الفصل الثامن عشر

ليلة الأول من يونيو

قضيتُ اليومَين الأخيرَين من شهر مايو في حالةٍ من القلق والإحباط الشديدَين. كانت جميع قنوات اتصالي مع أصدقائي مقطوعة، ولم أكن أعرف كيف يُمكنني إعادة فتحها. أما مِدينا، فبعدما أنهى أعمالَه الكثيرة الأخيرة، بدا أنه أصبح يملك وقت فراغٍ من جديد، ولم يعُد يُبعدني عن ناظرَيه مطلقًا. أكاد أجزم أنني كنتُ سأتمكن من زيارة النادي وترك رسالة هاتفية إلى ماري، ولكني لم أجرؤ على المخاطرة، فقد أصبحتُ مُدركًا أكثر من أي وقتٍ مضى لمدى حساسية الوضع الذي كنتُ فيه، وأن خطوة واحدة خطأ أُقدِم عليها قد تفسد كلَّ شيء. لم يكن الأمر ليحمِل تلك الأهمية الكبيرة لو كنتُ لا أزال أملك أملًا في النجاح، ولكني كنتُ واقعًا تحت تأثير حالة من التشاؤم الشديد. كان يُمكنني أن أعتمِد على ماري في نقل أخباري إلى ماكجيليفراي، وعلى ماكجيليفراي في اتخاذ الخطوات اللازمة لتسريع عملية القبض على العصابة؛ بحلول الثاني من يونيو، سيعود ميركوت بين أصدقائه، وكذلك الآنسة فيكتور، إذا ما تمكَّنَت ماري من معرفة مكانها مجددًا. ولكن مَن الذي كان يُنَظِّم كل ذلك؟ هل كانت ماري تعمل منفردة، وأين ساندي؟ سيصل ميركوت وجاوديان إلى اسكتلندا، وقد يُرسِلان لي برقيةً في أي لحظة، ولن أتمكن من الرد عليهما. كان يتملَّكني شعور مُثير للجنون بأن كل شيءٍ على المحك، وأن احتمالات الخطأ لا نهائية، وأنه ليس في مقدوري فعل شيء. علاوة على كل ما سبق، كان التفكير في ديفيد واركليف يُعذبني. توصلت إلى استنتاج أن الكلمات التي ودعتني بها ماري لم تكن تعني شيئًا؛ في الواقع، لم أعرف كيف يُمكنها أن تعرف أي شيءٍ عن الصبي الصغير، فلم نحصل بعدُ على أي دليلٍ بخصوصه، وكان التفكير فيه يجعل النجاح في تحرير الرهينتَين الأُخريَين أشبه بالفشل. كنتُ أتلقَّى عقابي على طمأنتني المُتعجلة لماري من ناحية مِدينا. اتخذ رُعبي من الرجل منحًى جديدًا؛ كان يبدو لي منيعًا ضد أي أملٍ في الانقضاض عليه؛ وعلى الرغم من مَقتي له، كنتُ أرتجف منه؛ وتلك تجربة جديدة، فإلى حدِّ الآن كنتُ أجد دومًا أن الكراهية تطرد الخوف.

كان لا يُحتمَل خلال هذين اليومَين؛ لا يُحتمَل ولكن رائع في الوقت نفسه. كان يبدو أنه يُحب رؤيتي، كما لو كنتُ برهانًا مرئيًّا وأثيرًا على قُدرته، وكان يُعاملني مثلما قد يعامل طاغيةٌ شرقي عبدَه المفضل. كنت أمثِّل له الراحة التي عثر عليها بعد مُعاناة روحية طويلة، وجعلني أرى الأمنيات الأثيرة إلى قلبه. أدركتُ مُرتعبًا أنه يعتبرني جزءًا من العالم القبيح الذي أنشأه، وأظن أني أصبحتُ أشعر بالخوف للمرة الأولى منذ بداية المهمة. إذا ما تخيل أني قد أخذُله، فسيتحوَّل إلى وحشٍ مفترس. أتذكَّر أنه كان يتحدث كثيرًا عن السياسة، ولكن، يا إلهي! تغيرت تلك الآراء المُحترمة المحافظة التي كان يُطرِب آذاني بها فيما مضى، كما لو أن توري بُعث من جديدٍ بسبب تأثير النساء وأمور من هذا القبيل! كما قال إنه خلْف جميع المُعتقدات السائدة في العالم، المسيحية، والبوذية، والإسلام، وغيرها، توجَد عبادة قديمة للشيطان، وإنها بدأت تظهر من جديد. وقال إن البلشفية أحد أشكالها، وأرجع نجاح البلاشفة في آسيا إلى إعادة إحياء ما أُطلِق عليه اسم الشامانية؛ أظنُّ أن تلك هي الكلمة التي استخدمها. طبقًا لكلماته، أزالت الحرب تلك القشرة الزائفة التي كانت تُغطي كل شيء، وظهر الوجه الحقيقي لكل شيء. كانت هذه الفكرة تُبهجه، لأن الأديان القديمة لم تكن قوانين أخلاقية، بل أسرار مُتعلقة بالروحانيات، ومنحت فرصة للبشر الذين اكتشفوا السحر القديم. أظن أنه أراد الفوز بكل ما قد تُقدِّمه له الحضارة، ثم يُدمرها، فلم تكن كراهيته لبريطانيا إلا جزءًا من كراهيته لكل ما يُحبه البشر ويُقدرونه. كان الفوضوي العادي أحمق في نظره، لأن مدن ومعابد الأرض بأسرِها لم تكن تضحيةً كافيةً لإرضاء غروره. أصبحتُ أدرك الآن ما يَعنيه القوطي والهوني، وكيف كانت طباع الجلادين على غرار أتيلا وتيمور لَنك. قد تقول إنهم مَجانين. نعم، لا شك في أنهم كانوا مجانين، ولكن كان جنونهم من أكثر أنواع الجنون إقناعًا. كنتُ أُجاهد لكي أُبقي على تركيزي مُنصبًّا على مهمتي، ولأمنع أعصابي عن الانهيار.

