدليل أيُّ أسماءٍ مثل «حقول جنة عدن»، ولكن أليس من المُحتمَل أنه كان ثمة في الماضي مكان يحمل هذا الاسم الغريب؟
قضيتُ فترة الصباح في مكتبة النادي العامرة أقرأ عن لندن القديمة. قرأت كل شيء عن حدائق فوكسهول، وراينيلا، وكريمورن، وغيرها من العديد مِن المزارات القديمة الأخرى، ولكني لم أجد شيئًا يفيدني. ثم تذكرت أن واحدة من هوايات بوليفانت، لورد أرتينسويل، هي دراسة لندن العتيقة، فاتصلت به هاتفيًّا ودعوت نفسي على الغداء.
كان مسرورًا برؤيتي للغاية، وكنت سعيدًا للغاية بالعودة إلى المنزل الواقع في شارع بوابة الملِكة آن الذي قضيتُ فيه بعضًا من أهم الفترات في حياتي.
قال بوليفانت: «لقد قبلتَ المهمة التي راسلتُك بخصوصها. كنتُ أعلَم أنك ستقبلها. كيف حالك؟»
«لستُ بخير حال. إنها مهمة عويصة ولا أملك الكثير من الوقت. أريد أن أطرح عليك سؤالًا. أنت مُلِم بلندن العتيقة. أخبرني، هل صادفت خلال أبحاثك اسم «حقول جنة عدن»؟»
هز رأسه نفيًا. «ليس حسبما أذكر. في أي مكان في لندن؟»
«أتصوَّر أنها ستكون في مكانٍ ما شمال شارع أوكسفورد.»
فكر قليلًا. ثم قال: «لا. فيمَ تفكر؟ هل هو اسم حديقة خاصة أم مُتنزه؟»
«نعم. تمامًا مثل كريمورن أو فوكسهول.»
«لا أظن ذلك، ولكننا سنبحث في الأمر. أملك مجموعةً جيدة من الخرائط والمُخطَّطات القديمة، وبعض الأدلة العتيقة.»
وعلى ذلك، ذهبنا إلى مكتبته بعد الغداء وبدأنا العمل. في البداية لم تدُلنا الخرائط، ولا الكتب، على شيء. عُدنا في بحثنا إلى القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر عندما كان الناس يخرجون لصيد الثعالب فيما أصبح الآن مُتنزَّه ريجينت وكانت مقاصل تايبرن تقف بالقرب من قوس الرخام. بعد ذلك، وبمحض الصدفة، فكرت في أن أُقرِّب البحث من زمننا الحالي، وعثرت على كتيب يعود إلى تاريخ الحرب الأمريكية تقريبًا تبيَّن أنه دليل لمناطق الترفيه في المدينة للمواطنين. كان يضمُّ معلومات عن جميع «أقبية نبيذ التفاح» و«بساتين الانسجام» التي لا بد أنها كانت حاناتٍ وضيعة، وأماكن في الضواحي لمصارعة الديوك ومصارعة الكلاب. فتحتُ صفحة الفهرس، وتهللَتْ أساريري عندما رأيتُ كلمة «عدن».
قرأت الفقرة جهرًا، وأعتقد أن يدَيَّ كانتا ترتعشان. كان المكان، كما كنتُ آمُل، شمال شارع أوكسفورد فيما أصبح يُطلَق عليه الآن اسم ماريلبون. قرأتُ من الكتاب: «افتتح السيد أسكيو حدائق جنَّة عدن لتكون منتجعًا صيفيًّا للنبلاء وهواة الصيد في العاصمة. يُمكنك أن ترى فيها في عصر أي يومٍ اللورد فلان، والدوق علان، يتجوَّلان بين الأشجار الظليلة الصغيرة تصحبهما حوريات الحديقة، ويصل إلى سمعَيهما من ناحية التعريشات المجاورة أصوات قرع الكئوس وصخب النرد المُبهج، وأصوات الغناء المتناسِقة لفرقة السنيورا فُلانة الإيطالية.» كان يُوجَد الكثير من الوصف المكتوب ولكني اكتفيتُ بما قرأت. كانت هناك خريطة للندن في الكُتَيب، وأمكنني باستخدامها أن أرسم حدود تلك الجنة المُبهمة.
ثم أحضرتُ خريطةً حديثةً وحددتُ الموقع عليها. كان المكان صغيرًا للغاية، بضعة فدادين ليس أكثر، وأصبح مُغطًّى حاليًّا بحي يُحاوطه شارع ويليسلي، وطريق آبويث، وشارع ليتل فاردل، والإسطبلات التي تقع خلف ميدان رويستون. دَوَّنتُ ما توصلتُ إليه في مُفكرتي وهممتُ بالانصراف.
قال اللورد أرتينسويل: «تبدو مسرورًا، يا ديك. هل عثرتَ على ما كنت تبحث عنه؟ غريبٌ أنَّني لم أسمع هذا الاسم من قبل، ولكن يبدو أنه اسم مكان يقع في أكثر نواحي لندن مللًا خلال أكثر حقب التاريخ مللًا.» رأيتُ أن اللورد أرتينسويل كان مُستاءً، فهواة الآثار يكرهون أن يتفوق عليهم أحد في هوايتهم.
