ليلة الأول من يونيو، في وقتٍ لاحق
في تلك الليلة بعد الحادية عشرة بقليل، كان من يتجول في ميدان بالميرا في تلك الساعة المتأخرة سيرى ظاهرة من النادر حدوثها في هذا الحي القذر. توقفت سيارة كبيرة أمام بوابة المنزل رقم ٧، حيث يسكن معلم الموسيقى الذي كان قد أوى إلى فراشه منذ فترة طويلة. ترجلَت منها امرأة، ترتدي عباءة داكنة وتحمل لفافةً في يدها، ووقفت مكانها للحظات تنظر إلى الجانب الآخر من الشارع إلى حيث تُلقي أشجار الدردار النحيلة في منتصف الميدان بظلالها. بدا أنها وجدت في تلك البقعة ما كانت تتوقَّع رؤيته، فأسرعت الخطى نحو بوابة المنزل رقم ٤. لم تقترب من مدخل المنزل الأمامي، بل ركضت في الممر نحو الباب الخلفي الذي يُستقبل منه الباعة، وبمجرد أن اختفت عن الأنظار، ظهر العديد من الأشخاص من بين الظلال وتحركوا نحو البوابة.
فتحت الآنسة أوتوايت الباب عندما سَمِعَت طرقاتها. وهمست بينما المرأة تمر من جوارها متجهةً إلى المطبخ المظلم: «لقد تأخرتِ يا آنسة.» ثم شهقت عندما رأت التغيرات التي طرأت على مساعدة الكاهن. لم تعد تلك العانس الذابلة التي رأتها سابقًا، بل أصبحت امرأةً مذهلة، ترتدي ملابس أنيقة تُناسبها، وكانت جميلة بشكل ملحوظ.
قالت: «لقد أحضرتُ لك قبعتكِ يا إلسي. إنها قبعة جميلة، وأظن أنها ستعجبكِ. والآن اذهبي على الفور وافتحي الباب الأمامي.»
شهقت الفتاة، قائلةً: «ولكن، المدام …»
«لا عليكِ من المدام. انتهت علاقتكِ بالمدام.» ثم أعطتها قصاصةً من الورق، وقالت: «ستأتين غدًا للقائي في هذا العنوان. سأتأكد من أنك لن تُعاني. والآن أسرعي يا عزيزتي.»
بدت الفتاة مُنوَّمةً مغناطيسيًّا، واستدارت لتُنفذ الأمر. تبعتها مساعدة الكاهن، ولكنها لم تنتظر في الردهة. بل صعدت الدرَج عدوًا بخفةٍ مرشدةً نفسها باستخدام مصباح يدوي صغير، وعندما انفتح الباب الأمامي ودخل منه أربعة أشخاص، كانت قد اختفت.
على مدار ربع الساعة التالي، كان أي من المارَّة الفضوليين سيلاحظ الأضواء التي كانت تُضاء ثم تُطفئ في أكثر من غرفة من غرف المنزل رقم ٤. ولربما سمع أيضًا أصوات أحاديث منفعلة خفيضة. وفي نهاية تلك الفترة، كان سيرى مساعِدة الكاهن تهبط الدرج وتدخل السيارة الكبيرة التي تحركت لتقف أمام البوابة. وكانت تحمل شيئًا بين ذراعَيها.
وفي داخل المنزل، كانت امرأة غاضبة تُعاني مع الهاتف الذي لم تتمكن من إجراء أي اتصال منه لأن خطه قد قُطع. وكانت امرأة عجوز جالسة في مقعد بجوار المدفأة تُرغي وتُزبد بوجه كالموت.
عندما وصلتُ إلى شارع هيل، انتظرتُ حتى غادرَت سيارة الأجرة قبل أن أدخل المنزل. كان رجل يقف في شرفة المنزل على الجهة المقابلة من الشارع، وبينما كنتُ أنتظر، مرَّ بي رجل آخر وأومأ لي برأسه. وقال: «مساء الخير، سير ريتشارد»، ورغم أني لم أكن أعرفه، فقد عرفت من أرسله. كانت معنوياتي في أدنى مستوياتها، ولم يتمكن أي شيء من رفعها، حتى تلك الترتيبات. فقد كنتُ أعرف أنه على الرغم من نجاحنا مع الآنسة فيكتور وميركوت، فقد فشلنا مع الحالة الأكثر أهمية. كنتُ سأحاول أن أخيف مِدينا أو أرشوه، وكنتُ أعرف أن محاولة أي من الأمرَين كان مقدرًا لها الفشل، فقد كان إعجابي به لا يزال يُغَلِّف روحي كضبابٍ أسود.
فتحتُ باب المنزل بالمفتاح الذي أخذته من أوديل وتركت الباب الضخم مواربًا. ثم أضأتُ أنوار الدرج وصعدت إلى المكتبة. تركتُ الأنوار مُضاءة، فسيحتاجها من سيتبعونني.
كان مِدينا واقفًا بجوار المدفأة التي وُضِعَت فيها الأخشابُ استعدادًا لحرقها. وكان قد ترك مصباحًا واحدًا مُضاءً كالمعتاد، المصباح الذي على مكتبه. كان يُمسك بورقةٍ في يده، إحدى الورقتَين اللتين كانتا في الدرج العلوي من المكتب، فقد رأيت مكتوبًا عليها التواريخ والخطوط المحذوفة. أظنُّ أنه كان يُحاول الاتصال بلا طائل بالمنزل الكائن في ميدان بالميرا. بدأ شكٌّ كبير يتسلَّل إلى نفسه، وكان يُحاول أن يعرف ما عليه فعله. كنتَ ستنخدع سريعًا بمظهره الهادئ؛ فقبل دقيقةٍ واحدة كنتُ مقتنعًا بأنه كان شديد الانشغال.
بدت الدهشة على وجهه عندما رآني.
فقال: «مرحبًا! كيف دخلت؟ لم أسمعك تدقُّ الجرس. لقد أخبرتُ أوديل بأن يذهب للنوم.»
كنتُ أشعر بضعف وخمول شديدَين وكنت بحاجة إلى الجلوس، فألقيتُ جسدي على مقعدٍ خارج دائرة الضوء الصادر عن المصباح.