خلدتُ للنوم في الليلة الأخيرة من شهر مايو في حالة أقرب إلى اليأس، وأذكر أني ظللتُ أعزِّي نفسي مستخدمًا الكلمات التي قلتُها لماري، أن المرء يجب أن يواصِل العمل حتى النهاية دون أن يفقد الثقة في أن الحظ قد يتغيَّر في الدقائق العشر الأخيرة. فتحتُ عينَي على صباح رائع، وعندما هبطتُ إلى الطابق الأرضي لأتناول إفطاري، كنتُ أشعر بمعنوياتي مرتفعة إلى حدٍّ ما. عرض عليَّ مِدينا أن أصحبه للعدْوِ في الريف والتنزُّه سيرًا عبر مرتفعاتٍ ما. وقال: «ستفتح هذه النزهة شهيتنا لعشاء يوم الخميس.» ثم صعد إلى الطابق العلوي ليتلقى مكالمة هاتفية، وكنت في غرفة التدخين أملأ غليوني بالتبغ عندما دخل جرينسليد عليَّ الغرفة بغتةً.

لم أستمع ما كان يقوله، فقد سحبتُ ورقةً وكتبت عليها رسالة: «خُذ هذه الرسالة إلى رئيس حرس النادي وسيُعطيك أي برقية موجهة لي. إذا كانت ثمة برقية من جاوديان، ولا بد من أن واحدةً قد وصلته، فأرسِل له برقيةً مفادها أن ينطلِق على الفور ويذهب مباشرةً إلى جوليوس فيكتور. ثم أرسل برقية إلى الدوق لتُخبره بأن ينتظره هناك. هل فهمت؟ والآن، بمَ تريد أن تخبرني؟»

«لا شيءَ سوى أن زوجتك تقول إن الأمور تسير على خير ما يرام. يجب أن تذهب الليلة إلى حقول جنة عدن في العاشرة والنصف. كما يجِب أن تحصل بطريقةٍ ما على مفتاح هذا المنزل، وأن تتأكَّد من ألا يُغلَق الباب بالسلاسل.»

«هل ثمة شيء آخر؟»

«لا شيء آخر.»

«وماذا عن بيتر جون؟»

كان جرينسليد يستفيض في الحديث عن بيتر جون عندما دخل مِدينا الغرفة. «جئتُ لأخبر السير ريتشارد أن ما حدث لابنه كان إنذارًا كاذبًا. لا شيء سوى حُمَّى الربيع. كان الجرَّاح مستاءً للغاية من أخذه كل هذه المسافة من أجل لا شيء. رأت الليدي هاناي أنه يجدُر به أن يسمع تلك الأخبار مني شخصيًّا حتى يذهب في عطلته مرتاح البال.»

اختصرت الحديث معه حتى يرى مِدينا أن أفكاري لم تعُد منصبةً على أسرتي. بينما كنا نمضي بالسيارة في طريقنا إلى ترينج، تحدثتُ عن العطلة المرتقبة كما لو كنتُ صبيًّا مُتملقًا طُلِبَ منه أن يقضي أسبوع مهرجان الكريكيت مع شخصٍ مُسن. قال مِدينا إنه لم يُحدد المكان، ولكنه سيكون في الجنوب حيث الشمس المشرقة؛ ربما الجزائر وأطراف الصحراء، أو الأفضل أن نذهب إلى مكانٍ ناءٍ على شاطئ المتوسِّط حيث يُمكننا أن نستمتع بأشعة الشمس ومياه البحر الزرقاء. كان يتحدَّث عن الشمس وكأنه أحد عبدة النار. كان يريد أن يغمس أطرافه فيها ويغسل روحه في الضوء، ويسبح في مياه دافئة. كان يتحدَّث بنشوة شاعر، ولكن ما لفَتَ نظري في نشوته الشعرية تلك أنها لم تكن تحمِل أي مشاعر. كان الجسم البشري تابعًا خانعًا لعقله، ولا أعتقد أنه كان يشعر بأي شهواتٍ جسدية. كان كل ما يُريده هو طريق مضيئة لروحه.

سِرنا طوال اليوم على التلال المُحيطة بقرية أيفنهو، وتناولنا غداءً متأخرًا في حانة القرية. لم يتحدَّث كثيرًا، بل كان يسير على المنحدرات المُغطاة بنبات الزعتر ناظرًا أمامه في ثبات. تحدث مرةً واحدةً عندما كنا نجلس على القمة بعدما أطلق زفرةً وتجهَّم وجهه بشدة للحظة.

ثم سألني بغتة: «ما هي أقصى متعة؟ هل هي تحقيق الهدف؟ لا. بل الزهد.»

علَّقتُ قائلًا: «هذا ما سمعتُ الكهنة يقولونه.»

ولكنه لم ينظر نحوي. «أن تملك كل ما يتوق إليه البشر، ثم تُنحِّيه جانبًا. أن تكون إمبراطور الأرض، ثم تنسلُّ من جنس البشر وترتدي النعال وتُمسك وعاء الصدقات. الإنسان الذي يُمكنه تحقيق ذلك، سيكون قد غزا العالم؛ لن يكون مجرد ملك، بل إله. ولكن يجب أن يكون ملكًا أولًا لكي يتمكن من تحقيق ذلك.»

لا أعتقد أني سأتمكن من وصف الجوِّ العام لذلك المشهد، قمة التل العارية وسط سماء الصيف الزرقاء، وذلك الرجل الذي، حسبما ظن، يقترب من قمة النجاح، ثم يبدأ فجأة بالتشكيك في جميع القِيَم التي وضعها البشر. طوال فترة تعامُلي مع مِدينا، كنتُ مهووسًا بالشعور بالدونية مقارنةً به، بحيث كنت أُشبَّهُ بحصان العربات الأجرة بينما يبدو هو كحصان عربي أصيل، ولكني شعرت الآن بصدمةٍ هائلة. كان ذلك من نوعية ما كان نابليون سيقوله، وسيفعله، لو لم تفشل خُططه. كنت أعلم أني أناضل شيطانًا، ولكني كنت أعلم أيضًا أنه شيطان عظيم.

عُدنا إلى المدينة قبل العشاء بفترة تكفي لتغيير ملابسنا، وعاد قلقي يتأجَّج من جديد بقوة أكبر بألف مرة. كانت تلك ليلة الكارثة، وكنتُ أكره أن أورِّط نفسي في أي شيءٍ طارئ في ساعة متأخِّرة من اليوم. يجِب أن تحدث هذه الأمور في الصباح الباكر. كان الأمر يبدو أشبَهَ بمُعاناة الجنود في فرنسا خلال الحرب، ولكني لم أكن أمانع أن يحدُث في ساعات الفجر، عندما يكون المرء مُكتئبًا ونصف مُستيقظ بالفعل، ولكني كنتُ أنقِم على الهجوم الذي يحدُث في ضوء النهار الساطع، أو في وقت الغروب عندما يرغب المرء في الاسترخاء.

