مساعدة كاهن ميدان بالميرا
على مدار الأسبوعين الأخيرين، بدأ شخص جديد في الظهور في ميدان بالميرا. لا أعلم إن كان مخبرو ماكجيليفراي قد أخبروه بوجوده، فلم أرَ أيًّا من تقاريرهم، ولكن من المؤكد أنهم يعرفون بأمره، إلا إذا كانوا يقضون كامل وقتهم في الحانة المجاورة. كانت مساعدة كاهن من النوع المألوف، امرأة تقترب من منتصف العمر، عانس على ما يبدو، ترتدي ثوبًا أسود خالصًا، وتُحيط رقبتها بفراءٍ رخيص رغم دفء الطقس، وتحمل حقيبة يد سوداء قديمة. كان قوامها مقبولًا، ولا تزال تحمل بقايا من الشباب، باستثناء شعرها، الذي بدا من الجزء اليسير المرئي منه أن الشيب قد اشتعل فيه والذي كانت تُصففه بطريقة مسطحة تمامًا وتربطه بقوة وتلفُّه خلف رأسها في شكل كعكة عتيقة الطراز. كانت رثة الملبس، ولكن ليس تمامًا، فقد كان مظهرها العام يُوحي بأناقة ذابلة، وكان الناظر يلاحظ أنها تسير بطريقةٍ أنيقة. كانت تحمل عادةً حزمة من الأوراق إلى جانب حقيبتها السوداء، وكذلك مظلة رخيصة غير ملفوفة جيدًا في جميع الأوقات وجميع حالات الطقس.
كانت تزور منزل الطبيب ذا اليافطة النحاسية، ومُعلم الموسيقى، والعديد من المنازل المستأجرة. بدا أنها على علاقة بكنيسة سان جود الكبيرة التي تبعُد عن الميدان مسافة ربع ميل، التي جاء كاهن جديد مُفعَم بالحيوية ليعمل بها. كانت متحمسة تمامًا للكاهن، فكانت تُطري على جديتِه وفصاحته، وكانت تتحدَّث كثيرًا عن فتنة شبابه مثلما تفعل النساء المُسنَّات العازبات عادةً. كما أنها لم تكن تُمانع التحدث عن نفسها وقول إن عملها كان تطوعيًّا، وأنها امرأة نبيلة محدودة الموارد لكن مُستقلة، وأنها تمتلك شقة في هامبستيد، وأن والدها كان فيما مضى قسًّا في إيستبورن. كانت تحب كثيرًا أن تتحدَّث عن عائلتها مع أولئك الراغِبين في سماعها. كان تتعامل ببساطة ولُطف من دون أي تسلُّط أو تعالٍ، ما جعل الناس ينجذبون إليها ويرغبون في سماعها بينما قد يصدُّون آخرين، فلم يكن سكان ميدان بالميرا من المهذَّبين، أو الصبورين، أو المتديِّنين.
كان هدفها هو إدراج خدم منازل الميدان المُثقلين بالعمل في بعضٍ من مؤسسات كنيسة سان جود. كانت تلك الكنيسة المُستنيرة تتضمن جميع أنواع الأنشطة؛ مجموعات الكورال، واجتماعات الأمهات، وأندية العطلات الريفية، وفصول تعليم الكبار. كانت توزع رزمًا من الكتب التي تتحدَّث عن «المجتمع المناسب للفتيات»، و«اتحاد الأمهات»، وأشياء من هذا القبيل، وكانت تُحاول الحصول على وعود من السكان بحضور بعضٍ من الفعاليات التي تنظمها كنيسة سان جود. لا أظن أنها حققت نجاحًا كبيرًا مع الطبيب أو معلم الموسيقى، رغم أنها كانت توزع حزم الكتب لديهما عادةً. كانت الخادمات الصغيرات مقهورات ومُرهقات لدرجة أنهنَّ لا يستطعن فعل شيء سوى الاستماع لها عند عتبات المنازل ويقُلن: «نعم سيدتي.» ولم يكنَّ يسمحن لها بمقابلة سيداتهن، فيما عدا واحدة من خادمات المنازل المستأجرة التي كانت تتبع الكنيسة الميثودية البدائية، ومن ثم كانت تعتبر كنيسة سان جود أداة من أدوات الشيطان. ولكن حظها كان أفضل مع الخادمة في المنزل رقم ٤.
