أصبح وقتنا ضيقًا
تناولتُ غدائي ذلك اليوم مع ماري وحدَها، فعمَّتاها سافرتا إلى باريس، وكان من الصعب أن تجد في عموم الجزُر البريطانية زوجَين بائسَين أكثر منَّا. لم يظهر قلق ماري، التي لطالَما كانت مثالًا يُحتذى به في الهدوء، إلا في صورة شحوبٍ في وجهها. أما أنا، فكنتُ مُتململًا كديكٍ صغير.
صِحت قائلًا: «أتمنَّى لو أني لم أشارك في الأمر مُطلقًا. إنني أُسبِّب ضررًا أكثر مما أُسبِّبُه من نفع.»
عارضَتني قائلة: «لقد عثرتَ على اللورد ميركوت.»
«نعم، وفقدتُ توربين. لا يزال الأوغاد مُتقدِّمين علينا بثلاث خطوات. ظننَّا أننا عثرنا على اثنَين من الرهائن، وها نحن نفقد الآنسة فيكتور مجددًا. وتوربين! لن يَجدوه لقمةً سائغةً، وربما يُقدِمون على اتخاذ تدابير عنيفة معه. سيُلازمونه، والفتاة، والصبي الصغير مثل الغراء؛ فما حدث ليلة أمس سيزرع الشكوك في صدورهم.»
قالت ماري المُتفائلة دائمًا: «أشك في هذا. لقد أشركه السير آرتشي في المهمة من أجل مكانته فحسب. بدا غريبًا أنه كان في صحبة أديلا، ولكنه لم يتحدث إليها بكلمةٍ واحدة خلال المرَّات التي رآها فيها. لا بدَّ من أنهم لاحظوا هذا. أنا قلقة على السير آرتشي. يجب أن يُغادر لندن.»
«اللعنة عليه! سيغادر لندن بمجرد أن يخرج من المُستشفى عصر اليوم. لقد أصررتُ على أن يفعل، وكان يريد ذلك على أية حال. لقد وصلَتْه أخبار مؤكدة أن طائر طيطوي أخضر يُعشش في مكانٍ ما. سيكون مُفيدًا أن يُحَوِّل آرتشي انتباهه إلى الطيور. إنه يجد صعوبةً في التعامُل مع أي شيءٍ آخر. والآن، أصبح علينا أن نعود مجددًا إلى نقطة البداية.»
قاطعتني قائلة: «ليس نقطة البداية.»
«قريبون منها. لن يُعيدوا الآنسة فيكتور إلى تلك الحياة مجددًا، وكل عملكِ ذهب أدراج الرياح يا عزيزتي. كان من سوء الحظ غير المُعتاد أنكِ لم تبدئي بإيقاظها، فربما فعلتْ شيئًا بنفسها. ولكنها لا تزال دُمية بين أيديهم، وتأكَّدي أنهم سيُخفونها في مكانٍ لن تتمكَّني من الوصول إليه أبدًا. ولم يتبقَّ لنا إلا ثلاثة أسابيع فقط.»
وافقتْني ماري قائلةً: «إنه حظ عسر. ولكن، ديك، أشعر بأننا لم نفقد أديلا فيكتور. أعتقد أننا، بطريقةٍ أو بأُخرى، سنتمكن من التواصُل معها مجددًا. لعلك تذكُر كيفية تصرُّف الأطفال عندما يفقدون كرةً؛ يرسِلون كرةً أخرى في إثر الأولى على أمَل أن تعثر إحداهما على الأخرى. حسنًا، لقد أرسلنا الماركيز في إثر أديلا، وأشعر أننا سنعثر عليهما معًا. لطالما فعلنا ذلك ونحن أطفال.» صمتَت بعدما قالت كلمة «أطفال»، ورأيتُ الألمَ باديًا في عينَيها. «آه، ديك، الصبي الصغير! إننا لم نقترِب حتى من معرفة مكانه، وهو أكثر من يعتصِر قلبي من الرهائن.»
كنتُ فاقدًا الأمل تمامًا، فلم أتمكَّن من قَول أي شيءٍ للتخفيف عنها.
ثم صِحْتُ قائلًا: «وممَّا يزيد الطين بلَّة، أنه يتعيَّن عليَّ أن أذهب للإقامة في منزل مِدينا بدايةً من الليلة. أكرَه هذه الفكرة كثيرًا.»
قالت: «إنها آمَن طريقة.»
«نعم، ولكنها تمنعني عن المشاركة. سيُراقبني مثل الصقر، ولن أتمكن من أن أُقدِم على خطوةٍ واحدة بمُفردي، كل ما سأفعله هو أن أجلس في مكاني آكُل وأشرب وأتملَّق غروره. يا إلهي، أُقسِم أني سأتشاجر معه وأكسر رأسه.»
«ديك، ألن تستطيع أن — كيف تقول هذا؟ — تتمالك نفسك؟ الأمر كله يعتمد عليك. أنت كشافنا داخل مقر قيادة العدو. وحياتك تعتمد على أداء دورك ببراعة. قال الكولونيل أربوثنوت ذلك. كما أنك قد تكتشِف شيئًا مذهلًا. قد يكون الأمر سيئًا لك، ولكنه لن يستمرَّ طويلًا، كما أنه الطريقة الوحيدة لننتصِر.»