قضيتُ بقية فترة العصر أتجول فاحصًا الحي المُمل فحصًا دقيقًا. كان المكان الذي أردتُ العثور عليه هو متجر تُحَف، وظننتُ في البداية أني سأفشل. كان طريق آبويث حيًّا فقيرًا لا يحتوي على متاجر إلا بعض الصيدليات الأجنبية السيئة السمعة، ومتجر حلويات صغيرًا قذرًا كان صبية صغار قذرون يلعبون أمام بابِه. بدا أن سكان الحي في أغلبهم أجانب. كانت الإسطبلات خلف ميدان رويستون عديمة النفع بالطبع؛ فقد مرَّ زمن طويل منذ امتلك أي من سكان هذا الميدان عربة، وبدا أنها أصبحت تُستخدَم في الأساس مرآبًا للشاحنات ذات المحركات وسيارات النقل التي يمتلكها أحد تُجار الفحم. كان شارع ويليسلي، أو على الأقل الجزء الذي رأيتُه منه، مشغولًا بالكامل بمعارض العديد من شركات السيارات الأمريكية. أما شارع ليتل فاردل، فكان مكانًا مُثيرًا للفضول. كان به مبنًى واحدٌ غريب ربما كان موجودًا عندما كانت حقول جنة عدن في أوج ازدهارها، وبدا أنه أصبح حاليًّا مَخزنًا للأثاث من نوعٍ ما، وكانت أغلب نوافذه مُغلقة. ربما كانت بقية مباني الشارع مبنيةً منذ أربعين عامًا، وكانت أغلبها مقراتِ متاجر صغيرة للبيع بالجملة، مثل تلك التي تجدها في الأزقة الخلفية لمنطقة المال والأعمال في لندن. كان هناك مخبز فرنسي كبير عند ناصية الشارع، وصانع أُطُر لوحات، وصانع ساعات، ومتجر نظارات قديم. جُبتُ المكان مرتَين، وأصِبتُ بالإحباط عندما لم أعثُر على أي شيء يمكن أن يكون متجرًا للتحف.
جُبت الشارع مرة أخرى، ثم لاحظتُ أن المبنى القديم، الذي بدا وكأنه مخزن للأثاث، متجرٌ أيضًا من نوعٍ ما. ألقيتُ نظرةً خاطفةً عبر النافذة المُتسخة في الطابق الأرضي، ورأيتُ ما بدا لي وكأنه بُسُطٌ فارسيةٌ ووجهٌ لطيف لتمثال منحوت في حجَرٍ أملس. بدا الباب وكأنه لم يُستخدَم قَط، ولكني حاولتُ فتحه فانفتح، ورنَّ جرس عند الجانب الخلفي من المبنى. وجدتُ نفسي في مكانٍ صغير يُغطيه التراب، وكان مزدحمًا مثل غُرَف التخزين بصناديق، وسجاجيد، وبُسُط، وخردوات. كانت أغلب محتويات المكان من التُّحف، ولكن لم ترَ عيني غير الخبيرة أنها ذات قيمةٍ كبيرة. كانت البُسُط التركمانية على وجه الخصوص من بين الأشياء التي يُمكنك أن تشتري العشرات منها من أيِّ مكانٍ في الشام.
التقتْني امرأة يهودية شعثاء ترتدي أقراطًا من ماسٍ زائف.
قلت لها وأنا أخلع قبعتي لتحيتها: «أنا أهوى التحف. هل يمكنني فحص المعروضات؟»
قالت: «نحن لا نبيع للأفراد. لا نبيع إلا للمتاجر.»
«يؤسِفني ذلك. ولكن هل يُمكنني فحص المعروضات؟ إذا ما أعجبني شيء، يمكنني إحضار تاجر تُحف أعرفه ليشتريه.»
لم تُجبني، ولكنها داعبت قرطها بأصابع يدِها المُمتلئة القذرة.
تفحصتُ بعضًا من البُسُط والسجاجيد، وتأكد انطباعي الأول. كانت في أغلبها رديئة، وكانت خزانة مشروبات أزلتُ عنها الغطاء مزيفة تزييفًا رديئًا للغاية.
قلت مشيرًا إلى جزءٍ من الزخارف الفارسية: «أعجبتني هذه الخزانة. هلَّا أخبرتِني بسعرها؟»
كررَتْ ما قالته سابقًا كما لو كانت صلاةً تحفظها: «لا نبيع إلا للمتاجر.» كانت عيناها الضيقتان، اللتان لم ترفعهما عن وجهي، خاليتَين من أي تعبير.
قلت: «أتوقع أن لدَيك الكثير من المعروضات الأخرى في الطابق العلوي. هل تسمحي لي بإلقاء نظرة عليها؟ لن أقضي في لندن إلا اليوم فقط، وربما أجد شيئًا أحتاجُه بشدَّة. أعي أنكم تُجار جملة، ولكن يُمكنني أن أُرتب شراء أي شيءٍ منكم عبر تاجر. أنا أفرش منزلًا ريفيًّا بالأثاث.»
أبدى وجهها لمحة حياة للمرة الأولى منذ رأيتُها. وهزَّت رأسها بقوة. وقالت: «لا نملك أي مخزونٍ آخر حاليًّا. إننا لا نحتفظ بمخزون كبير. تأتي البضائع وتُباع يومًا بيوم. ولا نبيع إلا للمتاجر.»