وقلت: «نعم. أوديل نائم بالفعل. لقد فتحتُ باب المنزل بمفتاحه. لقد رأيت ذلك الملاكم القوي يفقد وعيَه بعدما تلقَّى لكمة في ذقنه من توربين. لعلك تعرفه، ماركيز لا تور دو بين».
كنت جالسًا في موقع استراتيجي جيد، مكَّنَني من رؤية وجهه بوضوحٍ ولكنه لم يكن يرى إلا مُحيط وجهي الخارجي فقط.
قال: «بحقِّ السماء ما الذي تتحدَّث عنه؟»
«تلقَّى أوديل لكمةً أفقدته الوعي. وأعاد توربين الآنسة فيكتور إلى والدها.» ثم نظرتُ إلى ساعتي. وقلت: «ومِن المفترض أن يكون اللورد ميركوت في لندن الآن، إلا إذا تأخَّر قطار اسكتلندا السريع.»
لا بدَّ أن موجة هائلة من الأفكار عصفت بعقله في تلك اللحظة، ولكن لم يبدُ على وجهه أي دلالة على ذلك. أصبح وجهه متجهمًا، ولكنه حافظ على رباطة جأشِه مثل قاضٍ.
وقال: «إنك تتصرَّف وكأنك جُننت. ما الذي حدث لك؟ لا أعلم شيئًا عن اللورد ميركوت؛ هل تعني ابن ألسيستر؟ ولا أعلم شيئًا عن الآنسة فيكتور.»
قلتُ في إرهاق: «أوه، نعم، بل تعرف.» لم أكن أعرف من أين أبدأ، فقد كنتُ أريد أن أعرفه بحقيقة كل ما يحدُث دفعةً واحدة. «إنها قصة طويلة. هل تُريدني أن أقصها عليك رغم أنك تعرفها كاملة؟» أعتقد أنني تثاءبت وكنت مرهقًا لدرجة أني تمكنتُ بالكاد من تكوين جُمَل مترابطة.
جاء رده: «أُصر على أن توضح لي هذا الهراء.» كان ثمة شيء واحد لا بد أنه أدركه في تلك اللحظة، أنه لم يعُد يملك أي سيطرةٍ عليَّ، فقد زم فمه وقطب جبينَه، وكأنه لم يكن ينظر إلى تابعٍ له، بل إلى عدوٍّ ونِد.
«لقد اختطفت وأصدقاؤك ثلاثة رهائن لأهداف تخصُّكم، وأصبحت مهمتي الأهم هي تحريرهم. تركتك تعتقد أن الهراء الذي مارسته عليَّ قد مكنكَ من السيطرة عليَّ، ما فعلته في هذه الغرفة، ونيوهوفر، ومدام بريدا، والمرأة العجوز الكفيفة، وكل هذه الأمور. عندما ظننتَ أنني مُخدَّر ومشوش، كنتُ في الحقيقة واعيًا تمامًا. كنتُ مُضطرًا لأن أسيء استغلال ضيافتك لي، قد تقول إني مارستُ عليك لعبة دنيئة، ولكني كنتُ أتعامل مع مُحتال. ذهبتُ إلى النرويج بينما كنتَ تظنُّني طريح الفراش في فوسي، وعثرتُ على ميركوت، وأظنُّ أن نيوهوفر يشعر في هذه اللحظة أنه وضيع. وعثرتُ كذلك على الآنسة فيكتور. لم يكن العثور عليها صعبًا بمجرد أن عثرنا على حقول جنة عدن. أنت رجل بارع يا سيد مِدينا، ولكن لم يكن يجدُر بك أن تلقي قصائد ركيكة. اسمع نصيحتي والتزم بالشعر الراقي.»
لا بد أن الموقف بحلول هذا الوقت كان قد أصبح واضحًا له وضوح الشمس، ولكني لم أرَ اختلاجًا في أيٍّ من قسمات وجهه. أرفع قُبعتي احترامًا لأبرع مُمثل التقيتُه في حياتي، ثاني أبرع مُمثل بعد الكونت الألماني المدفون في مزرعة في جافريل. قال بصوتٍ هادئ مُتعقل خالف ما يُطل من عينَيه من مشاعر: «لا بد أنك جُننت.»
«أوه، لا! كم أتمنَّى لو كنتُ جُننت. كم أكره أن أفكر في أنه يمكن أن يوجد شيء بمِثل دناءتك في العالم. رجل خارق الذكاء مثلك لا يشغله في حياته إلا نشر غروره الفاسد! يجب أن تُدَمَّر مثل أفعى.»
اعتقدتُ فرحًا لوهلة أنه سيُهاجمني، فقد كنتُ أرحب في تلك اللحظة بالعراك أكثر من أي شيءٍ آخر في العالم. ربما راودَتْه هذه الفكرة، ولكنه كبحَها سريعًا. أطلَّت من عينَيه نظرة حزن وتأنيب.
ثم قال: «لقد أحسنتُ إليك، وعاملتك كصديق. وهكذا تكافئني. إن التفسير الوحيد الذي يُريحني هو أنك قد فقدت عقلك. ولكن من الأفضل أن تخرج من هذا المنزل.»
«ليس قبل أن تسمع ما أريد قوله لك. لديَّ عرض من أجلك يا سيد مِدينا. لا تزال ثمة رهينة ثالثة بين يدَيك. إننا على علم بالتحالُف الذي تتعاون معه، شركة المكسرات في برشلونة، والكونت اليعقوبي، وصديقك الصياد الشهير في شروبشاير. لقد أحاطت شرطة سكوتلاند يارد بقبضتها حول المجموعة منذ شهور، والليلة ستُحكِم عليهم هذه القبضة. لقد أُغلق هذا المتجر إلى الأبد. والآن، اسمعني، فلديَّ عرض من أجلك. لديك طموح الشيطان نفسه، وقد صنعت لنفسك اسمًا عظيمًا بالفعل. لن أفعل شيئًا من شأنه أن يلطخ سمعة هذا الاسم. وأقسم لك بأغلظ الأيمان أني سأحفظ السر. سأترك إنجلترا إن أردتَ. سأدفن ذكرى الشهور الماضية، ولن يُستخدَم ما عرفته عنك لعرقلتك عن تحقيق أهدافك. كما أنك ستحتاج إلى المال، لأن حلفك انهار. حسنًا، سأعطيك مائة ألف جنيه. وفي مقابل صمتي ومالي، أريد منك أن تُعيد ديفيد واركليف سليمًا مُعافًى. وأعني بسليم مُعافى أن تلغِي أي شيء فعلته لهذا المسكين.»