هذه هي ماري التي أعرفها. كان جسدها يرتجِف من فرط قلقِها عليَّ، ولكنها كانت مِقدامةً لا ترتضي بالخيارات اليسيرة.
أضافت قائلة: «ربما تتوصَّل إلى معلوماتٍ عن ديفيد واركليف.»
«أتمنَّى أن أفعل. لا تقلقي يا حبيبتي. سألتزم بأداء دوري. ولكن اسمعي، علينا أن نضع خطة. سأكون معزولًا عن العالَم بشكلٍ أو بآخر، ويجب أن تكون لدَي قناة اتصال مفتوحة. لن يُمكنكِ أن تتَّصلي بي في ذلك المنزل، ولن أجرؤ على أن أتَّصِل بكِ من هناك. فرصتنا الوحيدة هي النادي. إذا كانت لديكِ أي رسالة، اتَّصلي بكبير الحراس واطلُبي منه أن يُدونها. وسأرتِّب معه أن يحتفظ بالرسائل سرًّا، وسأذهب لآخُذها منه عندما تُتاح لي الفرصة لذلك. وسأتَّصل بكِ من وقتٍ لآخر لأُعلِمك بأحدث المُستجدات. ولكن يجب أن أكون حذرًا للغاية لأنه من المُرجَّح أن مِدينا سيُراقبني عن كثب. هل أنتِ على تواصُل مع ماكجيليفراي؟»
أومأت برأسها بالإيجاب.
«ومع ساندي؟»
«نعم، ولكن الأمر يستغرق بعض الوقت؛ يومًا على الأقل. لا يُمكننا التواصُل بطريقة مباشرة.»
«حسنًا، إليكِ الخطة. أنا سجين، ولكني أمتلك مهارات. أنا وأنتِ يُمكننا أن نتواصل بطريقةٍ ما. وكما قلتِ، لم يتبقَّ لنا إلا ثلاثة أسابيع أخرى.»
«لن نتمكَّن من تحقيق أي شيءٍ إذا لم يكن لدَينا بعض الأمل.»
«تلك هي الحياة يا عزيزتي. علينا أن نمضي حتى النهاية على أمل أنَّ الحظَّ سيتغير في الدقائق العشر الأخيرة.»
وصلتُ إلى شارع هيل بعد موعد الشاي ووجدتُ مِدينا جالسًا في غرفة التدخين الخلفية، يكتب خطابات.
قال: «عزيزي هاناي، تصرَّف وكأنك في بيتك. ثمة علبة سيجار على هذه الطاولة.»
سألته: «هل قضيتَ وقتًا جيدًا في شروبشاير؟»
«بل سيئًا. قدتُ سيارتي عائدًا إلى هنا هذا الصباح، وانطلقتُ في ساعةٍ مبكرةٍ للغاية. تطلَّبَ منِّي عملٌ مضنٍ انتباهي كاملًا. معذرةً، ولكني سأتناول عشائي في الخارج الليلة. يتكرَّر الأمر نفسه كلما أردت لقاء أصدقائي، تحدُث فورة عمل مفاجئة.»
كان مِضيافًا للغاية، ولكن أسلوبَه لم يكن يحوي الأريحية التي اعتاد على أن يَمتلكها. كان يبدو وكأنه على وشكِ الانفجار بسبب أمرٍ ما، ومنشغل الفكر كذلك. خمنتُ أنه ربما يُفكر في أمر آرتشي رويلانس وتوربين.
تناولتُ عشائي بمفردي وجلستُ بعد العشاء في غرفة التدخين، لأن أوديل لم يقترح عليَّ مُطلقًا أن أجلس في المكتبة، ولكنِّي كنتُ على استعداد للتضحية بالكثير في مقابل استكشاف هذا المكان. نمتُ وأنا أقرأ مجلة «فيلد»، وأيقظَني مِدينا في حوالي الحادية عشرة. كاد أن يبدو مرهقًا، وهو أمر نادر الحدوث له؛ كما أن صوتَه كان أجَش. ألقى ملاحظةً تافهةً عن حالة الطقس، وعن شِجار في مجلس الوزراء لم ينتهِ بعد. ثم قال فجأة: «هل التقيتَ أربوثنوت مؤخَّرًا؟»
أجبتُه، وقد ظهرت الدهشة جلية في صوتي: «لا. كيف يمكن أن أفعل ذلك؟ لقد عاد إلى الشرق.»
«هذا ما ظننتُه. ولكن قيل لي إن أحدًا رآه في إنجلترا مرة أخرى.»
شعرتُ لثانيةٍ بالرعب من أنه عَلِم بلقائي مع ساندي في حانة كوستوولد وزيارته إلى فوسي. ولكن طمأنتني كلماته التالية.
«نعم. في لندن. خلال الأيام الماضية.»
كان من السهل عليَّ أن أتظاهر بالدهشة. «يا له من مجنون! لا يُمكنه أن يبقى في مكانٍ واحد لأسبوع. لا يُمكنني أن أقول سوى أنني آمُل ألا يحاول لقائي. فلا رغبةَ لديَّ في أن أراه مجددًا.»
لم يقُل مِدينا شيئًا. اصطحبني إلى غرفة نومي وسألني عما إذا كنتُ أريد أي شيء، وتمنَّى لي ليلةً سعيدة، وتركني بمفردي.