«حسنًا، أعتذِر عن إضاعتي لوقتكِ. وداعًا.» عندما غادرتُ المتجر، شعرتُ أني قد توصلتُ إلى اكتشافٍ مُهم. هذا المتجر واجهة زائفة. لا يوجد الكثير من المعروضات القيمة التي قد تُثير اهتمام أي تاجر تُحَف، ولن تُمكِّن جميع الأرباح الناتجة عن بيع هذه المعروضات أصحاب المتجر من شراء سجائر فرجينيا.
عُدتُ إلى الحي مجددًا بعد العشاء. كان مظهر الحياة الوحيد موجودًا في أزقة طريق آبويث، حيث كانت مجموعةٌ من النساء القذرات يقفنَ على الرصيف يثرثرن. كانت نوافذ شارع ويليسلي مغلقةً وكان صامتًا بالكامل من أوله إلى آخره. وكذلك كان شارع ليتل فاردل. لم يكن أحدٌ يسير بهما، ولم أرَ شعاعَ ضوءٍ واحدًا يتسلل عبر أي نافذة، وبدا المكان برمَّتِه وكأنه جُبٌّ صامتٌ في وسط صخب مدينة لندن، كان أشبَهَ بمقبرة. توقفتُ عند متجر التحف، ورأيتُ أن نوافذه مُعتمة تمامًا وأن الباب الهشَّ القديم أصبح مغلقًا بإطارٍ خارجي قوي من الحديد مُثبت في حفرة صغيرة عند نهاية الرصيف ووُضع عليه قفل ضخم. كانت مصاريع نوافذ الطابق الأرضي متينة، ربما كانت متينة بصورةٍ مُبالغ فيها مقارنةً بالمعروضات العديمة القيمة في الداخل. عندما نظرت إلى تلك النوافذ، راودني شعور قوي بأن المبنى خلف هذا الحاجز ليس خاليًا من الحياة مثلما كان يبدو من مظهره، وأن ثمة حياةً في مكان ما داخله، وأن أمورًا تحدث ليلًا يُهمني للغاية أن أعرفها. ذهبتُ صباح اليوم التالي لزيارة ماكجيليفراي. وسألته: «هل يُمكنك أن تُعيرني لصًّا مُحترفًا؟ لليلة واحدة فقط. أريد رجلًا لا يطرح الكثير من الأسئلة وقادر على كتمان الأسرار.»
قال ماكجيليفراي: «لم أعُد أشعر بالدهشة عندما تكون موجودًا. لا. لا نحتفظ بلصوصٍ مُروَّضين هنا، ولكن يُمكنني أن أعثر لك على رجلٍ يعرف عن اللصوصية أكثر من مُحترفيها. لِمَ تريد لصًّا؟»
«الأمر ببساطة أني أريد دخول منزل مُعين الليلة، ولا أرى سبيلًا لفعل ذلك سوى الدخول عنوة. أظن أنك قادر على ترتيب الأمر بحيث لا يتدخل رجال الشرطة المسئولون عن الحي. في واقع الأمر، أُريد مساعدتهم في إخلاء محيط المكان».
شرحتُ له تفاصيل الأمر، وأريته مخططًا للمنطقة. اقترحَ أن أحاول الدخول من خلفية المنزل، ولكني كنتُ قد استطلعتُ هذا الجانب ورأيتُ أنه من المُستحيل الدخول منه؛ فقد بدا المنزل وكأنه مُلتصق بمنازل الشارع الذي خلفه. وفي واقع الأمر، لم يكن هناك باب خلفي. كانت طريقة بناء المبنى بالكامِل غريبةً للغاية، ولكني كنتُ أشعر أن المدخل الموجود في شارع ليتل فاردل هو الباب الخلفي. أخبرتُ ماكجيليفراي بأني بحاجة إلى خبير قادر على إدخالي عبر واحدة من نوافذ الطابق الأرضي، وأن يستبدلها بالكامل بحيث لا يوجد أثر لدخولنا في صباح اليوم التالي. فدق جرسًا وطلب حضور السيد آبيل. استُدعي السيد آبيل، وعندما وصل، رأيت أنه رجل ضئيل الحجم ضعيف الجسم يُشبه التجار القرويين. شرح ماكجيليفراي للسيد آبيل المطلوب منه، وأومأ الرجل أنه فهِم. وقال إن المهمة لن تشكل أي صعوبةٍ على رجل متمرِّس مثله. واقترح أن يستكشف المكان بعدَ موعد إغلاقه مباشرةً، وأن يبدأ العمل في حوالي العاشرة. ووعدَني أني إذا ما وصلت إلى المكان في العاشرة والنصف، فسيكون قد جهَّز وسيلةً لدخول المكان. ثم سأل عن رجال الشرطة الذين يعملون في أقرب نقطةٍ من المكان، وطلب وضع رجال شرطة مُعيَّنين في الخدمة تلك الليلة بحيث يُمكنه أن يُرتب الأمور معهم. لم أرَ في حياتي أحدًا يؤدي مهمة على هذه الدرجة من الدقة بمثل هذه الثقة العملية.
سأل ماكجيليفراي: «هل تُريد أن يُرافقك أحد في الداخل؟»
قلت لا. ارتأيتُ أنه من الأفضل أن أستكشف المكان بمفردي، ولكني كنتُ بحاجةٍ إلى شخص يكون جاهزًا لمعاونتي في حال تعرُّضي لمتاعب، وفي حال عدم عودتي، بالطبع، في غضون ساعتَين، يأتي ليبحث عني.