أذكر أني حلقتُ لحيتي في تلك الليلة بعناية، كما لو كنتُ أجهز نفسي لأكون قربانًا. كنتُ أسأل نفسي عما سيكون عليه شعوري عندما أحلق لحيتي المرة القادمة. وكنتُ أتساءل عما كان يفعله ساندي وماري.

لم أكن أعرف ما كان ساندي وماري يفعلانه في تلك اللحظة تحديدًا، ولكن يُمكنني أن أقصَّ عليكم الآن أحداثًا كانت تقع في تلك اللحظة لم أكن أعلم عنها شيئًا. كان ميركوت وجاوديان يشربان الشاي على متن قطار ميدلاند السريع، بعدما كاد عُنقاهما أن ينكسِرا في حادثٍ أثناء انطلاقهما بالسيارة بسرعة جنونية ليلحقا بالقطار المُتَّجه إلى هاويك. كان الأول نظيفًا وحليق الوجه، وصفَّف شعره بعناية، وكان يرتدي بذلةً صوفية جاهزة على مقاسه تمامًا. كانت الشمس قد لوَّحَت بشرته بشدة، وكان متحمسًا للغاية، وكان دائمًا ما يُقاطع قراءة جاوديان لأعمال السير والتر سكوت.

سأله قائلًا: «سيتحرَّر نيوهوفر اليوم. ماذا تظن أنه سيفعل؟»

جاءت الإجابة: «لن يفعل شيئًا؛ لوهلة على الأقل. لقد قلتُ له أمورًا مُحددة. لا يمكنه العودة إلى ألمانيا علنًا، ولا أظن أنه يملك الجرأة ليعود إلى إنجلترا. إنه يخشى انتقام ربِّ عمله منه. سيختفي لبعض الوقت، ثم يظهر ليرتكب جريمةً جديدة باسمٍ جديد ووجه جديد. إنه المحتال الأزلي.»

تهلَّل وجه الشاب في سرور. وقال: «إذا عشتُ إلى سنِّ المائة، لا أظن أني سأستمتِع بأي شيءٍ مثلما استمتعتُ بتلك اللَّكمة التي وجهتها إلى فكه.»

***

في غرفةٍ داخل منزل ريفي يقع على الحدود بين ميدلسيكس وباكس كان توربين يتحدَّث إلى فتاة. كان يرتدي ملابس سهرة لم يغفل عن أدقِّ تفاصيلها، وكانت الفتاة ترتدي فستانًا جميلًا أنيقًا بلون أخضر عشبي. كانت تضع الكثير من مساحيق التجميل على وجهها، وكان ثمة تناقُض غريب بين شفتَيها الحمراوَين وحاجبَيها الثقيلَين من ناحية، وبشرتها البيضاء الشاحبة كالموتى من ناحية أخرى. ولكن وجهها كان مختلفًا عن الوجه الذي رأيتُه للمرة الأولى في قاعة الرقص. كانت الحياة قد عادت إليه، ولم تعُد العينان خاويتَين مثل الحصى، بل عادتا نافذتَين للروح. لم يختفِ الخوف والحيرة بالكامل من هاتَين العينَين، ولكنهما عادتا لتكونا عينَين بشريَّتَين، وكانتا تبرقان في تلك اللحظة بحبٍّ جامح.

قالت: «أنا مُرتعبة. يجب أن أذهب إلى ذلك المكان اللعين مع ذلك الرجل اللعين. أرجوك يا أنطوان، أرجوك، لا تتركني. لقد أخرجتني من القبر، ولا يُمكنك أن تتركني أعود إليه مجددًا.»

ضمَّها إليه وداعب شعرها.

وقال: «أعتقد أن هذه هي — ما الكلمة التي يُطلقونها عليها؟ — الجولة الأخيرة. حبيبتي، لا يُمكننا أن نخذل أصدقاءنا. سأُتبعكِ قريبًا. هذا ما قاله لي الرجل الحزين الوجه الذي لا أعرف اسمه، وهو صديق. ستُقِلُّني سيارة بعد نصف ساعةٍ من مُغادرتكِ مع ذلك المدعو أوديل.»

سألته: «ولكن ما الذي يَعنيه كل ذلك؟»

«لا أعرف، ولكني أظن، بل أنا واثقة، من أن هذا كله من ترتيب أصدقائنا. فكِّري في الأمر يا صغيرتي. أحضروني إلى المنزل الذي أنتِ فيه، ولكن سجانيكِ لا يعلمون بوجودي. عندما وصل أوديل، نبَّهني أحدٌ ما، وحبسني في غرفتي. ولم يُسمَح لي أن أخرج منها. لم أحظَ بأي تمارين سوى التدرب على الملاكمة مع ذلك الخادم الإنجليزي الكئيب. لا شك في أنه ودود للغاية، ومكَّنني من الحفاظ على لياقتي. كما أنه جيد في الملاكمة، ولكني تدربتُ على يد جولز، ولم يكن ندًّا لي. ولكن عندما أصبح الوضع آمنًا، سُمِحَ لي برؤيتكِ، ولقد أيقظتكِ من نومكِ يا أميرتي. لذا، كل شيءٍ يسير على خير ما يُرام حتى الآن. أما بشأن ما سيحدُث الليلة، فأنا لا أعرف، ولكني أظنُّ أنها ستكون نهاية معاناتنا. لقد أخبرَني الرجل الحزين الوجه بذلك. إذا عدتِ إلى ذلك المرقص، أظنُّ أنني سأكون في إثركِ، وحينئذ سنعرف ما علينا فعله. لا تخافي يا صغيرتي. كل ما ستفعلينه هو أن تعودي أسيرة، ولكن كمُمثلة تؤدي دورًا، وأنا على يقينٍ من أنكِ ستؤدين دوركِ ببراعة. ولا تسمحي لذلك الرجل أوديل بأن يشكَّ في أمرك. سآتي على الفور، وأعتقد أنَّنا سنُبلَّغ بما علينا فعله، كما آمُل أن نتمكن من عقاب المجرمين.»

دخل الخادم ذو الوجه الخالي من التعبير وأشار للشابِّ الذي قبَّل الفتاة وتبِعَه. بعد بضع دقائق، كان توربين في غرفته وباب الغرفة مُغلق عليه. ثم سُمِع صوت إطارات سيارة في الخارج، وكان ينصت بابتسامةٍ تملأ وجهه. وبينما كان يقف أمام المرآة ليضع اللمسات الأخيرة على شعره الناعم، كان لا يزال يبتسِم، ابتسامةً متوعِّدة.