بدأ واحدٌ من أغرب الأسابيع التي عشتُها في حياتي. عندما أتذكَّر ما حدث خلاله، أجده كابوسًا غير منطقي، ولكن كان ثمة حدث أو حدثان مُميزان وكأنهما شعاب مرجانية وسط أمواجٍ هائجة. عندما استيقظتُ صباح أول يوم قضيتُه تحت سقف منزل مِدينا، كنتُ أعتقد أنه يشك في أمري بطريقةٍ أو بأخرى. وسرعان ما أدركتُ أن هذه الفكرة لا أساسَ لها من الصحة، وأنه يراني عبدًا مسلوبَ الإرادة؛ ولكني أدركتُ أيضًا أن شكًّا في أمرٍ ما قد استحوذ على عقله. ربما زلة آرتشي بالإضافة إلى أخبار ساندي هما ما تسبَّب في ذلك، وربما كان السبب في ذلك القلق الطبيعي الذي ينتاب شخصًا يقترب من الوصول إلى هدفٍ صعب المنال. استنتجتُ، على أية حال، أن هذا التوتر الذهني الذي يشعر به سيُصعِّب الأمور عليَّ بلا شك. فسيضعني تحت مراقبة مشدَّدة حتى وإن لم يكن يشكُّ في أمري. كان يُملي عليَّ الأوامر وكأني طفل صغير، وإن لم يفعل، كان يُعطي اقتراحات، والتي كانت تُمثل لي، كتابع مسلوب الإرادة، أوامر.
كان شديد الانشغال ليلًا ونهارًا، ومع ذلك لم يترك لي وقتًا أختلي فيه بنفسي. كان يريد أن يعرف كل ما أفعل، وكنتُ أخبره بما أفعل بصدق، فقد كنتُ أشعر أن لديه طرُقَه الخاصة لاكتشاف الحقيقة. كنت أعلم أن اكتشاف كذبةٍ واحدة سيُدمر كل ما فعلت تدميرًا تامًّا، لأنني إن كنتُ واقعًا تحت سيطرته، كما كان يعتقد، فمن المُستحيل أن أكذب عليه. ومِن ثَم لم أكن أجرؤ على زيارة النادي كثيرًا، فربما يرغب في معرفة ماذا أفعل هناك. كنت في وضع شائك للغاية فرأيتُ أنه من الأفضل ألا أخرج من شارع هيل إلا إذا طَلب منِّي أن أصحبه. أخذتُ رأي ماري في ذلك، وأقرَّتْ أنني أتعامل مع الأمر بحكمة.
باستثناء مجموعةٍ من الخادمات، لم يكن يُوجَد خدم آخرون في المنزل سوى أوديل. التقيتُ الرجل المكتئب الحزين الوجه مرتَين على الدرج، ذلك الرجل الذي رأيتُه خلال زيارتي الأولى للمنزل، والذي رأيته منذ أسبوع في المنزل خلف متجر التحف. سألت عمَّن يكون، وقيل لي إنه سكرتير خاص يساعد مِدينا في عملِه السياسي. استنبطتُ أنه لا يُقيم في المنزل باستمرار، وأنه لا يأتي إلا عندما تكون ثمة حاجة لخدماته.
قالت ماري إن الرجل الآخر الذي رأيتُه في المنزل في شارع ليتل فاردل كان ساندي. إن كانت مُحقة، فقد يكون هذا الرجل صديقًا، وتساءلت عما إذا كان يجدُر بي التواصُل معه. عندما رأيته أول مرة، لم يرفع عينَيه لينظر في عينيَّ على الإطلاق. وفي المرة الثانية، استدرجتُه عبر بضع أسئلة طرحتها عليه أن ينظر نحوي، ولكنه التفت نحوي بوجهٍ خالٍ من التعبير تمامًا وكأنه وجه سمكة قُدَّ. استنتجت أن ماري قد أخطأت، فقد كان هذا الرجل تابعًا لمِدينا، فجميع سمات شخصيته دمَّرتها إرادة مِدينا تمامًا.
أصبحتُ أرى مِدينا الآن عن كثب، وكنتُ أرى حقيقته عارية، وعاد الانطباع الذي أخذتُه عنه خلال لقائنا الأول ليَبرُز جليًّا من جديدٍ بعدما غطَّته جميع الأحداث التي وقعت بعد ذلك. كان قناع «الرجل الخلوق» قد سقط بالطبع؛ رأيتُ تحت أخلاقه المُصطنعة ذاتَه الحقيقية. كان يجلس ليتحدَّث إليَّ في تلك المكتبة المُريعة حتى ساعة متأخِّرة من الليل، حتى أشعر أنه والغرفة أصبحا كيانًا واحدًا، وأن هذا الإنسان وحدَه قد امتصَّ جميع الخدع التي استخدمها الشيطان على مرِّ العصور. عليك أن تُدرك أن أي شيءٍ يقوله لا تشوبه شائبة طبقًا للمفهوم المعتاد. لو أن حديثَه كان يُسجَّل على فونوغراف، كان يمكن أن يُشغَّل في مدرسة للفتيات دون أن يخدش حياءهن. لم يكن حديثه يتضمَّن أي سبابٍ أو عنف. لا أُصدق أنه قد يرتكب أيًّا من تلك الأخطاء البشرية التي نعنيها عندما نستخدِم كلمة «إثم». ولكني على يقينٍ تامٍّ من أنَّ أكثر الناس الذين سيُحاسبون أمام الله فسقًا كانت صحائفهم أكثر نقاءً من صحيفته.