قال: «ربما نُضطر للقبض عليك بتُهمة السطو على المنزل. كيف ستفسر دخولك المكان عنوة إذا لم تجد شيئًا مُريبًا في الداخل وأيقظت حارس المكان المحترم من نومه؟»
قلت: «لا بد أن أُجازف.» لم أكن أشعر بالقلق تجاه هذه النقطة. فالمكان إما سيكون فارغًا أو مشغولًا بأشخاصٍ لن يطلبوا مساعدة الشرطة.
بعد العشاء، ارتديتُ بدلةً صوفيةً قديمةً وحذاءً ذا نعلٍ مطاطي، وبينما كنتُ أجلس في سيارة الأجرة، بدأت أُفكر في أني أتعامل باستخفاف شديد مع مهمة الليلة. كيف سيتمكن ذلك الرجل الضئيل آبيل من تجهيز مدخلٍ من دون أن يُنبه الحي بأكمله لما يفعل حتى مع تواطؤ رجال الشرطة معنا؛ وإذا ما وجدتُ أحدًا بالداخل، ماذا سأقول له؟ لا تُوجَد قصة مُقنعة يمكن قولها عن التسلُّل إلى منزل شخصٍ آخر، وحضرتني فجأة صورة المرأة اليهودية ذات القرطَين تشق بصراخها سكون الليل، ومُغادرتي المنزل بصحبة رجال الشرطة إلى السجن وسط حشدٍ من الرعاع الذين يسكنون طريق آبويث. حتى إن عثرت على شيءٍ مريب في الداخل، فلن يبدو مُريبًا إلا لي وفيما يتعلق بمشكلتي فقط، ولن يكون مريبًا في نظر القانون. لم يكن من المُرجَّح أن أعثر على شيءٍ مُخالف للقانون، وحتى إن فعلت، فكيف سأُبرِّر وجودي داخل المنزل؟ داهمَني فجأة شعورٌ بالخوف، وكدتُ أُحجِم عن المهمة التي تنتظرني، ولكني تراجعتُ عن ذلك بسبب ذلك الشعور الغريب المؤرِّق الذي يعتمِل في صدري بأنه من واجبي أن أُقْدِم على هذه المخاطرة؛ وأني إن تقاعستُ، سأُفوِّت أمرًا على قدرٍ عظيم من الأهمية. ولكني أؤكد لكم أني لم أكن سعيدًا على الإطلاق عندما صرفتُ سيارة الأجرة عند ناصية ميدان رويستون واستدرتُ وسرتُ في شارع ليتل فاردل.
كانت ليلةً معتمة تُنذر بهطول أمطار، وكان المكان مضاءً بأنوار خافتة. ولكن ما أثار غيظي أني رأيتُ على الجهة المُقابلة من متجر التُّحف موقدًا يحتوي على فحمٍ ساخن وذلك الملجأ الصغير الذي كان يعني أن ثمَّة إصلاحات تجري في جزءٍ من الشارع. كان يُوجَد ذلك النطاق المعتاد المحاط بالحبال، والمُزيَّن بمصابيح حمراء، وكومة من الركام، وحفرة في المكان الذي نُزِعَت منه بعض من أحجار الرصيف. كان هذا هو سوء الحظ في أوضح صورِه، أن يختار مجلس مقاطعة بورو هذا المكان وهذا الوقت تحديدًا لفحص البالوعات. ولكن انتابني شعورٌ خجولٌ بالراحة؛ فقد قضى هذا على مُغامرتي. وتساءلتُ عن السبب الذي منع ماكجيليفراي من ترتيب الأمر ترتيبًا أفضل.
واكتشفتُ أني ظلمتُه. فقد رأيتُ وجه السيد آبيل المُهذَّب يطلُّ عليَّ من الكوخ.
وقال بأدب: «بدا لي أن هذه أفضل خطة. فقد مَكَّنَتني من انتظارك هنا من دون أن أُثير الشكوك. لقد التقيتُ الرجال المُكلَّفين بالخدمة في النقطة القريبة، وكل شيءٍ على خير ما يرام هناك. وهذا الشارع هادئ تمامًا، ولا تستخدِمه سيارات الأجرة كطريقٍ مختصرة. ستجد الباب مفتوحًا. ربما كان من الصعب فتح النوافذ، ولكني ألقيتُ نظرةً على الباب أولًا، وكان ذلك الإطار الحديدي الضخم مجرد خدعة. كان المزلاج الذي يُغلقه القفل مثبتًا في العارضة الجانبية للإطار، إلا أن الإطار نفسه كان مثبتًا في الجدار بواسطة قفلٍ أصغر كثيرًا من القفل الأول، كنتَ ستكتشف وجوده لو دققتَ النظر. فتحتُ لك هذا القفل؛ كان الأمر سهلًا.»
«ولكن ثمة باب آخر، باب المتجر، الذي يتسبَّب في دقِّ جرسٍ في الداخل.»
قال، وشبح ابتسامةٍ على شفتَيه: «وجدتُ هذا الباب مفتوحًا. أيًّا كان من يستخدِم هذا المكان بعد ساعاتِ عمله الرسمية، لا يريد أن يُحدِث الكثير من الضوضاء. الجرس مفصول. كل ما عليك فعله هو دفع الباب والدخول.»