كانت الفتاة منحدرة من قرية في كِنت، وبدا أن مساعِدة الكاهن قد طُلب منها أن تزورها، من قبل قس أبرشيتها السابقة. كانت شابَّةً ذات وجه مسطح ضخم الملامح، بطيئة الحديث والحركة، ومُتشككة بطبيعتها. حيَّت مساعِدة الكاهن ببرود في البداية، ولكنها أصبحت أكثر ودًّا بعدما ذكرت مساعِدة الكاهن بعض الأسماء المألوفة لها، وقبلت منها نسخةً من مجلة كنيسة سان جود. بعد يومَين، أثناء خروجها في جولة العصر، التقت مساعِدةَ الكاهن وقبِلت أن تسير معها قليلًا. كانت الفتاة تهوى الملابس، وكان ذوقُها في اختيار الملابس أفضل من أغلب بنات طبقتِها، وكانت تطمح لما هو أفضل. كانت تمتلك قبعةً جديدة أعجبت رفيقها، ولكنها اعترفت بأنها لم تكن راضية عنها تمامًا. أظهرت مساعدة الكاهن معرفةً بالموضة لا يمكن للمرء أن يستنبِطها من ملابسها المُتواضعة. كانت تُشير إلى أماكن القص الخاطئة، وكانت قادرة على تصحيح تلك الأخطاء بسهولة، وكانت الفتاة، التي تُدعى إلسي أوتوايت، توافِقها. كانت مساعدة الكاهن تقول لها: «يُمكنني أن أصحح لكِ الخطأ في خلال عشر دقائق. ربما تَدعينني لزيارتك عندما تتوفر لك نصف ساعة من وقت الفراغ، ويُمكننا أن نُصححه معًا. أنا ماهرة في صناعة القبعات، وكنتُ أساعد أخواتي طوال الوقت.»
زالت الكُلفة بينهما، وأصبحت الآنسة أوتوايت المتحفظة صديقتها. كانت تحب عملها، ولم يكن ثمة سبب للشكوى، فكانت تحصل على راتبٍ جيد، والأهم أنها لم تكن تتعرَّض لأي ضغوط. قالت: «أنا أهتم بشئوني، والمدام تهتم بشئونها.» كانت المدام امرأةً أجنبية، وتصرفاتها غريبة، ولكن ثمة جانب طيب أيضًا في شخصيتها. لم تتدخَّل في عملها مُطلقًا، إلا للضرورة، كما أنها لم تكن مُزعجة. كانت الآنسة أوتوايت تحصل على هدايا جميلة في الكريسماس، ومن وقتٍ لآخر، كان المنزل يُغلَق وتعود إلى كِنت مع حصولها على بدل غذاء. لم يكن عملها مرهقًا، ولكن كان ثمة الكثير من الزوَّار، زبائن المدام. «إنها خبيرة تدليك، كما تعلمين، ولكنها حسنة السمعة للغاية.» عندما سُئلَت عما إذا كان هناك سكان آخرون في المنزل، تحدثت بتحفظ. وأقرت قائلة: «لا يمكنك أن تطلق عليهم أعضاء دائمين في العائلة. ثمة امرأة مسنَّة، عمة المدام، تأتي للإقامة معنا من وقتٍ لآخر، ولكني لا أراها كثيرًا. وتخدمها المدام بنفسها، وثمة غرفة مخصصة لها في المنزل. وبالطبع هناك …» بدا أن الآنسة أوتوايت قد تذكرت أمرًا مفاجئًا، وغيرت الموضوع.
أبدت مساعِدة الكاهن رغبتها في التعرُّف إلى المدام، ولكن الخادمة لم تشجعها على ذلك. «إنها ليست مثلكِ. فهي لا تؤمن بالكنائس أو بالرب أو بأمور من هذا القبيل؛ لقد سمعتها تقول ذلك بنفسها. لن تتمكني من جعلها تقترب حتى من كنيسة سان جود يا آنسة.»
«ولكن إذا كانت امرأة ماهرة وودودة، سأودُّ لقاءها. ربما نصحتني بشأن بعض المسائل الشائكة في هذه الأبرشية الكبيرة. وربما ساعدتنا في نشاط العطلات الريفية.»
مطَّت الآنسة أوتوايت شفتَيها، وبدا أنها لا تظن أن تلك الفكرة جيدة. وقالت: «يجب أن تكوني مريضةً وعصبية لكي تهتمَّ بكِ المدام. سأخبرها باسمكِ إذا أردتِ، ولكني لا أظن أن المدام ستستقبلكِ في منزلها.»