كنتُ قد قررتُ أن أقدم له هذا العرض بينما كنت آتيًا في سيارة الأجرة. كان المبلغ كبيرًا، ولكني أملك من المال أكثر من حاجتي، كما أن بلنكيرون يملك الملايين وسيساعدنا.
لم يُظهِر أي رد فعل على وجهه، أو يُبدي اهتمامًا، فقط تلك النظرة المتجهمة الحزينة.
قال: «يا لك من مسكين! أنت أكثر جنونًا مما ظننت.»
كان إعيائي ينحسر، وبدأت أشعر بالغضب.
فقلت: «إذا لم تقبل العرض، فسأُشَهِّر بك في العالم المتحضر بأسره. ما الفائدة التي ستعود على إنجلترا من خاطف ومبتز ودجال؟»
ولكني أدركتُ أثناء حديثي أن تهديداتي حمقاء. ارتسمت على شفتَيه ابتسامة تنمُّ عن الحكمة والشفقة، جعلت جسدي يرتجف من فرط الغضب.
وقال بهدوء: «لا، أنت من سيظهر أمام الناس مبتزًّا. فَكِّر في الأمر. أنت تتَّهِمني باتهاماتٍ فظيعة. لا أفهم تمامًا ما تقصده، ولكن من الجلي أنها اتهامات فظيعة، ولكن ما الأدلة التي لديك لتدعمها؟ أحلامك. من سيُصدقك؟ أنا محظوظ بأن لديَّ الكثير من الأصدقاء، وهم أصدقاء أوفياء.» كانت ثمَّة لمحة من الندم في صوته. «سيسخر الجميع من قصتك. لا شك في أن الناس سيشعرون بالأسى عليك، فأنت على قدرٍ معقول من الشهرة. سيقولون إن جنديًّا صالحًا، يشتهر بالشجاعة أكثر من الذكاء، قد جُن، وسيتحدثون كثيرًا عن الأضرار الطويلة الأمد للحرب. لا بد أن أحمي نفسي بالطبع. إذا أسأت لي، فسأقاضيك بسبب التشهير وسأطلب إخضاع قواك العقلية للفحص.»
كان مُحقًّا تمامًا. لا أملك أي دليل سوى كلامي. كنتُ أعلم أنه من المستحيل أن أربط بين مِدينا وما فعله التحالف، لقد كان ماهرًا للغاية ولم يتورط في أعمالهم. ستفضل والدته الكفيفة أن تموت على أن تتفوَّه بكلمة تُدينه، وأدواته لن يخونوه، لأنهم مجرد أدوات ولا يعرفون شيئًا. سيسخر العالم منِّي إذا قلتُ أي شيء. في تلك اللحظة، أظن أني وصلت إلى إدراكي الأول الكامل لمدى براعة مِدينا. كنت أمام رجل عرف للتو أن خططه المفضلة قد أُفسِدَت، وجُرِحَت كبرياؤه بعُمق بعدما عرف كيفية خداعي له، ولكنه كان لا يزال قادرًا على استخدام ما تبقى من ألعابٍ بكل هدوءٍ ودقة. لقد اصطدمتُ بخصمٍ لا مثيل له.
سألته: «ماذا عن المائة ألف جنيه إذن؟ هذا ما أعرضه في مقابل ديفيد واركليف.»
قال ساخرًا: «أنت بارع للغاية. كنت سأشعر بالإهانة لولا أنني أعرف أنك مجنون.»
جلستُ في مكاني أحدق في الجسد المحاط بهالة من ضوء المصباح الوحيد، والذي كان يتعاظم كلما أطلت النظر إليه، ويزداد شرًّا ألف مرة. رأيت رأسه المستدير القبيح، وعينيه العديمتَي الرحمة، وتساءلت، كيف كنتُ أراه وسيمًا فيما مضى. ولكن الآن بعدما أُفسِدَ أغلب لعبته، لم يزدد إلا عظمةً وثقة. ألا تُوجَد لدَيه نقاط ضعف؟ كانت فيه مكامن خلل، والدليل على ذلك تلك القصيدة السخيفة التي منحتني الدليل الأول ضده. ألا تُوجَد أي نقاط ضعف في ذلك الردع الكامل المُحيط به يُمكنني استغلالها؟ هل يمكنني إخافته أو تهديده بالإيذاء الجسدي؟
نهضتُ واقفًا وأنا أنوي أن أُنهي مواجهتنا الآن. أدرك نيتي، فأظهر لي شيئًا في يده كان يلمع ببريق خافت. وقال: «احذر. من حقي أن أدافع عن نفسي لو هاجمني مجنون.»
قلت في يأس: «ضعه جانبًا. لن أهاجمك. يا إلهي، آمل أن يكون الجحيم حقيقيًّا.» شعرتُ بضعفٍ شديد وكأني طفل رضيع، ولم يزل التفكير في الصبي الصغير يدفعني إلى الجنون.
***
فجأة، رأيت عينَي مدينا تنظران إلى شيءٍ خلفي. لقد دخل شخص ما الغرفة، وعندما استدرتُ وجدت أنه خاراما.
كان يرتدي ملابس سهرة، وعمامة، وبدا وجهه الكالح القبيح في الضوء الخافت وكأنه تجسيد للسخرية من عجزي. لم أرَ كيفية استقبال مدينا لوصوله، فقد بدا لي فجأة وكأن شيئًا قد انهار في رأسي. لم أكن أشعر تجاه الرجل الهندي بأي إعجابٍ مثلما كنتُ أشعر تجاه الرجل الآخر، بل كنت أشعر تجاهه بكراهية متأجِّجة استحوذت عليَّ بالكامل. لم أحتمِل فكرة أن يظلَّ ذلك الشرقي القذِر يرتكِب شرورَه من دون رادع. نسيتُ أمر مُسدس مدينا وكل شيءٍ آخر، واندفعت نحوه كالثور الهائج.
تفاداني، وقبل أن أُدرك ما يحدث، كان قد خلع عمامته وألقاها في وجهي.
وقال: «لا تكن غبيًّا يا ديك.»