***

كانت أحداث أخرى، لم أكن أعرف عنها شيئًا، تجري في تلك الليلة. من مكتبٍ مُتواضع مُعين بالقرب من تاور هيل، خرج سيدٌ محترمٌ مُتجهًا نحو شقتِه في مايفير. كانت سيارته تنتظِرُه عند ناصية الشارع، ولكنه فوجئ عندما ركِبَها أن شخصًا ما رَكِبَها أيضًا من الناحية الأخرى، ولم تصل السيارة في نهاية المطاف إلى شارع كلارجيس. كما أن المكتب الذي تركه مغلقًا ومقفلًا بالمزلاج، أصبح الآن مفتوحًا، وكان رجالٌ يعبثون بمحتوياته حتى ساعةٍ متأخرة من الليل، رجال لم يكونوا من موظَّفيه. كان صحفي بارز من أكبر مناصري الشعوب المقهورة في وسط أوروبا يتَّجِه إلى ناديه لتناول عشائه عندما طرأ أمر ما أخَّرَه وجعله يؤجل العشاء. كانت شركة النحاس الإسبانية في طريق لندن وول لا تزال أبوابها مفتوحة بعد ساعات العمل الرسمية، ولكن ليس لتقديم الغداء للعديد من السادة المُحترمين، بل كانت غرفها مُضاءة في تلك الليلة، وكان رجال لا يبدو عليهم أنهم من موظفي البلدية يفحصون وثائقها. وفي باريس، كان كونت فرنسي مُعين ذو ميول ملكية قد حجز مقصورةً في الأوبرا تلك الليلة بعد حفل العشاء الصغير الذي نظَّمه، ولكنه لم يصِل في موعده، الأمر الذي أزعج ضيوفه كثيرًا، ولم يكن أحد يرُد على الهاتف في شقتِه في شارع الشانزليزيه. على الطرف الآخر من الخط كان هناك رجلٌ فظٌّ لا يُحب الحديث. لم يعُد محاسب بارز من جلاسجو، كان أحد زعماء الكنيسة الوطنية الاسكتلندية، ومرشحًا مُحتملًا للبرلمان، إلى أُسرتِه تلك الليلة، وعندما أُبلِغت الشرطة بذلك، كانت إجاباتها غريبة. كان مكتب جريدة ذي كريستيان أدفوكات في ميلووكي، الجريدة ذات نِسَب التوزيع المُنخفضة في إنجلترا، الواقع بالقرب من شارع فليت، مُمتلئًا في حوالي الساعة السادسة بأشخاصٍ صامِتين منشغلِين، وأُخِذ مدير الجريدة، مصعوقًا وذاهلًا، في سيارة أجرة بواسطة رجلَين ضخمي الجثة لم يُحاولا حتى تعريفه بنفسيهما. بدا أن أحداثًا غريبةً تقع في جميع أنحاء العالم. لم تُبحر عدة سفن في موعدها المُحدد بسبب أشخاصٍ مُعينين على قوائم مسافريها؛ وقاطعت الشرطة فجأة اجتماعًا لمصرفيين بارزين في جنوا؛ واحتُلَّت مكاتب بعض من أكثر الناس احترامًا وفُحِصَت بواسطة رجال شرطة عجولين؛ لم تظهر العديد من المُمثلات الأنيقات لإسعاد جمهورهن، وتغيبت أكثر من راقصة جميلة عن مشهد تصفيق الجمهور المعتاد؛ وحُدِّدت إقامة سيناتور في غرب أمريكا، ومسئول كبير في روما، وأربعة نواب في فرنسا، وانخرط كاردينال الكنسية الكاثوليكية في الصلاة بعد تلقِّيه رسالة هاتفية. ووجد أحد أباطرة التعدين في ويستفاليا، والذي كان في زيارة عملٍ إلى أنتويرب، أنه من غير المسموح له أن يلحق بالقطار الذي حجزه. اختار خمسة رجال، جميعهم في مناصب كبيرة، وامرأة واحدة أن يُنهوا حياتهم بأيديهم، دون سببٍ واضح يعرفه أقرباؤهم، ما بين الساعتَين السادسة والسابعة. ووقعت حادثة مؤسفة في إحدى المدن الواقعة على ضفاف نهر لوار حيث كان رجل إنجليزي، إقطاعي إنجليزي نموذجي معروف بين أوساط الصيد في شروبشاير، في رحلة بالسيارة إلى جنوب فرنسا عندما زاره رجلان فرنسيان من عامة الشعب، وكان حديثهما غير مُستساغ له. فأخرج شيئًا من جيب صديريته ووضعه في فمِه عندما أقدما على التعامُل بعنف معه، ووضعا شيئًا على مِعصَميه ليُكبلاهما.

***

كانت ليلة رائعة خالية من الغيوم عندما خرجتُ ومِدينا سيرًا على الأقدام لمسافة نصف ميل إلى شارع ميرفين. كنتُ قد تعرضتُ للكثير من العزلة والمُضايقة على مدار الأسابيع الماضية لدرجة أني نسيتُ اقتراب الصيف. بدا العالم مشرقًا فجأة، وعُبِّقَت الشوارع بتلك الرائحة التي تختلط فيها روائح أنواع عديدة من الزهور، هذا العبق، ورائحة الأرصفة الخشبية الساخنة والأسفلت هما رائحة الصيف المُميزة في لندن. كانت ثمة سيارات تنتظِر أمام أبواب المنزل، وكانت نساء ترتدي ملابس أنيقة تركبها؛ وكان رجال يسيرون في اتجاه حفل العشاء، وتبادلنا التحيَّات مع بعضهم؛ وكانت الأرض بأسرها تبدو وكأنها غارقة في الضحكات والسعادة. ولكني كنتُ بعيدًا كل البُعد عن هذا المشهد. بدوتُ وكأني أعيش على الجانب الآخر من حاجز يفصلني عن هذا العالم السعيد، ولم أتمكَّن من رؤية أي شيءٍ سوى رجل مُسن وحيد ذي وجهٍ حزين ينتظر غلامًا مفقودًا. مرت لحظة عندما كنا عند ناصية ميدان بيركلي عندما دفعتُ مِدينا بخشونة دون قصد، واضطررتُ لأن أُطبق يدَي وأعضَّ على شفتَي لأمنع نفسي عن خنقه في تلك اللحظة.