رُتِّبَ في نهاية المطاف أن تذهب مساعدة الكاهن إلى المنزل رقم ٤ في عصر اليوم التالي وأن تُحضر معها المواد اللازمة لإصلاح القبعة. ذهبت إلى المنزل في الموعد المُحدد، ولكن الآنسة أوتوايت المضطربة صرفتها. قالت: «إننا مشغولون كثيرًا اليوم، ولا أملِك دقيقةً واحدة حتى لنفسي.» اقتَرَحَت عليها أن تأتي يوم الأحد، ولكن مساعِدة الكاهن كان لديها الكثير من الالتزامات في ذلك اليوم، فحُدِّدَ موعدٌ آخر في مساء الثلاثاء التالي.
تلك المرة سار كل شيء على خير ما يرام. لم تكن المدام في المنزل، وقضت مساعِدة الكاهن ساعةً مع الآنسة أوتوايت في غرفتها أنجزا فيها ما جاءت من أجله. سرعان ما حولت أصابِعها السريعة القبعةَ، التي اشترتها الخادمة من متجر كوينز كريسنت مقابل عشرة شلنات وستة بنسات، إلى نسخةٍ قريبة الشبَه من القبعات الأعلى سعرًا. أبدت اهتمامًا بريئًا بسكان المنزل، وطرحت الكثير من الأسئلة التي أجابتها الآنسة أوتوايت على الفور بعدما اعتدل مِزاجها. تحدثت عن عادات المدام، ونوبات غضبها النادرة، وشغفها بجميع اللغات ما عدا الإنجليزية. قالت الآنسة أوتوايت: «أسوأ ما في أولئك الأجانب هو أنكِ لن تتمكَّني أبدًا من التأكد مما يظنونه عنكِ. نصف الوقت الذي أقضيه مع المدام وعمَّتها أسمعهما يتحدثان بلغةٍ وثنية ما.»
عندما همَّت مساعِدة الكاهن بالمغادرة، كانت قد حصلت على فكرة عامة عن المنزل الذي أبدت فضولًا غير مُتوقع بخصوصه. ولكن قبل أن تُغادر مباشرةً، حدث أمر غير مُتوقع. سُمِعَ صوتُ مفتاح المدام يدور في مزلاج الباب، ودخلت الآنسة أوتوايت في نوبة هلعٍ قصيرة. همست قائلة: «اسمعي يا آنسة، سأُخرجكِ من باب المطبخ.» ولكن لم تُبدِ ضيفتها أي أمارة على الإحراج. وقالت: «أودُّ أن ألتقي المدام بريدا. وهذه فرصتي لأن أفعل.»
بدت الدهشة على وجه المدام الأسمر البدين، مع لمحةٍ من الضيق، عندما رأت المرأتَين. تحدثت الآنسة أوتوايت محاولةً أن تشرح الموقف بسرعة أظهرت مدى توترها. قالت: «هذه السيدة التي تعمل في كنيسة سان جود يا مدام. جاءت إلى هنا لتؤدي عملها وهي تعرف أناسًا من رادهيرست، حيث نشأت، ولقد دعوتُها إلى الدخول إن لم يكن لديك مانع.»
قالت مساعِدة الكاهن: «يسرني لقاؤكِ يا مدام بريدا. آمُل ألا تمانعي زيارتي لإلسي أوتوايت. أنا بحاجةٍ إلى مساعدتها في أعمال «المجتمع المناسب للفتيات».»
جاء الرد بنبرة مهذبة: «أظن أنكِ أتيتِ إلى هنا من قبل. رأيتكِ في الميدان بضع مرات. لا مانع لدَيَّ في أن تحضر أوتوايت اجتماعاتكم، ولكن يجدُر بي أن أُنبهكِ إلى أنها لا تملك الكثير من وقت الفراغ.» لم يكن ثمة شك في أن المرأة أجنبية، ولكن لم تحمِل لُغتها الإنجليزية أي لكنة غريبة.
«هذا لطفٌ منكِ. كان يجدُر بي أن أستأذنكِ أولًا، ولكنكِ لم تكوني في المنزل عندما جئتُ، وأصبحتُ وإلسي صديقتين بمحض الصدفة. أرجو أن تسمحي لي بالمجيء مجددًا.»
ظلت المدام بريدا تراقب الزائرة عبر إحدى النوافذ وهي تهبط الدَّرَجَ وتعبر البوابة الخضراء وتختفي وسط ظلمة الميدان الآخذة في التزايد.