وقفتُ مكاني ألهثُ غاضبًا وقد اتسعت عيناي. كان الصوت الذي سمعته هو صوت ساندي، كما كانت الهيئة هيئتَه. وكذلك كان الوجه وجهه عندما تمكنت من التمعُّن فيه. كان قد غيَّر شكل أطراف حاجبَيه وغطَّى جفنَيه بالكحل، إلا أن العينَين اللَّتَين لم أرهما مفتوحتَين بالكامل إطلاقًا، كانتا عيني صديقي.
ضحك محاولًا ضبط شعره غير المُرتب: «يا لي من فنان لم يجُد العالَم بمثله!»
ثم أومأ لمِدينا. وقال: «ها نحن نلتقي مجددًا في وقتٍ أبكر مما توقعنا. لقد فوتُّ قطاري، وجئتُ أبحث عن ديك. أزِح هذا المسدس جانبًا من فضلك. أنا أيضًا مسلح، كما ترى. لا يحتاج الأمر إلى إطلاق نار على أية حال. هل تُمانع لو دخَّنت؟»
ألقى بجسده على مقعدٍ وثير وأشعل سيجارة. عدت لأدرك ما حولي مجددًا، فحتى هذه اللحظة، كما يبدو، كنتُ كالتائه في الصحراء. صفَت عيناي وبدأ عقلي يعمل مُجددًا. ورأيتُ الغرفة الشاسعة بأرفُفها المكدَّسة بالكتب التي كان بعضها لامعًا وبعضها مُعتمًا؛ كان ساندي يجلس في راحةٍ على مقعده يُحدق بهدوء في وجه مِدينا؛ وكان مِدينا يزمُّ شفتَيه ولكن كان الاضطراب باديًا في عينَيه؛ نعم، للمرة الأولى أرى أمارات الحيرة في هاتَين العينَين.
قال ساندي بهدوء: «أظن أن ديك كان يحاول أن يكلمك بالمنطق. وأنت قلت له إنه مجنون، أليس كذلك؟ أنت مُحق. إنه كذلك. لقد وضحتَ له أن قصته تقوم على دليلٍ غير مدعوم لن يُصدقه أحد، فهي قصة لا تُصَدَّق، والحق يُقال. لقد حذرتَه أنه إذا ما فتح فمه، فستُخرِسه بحجةِ أنه مجنون. هل هذا صحيح يا ديك؟»
استطرد في حديثه ناظرًا إلى مِدينا ببرود: «حسنًا، كان ذلك تصرفًا طبيعيًّا من قِبَلِك. ولكنك ارتكبتَ خطأً صغيرًا بالطبع. دليلُه سيتلقى دعمًا.»
ضحك مِدينا، ولكنها كانت ضحكةً عصبية. وقال: «من هم المجانين الآخرون؟»
«أنا أحدهم. لقد أثرتَ اهتمامي يا سيد مِدينا منذ فترة طويلة. يجدُر بي أن أعترف أن أحد أسباب عودتي إلى الوطن في مارس هو أن أتشرَّف بمعرفتك. ولقد تكبدت الكثير لأفعل. فقد تتبعت دراساتك، ولو كنَّا في ظروف أفضل، لوددتُ، بلا أدنى شك، أن أتبادل الملاحظات معك بوصفي باحثًا زميلًا. لقد تتبعتُ عن كثب مَسيرتك المهنية في آسيا الوسطى وأماكن أخرى. وأظن أنني أعرف عنك أكثر مما يعرف أيُّ شخصٍ آخر في العالم.»
لم يقُل مِدينا شيئًا. كانت الأدوار تتبدَّل، وكان يُثبت عينَيه على الجسد النحيل الجالس على المقعد.
واصل ساندي حديثه قائلًا: «كل هذا مُثير للاهتمام للغاية، ولكن لا علاقة له بالموضوع المطروح بين أيدينا. خاراما، الذي يتذكَّره كِلانا وهو في أوج فخاره، قد تُوفي العام الماضي. حُفظ هذا الأمر سرًّا لأسباب واضحة؛ سمعة عملِه كانت قيمة للغاية وكانت تعتمد على بقائه حيًّا، ولم أعرف بذلك إلا بمحض الصدفة. فاستعرتُ اسمَه يا سيد مِدينا. عندما تقمَّصتُ شخصية خاراما، تشرفتُ بأن أكون حافظ أسرارك. قد تقول إنها خدعة دنيئة، وأتفق معك على ذلك، ولكن في أمرٍ مثل هذا، لا يملك المرء رفاهية اختيار سلاحه. لقد فعلتَ ما هو أكثر من إفشاء أسرارك لي. لقد ائتمنتني على الآنسة فيكتور والماركيز لا تور دو بين، عندما كان من المُهم أن يكونا في الحفظ والصون. أملك من الأدلة ما يكفي لدعم ديك.»
قال مِدينا: «كلام فارغ! مجنونان كلامهما غير منطقي. أُنكِرُ كل ما قلتَ من هراء.»
قال ساندي مسرورًا: «كلام شاهدَين أو ثلاثة.» هناك شاهد ثالث. ثم صاح قائلًا: «لافاتر، ادخل، نحن مُستعدون لك.»
دخل الرجل ذو الوجه الحزين المكتئب الذي رأيته خلال زيارتي الأولى إلى هنا، وفي المنزل خلف شارع ليتل فاردل. لاحظتُ أنه سار مباشرة إلى المقعد حيث يجلس ساندي، ولم ينظر نحو مِدينا.
«أظن أنك بالفعل تعرف لافاتر. كان صديقًا لي فيما مضى، وعادت صداقتنا من جديد. كان تابعًا لك لبعض الوقت، ولكنَّه تخلى عن هذا الشرف حاليًّا. يمكن أن يُخبر لافاتر العالم بالكثير عنك.»
تجمَّد وجه مِدينا كالقناع، وشحب بشدة. ربما كان ثمَّة بركان يثور في عقله، ولكن مظهره الخارجي ظلَّ باردًا كالثلج. خرج صوته من بين شفتَيه لاذعًا وساخرًا كقطرات ماءٍ مثلج.
قال: «ثلاثة مجانين. أنا أُنكر كل كلمةٍ مما تقولون. لن يُصدِّقكم أحد. إنها مؤامرة من مجانين.»