كانت الأحداث تُجبرني على تجاهل رغبتي في الإحجام عن هذه المهمة.
قلت: «ماذا لو دخل أحدٌ وأنا في الداخل؟»
«ستسمع صوته وستتصرَّف بِناءً على ذلك. بوجهٍ عام، يا سيدي، أميل إلى الاعتقاد بأن ثمة أمرًا مُريبًا يدور داخل هذا المكان. هل معك سلاح؟ لا. هكذا أفضل. لا يُخول لك وضعُك استخدام سلاح، كما يُقال، وربما يكشف السلاح وجودك.»
«ماذا ستفعل لو سمِعْتني أصرخ؟»
«سأهبُّ لنجدتك. وإذا لم تعُد في غضون، ما رأيك؟ ساعتَين، سأدخل المبنى وسيكون معي أقرب شرطي للمكان. وسيمنحنا الباب المفتوح مبررًا لدخولنا.»
«ماذا لو خرجتُ مسرعًا؟»
«لقد فكرتُ في ذلك. إذا كانت بداية دخولك جيدة، فسيكون لديك وقتٌ كافٍ لتختبئ»، ثم أشار بإبهامه نحو الكوخ. وقال: «وإذا حوصرتَ، سأتمكن من منعهم عن ملاحقتِك.»
جعلتني الطريقة العملية الهادئة للرجل الضئيل أتحمَّس. تأكدت من خلوِّ الشارع، ثم فتحتُ الإطار الحديدي، ودفعتُ باب المتجر لأفتحه، ثم أغلقتُه برفقٍ خلفي.
كان المتجر مُظلمًا كالقبر، ولم يكن يتسلَّل شعاع ضوء واحد عبر النوافذ المُغطاة جيدًا. شعرتُ بخوف شديد بينما كنتُ أسير على أطراف أصابعي بين البُسُط والطاولات. أطرقتُ السمع، ولكني لم أسمع أي صوتٍ سواءً من الداخل أو من الخارج، فأضأتُ مصباحي الكهربي وانتظرتُ دون أن أُصدر صوتًا. ولكني لم أسمع صوتًا أو أرى حركة. بدأتْ قناعتي بخلو المبنى تزداد، وعندما زادت ثِقتي قليلًا بدأتُ أتحرك لأستكشف المكان.
لم يكن المكان يمتدُّ مسافةً طويلةً نحو خلفية المبنى كما تصورت. سرعان ما وصلتُ إلى جدارٍ كُدِّسَت عليه مُخلفات كثيرة، وهكذا انتهى تقدُّمي في هذا الاتجاه. كان الباب الذي دخلَتْ منه المرأة اليهودية على يميني ودخلتُ عبرَه إلى مكانٍ صغيرٍ يُشبه المطبخ، به حوض، وخِزانة أو اثنتان، وموقدٌ غازي، وفِراش في ركنِه؛ من نوعية الغرف التي يشغلها الحراس عادةً في المنازل المَعروضة للإيجار. نظرتُ عبر نافذةٍ ذات علوٍّ كبير في الجدار، ولكني لم أرَ مدخلًا آخر سوى المدخل الذي دخلتُ منه. فعدت إلى المتجر وجربتُ الممرَّ ناحية اليسار.
لم أعثر في البداية على شيءٍ سوى أبوابٍ موصدة، كان واضحًا أنها خزانات. ولكنَّ أحدَها كان مفتوحًا، ورأيتُ على ضوء مصباحي سلالم تنحدِر بشدة لأعلى؛ من نوعية السلالم التي تؤدي إلى العُليَّات في المنازل القديمة. اختبرتُ العوارض الخشبية؛ فقد خشيتُ من أنها قد تصدر صوتًا، واكتشفتُ أن الدرج بالكامل كان قد تمَّ تجديده. لا يمكنني القول إنني كنت أودُّ الغوص في هذا الصندوق، ولكن لم يكن ثمة شيء آخر لأفعله سوى الاستسلام.
وجدتُ بابًا عند قمة الدرَج، وكنت على وشك أن أحاول فتحه عندما سمعتُ صوت خطوات أقدام على الجانب الآخر منه.
تسمرتُ في هذا المكان الضيق، متسائلًا عما سيحدث لاحقًا. اقترب الرجل من الباب؛ فقد كان صوت الأقدام يعود لرجل، وارتعبتُ عندما أدار مقبض مزلاجه. إن فتح الباب، سيكتشف وجودي؛ فقد كان يحمِل مصباحًا، والرب وحده يعلم ما الذي يمكن أن يحدُث بعد ذلك. ولكنه لم يفتح الباب؛ فقد اختبر مقبض المزلاج ثم أغلقَه بالمفتاح. ثم سمعتُ صوت خطوات أقدامه يبتعِد.
كان هذا مُحبطًا إلى حدٍّ ما، فعلى ما كان يبدو أصبحتُ معزولًا عن بقية المنزل. انتظرتُ بضع دقائق حتى يصفو الجو، ثم حاولتُ فتح مقبض المزلاج متوقعًا أن يكون موصدًا. ولكني ذُهلتُ عندما انفتح الباب؛ فالرجل لم يُغلق المزلاج، بل فتحه. قد يعني ذلك أمرَين لا ثالث لهما. إما أنه ينوي الخروج في وقتٍ لاحق عبر هذا الطريق، وإما أنه ينتظر قدوم شخصٍ ما ويريد أن يُسَهِّل له الدخول.