عادت السيدة مجددًا بعد أربعة أيام؛ لا بد وأن ذلك، حسبما أظن، كان يوم التاسع والعشرين من مايو. بدت الآنسة أوتوايت مضطربة عندما فَتَحَت الباب. وقالت: «لا يمكنني التحدث إليكِ الليلة يا آنسة. لقد أمرَتْني المدام أن آخُذكِ إلى غرفتها مباشرةً عندما تأتين.»
قالت المرأة: «يا للُطفها! سأستمتع بالتحدُّث إليها كثيرًا. لقد أحضرتُ لكِ هديةً جميلةً يا إلسي، قُبعة أهدتها لي إحدى صديقاتي، ولكنها لا تناسِب عجوزًا مثلي. سأُعطيها لكِ إن قبِلتِها. سأحضرها في خلال يومٍ أو يومَين.»
أُدخِلَت مساعدةُ الكاهن إلى غرفةٍ كبيرةٍ على يمين الردهة حيث تستقبل المدام مرضاها. لم يكن أحد في الغرفة سوى فتاة صغيرة غريبة المظهر ترتدي ثوبًا من الكتان، أشارت لها أن تتبعَها عبر الباب القابل للطيِّ الذي يفصل بين هذا الجزء من المنزل والجزء الخلفي منه. فعلت المرأة شيئًا غريبًا، فقد حملت الفتاة الصغيرة، وظلت تحمِلها بين ذراعَيها للحظات، ثم قَبَّلَتها؛ كانت هذه عادةً عاطفيةً تتبعها جميع النساء اللاتي لم يُنجِبنَ وكَرَّسنَ أنفسهن لخدمة الرب. ثم عبرت البابَ القابل للطي.
وجدَت نفسها في مكانٍ غريب، أكبر بكثير مما يمكن تخمينه من مظهر المنزل، وعلى الرغم من الجو الدافئ، كانت ثمة نار مدفأة موقدة، نار تستعر ببطء مُصدرةً دخانًا خفيفًا أزرق اللون. كانت المدام بريدا هناك، ترتدي فستانًا مفتوح الصدر كما لو أنها تتناول عشاءها خارج المنزل، وكانت تبدو جميلة، وغامضة، وأجنبية جدًّا تحت ضوء المصابيح المُظلل. جلست امرأةٌ مسنةٌ رائعة على مقعد وثير بجوار المدفأة، وكانت تضع شيئًا يُشبه الوشاح على شعرها الذي كان في بياض الثلج. كانت غرفة لم ترَ الوافدة الجديدة مثلها من قبل في حياتها، فوقفت مترددةً بينما الباب القابل للطي يُغْلَق من خلفها.
وتلعثمَت قائلةً: «مدام بريدا، إنه لطفٌ كبيرٌ منكِ أن توافقي على مقابلتي.»
قالت المدام: «أنا لا أعرف اسمكِ»، ثم فعلَت شيئًا غريبًا؛ رفعت مصباحًا وأمسكته أمام وجه الزائرة مُتفحصةً كل خطٍّ من خطوط قوامها البائس.
«كلارك، أجنس كلارك. أنا أكبر ثلاث شقيقات؛ الأُخريان متزوِّجتان، ربما سمعتِ عن والدي، لقد ألَّف مجموعةً من الأناشيد الجميلة، ونقح …»
قاطعتها المدام دون أن تُنزِل المصباح: «كم عمركِ؟»
أطلقت مساعدة الكاهن ضحكةً عصبيةً صغيرة. وقالت: «لست عجوزًا؛ لقد تخطيتُ الأربعين من عمري فحسب، حسنًا، لكي أكون صادقة، قاربتُ على السابعة والأربعين. أشعر في بعض الأحيان أني صغيرة السن، ولا أصدق أني في هذه السن؛ ثم في أوقات أخرى، عندما أكون مُتعبة، أشعر بأني بلغتُ مائة سنة. للأسف! لم تكن سنواتي الماضية ذات فائدة. ولكنَّنا جميعًا على هذا الحال، أليس كذلك؟ أفضل شيء نفعله هو أن نقرر أن نخرج بأقصى استفادة مُمكنة من كل ساعة مُتبقية لنا. ألقى السيد إمبسون في كنيسة سان جود خطبةً رائعةً عن هذا الموضوع الأحد الماضي. قال إننا يجدُر بنا أن ننظر إلى كل دقيقةٍ لا ترحَم على أنها المسافة التي يُمكننا أن نعدوها في خلال ستين ثانية؛ أظن أنه اقتبس تلك الكلمات من قصيدةٍ ما. من المُريع أن نفكر في الدقائق التي لا ترحَم.»