قال ساندي: «لنتحدَّث في العمل على أية حال. ستُدان دون شك إذا ما قاضيناك، ولكن لنرَ كيف سينظر العالَم للأمر. النقطة الوحيدة التي في صالحك هي أن الناس لا يُحبون أن يعترفوا بأنهم كانوا حمقى. لقد كنت رجلًا ذا شعبيةٍ جارفة يا سيد مِدينا، وسيكره أصدقاؤك الكُثُر أن يعتقدوا أنك مُحتال. لديك سياج يحوط سمعتك، وسيحميك. أُكرِّر مجددًا أن قصتنا مريعة لدرجة أن المواطن الإنجليزي العادي سيراها غير معقولة، فنحن أمة تفتقر إلى الخيال. كما أننا لن نحصل على أي مساعدةٍ ممن عانوا من أفعالك. يمكن أن تقص الآنسة فيكتور واللورد ميركوت قصةً مُريعة عن الاختطاف، ما سيؤدي بأوديل إلى السجن مدى الحياة، وكذلك نيوهوفر إذا ما قُبض عليه، ولكن هذا لا يُورِّطك معهما. سيقف هذا عقبةً أمام أغلب القضاة الذين لا يعرفون شيئًا عن العلوم الخفية مثلما نفعل أنا وأنت. تلك هي نقاط قوتك. ولكن فكر فيما يُمكننا أن نُقدِّمه من الناحية الأخرى. أنت عبقري في الدعاية، وأخبرتُ ديك بذلك ذات مرة، ويُمكنني أن أفسر كيف خدعت العالم، أفعالك مع دينيكين وأمورًا من هذا القبيل. ثم يُمكن لثلاثتنا أن نروي قصة لَعِينة، وأن نرويها وجهًا لوجه. قد يبدو الأمر جامحًا، ولكن من المعروف عن ديك أنه يملك منطقًا سليمًا، ويظن الكثير من الناس أنني لست أحمق. وفي نهاية المطاف، لدَينا شرطة سكوتلاند يارد في صفنا، وهي تقبض حاليًّا على جميع شركائك، ويدعمنا كذلك جوليوس فيكتور، وهو صاحب نفوذ. لا أقول إن بوسعنا إرسالك إلى السجن، على الرغم من أني أرى أن هذا مُحتمَل، ولكن يمكننا أن نثير الشكوك حولك، وستظل رجلًا مشكوكًا في أمره حتى نهاية حياتك. وأنت تعرف جيدًا أن هذا يعني لك الفشل الذريع، فلكي تحقق النجاح، يجب أن تظل تنعم بمجد ثقة الجماهير بك.»
رأيتُ أن مِدينا تأثر أخيرًا. وقال ببطء: «يُمكنك أن تُدمرني بأكاذيبك، ولكني سأرد لك الصاع صاعَين. لن تجدني لقمة سائغة.»
ردَّ عليه ساندي قائلًا: «لا شكَّ لدَي في ذلك. أنا وأصدقائي لا نريد النصر، بل نريد النجاح. نريد ديفيد واركليف.»
لم يتلقَّ ساندي ردًّا، فواصَلَ حديثه.
«إننا نُقدِّم لك عرضًا. سيُبقي ثلاثتنا كل ما نعرفه سرًّا. وسنُلزِم أنفسنا بألا نتفوَّه بكلمةٍ واحدة عن الأمر، ويُمكننا أن نُوقِّع على وثائق نُقرُّ فيها بأننا أخطأنا إذا أردت. يمكنك أن تُصبح ذات يوم رئيس وزراء بريطانيا أو رئيس أساقفة كانتربري، أو أي شيء تريد. نحن لا نحبك، ولكننا لن نتدخل في حب الآخرين لك. سأعود إلى الشرق مجددًا مع لافاتر، وسيدفن ديك نفسه في حياة الريف في أوكسفورد شاير. وفي المقابل، نطلب منك أن تسلمنا ديفيد واركليف بكامل قواه العقلية.»
لم يُجِب مدينا بشيء.
ثم ارتكب ساندي خطأً في النهج الذي كان يتَّبعه. قال: «أعتقد أنك متعلق بوالدتك. إذا قبِلت عرضنا سنُعفيها من المُضايقات. وإلا … في الواقع، هي شاهد مهم.»
طُعِنَ كبرياء الرجل في مقتل. يبدو أن والدتَه كانت تُمثل له ملاذًا داخليًّا، شيئًا منفصلًا عن أهم طموحاته وأكثر منها قداسة، منبع غروره الوحشي ومثواه. أيقظ استخدامها في التفاوض في داخله شيئًا عميقًا وبدائيًّا، ويجدُر بي القول إنه شيء أسمى وأفضل مما تخيلت. أحرق غضب بشري أراه للمرة الأولى ذلك القناع الجامد وأزالَه عن وجهه وكأنه منديل ورقي.
صرخ بصوتٍ مبحوح من فرط الغضب: «أيها الحمقى! أيها البلهاء! سأجعلكم تتعرقون دمًا على هذه الإهانة.»
قال ساندي من دون أن تختلِج عضلة واحدة في جسده: «إنه عرض عادل. هل أفهم من ذلك أنك ترفض؟»
وقف مِدينا على سجادة المدفأة وكأنه حيوان محاصر، ولم يسعني إلا الإعجاب به. فقد كانت الثورة المُرتسِمة على وجهه ستُخيف أغلب الناس.
«فلتذهبوا إلى الجحيم، جميعكم! اخرجوا من هذا المنزل! لن تسمعوا مني كلمةً أخرى حتى تأتوا إليَّ متوسِّلين الرحمة. اخرجوا …»
***
لا بد أن عينَي مدينا قد أعماهما الغضب لأنه لم يرَ ماري تدخل. كانت قد اتجهت مباشرة إلى حيث يجلس ساندي قبل أن أراها. وكانت تحمِل شيئًا بين ذراعَيها، شيئًا حملته بحرصٍ كما لو كانت أمًّا تحمِل طفلها.
كانت تحمل الفتاةَ الصغيرةَ الغريبة المظهر من المنزل في ميدان بالميرا. كان شعرها قد ازداد طولًا وسقطت خصلاته على حاجبَيها ووجنتَيها الشاحبتَين اللتَين لطَّخَتهما الدموع. كانت فتاة صغيرة مُثيرة للشفقة، وكانت عيناها كليلتَين لا تريان، بدَتَا وكأنهما تُعانيان من رُعبٍ هائل. كانت لا تزال ترتدي ذلك الثوب الكتَّاني الغريب، وكانت ساقاها وذراعاها النحيلة الصغيرة عارية، وكانت أصابعها الرفيعة مُتشبِّثة بفستان ماري.