كانت غرفة الطعام في شارع ميرفين تُطل على جهة الغرب، وشكَّل صراع دائر بين أضواء المساء والشموع المُوزَّعة على المائدة مشهدًا خياليًّا من الزهور وأدوات المائدة. كان عدد المدعوين كبيرًا، خمسة عشر على ما أظن، وبدا أن الطقس الجميل جعل الجميع في حالةٍ معنوية عالية. كنتُ قد نسيت تقريبًا سمعة مِدينا بين الناس العاديين، وعدتُ لأنبهر مجددًا بدلالات شعبيته الواسعة. كان هو رئيس المجموعة في تلك الليلة، ولم أرَ في حياتي رئيسًا لحفل عشاء أفضل منه. كان يقول الكلمات المناسبة لكل واحدٍ من الحضور، وجلسنا حول طاولة كما لو كنَّا مجموعةً من الطلبة الجامعِيِّين يحتفلون بالفوز في مباراة كريكيت.

كنتُ أجلس على يمين الرئيس، بجوار برمينستر، وباليسار ييتس أمامي. كان محور الحديث في البداية حول سباق الخيول والمشاركة في سباق أسكوت، وكان مِدينا مطلعًا اطلاعًا غير عادي في هذا الموضوع. كان يملك الكثير من المعلومات المُسرَّبة من إسطبلات شيلتون، وأظهر لنا نفسه في هيئة الناقد المدقق لهيئاتها، وكذلك كان عليمًا بسلالات خيول السباق، وجعل برمينستر، الذي كان يظن أنه خبير في الأمور نفسها، يفغر فاه من فرط إعجابه. أظن أن عقلًا مثل عقله يمكنه أن يستوعب أي موضوع في لمح البصر، وكان يظن أن هذا النوع من المعرفة سيفيده، فلا أعتقد أن الخيل كانت تمثل له أكثر مما كانت تُمثله القطط.

ذات مرة خلال معركة السوم، ذهبتُ لتناول العشاء في قلعةٍ فرنسيةٍ تقع خلف خطوط العدو، حيث حللتُ ضيفًا على الابن الوحيد لصاحب المنزل. كانت قلعةً عتيقة تحتوي على بِرَك أسماك وشرفات، ولم يكن يعيش فيها سوى شخصَين، كونتيسة عجوز وفتاة في الخامسة عشرة من عمرها تُدعى سيمون. أذكر خلال العشاء أن رئيس الخدم الهَرِم صبَّ لي خمسة أكواب من أنواع مختلفة من النبيذ الأحمر لأنتقي النوع الذي أفضله. بعد ذلك، خرجتُ للتنزُّه في الحديقة مع سيمون تحت أضواء غسق أصفر رائعة، مشاهدًا أسماك الشبوط السمينة في البِرَك، ومنصتًا لصوت طلقات البنادق القادم من بعيد. شعرت في تلك اللحظة بالتناقض الحاد بين الشباب والبراءة والسلام وبين ذلك العالم الذي يتقاتل على بُعد دزينة من الأميال. الليلة انتابني الشعور نفسه، تلك المجموعة السعيدة من الرجال الوضَّائين العمليين المهذبين، والعالم الخفي القبيح المليء بالغموض والجرائم الذي يرأسه الرجل الجالس عند رأس الطاولة. من المؤكد أني لم أكن صحبةً مبهجة، ولكن لحسن الحظ كان الجميع يُحبون الثرثرة، وكنت أبذل أقصى ما في وسعي لأبتسم على ما يقول برمينستر من حماقات.

بعد قليل تحولت دفة الحديث بعيدًا عن الرياضة. كان باليسار ييتس يتحدَّث، وكان لون بشرته الطفولي النضر يتعارَض بصورة غريبة مع عينَيه الحكيمتَين وصوته العميق.

ردَّ على تعليقٍ وجَّهه ليثين قائلًا: «لا يُمكنني فهم ما يحدث. فجأة أصبح الحي التجاري في لندن مُرتعبًا، ولا أرى سببًا لذلك ضمن الحقائق التي وصلتني. كانت ثمة الكثير من حالات بيع الأسهم، بواسطة مُلاك الأسهم الأجانب في الأغلب، ولكن هناك عشرات التفسيرات لذلك. لا، ثمة خطب، وهو، للأسف، يُشبه ما أذكر أنه حدث في يونيو عام ١٩١٤م. كنتُ ضيفًا على آل ويتنجتون حينئذ، وفجأة وجدنا كل شيءٍ ينهار؛ نعم، قبل عمليات الاغتيال في سراييفو. لعلكم تذكرون انهيار تشارلي إدموند؛ كان ذلك بسبب عدم الشعور بالأمان الذي هزَّ العالَم بأسره. ينتاب الناس من وقتٍ لآخر شعورٌ داخلي بأن أمرًا سيئًا سيحدث. وربما كانوا على حق، وقد بدأ بالحدوث بالفعل.»

قال ليثين: «يا إلهي! لا يُعجبني ذلك. هل ستنشب حرب أخرى؟»

لم يُجبْه باليسار ييتس على الفور. ثم قال: «يبدو ذلك. أقر لك بأن ذلك غير وارد، ولكن في واقع الأمر، جميع الحروب غير واردة حتى تجد نفسك في خضمها.»

صاح مِدينا: «محض هراء! لا يُوجَد أي شيء يدور في العالم قد يؤدي إلى نشوب حرب، فيما عدا تلك الشعوب شبه المُتحضرة التي تعدُّ الحرب وضعها الطبيعي. لقد نسيتم ما تعلمناه منذ عام ١٩١٤م. لن يمكن لفرنسا أن تدخل حربًا من دون أن تندلع فيها ثورة من النوع الذي ينجح، ثورة الطبقة المتوسطة.»

بدت الراحة على وجه برمينستر. وقال: «الحرب القادمة ستكون مريعة. طبقًا لقراءتي للمشهد، ستقل الخسائر بين الجنود كثيرًا، ولكن ستزداد الخسائر بين المدنِيين بصورة هائلة. سيكون أكثر مكان آمن هو الجبهة. سيُحاول الجميع التطوُّع في الجيش لدرجة أننا سنلجأ إلى نظام القرعة العسكرية لنُبقي الناس في الحياة المدنية. وسيُصبح القناصة هم الجنود العاديين.»