لم يبدُ على المدام أنها كانت مُصغيةً لما يُقال. قالت شيئًا ما للمرأة المُسنة بلغةٍ أجنبية.
سألت الزائرة: «هل يُمكنني أن أجلس؟ لقد سِرتُ لمسافة طويلة اليوم.»
أشارت لها المدام أن تبتعِد عن المقعد الذي كادت أن تجلس عليه. وأشارت إلى أريكة منخفضة بجوار المرأة المُسنة، وقالت: «اجلسي هناك من فضلكِ.»
بدا الإحراج على وجه الزائرة. جلست على طرف الأريكة، وبدت شاحبةً متوترةً مقارنةً بالمرأتَين الهادئتَين، وظلت أصابعها تعبث بعصبيةٍ في يد حقيبتها.
سألتها المدام بنبرة كادت تحمل تهديدًا: «لمَ جئتَ إلى هذا المنزل؟ لا علاقة لنا بكنيستكِ.»
«آه، ولكنكما تعيشان ضمن الأبرشية، وهي أبرشية كبيرة ومرهِقة، ونحتاج إلى مساعدة الجميع. لا يُمكنكما أن تتخيَّلا مدى سوء الأوضاع في الأحياء الفقيرة؛ مدى مرارة الفقر في تلك الأوقات العصيبة، والأمهات المرهَقات والأطفال الصغار المساكين المُهمَلين. إننا نحاول أن نجعل الأبرشية مكانًا أفضل.»
«هل تريدين مالًا؟»
«نحن بحاجةٍ إلى المال طوال الوقت.» حمل وجه مساعدة الكاهن ابتسامة مُتملقة. وقالت: «ولكننا نحتاج أكثر إلى خدمات الأفراد. لطالما قال السيد إمبسون إن خدمة الفرد، وإن كانت ضئيلة، أفضل من التبرعات الضخمة؛ يكون تأثيرها أقوى على روح المُعطي والمتلقِّي.»
«ما الذي تتوقعين أن تحصلي عليه من أوتوايت؟»
«إنها شابةٌ من الريف تعيش وحدَها في لندن. إنها فتاة صالحة، على ما أظن، وأريد أن أجعلها تُكَوِّن صداقاتٍ وأن تحصل على متعةٍ بريئة. كما أني بحاجةٍ إلى مساعدتها في أنشطة الكنيسة.»
جفلت الزائرة عندما وجدَت يدَ المرأة المسنَّة على ذراعها. كانت تُمرر أصابعها الطويلة على ذراعها وتضغط عليها. حتى تلك اللحظة لم تكن المرأة المسنَّة قد تحدثت، ولكنها الآن قالت:
«هذه ذراع امرأة شابة. إنها تكذب بخصوص عمرها. لا امرأة في السابعة والأربعين من عمرها تملك مثل هذه الذراع.»
تحول تمرير الأصابع على الذراع إلى قبضةٍ من حديد، فصرخت الزائرة.
وقالت: «آه، من فضلكِ، من فضلكِ، أنت تؤلِمينني. أنا لا أكذب. أنا فخورة بجسدي، قليلًا فقط. أنا مثل أُمي، وقد كانت امرأة بارعة الجمال. ولكن بحقِّ الرب! أنا لستُ شابة. أتمنَّى لو كنتُ كذلك. يؤسِفني أن أقول إنك ستجدينني عجوزًا عندما تَرينني في ضوء النهار.»
أرخت المرأة المسنَّة قبضتها، وتحركت الزائرة نحو الطرف الآخر من الأريكة لتبتعِد عنها. ثم بدأت تبكي بطريقةٍ عاجزة سخيفة كما لو كانت تشعر بالرُّعب. تحدثتِ المرأتان معًا بلغةٍ غريبة، ثم قالت المدام:
«لن أسمح لكِ بالمجيء إلى هنا. لن أسمح لكِ بالتعامُل مع خدمي. كما أني لا أهتمُّ بأمر كنيستكِ على الإطلاق. إذا جئتِ إلى هذا المنزل مجددًا، فسوف تندمين.»