ثم رآها مِدينا، فاختفى ساندي من الوجود بالنسبة له. ظلَّ يُحدِّق فيها للحظاتٍ في غير فهم، حتى تحوَّل الشغف البادي على وجهه إلى ذُعر. فصرخ وهو يندفع إلى الأمام: «ماذا فعلتِ بها؟»
ظننتُ أنه سيهاجم ماري، فعرقلتُه. انبطح مِدينا على الأرض، ولأنه بدا وكأنه فقد السيطرة على نفسه تمامًا، رأيتُ أنه من الأفضل أن أُثَبِّته أرضًا. نظرتُ نحو ماري التي أومأت برأسها نحوي. وقالت، وهي تناولني قماش عمامة خاراما الراحل: «قيِّدْه من فضلك.»
قاوَمَ كنمر أسير، ولكني تمكنتُ أنا ولافاتر، وبقليلٍ من المساعدة من ساندي، من تقييده جيدًا بالعمامة وبأحد حبال الستائر. وأجلسناه على أحد المقاعد.
ظلَّ يصرخ، وهو يُدير رأسه حوله محاولًا النظر إلى ماري: «ماذا فعلتِ بها؟»
لم أتمكن من فَهم السبب في قلقه الجنوني على الفتاة الصغيرة حتى أجابته ماري، وحينئذٍ أدركتُ من كان يعني بقوله «بها».
«لم يمس أحد والدتك. إنها في المنزل في ميدان بالميرا.»
ثم وضعَت ماري الطفلة برفقٍ شديد على المقعد الذي كان يجلس عليه ساندي قبل أن ينهض لمواجهة مِدينا.
وقالت: «أريد منك أن تُعيد لهذا الغلام عَقلَه.»
من المُفترَض أن المفاجأة كانت ينبغي أن تهبط عليَّ كالصاعقة، ولكن ذلك لم يحدُث، على الأقل ليس بسبب كلماتها، رغم أني لم أكن أملك أدنى فكرة مُسبقة عن حقيقة الأمر. كانت الدهشة التي شَعرتُ بها بأكملها تتعلق بماري. كانت تقف ناظرةً إلى الرجل المُقيَّد، ووجهها شاحب بشدة، وعيناها عطوفتان، وفمها فاغر كما لو كانت تترقَّب ما سيحدث. ومع ذلك كانت تبدو قويةً للغاية، وعنيدة للغاية، وكنَّا ثلاثتنا وكأننا غير مرئِيِّين مقارنةً بها. هيمن حضورها على كلِّ شيءٍ، وجعلتها رشاقة جسمها والحزن الوديع في عينَيها تبدو أكثر مهابة. أصبحتُ أعرف الآن كيف كانت تبدو جان دارك عندما كانت تقود قواتها إلى المعركة.
كررَت ما قالته: «هل تسمعني؟ لقد سلبتَ هذا الغلام روحه، ويُمكنك أن تُعيدها له. هذا كل ما أطلبُه منك.»
اختنقت الكلمات في حلقِه قبل أن يجيب. «أي غلام؟ أؤكد لكِ أني لا أعرف شيئًا. جميعكم مجانين.»
«أعني ديفيد واركليف. لقد حرَّرنا الرهينتَين الأخرَيَين بالفعل، ويجب أن يتحرَّر الليلة. يجب أن يتحرَّر ويستردَّ عقله ليعود كما كان عندما خطفتَه. لا شك في أنك تفهم ما أعني.»
لم يقل مِدينا شيئًا.
«هذا كل ما أطلبُه منك. إنه مجرد غلام صغير. وبعد ذلك سنرحل.»
تدخلتُ صائحًا. قلت: «عرضُنا لا يزال قائمًا. افعل ما تطلُبه منك، ولن نفتح أفواهنا أبدًا بكلمة عما حدث الليلة.»
لم يكن يسمع ما أقول، وكذلك ماري. كانت مواجهةً ثنائية بينهما وحدهما، وبينما كانت تنظر إليه، كانت ملامح وجهه تزداد عنادًا وجمودًا. إن كان قد شعر بالكراهية تجاه أحدٍ في حياته، فقد كان ذلك تجاه هذه المرأة؛ إذ كان الأمر عبارة عن صراع بين قُطبَين مُتضادَّين في الحياة، عالمان يتقاتلان قتالًا أبديًّا.
«قلتُ لكِ إنني لا أعرف شيئًا عن الغلام …»
أوقفَتْه رافعةً يدَها أمام وجهه. وقالت: «أرجوك، لا تُضَيِّع المزيد من الوقت. لقد فات وقت الجدال. إذا نفَّذتَ ما أطلبه منك، سنرحل، ولن نزعجك مرةً أخرى أبدًا. أعدُك بذلك، جميعنا نعدُك. وإن لم تفعل، فثق أننا سنُدمرك.»
أظن أن نبرة صوتها الواثقة هي التي أثارته.
فقال بصوتٍ أقرب للصراخ: «أنا أرفض. لا عِلم لي بما تقصدين. أنا أتحداكِ. يُمكنكِ أن تُخبري العالم كلَّه بأكاذيبكِ. لن يُمكنكِ تدميري. أنا أقوى منكِ بكثير.»
كان من السهل معرفة نهاية هذا التحدي. وجال في خاطري أنه سيضع الخاتمة لكل شيء. يُمكننا أن نُلَطِّخ سمعة الرجل بكل تأكيد، ونظفر بالنصر؛ ولكننا سنكون قد فشلنا، لأنه سيكون قد انتهى بنا المطاف ومعنا هذا الغلام الصغير المسكين مسلوب العقل. لم تتغيَّر ملامح وجه ماري.
وقالت بصوتٍ رقيقٍ كصوت أُم: «إن رفضت، فيجب أن أُجرِّب طريقةً أخرى. لا بد أن أعيد ديفيد واركليف إلى والده.» ثم التفتت نحوي، وقالت: «ديك، أشعل النار من فضلك.»