أثناء حديثه دخل شخص ما الغرفة، وصُعقتُ عندما وجدت أنه ساندي.

كان يبدو في لياقة بدنية رائعة، وكانت بشرته داكنة مثل التوت. غمغم ببضع كلمات اعتذار عن تأخُّره للرئيس، وربت على صلعة برمينستر، وجلس عند الطرف الآخر من المائدة. ثم وجَّه حديثه إلى النُّدُل قائلًا: «سأتناول الطبق الذي وصلتُم إليه. لا، لا أريد أسماكًا. أريد بعضًا من لحم البقر المشوي على الطريقة الإنجليزية، وإبريقًا من البيرة.»

أخذ الجميع يطرحون أسئلة عليه في نفس الوقت.

فقال: «وصلتُ منذ ساعة واحدة. كنتُ في الشرق، في مصر وفلسطين. وعدت أغلب الطريق إلى هنا على متن طائرة.»

أومأ لي برأسه، وابتسم إلى مِدينا ورفع إبريق البيرة نحو فمه.

كنتُ في مكانٍ يسمح لي بأن أراقب وجه مِدينا، ولكن لم تتغير تعبيرات وجهه حتى هذه اللحظة. كان يكرَه ساندي، ولكنه لم يعُد يخشاه، فقد بدأت خُططه تؤتي ثمارها على أرض الواقع. كان يتعامل معه بأدب جم، وسأله بأكثر أساليبه ودًّا عن هدفه من الذهاب إلى هناك.

قال ساندي: «الطيران المدني. سأتولى تنظيم رحلات الحج إلى الأراضي المقدسة.» ثم سأل بيو: «هل ذهبتَ إلى مكة من قبل؟» فأومأ أن نعم. «لعلك تذكر زعماء القوافل الذين اعتادوا على تنظيم قوافل من بلاد الرافدَين. حسنًا، سأكون زعيم قافلة واسعة النطاق. وأنا على استعداد لجعل الحج في متناول الفقراء المدقِعين والضعاف الهزيلين. سأكون أكثر المُستفيدين من ديمقراطية الإسلام باستخدام سِربٍ من الطائرات المتداعية وبعضٍ من العشائر التي تعرف الشرق جيدًا. سأُخبركم يا رفاق على الفور بمجرد أن أُشهِر شركتي.» ثم وجه حديثه إلى باليسار ييتس قائلًا: «جون، أريدك أن تتولَّى عملية الإشهار.»

كان واضحًا أن ساندي يخلق جوًّا من الإثارة، ولم يأخُذه أحد على محمل الجد. جلس ساندي في مكانه بوجهه الأسمر البشوش الذي يبدو شابًّا وأنثويًّا بصورةٍ غريبة، بحيث لا يُمكن لأكثر الأشخاص تشككًا أن يرَوا فيه أكثر من مجرد رجلٍ إنجليزي مجنون يعيش من أجل المغامرة والتجارب الجديدة. لم يُوجِّه لي كلمةً واحدة، وكنت سعيدًا بذلك، فقد كنت مشوَّش الذهن تمامًا. ما الذي يَعنيه بظهوره في تلك اللحظة؟ ما الدور الذي يلعبه في أحداث الليلة؟ لن أتمكن من السيطرة على التوتر الذي قد يظهر في صوتي إذا ما اضطررتُ إلى التحدث إليه.

أحضر أحد الخدم رسالة إلى مِدينا الذي فتحها بلا مبالاة وقرأها. ثم قال وهو يضعها في جيبه: «لا رد.» خشيتُ للحظةٍ أنه ربما يكون قد وصلته أخبار عن قبض ماكجيليفراي على عصابته، ولكنه تصرف بطريقةٍ طمأنَتْني.

كان ثمة أشخاص يريدون من ساندي أن يُغير موضوع النقاش، خاصة فوليلاف والسيد الشاب من كامبريدج، نايتنجايل. كانوا يريدون منه أن يُحادثهم عن جنوب الجزيرة العربية، المنطقة التي كان العالم بأسره يتحدث عنها في ذلك الوقت. وكان ثمة رجل آخر، نسيت اسمه، يُحاول أن يُكَوِّن حملة لاستكشافها.

قال، متحدثًا الآن بجدية: «إنه السر الجغرافي الأخير الذي لم يُكشَف بعد. حسنًا، ربما ليس الأخير. قيل لي إنه لا تزال هناك بعض الأسرار في الروافد الجنوبية لنهر الأمازون. ويعتقد مورنينجتون أن ثمة احتمالًا للعثور على بعض قوم الإنكا الذين لا يزالون يعيشون في الوديان الشمالية غير المُكتشفة. ولكن لم تعُد في العالم أماكن غير مكتشفة. منذ بداية هذا القرن، حللنا جميع الألغاز القديمة التي جعلت العالم يستحقُّ العيش فيه. لقد وصلنا إلى القطبَين، وإلى منطقة لاسا، وإلى جبال القمر. لم نصل إلى قمة جبل إيفرست بعد، ولكننا نعرف كيف تبدو. ومكة والمدينة قديمتان مثل بورنموث. ونعلم أنه لم يعد هناك شيء مذهل في وديان نهر البراهمابوترا. لم يتبقَّ الكثير مما يُثير خيال الناس، وسيكبر أطفالنا في عالمٍ مُملٍّ متقلص. فيما عدا جنوب صحراء الجزيرة العربية العظيم بالطبع.»

سأل نايتنجايل: «هل تظن أنه يمكن عبورها؟

من الصعب الجزم بذلك، والرجل الذي سيحاول أن يفعل سيعرض نفسه لمخاطر جمة. لا أتصور نفسي أعيش حياة كل ما أفعله فيها هو حلب الإبل. إنها كائنات خطرة.»

قال فوليلاف: «لا أعتقد أنه يُوجَد أي شيء هناك فيما عدا ثمانمائة ميل من الرمال الناعمة.»

«لستُ متأكدًا. لقد سمعتُ قصصًا عجيبة. التقيتُ ذات مرة برجل في عُمان سافر غرب واحة مَنَح …»

قطع حديثه ليتذوَّق خمر ماديرا الذي يُقدمه النادي، ثم وضع الكوب على المائدة ونظر إلى ساعته.

وقال: «يا إلهي! لا بد أن أنصرف. معذرةً، سيدي الرئيس، ولكني شعرت أنه يجب أن أراكم جميعًا مرةً أخرى. هل تمانع تطفُّلي عليكم؟»

كان في منتصف المسافة نحو الباب عندما سأله برمينستر إلى أين هو ذاهب.