لا أجد كلمة تصف انبهاري به سوى كلمة «شر». بدا أنه يحاول إفناء جميع المعايير الأخلاقية المتعارَف عليها، بقايا الشرف الصغيرة والطيبة المُترنحة التي نحاول أن نستخدِمها لنقي أنفسنا عواصف الكون. حَوَّلَت عجرفته، التي استحوذت عليه، حياتَه إلى كونٍ عارٍ تأجَّجت فيه روحُه مثل النار. التقيتُ على مدار حياتي رجالًا أشرارًا، رجالًا كانوا يستحقُّون إنهاء حياتهم دون إسهاب في التفكير أو الحديث، ولكن إذا ما كُلِّفتُ بالحكم عليهم، كنتُ سأعثر على بقايا دفينة من اللُّطف وبقايا ضئيلة من المشاعر الجيدة. كانوا بشرًا على أية حال، وكانت وحشيتُهم انحدارًا في إنسانيتِهم، ولم تكن نقيضها. كان مِدينا يصنع من حولِه جوًّا يُشبه الهواء البارد الصافي الذي لا يُمكن لشيءٍ أن يعيش فيه. كان شريرًا بكل ما تحمِله الكلمة من معنًى، ولم يكن يملك أي معايير يمكن ربطها بالحياة العادية ولو من بعيد. أظن أن هذا هو السبب الذي دفع البشر لابتكار مفهوم الشياطين. بدا أنه دائمًا ما يسمح لي بلمحة من لُغزٍ عتيق لشرورٍ أقدم من النجوم. أظنُّ أن أي شخصٍ لم يُجرب قدرته على التنويم المغناطيسي لن يلاحظ شيئًا في حديثه إلا براعته المنقطعة النظير، وأن أيَّ شخصٍ واقع تحت سيطرته بالكامل سيكون أقلَّ انبهارًا منِّي بحديثه لأنه نسِيَ معاييره الخاصة ولن يكون باستطاعته إجراء أي مقارنة. كنتُ في الوضع الذي يُمَكِّنُني من الفهم والشعور بالرعب. يا إلهي، يُمكنني أن أقول لكم إنني اعتدتُ أن أذهب إلى النوم مكتئبًا والخوف يتملَّكني، وأشعر في الوقت نفسه باشمئزاز عنيف منه وبغضاء لا مثيل لها. كان من الجليِّ أنه مجنون، فالجنون يعني تغيير أنماط التفكير التي اتفق البشر على كونها ضروريةً للحفاظ على تماسُك العالم. كان رأسه يبدو مستديرًا مثل الرصاصة، رأس لن ترى مثله حتى بين جماجم سكان الكهوف، وكانت عيناه تشعَّان بلونٍ أزرق يُشبِهُ شروقَ شمس الموت على صحراء قطبية قاحلة.
ذات يوم أفلتُّ من الإمساك بي بشقِّ الأنفس. كنتُ قد ذهبت إلى النادي لأرى إن كانت ثمة أي رسائل من ماري، ووجدتُ بدلًا من ذلك برقية طويلة من جاوديان في النرويج. كنتُ قد فتحتها لأقرأها عندما فوجئتُ بمِدينا يقف بجواري. كان قد رآني أدخل النادي، فتبِعَني لكي نَسير معًا إلى المنزل.
كنتُ قد رتبتُ مع جاوديان أن نتراسل باستخدام شفرة بسيطة، ولحُسن الحظ اتخذ صديقي الأمين احتياطاته وجعل أحد أصدقائه يرسِل الرسالة من كريستيانيا. لو كانت البرقية تحمِل ختم ميردال، لكان أمري قد انتهى.
كانت الطريقة الوحيدة للخروج من المأزق هي الجرأة، رغم أني استخدمتُها مرتعبًا.
صحت: «مرحبًا، لقد وصلتْني برقية من أحد أصدقائي في النرويج. هل أخبرتُك بأني كنتُ أحاول الحصول على منطقةٍ للصيد في ليردال في شهر يوليو؟ كدتُ أنسى الأمر برمته. بدأت أسأل أصدقائي في شهر مارس، والآن وصلني الرد الأول.»
أعطيتُه الورقتَين فنظر إلى المكان الذي أُرسِلَت منه الرسالة.
وقال: «إنها مشفرة. هل تُمانع أن تفك الشفرة الآن؟»
«إذا لم تمانع الانتظار لبضع ثوانٍ. إنها شفرة بسيطة من اختراعي، ويُمكنني فكُّها بسرعةٍ كبيرة.»
جلسنا إلى إحدى الطاولات في الردهة، وأمسكتُ قلمًا وورقةً من مُفكرتي. أعتقد أني أخبرتُكم سابقًا أني بارع في الشفرات، وتلك الشفرة تحديدًا يُمكنني قراءتها بسهولة. دونتُ بعض الحروف والأرقام، ثم كتبتُ فحوى الرسالة وأعطيتُه إلى مدينا. وكان ما قرأه هو التالي:
«منطقة الصيد شمال ليردال متوفرة في أول الشهر. إيجارها مائتان وخمسون جنيهًا ويزداد مائة أخرى في شهر أغسطس. يمكنك استخدام أي صنانير تريد. يوجَد قارب في كل بركة. ويمكن ترتيب الحصول على مياه المدِّ من أجل صيد السلمون البحري. إذا قبِلتَ العرض، برجاء الرد بكلمة «نعم». يجب أن تصل في موعدٍ أقصاه التاسع والعشرون من يونيو. أحضر معك كميةً كبيرة من القريدس المعبأ. يمكنك ركوب قارب سريع من بيرجن. أندرسن، جراند أوتيل، كريستيانيا.»