كانت تتحدَّث بغِلظة، وبدت الزائرة وكأنها ستبكي مجددًا. وسلبَها توترها تلك الأناقة الذابلة التي كانت تتمتَّع بها سابقًا، وبدت في تلك اللحظة كائنًا هشًّا مُثيرًا للشفقة، كما لو كانت حاكمةً مُسنَّة تتوسَّل ألا تُعزَل.
زفرت ثم قالت: «أنتِ قاسية. أعتذر لو أنني ارتكبتُ خطأً من وجهة نظرك، ولكني كنتُ أُضمر خيرًا. ظننتُ أنكِ ستُساعدينني، فقد قالت إلسي عنك إنكِ امرأة فطنة وعطوف. ألن تُفكري في أمر إلسي المسكينة؟ إنها صغيرة السن وتعيش بعيدًا عن أهلها. ألا يُمكنها أن تأتي إلى كنيسة سان جود من وقتٍ لآخر؟»
«لدى أوتوايت مهام تؤدِّيها في المنزل، وأنا واثقة من أن لدَيكِ مهام مُماثلة أنتِ أيضًا في منزلك. يا للهراء! لا صبر لدَي على المُسنَّات الإنجليزيات المُزعجات. يقولون إن منزل الإنجليزي هو قلعته، ولكن لا أرى إلا وباءً من عوانس عاقرات يَطُفْن في كل مكانٍ باسم الدين وعمل الخير. اسمعيني. لن أسمح بقدومكِ إلى هذا المنزل. ولن أسمح لكِ بالتحدُّث إلى أوتوايت. لن أسمح لامرأةٍ عاطلة أن تتجسَّس على شئوني.»
مسحت الزائرة عينَيها بطرف منديلها. مدت المرأة المسنة يدَها مجددًا وكادت تضعها على صدْر الزائرة التي هَبَّت من جلستها بعنف. بدت في حالة وسطٍ بين الحزن والخوف. ازدردت ريقها بصوتٍ مسموع قبل أن تتمكن من الحديث، ثم تهدَّج صوتها وهي تتكلم.
«من الأفضل أن أنصرف. لقد تسببتُما لمشاعري بجراح عميقة. أعلم أني لست فطِنة، ولكني أبذل قصارى جهدي … و… ويؤلِمني أن أُفهَم بالشكل الخاطئ. يؤسِفني أن أقول إنني تصرفتُ دون مراعاة، فاعذُراني. لن آتيَ إلى هذا المنزل مجددًا. وسأدعو الربَّ أن يَلين قلباكما ذات يوم.»
كان يبدو أنها تبذُل جهدًا كبيرًا لاستعادة هدوئها، ومسحت عينَيها للمرة الأخيرة ونظرت بابتسامةٍ خائفة نحو المدام الصارمة التي دقَّت جرسًا كهربائيًّا. أغلقت الباب القابل للطيَّ خلفها برفق كما لو كانت طفلة نادمة أُرسِلَت إلى فِراشها عِقابًا لها. كانت الغرفة الأمامية مُظلمة، ولكن كان ثمة ضوء في الردهة حيث تقِف الآنسة أوتوايت لتُخْرِجها من المنزل.
عند باب المنزل، كانت مساعِدة الكاهن قد تمالكَت نفسها مجددًا.
همست: «إلسي، مدام بريدا لا تُريدني أن آتيَ إلى هنا مجددًا. ولكن يجب أن أُعطيكِ تلك القبعة التي وعدتكِ بها. سأجهزها لكِ مساء الخميس. أخشى أني سآتي في ساعةٍ متأخرة؛ ربما بعد الحادية عشرة مساءً، ولكن لا تنامي قبل أن آتي. سأكون عند الباب الخلفي. إنها قبعة أنيقة جدًّا. أنا واثقة من أنها ستعجبك.»
بمجرد أن خرجت إلى الميدان، تلفَّتَت حولَها في حدةٍ وألقت نظرة خلفَها على المنزل رقم ٤، ثم أسرعت الخطى مبتعدة. كان ثمة رجل يتسكع عند ناصية الشارع تحدثت إليه؛ أومأ الرجل برأسه وحيَّاها بلمسةٍ لقُبعته، وتوقفت سيارة كبيرة، كانت تنتظِر في الظلام على الجانب الآخر من الشارع، عند حافة الرصيف. بدت وسيلة نقل غريبة لمساعِدة الكاهن، ولكنها دخلت السيارة كما لو كانت معتادةً على ذلك، وعندما تحركت السيارة، لم تتَّجِه ناحية شقَّتِها في هامبستيد.