أطعتُها دون أن أعرف ما تنوي فعله، ولم تمر دقيقة إلا وكانت النار تستعر في قطع الحطب الجافة مطلِقةً دخانها عبر المدخنة، ومضيئةً وجوهنا ووجه الطفل الذاهل على المقعد.
قالت ماري: «لقد دمَّرتَ روحًا، وترفُض إصلاح ما اقترفَت يداك. سأُدمرُ جِسمَك، ولن يستطيع أحد إصلاحه أبدًا.»
فهمتُ ما كانت تَعنيه، وصرخنا أنا وساندي. لم يعِش أيٌّ منَّا حياةً تجعلنا سريعي التأثر، ولكن ما كانت تنوي فعلَه كان فوق طاقتنا على الاحتمال. ولكن وُئِدَت اعتراضاتنا في مهدِها بنظرةٍ واحدة من ماري. كانت زوجتي، ولكني لم أجرؤ في تلك اللحظة على أن أُعارضها كما لو كنتُ ذلك الغلام الذاهل المسكين. بدا أن روحها تسمو فوق أرواحنا جميعًا وتُشِع بسيطرة لا تلين. كانت تقف في بساطةٍ وأناقة، نموذجًا للأمومة والشفقة وليس الإرهاب. ولكني لم أعرفها؛ كانت المرأة التي تقف هناك غريبةً عني، إلهة قاسية تُطلِق صواعق البرق من يدَيها. لا شك في أنها كانت تعني كل كلمة قالتها، وبدا من صوتها الهادئ وكأنها تُصدر حكمًا بحيادٍ وموضوعية وكأنها القدَر نفسه. رأيتُ ظلال الرُّعب تزحف على وجه مِدينا المتجهِّم.
كانت تقول: «أنت رجل يائس. ولكني أكثر يأسًا بكثيرٍ منك. لن يحول شيء على وجه الأرض بيني وبين إنقاذ هذا الطفل. أنت تعرف هذا، أليس كذلك؟ جسد في مقابل روح، روح في مقابل جسد، أيهما سيتحقَّق؟»
انعكس الضوء عن مُذكيات النار المصنوعة من الصلب، ورآه مِدينا وارتجف.
«قد تعيش طويلًا، ولكنك ستُضطر أن تعيش في عزلة. لن تنظر إليك امرأة أبدًا إلا في رِعدة. سيُشير إليك الناس ويقولون: «هذا هو الرجل الذي شوهته امرأة، في مقابل روح طفل.» ستحمِل معك قصتك مكتوبةً على وجهك ليقرأها العالم ويضحك عليها ويلعنها.»
كانت قد ضربت الوتر الحساس لغرورِه، فلم يكن يرغب في الإنجازات بقدْر ما كان يرغب في المجد الشخصي المُصاحِب لها. لم أجرؤ على النظر نحوها، ولكني تمكنتُ من النظر نحوه، ورأيتُ جميع مشاعر الرعب تتسابق على قسمات وجهه. حاول أن يتكلَّم، ولكن الكلمات اختنقت في حلقه. بدا وكأنه يُجبر روحه كلها على النظر إليها، وأن ترتجِف مما رأى.
أدارت رأسها لتنظر إلى الساعة الموضوعة على رفِّ المدفأة.
وقالت: «يجب أن تُقرِّر قبل أن يُشير عقرب الدقائق إلى ربع الساعة. بعد ذلك لن يكون الندم مُمكنًا. جسدٌ في مقابل روح، أو روحٌ في مقابل جسد.»
ثم أخرجت من حقيبة يدِها الحريرية السوداء زجاجةً خضراء غريبة الشكل. وأمسكتها في يدِها وكأنها جوهرة ثمينة، وابتلعتُ ريقي في رُعب.
«هذا هو إكسير الموت؛ الموت حَيًّا، يا سيد مِدينا. إنه يحوِّل الوسامة إلى أضحوكة. سيحرق اللحم والعظم ويُحولهما إلى كتلة أشكالٍ قبيحة، ولكنه لا يقتل. أوه لا؛ لا يقتل. جسدٌ في مقابل روح، أو روحٌ في مقابل جسد.»
أظنُّ أن هذا ما قضى على مقاومته. لم تكدِ الدقَّات الثلاث، التي كانت تُعلِن عن وصول الساعة إلى ربعها، تبدأ إلا وخرج من حَلقه الجاف صوتٌ يُشبه نقيق الدجاج. قال بصوته المبحوح الغريب البعيد الذي بدا وكأنه لا يصدر منه: «موافق.»
قالت وكأن شخصًا قد فتح بابًا لها: «شكرًا لك. ديك، اجعل السيد مِدينا في وضعيةٍ مريحة أكثر، من فضلك.»
لم تُغَذَّ النارُ بالمزيد من الحطب، وسرعان ما خبَتِ النارُ المشتعلةُ في الحطب الجافِّ السريع الاحتراق. عادت الظلال تملأ الغرفة مجددًا، فيما عدا البقعة التي يُضيئها المصباح الوحيد خلف رأس مِدينا.
لا يُمكنني أن أصف ذلك المشهد الأخير، فلا أظن أن رؤيتي كانت واضحة، وأعلم أن رأسي كان يدور. جلس الصبي في حِجرِ ماري مركزًا بصرَه على الضوء. «أنتِ جيردا … أنتِ تشعرين بالنعاس … أنتِ الآن نائمة»؛ لم أتابع تلك الثرثرة، فقد كنتُ أحاول أن أفكر في أمورٍ مألوفة تُحافظ على وعيي يقظًا. كنتُ في المقام الأول أفكر في بيتر جون.
كان ساندي جالسًا على مقعدٍ قصير بجوار المدفأة. لاحظتُ أنه يضع يدَيه على ركبتَيه، وبرز من إحداهما شيءٌ مُستدير وداكن، كما لو كان فوهة مسدس. لم يكن ليترك شيئًا للظروف، ولكن كان ما يفعله طيشًا، فقد كنَّا في حضرة أسلحةٍ أكثر فاعلية بكثير. لم يكن ثمة شعور بالمهانة أقوى من ذلك منذ بدء الخليقة. ارتجف جسدي من هذه السفالة. أدى مِدينا طقوسه الشيطانية، ولكن تأثيرها علينا نحن المُشاهدين لم يكن أكثر من مجرد تمثيلٍ مصطنع. جلست ماري على الأخص تُراقِب ما يحدُث في لامبالاة شخصٍ يُراقب أطفال حضانة يلعبون. بدا الرجل فجأة وكأنه دجَّال تحت هاتَين العينَين اللتَين لا تعرفان الخوف.