ولكني كنتُ طوال الوقت أكتب أكاذيب، كنت أقرأ الشفرة الصحيحة وأحفظ الرسالة الحقيقية عن ظهر قلب. كانت الرسالة الحقيقية التي أرسلها جاوديان كالآتي:
«تعارك صديقُنا مع حارسه وأوسعه ضربًا. استوليت على المزرعة وأخَفْتُ الأخير حتى أطاعني. سيظل أسيرًا لدى أحد حلفائي حتى آمُره بإطلاق سراحه. في خلال ذلك، أرى أنه من الأفضل أن نُحضر صديقنا إلى إنجلترا ونبدأ يوم الاثنين. سأُبرق لك عنوانًا في اسكتلندا وأنتظر تعليماتك. لا خطر يتعلَّق برسائل على الحارس إرسالها. لا تقلق، كل شيءٍ على خير ما يُرام.»
بعدما حفظتُ الرسالة جيدًا، مزقتُ البرقية إلى قطعٍ صغيرة وألقيتُها في سلة المهملات.
سألني مِدينا: «حسنًا، هل ستذهب؟»
«لا. لستُ في مزاجٍ مُهيأ لصيد أسماك السلمون حاليًّا.» أخذت نموذج برقية من على الطاولة وكتبت: «معذرة، عليَّ إلغاء ترتيبات ليردال»، ووقعتُها باسم «هاناي»، وكتبتُ العنوان «أندرسن، جراند أوتيل، كريستيانيا»، وأعطيتُ البرقية إلى البوَّاب ليُرسلها. لا أعرف ماذا حدث لهذه البرقية. من المُحتمَل أنها لا تزال معلقةً على لوحة الفندق تنتظر وصول أندرسن الغامض.
في طريق عودتنا إلى شارع هيل، تأبَّط مدينا ذراعي، وكان يتعامَل معي بودٍّ جم. قال: «آمُل أن أذهب في عطلة، ربما بعد بداية شهر يونيو. ربما بعد يومٍ أو يومَين. قد أسافر إلى الخارج لبعض الوقت. أودُّ أن تأتي معي.»
حيَّرني هذا الطلَب كثيرًا. لم يكن مِدينا يستطيع مُغادرة المدينة قبل تصفية الأعمال الكبرى، ولم يكن يملك دافعًا لمحاولة تضليلي فيما يتعلق بهذا الأمر بعدما أصبحتُ أُقيم في منزله. تساءلت عما إذا كان ثمة خطبٌ ما جعلَه يُغير الموعد. كانت أولى أولوياتي حاليًّا هي اكتشاف ذلك، وبذلت أقصى ما في وسعي لأستدرِجَه لكي يكشف عن خططه. ولكني لم أستطع استخراج أي شيءٍ منه فيما عدا أنه يأمُل أن يأخذ عطلةً مبكرةً، وكلمة «مبكرة» قد تنطبق على منتصف شهر يونيو وكذلك أوَّلِه، فقد كنا في السابع والعشرين من شهر مايو.
في عصر اليوم التالي، عند موعِد الشاي، دُهشت عندما رأيتُ أوديل في غرفة التدخين يتبعه توم جرينسليد بقامته الطويلة النحيلة. لم أسعد في حياتي برؤية أحد مثلما سعدتُ برؤيته، ولكني لم أجرؤ على التحدث إليه وحدَنا. سألت الخادم: «هل سيدك في الطابق العلوي؟ هل تُخبره بأن الطبيب جرينسليد هنا؟ إنه أحد أصدقائه القدامى.»
كان لدَينا حوالي دقيقتَين قبل أن يأتي مِدينا. همس جرينسليد قائلًا: «لقد أرسلتني زوجتك. لقد أخبرتني بكلِّ شيءٍ عن المهمة التي تؤديانها، وارتأت أن هذه أكثر الخطط أمانًا. كلَّفَتني بأن أخبرك بأن لديها أخبارًا جديدة عن الآنسة فيكتور والماركيز. إنهما في أمان. هل لديك أي أخبار عن الصبي؟»
رفع صوته بمجرد دخول مدينا. وقال: «صديقي العزيز، تُسعدني رؤيتك. لقد أتيتُ إلى لندن من أجل استشارة، وفكرتُ في زيارة هاناي. لم يكن لدي أدنى أمَل في قضاء بعض الوقت مع رجلٍ كثير الانشغال مثلك.»
كان مِدينا لَبِقًا للغاية؛ لا، لا تنطبق عليه هذه الكلمة، فلم يظهر في أسلوبه أي تعالٍ. سأل بطريقةٍ لا تخلو من ودٍّ عن عيادة جرينسليد، وأنه أصبح يُحب حياة الريف الإنجليزي بعدما طاف الكثير من الأصقاع. تحدث بلمحةٍ من الندم على وديان الرواسب الطفالية الضخمة والأراضي المستوية العاصفة في آسيا الوسطى حيث التقَيا أول مرة. أحضر أوديل الشاي، وكنا أسعد ثلاثة أصدقاء يجلسون معًا في لندن. طرحتُ بعض الأسئلة العادية عن فوسي، ثم ذكرتُ بيتر جون. الْتقط جرينسليد طرف الحديث؛ أخبرَني لاحقًا أنه فكر في أن هذا الموضوع سيُمكننا من فتح قناة يُمكننا التواصل عبرها في المستقبل.