فقال: «للبحث عن إبرة في مرعى منعزل. أقصد أنني سأستقل قطار العاشرة والنصف من محطة كينجز كروس. أنا في طريقي إلى اسكتلندا لرؤية والدي. لعلك تذكر أني آخِر من تبقى من عائلة عريقة. إلى اللقاء، جميعكم. سأخبركم بخُططي عندما نلتقي على العشاء المرة القادمة.»

عندما أُغلِق الباب من خلفه، شعرتُ بحالة اكتئاب ووحدة هي الأكثر قتامة على الإطلاق. كان أهم حلفائي، وجاء ورحل كسفينة تحت جنح الليل، من دون أن يوجِّه كلمة واحدة لي. شعرت وكأني وطواط أعمى، ولا بدَّ من أن مشاعري انعكست على تعبيرات وجهي، لأن مدينا رآها، وأكاد أجزم أنه أرجعها إلى مَقتي لساندي. طلب من باليسار ييتس أن يأخذ مكانه. «لن أذهب للحاق بالقطار الاسكتلندي السريع مثل أربوثنوت، ولكني سأذهب في عطلة في القريب العاجل، ولدَي موعد يجِب أن ألتزم بحضوره.» صبَّ ذلك في صالحي، فلم أكن أعرف ما الحجة التي سأقولها له حتى أتمكن من الذهاب إلى حقول جنة عدن. سألني عن موعد عودتي، فقلتُ إنني سأعود في خلال ساعة. فأومأ برأسه. وقال: «سأكون في المنزل عندما تعود، وسأفتح لك الباب إن كان أوديل قد نام.» ثم مازح برمينستر وانصرف، ولم ينمَّ أسلوبه المرح عن أنه قد تلقى أي أخبارٍ سيئة. انتظرتُ خمس دقائق ثم انصرفتُ أيضًا. وكانت الساعة تشير إلى العاشرة والربع.

***

عند مدخل النادي في شارع ويليسلي، توقعتُ أن أواجه صعوبةً في الدخول، ولكن الرجل الجالس في الكشك عند قمة الدرج تركني أمرُّ بعدما ألقى عليَّ نظرةً فاحصة. لم يكن الرجل نفسه الذي كان هناك عندما زرتُ آرتشي رويلانس، ولكن انتابني شعور غريب بأني رأيتُ وجهه من قبل. خطوت إلى داخل قاعة الرقص التي كانت مُعبَّقة بتلك الرائحة الثقيلة وتدقُّ فيها تلك الموسيقى الشيطانية البشعة، وجلستُ إلى طاولة عند أحد الجوانب وطلبت خمرًا.

كان المكان مختلفًا، ولكنِّي لم أتمكَّن من تحديد الاختلاف للوهلة الأولى. بدا كل شيءٍ على حاله؛ وكان الوجه الوحيد الذي أعرفه هو وجه الآنسة فيكتور الذي كان يحمِل نفس الشحوب الذي يُشبه القناع؛ كانت تُراقص صبيًّا بدا وكأنه يحاول التحدث إليها والحصول على بعض الردود. لم أرَ أوديل أو اليهودي ذا اللحية. نظرتُ باهتمامٍ إلى النافذة الصغيرة في الأعلى التي كنتُ أنظر عبرها عندما سطوتُ على متجر التحف. كان عدد رواد المكان الليلة أقلَّ من السابق، ولكن كان يبدو أنهم من الطبقة نفسها.

لا، ليس من الطبقة نفسها تمامًا. كانت النساء من الطبقة نفسها، ولكن الرجال كانوا من طبقةٍ مختلفة. كانوا أكبر سنًّا ويبدون أكثر — كيف أصيغ الوصف؟ — مسئولية، ولم تبدُ على هيئاتهم أنهم شركاء الرقص المحترفون أو الشباب المُسرفون في السُّكْر. كانوا ثقيلي الحركة أيضًا رغم كونهم مؤدِّين جيدِين. انتابني شعورٌ بأن أغلب هؤلاء الرجال ليسوا من الزبائن المُعتادين لمكان من هذا النوع وأنهم أتوا إلى هنا لغرضٍ ما.

بمجرد أن طرأت عليَّ هذه الفكرة، بدأتُ ألاحظ أمورًا أخرى. كان عدد النُّدُل الأجانب أقلَّ من المعتاد، وكان يقلُّ أكثر بصورةٍ ثابتة. كانت المشروبات تُطلَب، ولكنها تتأخَّر حتى تصل، وبدا أن أي خادم كان يُعتقل لأسبابٍ مجهولة بمجرد أن يخرج من القاعة. ثم لاحظتُ شيئًا آخر. كان ثمة وجه يُطل علينا من النافذة الصغيرة في الأعلى؛ تمكنتُ من رؤيته كما لو كان شبحًا يختفي خلف الزجاج المُتسخ.

بعد قليل ظهر أوديل متألقًا مُتأنقًا في زيِّ السهرة، وكان يضع زرًّا ماسيًّا في قميصه، ومنديلًا حريريًّا أحمر اللون في كمِّه الأيسر. كان يبدو ضخمًا ومُخيفًا، ولكنه كان أكثر بدانةً من ذي قبل، وكانت عيناه الضيقتان تلمعان بشدة. ظننتُ أنه تناول كأسًا أو اثنَتَين، فقط ما يكفي لتنشيطه. كان يسير مزهوًّا بين الطاولات الصغيرة، مُلتفتًا من وقتٍ لآخر ليُحدق في الفتاة ذات الثوب الأخضر، ثم خرج من القاعة مُجددًا. نظرت إلى ساعتي ورأيتُ أنها أصبحت تشير إلى الحادية عشرة إلا الربع.

عندما رفعت رأسي، رأيت أن ماري قد وصلت. لم تكن تضع أي مساحيق تجميل أو ترتدي أي ملابس غريبة. كانت ترتدي فستانًا أزرق اللون فاتحًا كانت قد ارتدتْه من قبل في حفل هانت الراقص في شهر مارس، وكان شعرها مصففًا بطريقةٍ بسيطة أعجبتني، أظهرت شدة اللَّمعان والظلال في شعرها الذهبي. دخلت المكان وكأنها ملكة شابة، ومسحت المكان بعينَيها سريعًا، ثم أخفت عينَيها بيدِها وهي تنظر نحو النافذة في الأعلى. لا بد أنها إشارة، فقد رأيتُ يدًا تُلَوِّح.