استمرت الأصوات، الرجل يطرح أسئلة، والطفل يجيب بصوتٍ غير طبيعي ضعيف. «أنت ديفيد واركليف … لقد ضللتَ طريقك أثناء عودتك من المدرسة … كنتَ مريضًا ونسيتَ … أنت في حالٍ أفضل الآن … أنت تتذكَّر هافرام وطيور الطيطوي الحمراء السيقان التي تُعشش بجوار النهر … أنت تشعر بالنعاس … أظن أنك تريد النوم مجددًا.»
تحدث مِدينا. وقال: «يُمكنكم إيقاظه الآن. افعلوا ذلك برفق.»
نهضتُ من جلستي وأضأتُ بقية الأنوار. كان الغلام نائمًا في هدوءٍ بين ذراعي ماري التي انحنت وقبَّلتْه. وقالت: «تحدَّث إليه يا ديك.»
قلتُ بصوتٍ عالٍ: «دايفي. دايفي، لقد حان وقت عودتنا إلى المنزل.»
فتح الغلام عينَيه وجلس. وعندما وجد نفسه جالسًا على رُكبَة ماري، بدأ يحاول النزول على الأرض. لم يكن مُعتادًا على الجلوس في حِجر النساء، وشعر ببعض الإحراج.
قلتُ مجددًا: «دايفي. سيملُّ والدك من انتظارنا. ألا تظن أنه ينبغي أن نعود إلى البيت؟»
قال الغلام واضعًا يده في يدي: «نعم، يا سيدي.»
***
لن أنسى ما حييتُ المرة الأخيرة التي رأيتُ فيها تلك المكتبة؛ النار المُستعرة التي جعلت الكتب، التي لم أكن رأيتها من قبل إلا خلف الظلال، تلمع مثل بساط حائط حريري، والنار المُشتعلة في الحطب التي كانت على وشك أن تخبو في المدفأة، والرجل الغارق في المقعد الوثير. قد يبدو ما سأقوله غريبًا بعد كلِّ ما حدث، ولكن أكثر ما كنت أشعر به تجاهه كان الشفقة. نعم، الشفقة! كان يبدو أكثر خلق الربِّ وحدة. في الواقع لم يكن لديه أي أصدقاء إلا نفسه، وصنعت طموحاته حاجزًا بينه وبين جميع البشر. والآن، بعد أن دُمِّرَت طموحاته خسر كل شيء، ولم يتبقَّ في البراري الموحشة لأحلامه المحطَّمة إلا البرد والرجفة.
أسندت ماري ظهرها إلى مقعد السيارة.
وقالت: «أرجو ألا أفقد وعيي. أعطني الزجاجة الخضراء من فضلك.»
صحت قائلًا: «يا إلهي!»
قالت: «لا تكن سخيفًا. إنه مجرد عطر.»
ثم ضَحِكَت ضحكةً بدت وكأنها تُعيدها إلى طبيعتها إلى حدٍّ ما، رغم أنها كانت لا تزال تبدو شاحبة كالموتى. عبثَتْ بيدِها داخل حقيبة يدها وأخرجت مقصًّا كبيرًا.
وقالت: «سأقصُّ شعر دايفي. لا يُمكنني أن أُغير له ملابسه، ولكن على أيِّ حال يُمكنني أن أعيد رأسه ليبدو مثل رأس صبيٍّ من جديد، حتى لا يُصدَمَ والده.»
«هل يعلم أننا قادمون إليه؟»
«نعم. اتصلتُ به بعد العشاء، ولكني بالطبع لم أقل شيئًا عن دايفي.»
قَصَّت شعرَ الصبي بكدٍّ، وعندما وصلنا إلى ميدان بيمليكو حيث يعيش السير آرثر واركليف، كانت تقص الخصلات الطويلة، وأصبح الرأس الذي تقص شعره شاحبًا ونحيلًا، ولكنه عاد ليكون رأس صبيٍّ مُجددًا. سألَنا، بادي السرور: «هل سأعود إلى والدي؟»
رفضتُ الدخول، فلم أكن في حال تسمح لي بالتعرُّض لأي صدمات أخرى، لذا بقيتُ جالسًا في السيارة بينما دخلت ماري وديفيد المنزل الصغير. عادت ماري بعد حوالي ثلاث دقائق. كانت تبكي وتبتسِم في الوقت نفسه.
«جعلتُ ديفيد ينتظر في الردهة وذهبتُ إلى مكتب السير آرثر بمفردي. كان يبدو مريضًا، ومسنًّا ومرهقًا للغاية كذلك. قلتُ له: «لقد أحضرتُ دايفي. لا تهتمَّ بما يلبسه. إنه بخير!» ثم أدخلتُه إلى والده. ديك، كانت معجزة. بدا وكأن ذلك الرجل العجوز المسكين قد دَبَّت فيه الحياة مجددًا. لم يلقِ أيٌّ منهما نفسَه بين ذراعَي الآخر … لقد تصافحا … ثم أحنى الصبيُّ الصغير رأسه إلى الأسفل، وقبَّل السير آرثر قمَّتَها، وقال: «يا رأس الفأر العزيز، لقد عدتَ إليَّ.» ثم تسللتُ خارجة.»
***
كان ثمة مشهد آخر في تلك الليلة أديتُ دورًا فيه بعدما وصلنا إلى شارع كارلتون هاوس تيراس. لا يُمكنني تذكُّر ما حدث هناك بوضوح. ولكني أذكر جوليوس فيكتور وهو يُقبل يد ماري، والدوق يُصافحني بحرارة بدت لي وكأنه سيظل يُصافحني إلى الأبد. كما أذكر ميركوت الذي بدا معافًى ووسيمًا على غير العادة، وكان يرفع نخبًا من الشمبانيا في صحتي، وأديلا فيكتور تجلس إلى البيانو وتُغني لنا بصوتٍ ملائكي. ولكن أبرز ما أذكره هو ذلك النبيل الفرنسي وهو يجعل مهندسًا ألمانيًّا مرموقًا يلفُّ حول نفسه بينما يرقصان معًا رقصة ارتجالية سعيدة.