استعدتُ هدوئي في تلك اللحظة. وتأجَّجَت رغبتي في الاستمرار؛ فقد كانت ثمة لعبة يتعين أن ألعبها وهدف يجب أن أُحقِّقه. نظرتُ حولي في الممر الذي وجدتُ نفسي فيه، وأدركتُ السبب في طريقة البناء الغريبة التي حيرتني. كان المَبنى القديم المُطل على شارع ليتل فاردل رفيعًا للغاية بسمك غرفة واحدة فحسب، وكان مُلحقًا بمبنى أكبر وأحدث بكثير أصبحتُ أقف داخله الآن. كان المَمرُّ عريضًا ذا سقفٍ عالٍ فُرِشَت أرضيتُه بالكامل بالسجاد، ورأيتُ توصيلاتٍ كهربيةً عند كلٍّ من نهايتَيه. أقلقني ذلك، فإن جاء أحد وأضاء الأنوار، لم يكن في المَمرِّ مكان يكفي لإخفاء صرصور. فكرتُ أن أؤَمِّن خطةً هي أجرأها، فسِرْتُ على أطراف أصابعي حتى نهاية الممر، ورأيتُ ممرًّا آخر، خاليًا أيضًا، مُتعامدًا على الممرِّ الذي أسير فيه. كان هذا بلا طائل، ففتحتُ بجرأة بابَ أقرب غرفةٍ منِّي عنوةً. وحمدًا للرب! لم يكن أحد بالغرفة، وعليه، أصبحَت لدي قاعدة للاستطلاع.
كانت غرفة نوم مفروشة بأثاثٍ فاخر من متجر وارينج آند جيلو، وارتعتُ عندما لاحظتُ أنها غرفة نوم امرأة. فقد رأيتُ طاولة زينة امرأة بما عليها من فُرَش تمشيط شعر ضخمة والكثير من العطور والمساحيق. وكانت ثمة خزانة ملابس مواربٌ بابها مليئة بالفساتين المُعلقة على شماعات. بدا أن صاحبة الغرفة غادرتها منذ فترة وجيزة؛ فقد كانت أغطية الفراش غير مرتبة وكان ثمة خفٌّ موضوع بجوار طاولة الزينة، بدا وكأنه رُكِل من القدمين في عجلة.
جعلني المكان أشعر برعبٍ شديد. شعرتُ وكأني أسطو على شقة أناس مُحترمين ودخلتُ غرفة سيدة راقية، وتخيلتُ في ذهني الفضيحة المدوية التي لن يتمكن أحدٌ من إسكاتها. بدا لي آبيل الضئيل الجالس في هذه اللحظة في كوخه ملاذًا آمنًا تفصلني عنه فراسخ عدة من العوائق. فكرتُ أنه من الأفضل أن أعود إليه في أقرب وقتٍ مُمكن، وكدتُ أهِمُّ بالانصراف عندما حدث أمر جعلَنِي أُحجم فجأة عن ذلك. كنتُ قد تركتُ باب الغرفة مواربًا بعدما دخلتها، وكنتُ بالطبع قد أطفأت مصباحي اليدوي بعد فحصي الأول للغرفة. كنتُ واقفًا في ظلامٍ دامس، ولكني رأيت في تلك اللحظة ضوءًا يصدر من الممر.
ربما كانت المرأة المتعجلة صاحبة الغرفة، وسقط قلبي من بين أضلعي. ثم رأيتُ أن أنوار الممر لم تُضأ، وأيًّا كان من يُصدر الضوء، فإنه يستخدم مصباحًا يدويًّا مثلي. كان وَقْعُ الأقدام آتيًا من الطريق الذي كنتُ قد أتيتُ منه. هل هو الرجل الذي كان قد فُتِح من أجلِه البابُ الذي عند قمة الدَّرَج؟
كان رجلًا بالفعل، وأيًّا كان السبب الذي جاء به إلى هنا، فهو لا يتعلق بالغرفة التي أقِف فيها. راقبتُه عبر الفُرجة التي تركها الباب الموارب، ورأيتُ خيالَه يمرُّ أمامي. كان متعجلًا يسير بخفَّةٍ وسرعة، وفيما عدا المعطف الداكن الذي يرتدِيه وياقته المرفوعة التي تُخفي وجهه وقبعته الناعمة السوداء، لم أتمكن من رؤية شيء. سار الرجل في الممرِّ وبدا عليه التردُّد عند نهايته. ثم استدار نحو غرفةٍ على اليسار واختفى داخلها.
لم أكن أملك سوى الانتظار، ولم أنتظر طويلًا لحُسن الحظ؛ فقد كنتُ قد بدأت أتوتر. عاد الرجل يظهر حاملًا شيئًا ما في يدِه، وبينما كان يسير في اتجاهي، لمحتُ وجهه. وتعرفتُ عليه على الفور؛ فقد كان الرجل الحزين المكتئب الذي رأيتُه عندما ذهبتُ إلى منزل مِدينا للمرة الأولى، عندما كنتُ أستيقظ من غيبوبتي. كان هذا الوجه قد انطبع في ذاكرتي لسببٍ ما، وكنت أنتظر أن أراه مجددًا. كان وجهه حزينًا وبائسًا، ولكنه كان مُحببًا أيضًا ولكن بطريقة غير مألوفة؛ لم يكن ثمة شيء منفر به على أية حال. ولكن جاء من عند مِدينا، وجعلتني هذه الفكرة أنفض عن ذهني أي ذرة تردُّد. كنتُ مُحقًّا في تخميني؛ هذا المكان يخصُّ مِدينا، إنه حقول جنة عدن المذكورة في القصيدة. منذ ثانية مضت، كنت أشعر بالإحباط والتخبط، ولكني كنت أشعر الآن بأني منتصر.