قال ببطء: «أظنُّ أنه بخير. كان يشعر بألَم في بطنه من وقتٍ لآخر، ولكني أظن أن هذا يرجع إلى الطقس الحار وتناول الهليون للمرة الأولى. الليدي هاناي قلقة، إنك تعرف طبيعتها، كما أن جميع الأمهات في العصر الحالي يُفكِّرن باستمرار في الْتهاب الزائدة الدودية. لذا، أتابع الرجل الصغير بنفسي. لا تقلق يا ديك.»
أنسِب إلى نفسي فضل إدراكي لما يقصده الطبيب. تصرفتُ وكأني لم أسمع الكثير ممَّا قال، وكما لو أن ضيعة فوسي وأُسرتي بعيدون تمامًا عن تفكيري. ثم أعدتُ دفَّة الحديث إلى حيث تركها مِدينا، وتصرفتُ مع توم جرينسليد كما لو أني مللتُ من وجوده، ولم أوجِّه له الكثير من الحديث بعد ذلك. عندما نهض لينصرف، كان مِدينا هو من صحِبه إلى الباب. سيطرتُ على نفسي بصعوبة بالغة، فقد كنتُ على استعدادٍ للتضحية بأي شيءٍ من أجل الجلوس معه والتحدُّث طويلًا، رغم أني أدركتُ أنه لا يجدُر بي أن أُصدق ما قاله من أخبار عن بيتر جون.
عَلَّقَ مِدينا عندما عاد قائلًا: «صديقك الطبيب هذا رجل محترم.»
قلتُ في لامبالاة: «لا. إنه وغد مُمل بثرثرته القروية تلك. ولكني لا أتمنَّى له إلا الخير، فهو السبب في صداقتي معك.»
لا بدَّ أن أعتبر هذا الموقف من المواقف التي كنتُ محظوظًا فيها، فقد بدا أنه جعل مِدينا يشعر بالرضا بصورةٍ لم أرها من قبل. ثم سألني: «لماذا لا تجلس إلا في هذه الغرفة؟ يمكنك استخدام المكتبة كما يحلو لك، وجَوُّها في الصيف أفضل من أي مكانٍ آخر في المنزل.»
قلتُ في تواضع: «فكرتُ أني قد أزعجك أثناء عملك.»
«لا، على الإطلاق. كما أني أوشكتُ على الانتهاء من عملي. بعد الليلة يُمكنني أن أستريح، وسأُصبح رجلًا عاطلًا.»
«ثم تذهب في عطلة.»
«ثم أذهب في عطلة.» ارتسمت على شفتَيه تلك الابتسامة الطفولية المبهجة التي كانت واحدة من أجمل خُدَعه.
«هل ستذهب قريبًا؟»
«إذا سار كل شيءٍ على خير ما يرام، سأذهب في القريب العاجل. ربما بعد الثاني من يونيو. بالمناسبة، ثمة عشاء في نادي الخميس في الأول من يونيو. أريد أن تكون ضيفي مجددًا.»
ها هو أمر يتعين التفكير فيه. زادت قناعتي بأنه ورفاقه قد قدَّموا موعد تصفية الأعمال؛ لا بدَّ أنهم شكُّوا في شيءٍ ما، ربما بسبب وجود ساندي في إنجلترا، ولم يكونوا ليُعرِّضوا العملية برمَّتها للخطر. ظللتُ أدخن تلك الليلة حتى التهب لساني وذهبتُ إلى فراشي والقلق ينهشني. كان طابع المسألة المُلِح يزيد من حدةِ التوتر الذي كنتُ أشعر به، فلا بد أن يعرف ماكجيليفراي بذلك على الفور، وكذلك ماري. كان ميركوت آمنًا، ويبدو أن ثمة فرصة لإنقاذ توربين والآنسة فيكتور، ويجب اغتنام تلك الفرصة على الفور إذا ما تغيَّر اليوم الموعود. أما الصبيُّ الصغير، فلم يكن ثمة أمل في إنقاذه. ولكن كيف الوصول إلى الحقيقة؟ شعرتُ وكأني رجل يرى نفسه في كابوس يقف على السكك الحديدية ويقترب منه قطار سريع ولا يعرف كيفية الصعود إلى الرصيف مرة أخرى.
لم يفارقني مِدينا في صباح اليوم التالي. صحبني في سيارته إلى الحي التجاري في المدينة، وانتظرته حتى أنهى أعماله، ثم زار منزلًا في شارع كارلتون هاوس تيراس يبعُد بضعةَ منازل عن منزل فيكتور. أعتقد أنه منزل رئيس حزبه في مجلس اللوردات. بعد الغداء أدخلني إلى غرفة المكتبة. وقال: «أنت لا تقرأ كثيرًا، ويبدو أنك تجد مُختاراتي من الكتب مملةً. ولكن ثمة مقعد وثير يُمكنك أن تغفو فيه.»