بينما كانت تقف في مكانها ثابتة وفي وضع استعدادٍ يُشبه العدَّائين، توقفتِ الموسيقى فجأة. وتحدث الرجال القليلون الذين لا يزالون يرقصون إلى شريكاتهم وتحركوا ناحية الباب. رأيتُ اليهودي الملتحي يدخل متعجلًا وينظر حوله. لمس رجلٌ ذراعَه وجرَّه بعيدًا، وكانت تلك آخِر مرة أراه فيها.

ثم ظهر أوديل فجأة. لا بد أنه تلقَّى تحذيرًا تطلَّب منه أن يفعل شيئًا ما على الفور. لن أعرف أبدًا ما هو، ولكن ربما يكون قد تلقَّى أمرًا بجمع أشخاص، والمسار المُتَّبع وصولًا إلى الرهائن. أشار في حزم إلى الآنسة فيكتور وتقدم نحوها كما لو كان سيجرُّها من ذراعها. سمعتُه يقول: «يجب أن تأتي معي»، بينما لفتَ نظري شخصٌ جديد.

كان توربين موجودًا، شابٌّ شاحب مُهندم بحاجبَين معقودين أذكرهما منذ الأوضاع الحرجة التي مررْنا بها في فرنسا. أسرعتِ الفتاة ذات الثوب الأخضر لتقِف بجوار ماري، وتَحرك توربين نحوَها.

وقال: «حبيبتي أديلا، أظن أنه قد حان وقت عودتكِ إلى منزلكِ.»

رأيتُ بعد ذلكَ يدَ الآنسة فيكتور تتعلق بذراعه وأوديل يتقدَّم نحوهما وقد تورَّد وجهه الشاحب.

وكان يقول: «اترك هذه الفتاة. لا شأن لك بها. إنها فتاتي.»

كان توربين يبتسم. وقال: «لا أظن ذلك يا صديقي.» ثم تخلَّى عن ذراع أديلا وأخفاها خلفه، وبحركةٍ مفاجئة، كال لأوديل صفعةً مدوية على وجنتِه براحة يدِه.

اشتعل غضب الرجل بشدة. وأطلق سبابًا سوقيًّا، وقال: «اللعنة! صديقي الذكي، لديَّ شيء من أجلك في قبضتي. إنها حبة منومة.»

كنتُ على استعدادٍ لأن أتخلى عن ثروتي في مقابل أن أكون مكان توربين، فقد كنتُ أشعر أني أحتاج إلى شجارٍ لكي تهدأ أعصابي المرهقة. ولكني لم أهبَّ لنجدته، فقد بدا جليًّا أنها معركته الشخصية، وسرعان ما أدركتُ أنه لا يحتاج إلى مساعدتي.

كان يبتسم ابتسامةً واثقة وهو يدور حول الملاكم الذي رفع قبضتَيه أمام وجهه. وصاح في وجهه قائلًا: «ابتعد عني. صديقي، سأقتلك.»

سرتُ نحو ماري، فقد أردتُ أن أُخرِج النساء من المكان، ولكنها كانت منشغلةً بتهدئة الآنسة فيكتور التي جعلتها ضغوط الليلة على حافة الانهيار. ولذلك، لم أرَ إلا أجزاء من القتال. حافظ توربين على مسافة كافية بينه وبين أوديل، فالقتال من مسافةٍ قريبة معه قد يودي به إلى حتفه، ثم أرهقَه بحركاته السريعة حتى انكشف سوء تدريب الملاكم المحترف وانقطعت أنفاسه. عندما رأى الفرنسي أن خصمَه قد تعب وشحبت وجنتاه، بدأ هجومه. رأيتُ هذا الجزء من العراك، وآمُل أن ماري والآنسة فيكتور لم تفهما لغةَ توربين، فقد كان يتحدث مع نفسه برفقٍ طوال الوقت، ولكنه كان يقول جميع الشتائم التي ابتكرها الجنود الفرنسيون خلال سنوات الحرب الأربع. منحَتْه ذراعُه الطويلة أفضلية، وكان خفيف الحركة وكأنه مبارز، وكانت ذراعاه تلكمان بقوة تُضاهي مطرقةً بخارية. أدركتُ ما لم أعرفه مسبقًا، وهو أن نحافته تلك خادعة، وإذا ما نحَّينا نحافته جانبًا، سنجد أن جسده كتلة ممتازة من الأوتار والعظام. كما أدركتُ أن الرجل الضخم، مهما بدا قويًّا، سيسقط أمام سرعة الحركة والبديهة ورشاقة الشباب، خاصة إن كان غير مُدرب ومخمورًا إلى حدٍّ ما.

استمر العراك بينهما لأكثر بقليلٍ من ست دقائق. كانت أقوى لكمات توربين تضرب جسد أوديل، إلا أن اللكمة القاضية ضربت نقطةً ما من ذقنه. فتكوم الرجل الضخم على الأرض بلا حراك، واصطدمت مؤخرة رأسه بالأرض. لف توربين حفنةً من المناديل حول براجمه التي جُرحت بسبب زر أوديل الماسي، ثم نظر حوله.

وقال: «ماذا نفعل بهذا الحثالة؟»

أجاب أحد الراقصين. «سنتولى أمره يا سيدي. لقد سيطرنا على المكان بأكمله. هذا الرجل مطلوب في الكثير من القضايا.»

سِرت نحو أوديل الطريح أرضًا وأخذت المفتاح من جيب حزامه. كان توربين وأديلا قد انصرفا، بينما وقفت ماري تُراقبني. لاحظتُ أنها كانت شاحبة بشدة.

قلت: «سأتَّجِه إلى شارع هيل.»

فأجابتني قائلة: «سأتبعك لاحقًا. وآمُل أن آتي في أقل من ساعة. سيسمح لك المفتاح بالدخول. وثمة أشخاص هناك سيتركون الباب مفتوحًا من أجلي.»

كان باديًا على ملامحها القلق ونظرة ذاهلة شبيهة بتلك التي كانت تعلو وجه بيتر بينار الراحل أثناء مطاردة طريدة كبيرة. لم يتفوَّه كِلانا بكلمة أخرى. ركبت ماري سيارة كبيرة كانت تنتظرها في الشارع، واتجهتُ سيرًا نحو ميدان رويستون لأركب سيارة أجرة. ولم تكن الساعة قد دقَّت الحادية عشرة بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