مرَّ الرجل من أمام الباب الذي كنت أقف خلفه، واستدار ليسير في الممر المتعامد على الممر الأول. خرجتُ من الغرفة لأتبعه، ورأيتُ الضوء يتوقف عند الباب الذي عند قمة الدرج، ثم يختفي. كان أول ما فكرت فيه هو أن أتبعه، وأن أمسك به في المتجر، وأستخرج منه الحقيقة، ولكني نفضت تلك الفكرة عن رأسي على الفور، فهي ستتسبب في كشف المهمة برمَّتها. وقررتُ أن أُحاول اكتشاف المزيد. يجب أن أدخل الغرفة التي كانت سبب زيارتِه لهذا المكان.
كنت سعيدًا لخروجي من غرفة النوم تلك. ووقفتُ في الممر أُنصِتُ، ولكني لم أسمع أي صوت. كان ثمة صوت في الهواء، ولكن بدا أنه آتٍ من الخارج، كان صوتًا يُشبه عزف أرغن أو فرقة موسيقية من بعيد. استنتجتُ أن ثمة كنيسة قريبة حيث يتدرَّب صبية الكورال.
كانت الغرفة التي دخلتها غريبة جدًّا. بدا جزءٌ منها وكأنه متحف، وجزء آخر وكأنه مكتب، وجزء آخر وكأنه مكتبة. كان متجر التحف مليئًا بأشياء عديمة القيمة، ولكن أمكنني من نظرةٍ واحدة أن أُدرك أنه لا توجد أشياء عديمة القيمة هنا. كانت ثمة لوحات إيطالية جميلة، كنتُ أعرف بعض المعلومات عنها، فماري من هواة جمعها، وطقم من الجِرار الصينية الخضراء بدا أصليًّا. وكانت توجد لوحة بدت جيدة بما يكفي لأن تكون بريشة هوبيما. أما فيما يخص بقية محتويات الغرفة، فكانت ثمة العديد من الخزانات الراقية الصُّنع، ولكن لم تكن تُوجَد أي أوراق في أي مكان، وكانت جميع أدراج طاولة الكتابة مُقفلة. لم أكن أستطيع السطو على الخزانات وأدراج الطاولة، حتى لو كنت أريد ذلك. كنتُ متيقنًا من أن أكثر المعلومات التي احتاجها قِيمةً توجَد في بقعةٍ ما من هذا المكان، ولكني لم أكن أعرف كيفية الحصول عليها.
كنتُ على وشك المغادرة عندما أدركتُ أن صوت الموسيقى الذي سمعته في الممر كان أعلى بكثيرٍ هنا. لم يكن صوت صبية كورال يتدربون، فلم تكن الموسيقى دينية، بل كانت موسيقى تُعزَف على كمان وطبول، وكان إيقاعها راقصًا. هل هذا المبنى الغريب مجاور لمرقص؟ نظرت إلى ساعتي ورأيت أن الساعة اقتربت كثيرًا من الحادية عشرة، وأنَّني قضيتُ حوالي عشرين دقيقة داخل المنزل. كنت حاليًّا في حالةٍ من الثقة الطائشة، فقررتُ أن أُجري المزيد من البحث.
سمعتُ الموسيقى آتية من مكان ما جهة اليسار. كانت النوافذ تُطل، حسبما خمنت، على شارع ويليسلي، الأمر الذي أظهر لي أني أسأت الحكم على هذا الشارع الرئيسي. ربما كان يوجد مَرقص مَبني وسط مَعارض السيارات. على أية حال، أردتُ أن أرى ما يُوجَد بعد هذه الغرفة، فلا بد من وجود مدخل آخر لها غير المدخل عبر متجر التحف. وبالفعل عثرت على باب بين خزانتي كتب مُغطًّى بستارة، يؤدي إلى ممر آخر.
هنا كان صوت الموسيقى أعلى، وبدا أني في مكان أشبه بالكواليس التي توجد خلف خشبة المسرح حيث توجد الكثير من الغرف بكل الأشكال والأحجام. كان الباب في نهاية الممر موصدًا، وأدى بابٌ آخر فتحتُه إلى دَرَجٍ خشبيٍّ آخر. لم أكن أرغب في النزول إلى الأسفل بعد، ففتحتُ بابًا آخر، ثم أغلقتُه بهدوء. فالغرفة التي فتحتُ بابها كانت مُضاءة، وشعرتُ بأن ثمة أُناسًا داخلها. كما أن صوت الموسيقى ارتفع بشدة عندما فتحتُ الباب.