قالها ثم خرج من الغرفة وسمعتُ صوت عجلات سيارته وهي تبتعِد. شعرت بالذعر يزحف على جسدي عندما وجدتُ نفسي بمفردي في ذلك المكان اللعين الذي أعلم أنه مطبخ الشيطان الذي يُعد فيه جميع خُططه. كان ثمة هاتف موضوع على مكتبه، الهاتف الوحيد الذي رأيتُه في المنزل على الرغم من ثقتي بوجود هاتفٍ آخر في غرفة رئيس الخدم. فتحتُ دليل الهاتف وعثرت على رقم هذا الهاتف، ولكنَّه لم يكن الرقم المكتوب على السماعة. لا بدَّ أنه هاتف خاص يُمكِّنه من الاتصال بأي شخصٍ يريد، ولكن لا يمكن لأحدٍ أن يعرف رقمه إلا أصدقاءه المُقربين فقط. لم يكن ثمة شيء آخر أثار اهتمامي في الغرفة، فيما عدا صفوف الكتب العديدة، فقد كان مكتبه عاريًا وكأنه مكتب مدير بنك.
تصفحتُ بعض الكتب، ولكنها كانت جميعها تتحدَّث عن موضوعات أعلى بكثيرٍ من مستوى ثقافتي. كان أغلبها كتبًا قديمة، وكان الكثير منها مكتوبًا باللغة اللاتينية، وبدا على بعضها أنها كُتُب ثمينة، فقد أنزلت أحدَها من على الرف ووجدتُه موضوعًا في صندوقٍ جلدي في داخله كتاب مُهترئ رفيع ملفوف في قطعةٍ من جلد الشامواه. ولكني وجدتُ عند أحد الأركان مجموعة كبيرة من الكتب التي تتحدَّث عن السفر، فاخترتُ أحد كتب أوريل ستاين وجلست على أحد المقاعد الوثيرة وهو بين يدَي. حاولت التركيز على الكتاب، ولكني لم أفلح. لم يتمكن عقلي القلِق من فهم الجُمَل المكتوبة، ولم أتمكن من قراءة الخرائط. فنهضت مجددًا، وأعدتُ الكتاب إلى مكانه على الرف، وبدأت أذرع الغرفة جيئةً وذهابًا. كان يومًا مُملًّا تتوقَّف فيه المتاجر عن العمل، وكان في الشارع عربة مياه تزيل التراب، وكان الأطفال يتَّجهون نحو المُتنزَّه بصحبة مُربياتهم. لم أتمكن من إيجاد مُبرر لقلقي، ولكني كنت أشعر وكأني امرأة راقية مُصابة بالجنون. شعرت أن ثمة شيئًا في مكانٍ ما من هذه الغرفة يُهمني كثيرًا أن أعرفه.
اتجهتُ ناحية المكتب العاري. لم يكن ثمة شيء على سطحه سوى حامل حِبر فضي على هيئة بومة، وصينية فضية تحتوي على أقلام وأشياء أخرى متنوعة، وعلبة جلدية تحتوي على ورقِ ملاحظات ودفتر ورق نشَّاف. لم أكن أصلُح كلص، فقد كنتُ أشعر بالتوتُّر والخجل من نفسي، بعدما أنصتُّ لسماع صوت أي أقدامٍ في الخارج، وأنا أُحاول فتح الأدراج.
كانت جميع الأدراج مُغلقة، جميعها فيما عدا درج واحد صغير تحت سطح المكتب مباشرةً بدا وكأنه لا يصلح إلا لِحفظ أحد تلك الألواح الكبيرة التي يُدوِّن عليها الرجال الكثيرو الانشغال التزاماتهم. لم يكن هناك أي لوح، ولكني وجدتُ ورقتَين.
كانت الورقتان مأخوذتَين من مُفكرة ذات أوراق سائبة، وكانت كلتاهما تحمِلان التواريخ نفسها، الأسبوعان بين يومِ الاثنين الموافق التاسع والعشرين من مايو، ويوم الأحد الموافق الحادي عشر من يونيو. الخانات الأولى للأيام كانت مملوءة بمُدخلات مكتوبة بخط يدِ مِدينا الأنيق، مُدخلات مكتوبة باختزالٍ ما. كانت هذه المدخلات تتقارَب وتتداخَل أكثر حتى يوم الجمعة الموافق الثاني من يونيو؛ وبعد ذلك التاريخ، لا يوجَد شيء. كانت الورقة الثانية على النقيض تمامًا من الأولى. فكانت تلك الخانات خاليةً حتى يوم الثاني من يونيو؛ وبعد هذا التاريخ وحتى الحادي عشر من يونيو، كانت مليئة بالملاحظات.
اختفى رُعبي بالكامل في تلك اللحظة، ولكن تضاعف قلقي ألف مرة. يجب أن أتواصل مع ماكجيليفراي على الفور؛ لا، في ذلك مخاطرة كبيرة، سأتواصَل مع ماري. حدقتُ في الهاتف وقررتُ أن أثِق في حظِّي.
اتصلتُ بمنزل عائلة ويموندام دون مشاكل. ردَّ عليَّ برنارد رئيس الخدم، وقال إن ماري موجودة في المنزل. ثم سمعتُ صوتها بعد بضع ثوان.
قلت: «ماري، لقد تغيَّر الموعد إلى الثاني من يونيو. هل فهمتِ ما أقول، حذِّري الجميع. لا أعلم سبب قلقِك على هذا الصبي.»
فقد أدركتُ أن مِدينا كان عند مدخل الغرفة. أغلقتُ الدُّرج الصغير بركبتي والورقتان في داخله، وأومأتُ له وابتسمتُ واضعًا يديَّ على سماعة الهاتف.