وقفت للحظةٍ مُترددًا، ثم فتحتُ الباب مجددًا. كنتُ أشعر أن الضوء داخل الغرفة لا يصدُر من أي شيءٍ داخلها. وجدتُ نفسي داخل حجرة صغيرة فارغة، ومتربة، وكئيبة تُشبه تلك المتاجر الصغيرة في شارع ستراند، حيث تكون الواجهات الأمامية المصنوعة من الزجاج السميك أعلى ارتفاعًا من المتجر نفسه، وثمة مسافة بين السقف والطابق الذي يعلوه. كان أحد جدران الغرفة زجاجيًّا بالكامل، ومصراع نافذة به مواربًا، وتسلَّلَت عبر الزجاج أشعةُ الكثير من المصابيح الآتية من مكانٍ ما خلفه. تحركتُ نحو الأمام بحذرٍ شديد حتى أتمكن من النظر ورؤية ما كان يحدُث في الأسفل.
أظن أني كنتُ أعرف ماذا سأرى خلال الثواني الأخيرة قبل وصولي إلى الجدار الزجاجي. كان المرقص نفسه الذي زُرته قبل بضعة أسابيع مع آرتشي رويلانس. رأيتُ نفس الزخارف الصينية الزائفة، والأنوار اللامعة، وفرقة الزنوج الموسيقية، والمَنظر العام المبهرج نفسه. لم يتغيَّر شيء سوى أن المكان كان أكثر ازدحامًا بكثير من زيارتي السابقة له. أضاف ضجيج الضحكات والثرثرة الصادرة من المَرقص مزيدًا من النشاز إلى الموسيقى القبيحة، ولكن كان ثمة ابتهاج عربدة شديد ينبعث من الأصوات الصادرة عن المرقص، شعور طاغٍ يصدُر عن شيءٍ سوقي ولكنه يتسم بالحيوية والحماسة. على حواف القاعة، كان يجلس الحشد المعتاد من الرجال والنساء السوقيين الأجانب يشربون المشروبات الروحية والشمبانيا، ويختلط معهم اليهود البدناء واللاتينيون ذوو الوجوه المليئة بالكدمات ووجوه مُشربة بالحمرة لصِبيةٍ جامعيين أو مُجندين يتصوَّرون أنهم يرَون ما يجب أن تكون عليه الحياة. ظننتُ للحظاتٍ أني رأيتُ آرتشي، ولكن كان مَن رأيتُ شخصًا يشبهه، وكان وجهه النحيل شديد الحمرة يصنع تناقضًا غريبًا مع وجه المرأة الجالسة بجواره الأبيض الشديد الشحوب.
كان الرقص أكثر جنونًا وحيوية مما كان عليه خلال زيارتي السابقة. وكان ثمة المزيد من الحيوية في حركة الراقصات اللاتي يُشبهن عرائس الماريونيت، واضطررتُ للاعتراف بأنهن يُجِدنَ عملهن، على الرغم من عدم تقديري له. كان جميع أزواج الراقصين بارعين في الرقص، ومن وقتٍ لآخر كان شخص أخرق يحاول الرقص بينهم، ولكنه لم يكن يبقى طويلًا. لم أرَ الفتاة ذات الثوب الأخضر التي أعجبت آرتشي، ولكن كان ثمة الكثير من الفتيات اللائي يُشبهنها. كان أكثر شيءٍ مُنفر رأيته هو الرجال، فكانوا إما هياكل عظمية شاحبة أو لاتينيين بُدناء متأنِّقين تأنقًا مُبالغًا فيه، وكان بعضهم يضع مساحيق تجميل بإفراط مثل النساء.
كان هناك رجل شعرتُ نحوَه بنفورٍ أكثر من الباقِين. كان شابًّا طويل القامة ذا خصرٍ نحيل للغاية، ووجه أبيض، وعينَين خدرتَين خاويتَين. كانت شفتاه حمراوين مثل شفاه الراقصات، وأكاد أجزم أنه كان يضع على وجنتَيه حُمرة تجميل. كان منظره قبيحًا. ولكن يا للعجب! كان بارعًا في الرقص. لم يكن مظهره يُشير إلى أنه يتمتع بأي حيويةٍ لدرجة أنك قد تحسبه جثة مُغلفة بقوى شيطانية أجبرتها على التلوي في رقصة موت سرمدية. لاحظتُ أنه لم يفتح جفنَيه نصفَ المُنسدلَين على الإطلاق.
تلقيتُ فجأة صدمةً قوية. فقد أدركتُ أن هذه الدمية ليست إلا صديقي القديم، ماركيز دو لا تور دو بين.
لم أكن أفقتُ من الصدمة الأولى عندما تلقيتُ صدمةً أقوى. كان صديقي يرقص مع امرأةٍ ذات شعرٍ فاتحٍ بدرجةٍ تدلُّ على أنه غير طبيعي. لم أتبيَّن ملامح وجهها بوضوحٍ في البداية؛ فقد كانت تدفن وجهها في صدره، ولكنها كانت ترتدي ثوبًا عاريًا ومُشينًا. كانت المرأة أيضًا بارعة في الرقص، وكانت رشاقة جسدها النحيل ظاهرةً على الرغم من ملابسها المبتذلة. ثم أدارت وجهها نحوي، ورأيتُ شفتَيها الحمراوَين ووجهها المُغطَّى بمساحيق التجميل الوردية والبيضاء الباهتة المُميِّزة لطبقتها الاجتماعية. إنها جميلة أيضًا …
ثم تلقيتُ صدمةً أخرى كِدتُ أسقط بسببها عبر النافذة. فقد كانت تلك الراقصة التي يختفي وجهها تحت مساحيق التجميل هي زوجتي الحبيبة ووالدة بيتر جون.