وقلت: «اعذُرني على استخدام هاتفك. في واقع الأمر، زوجتي هنا في لندن وقد أرسلَتْ لي رسالة تطلُب فيها أن أتصل بها. إنها تشعر بالقلق على الصبي.»
وضعتُ السماعة على أُذني مجددًا. سمعتُ صوت ماري حادًّا ورفيعًا.
«هل تسمعيني؟ أنا في مكتبة السيد مِدينا، ولا يُمكنني أن أُزعِجه بالتحدُّث عبر هاتفه. لا يُوجَد سبب يدفعك للقلق على بيتر جون. لطالما كان جرينسليد مفرطًا في التدقيق، ومن الأفضل أن يهدأ فلا سبب يدعوه إلى القلق. ولكن إذا كنتِ تريدين استشارة طبيب آخَر، فلِمَ لا تفعلين؟ علينا أن نحسم قرارنا الآن، فربما أسافر خارج البلاد في بداية شهر يونيو. نعم، بعد الثاني من يونيو.»
لحُسن الحظ كانت ماري سريعة البديهة.
فقالت: «الثاني من يونيو قريب للغاية. لمَ تُفاجئني بمثل هذه الخُطط يا ديك؟ لا يمكن أن أعود إلى المنزل من دون أن أراك. أعتقد أني سآتي إلى شارع هيل.»
قلت: «حسنًا، افعلي ما يحلو لكِ.» وضعت سماعة الهاتف ونظرت إلى مِدينا بابتسامة امتعاض. «يا للنساء المُزعجات! هل تمانع أن تأتي زوجتي لزيارتي هنا؟ إنها لن تهدأ حتى تراني. لقد راودَتْها فكرة جنونية هي أن تصطحب جرَّاحًا معها لتستشيره فيما يتعلق بزائدة الصبي الدودية. محض هراء! ولكن تلك هي طبيعة النساء.»
كان من الجليِّ أنه لم يشكَّ في شيء. فقال: «بالطبع، لتأتِ الليدي هاناي لزيارتك هنا. سندعوها لشُرب الشاي. أعتذِر أنَّ غرفة الاستقبال غير متاحة حاليًّا. كانت ستُعجبها مُجسَّماتي كثيرًا.»
وصلت ماري بعد عشر دقائق، وأدَّت دورها ببراعةٍ منقطعة النظير. كانت تجسيدًا حيًّا لأمٍّ مرتاعة تقتحِم الغرفة. بدت عيناها وكأنها كانت تبكي، ولم تراعِ ضبط وضعية قُبعتها أو تصفيف شعرها.
بعد الغمغمة ببعضِ عبارات الاعتذار لمِدينا، انتحبَت قائلة: «آه، أكاد أموت قلقًا. إنه يُعاني من ألَمٍ فظيع في بطنه، وأخبرتْني المُمرضة ليلة أمس أنه محموم. زرتُ السيد دوبسون-راي، ويُمكنه أن يذهب معي بحلول الخامسة إلا الربع. إنه صبي صغير غالٍ، يا سيد مِدينا، وأشعر أنه يجدُر بي أن أكون شديدة الحذَر في كل ما يتعلق به. إذا قال السيد دوبسون-راي إنه بِخير، فأعدكما أني لن أزعجكما مُجددًا. أظن أن رأي طبيبٍ آخر سيسرُّ الطبيب جرينسليد، فهو يبدو مُتطلعًا لذلك وليس قلقًا. أوه، لا، جزيل الشكر لك، ولكن لا يُمكنني البقاء لتناوُل الشاي. ثمة سيارة أجرة في انتظاري، وربما يفوتني القطار. سأذهب لاصطحاب السيد دوبسون-راي من شارع ويمبول.»
غادَرَت بنفس الطريقة العاصفة التي دَخَلَت بها، ولم تتوقَّف إلا لتعديل وضعية قُبعتها أمام إحدى المرايا في الردهة.
«بالطبع سأُرسل لك برقيةً بعد أن يفحصه الجراح. ديك، سآتي إليك على الفور إذا كان ثمة خطْب به، وسأُحضر المُمرضات. ابني الصغير المسكين! هل قلتَ إنك ستسافر بعد الثاني من يونيو يا ديك؟ أتمنَّى أن تتمكن من السفر. أنت بحاجة إلى عطلةٍ تقضيها بعيدًا عن أُسرتك المتعبة. إلى اللقاء يا سيد مِدينا. كان كرمًا منك أنِ احتملتَ أُمًّا سخيفة. فلترعَ ديك ولا تجعله يقلق.»
ظللتُ محافِظًا على مظهر الزوج نافد الصبر مع لمحةٍ من الخجل. ولكني أدركتُ في تلك اللحظة أن ماري لم تكن تتحدَّث دون هدف، بل كانت تقول شيئًا من المُفترَض أن أفهمه.
ظلت تُكرر وهي تركب سيارة الأجرة: «ابني الصغير المسكين! أُصلي للرب أن يكون بخير، أظنُّ أنه سيكون بخير يا ديك. كم أتمنَّى، أوه كم أتمنَّى أن … تُريح بالك … قبل الثاني من يونيو.»
عندما التفتُّ لأنظر إلى مِدينا، كنتُ أشعر أن الصبيَّ الصغير المسكين المقصود لم يكن بيتر جون.